دراسات قانونية
إبرام العقد الالكتروني (بحث قانوني)
إبرام العقد الالكتروني
دنيا زراد
باحثة في العلوم القانونية
إبرام العقد الالكتروني
يمتاز عالمنا بالعديد من التغيرات والتحولات الأساسية التي لم تعد تقتصر فقط على شكل النظام الدولي ومسألة توازن القوى بل تعدى ذلك إلى البيئة العلمية والتكنولوجية والقدرة على البحث والتطوير. فمن المعروف بداهة أن كل تلك التحولات الهائلة أيا كان نوعها ترتكز على المعرفة والتراكم العلمي، باعتبارهما الأساس المتين للتقدم الاجتماعي والاقتصادي اللذان يعتبران معا حجر الزاوية الأساس لعملية التقدم السياسي. وفي طار ذلك انطلقت ثورة هائلة وجديدة، اصطلح عليها بثورة المعلومات[1] التي صاحبها ظهور أشكال جديدة للاتصال والتعامل الذي يتم من خلالها استعمال أجهزة وآلات صنعت بغاية الدقة والاتقان، وتتمثل بالأساس في الحاسب الالكتروني الذي أدى انتشاره إلى إحداث نقلة نوعية وتحول رئيسي في الحياة البشرية[2].
هذا وقد ربط عصر المعلومات الذي نحيى به الان مستقبل المجتمعات البشرية بالحاسب الالكتروني خاصة بعد اختراع شبكة الانترنت[3]، التي كان لها دور كبير في تغيير الكثير من أنماط الحياة وتغيير العديد من الوظائف، بحيث ساهمت في انفتاح المجتمعات البشرية وبالتالي ألغت كل الحواجز الاصطناعية والطبيعية التي تفصل مابين الدول، وحولت العالم إلى قرية صغيرة[4] محصورة ضمن بقعة معلومة الحدود والمساحة.
و هكذا، قد أصبحت الانترنيت بمثابة اتحاد للشبكات، بحيث لم تتوقف عن التطور فقد أصبح الدخول إليها في الوقت الحالي متاحا للكافة، ولم يعد استخدامها قاصرا على موضوع محدد، بل غطى كل جوانب الامور الحياتية للبشر[5]، ومن هذه الجوانب الجانب المتعلق بأعظم اختراعات القرن 20 والمتمثل في التجارة الالكترونية، وتنطوي هذه الاخيرة على عناصر عدة، وتثير تحديات في سائر الحقول والموضوعات منها.. أمن المعلومات، وسائل الدفع الالكتروني، الملكية الفكرية، الحجية، الاثبات، العقود الالكترونية وكيفية إبرامها وهو مايهم موضوع بحثنا هذا.
وعليه، يمكن القول مبدئيا أن العقد الإلكتروني يعتبر بمثابة اتفاق بين شخصين أو أكثر يتلاقى فيه الإيجاب والقبول عبر تقنيات الاتصال عن بعد بهدف إنشاء رابطة قانونية أو تعديلها أو إنهائها دون الحاجة إلى التقاء الاطراف في مكان معين، أي انتفاء مجلس العقد الحقيقي، فمجلس العقد في العقود الالكترونية مجلس افتراضي حكمي.
وقد أعطيت العديد من التعاريف للعقد الالكتروني من طرف الفقهاء في النظامين اللاتيني والانجلوسكسوني وذلك وفق مايلي..
1\ فقد عرفه جانب من الفقه الامريكي بأنه.. هو ذلك العقد الذي ينطوي على تبادل للرسائل بين البائع والمشتري والتي تكون قائمة على صيغ معدة سلفا ومعالجة إلكترونيا وتنشئ التزامات تعاقدية.
2\ ويعرف بعض الفقه اللاتيني العقد الالكتروني بأنه اتفاق يتلاقى فيه القبول والايجاب على شبكة دولية مفتوحة للاتصال عن بعد وذلك بوسيلة مسموعة مرئية، وبفضل التفاعل بين الموجب والقابل[6].
فبالرغم من تعدد وتنوع التعاريف التي أعطيت لهذا المصطلح الجديد إلا ان معظمها تشابهت وانصبت في اتجاه واحد إلى وهو كون العقد المبرم بطريقة إلكترونية وكغيره من العقود، يخضع لمبدأ سلطان الارادة. فهو عقد يلتقي فيه عرض أو إيجاب صادر من الطرف الأول بشـأن عرض مطروح بطريقة إلكترونية-سمعية أو مرئية أو كليهما- على شبكة للاتصالات والمعلومات، بقبول مطابق له صادر من الطرف القابل بذات الطرق، بهدف تحقيق عملية أو صفقة معينة يرغب الطرفان في إنجازها[7].
و قد باتت العقود الالكترونية اليوم تطرح مجموعة من الإشكالات القانونية، لا سيما الشق المتعلق بالإثبات، وذلك بالنظر لتعقد العلاقات الناجمة عن مثل هذا النوع من العقود، واختلاف الوسيط المادي الذي يتم من خلاله تحرير العقد وتدوين بنوده،
وبهذا ونظرا للأهمية المتزايدة التي يكتسيها هذا الموضوع لكونه يعتبر من المواضيع الحديثة التي تسترعي انتباه المشرعين والباحثين على السواء. والتي تثير جوانب جديدة الى استخدام التكنولوجيا الحديثة والوسائل التقنية في مجال العقود والمعاملات، فقد كان من الضروري اتجاه الابحاث القانونية إلى تنظيم هذه الظاهرة العصرية، بما يحقق تلاؤم واندماج الوسائل التقنية الالكترونية في مجال العقود والمعاملات المبرمة بالطرق الالكترونية، وهذا ما حذى بالمشرع المغربي كما باقي المشرعين في العديد من دول العالم إلى وضع قوانين تنظم هذا المجال الجديد من المعاملات، وبالتالي خلق الحاجة لسن تشريعات وطنية تنظمها، وذلك نتيجة لظهور الكثير من التحديات القانونية حول هذا النوع من المعاملات والتعاقدات.
ومن أهم النصوص والقوانين التي صدرت لتنظيم موضوع التعاقد الالكتروني، نجد قانون 53.05 الصادر بتاريخ 30 نوفمبر 2007 والذي اضطر فيه المشرع إلى تعطيل بعض فصول قانون الالتزامات والعقود، كما استبعد كل ما له علاقة بمدونة الاسرة والمحررات العرفية المتعلقة بالضمانات الشخصية أو العينية، ذات الطابع المدني أو التجاري ماعدا المحررات المنجزة من لدن شخص لأغراض مهنته[8] .
و لمزيد من الحماية لا سيما للطرف الضعيف المستهلك من فقد اصدر المشرع قانون 31.08 بتاريخ 18 فبراير 2011[9] . القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك والذي أشير في ديباجة إلى أن هذا القانون تعتبر إطارا مكملا للمنظومة القانونية في مجال حماية المستهلك، كما تناول التعاقد عن بعد في الباب الثاني من القسم الرابع.
و بما أن هذا الموضوع يثير الكثير من الاشكالات والتساؤلات القانونية والتي سأحاول من خلال دراستي لهذا الموضوع معالجتها وإيجاد الحلول لها، فإنه بات من الضروري تسليط الضوء عليه لبيان ماهية القوانين والاحكام التي تحكمه حتى تتوافر الحماية القانونية الكافية للمتعاملين في هذا المجال.
وتتمحور مختلف هذه الاشكالات بالأساس فيما يلي
تتعلق الاشكالية الاولى.. بكيفية انعقاد العقد إلكترونيا بالتراضي في مجلس إفتراضي وكيفية التحقق من هوية المتعاقدين وكمال أهليتهم من خلال شبكة الانترنيت. المبحث الاول .
أما الاشكالية الثانية والتي مازالت تثير نقاش الباحثين والمهتمين بمجال العقد الالكتروني نجد مسألة الاثبات التي تعد كذلك من أهم المعوقات التي تواجه التعامل الالكتروني وتطوره. المبحث الثاني.
المبحث الأول انعقاد العقد الإلكتروني
لا يخفى على الجميع أن العقد الإلكتروني لا يختلف عن العقد العادي في أركان انعقاده وشروط صحته والأثر المترتب عليه من حيث المسؤولية وإنما يختلف عنه في الوسيلة التي يتم بها إبرامه إذ يكتسب الطابع الإلكتروني من الطريقة التي ينعقد بها فينعقد بتلاقي الإيجاب بالقبول بفضل التواصل بين المتعاقدين بوسيلة مرئية مسموعة عبر شبكة دولية مفتوحة للاتصال عن بعد.
ولا جدال في أن التعاقد عبر الإنترنت يخضع للقواعد العامة بشأن العقود، ما لم تؤد خصوصية هذا النوع من التعاقد إلى الحاجة لبعض القواعد الخاصة[10]، وبما أن الإرادة تعتبر المكون الأساسي للرضاء، فإنه لا يكون لها أي قيمة قانونية إلا إذا حصل التعبير عنها.[11]
وفي هذا الخصوص لم تستلزم بعض التشريعات[12] طريقة خاصة للتعبير عن الإرادة، فللشخص الحرية في التعبير عن إرادته وبالطريقة التي تناسبه.
ولا يبدو أن الفقه قد وجد شيئا من الخصوصية بالنسبة لركني السبب والمحل حيث تكاد تنحصر خصوصية إبرام العقد الالكتروني في الاحكام الخاصة بركن الرضا بإعتباره جوهر العقد ومناط وجوده. وبقراءة فصول قانون الالتزامات والعقود نلاحظ أن المشرع المغربي فيما يخص العقد الالكتروني قد نظم أحكامه العامة مثله مثل العقد التقليدي، إلا أنه في الفصل 2-65 استثنى من التطبيق الفصول من 23 إلى 39 المتعلقة بالإيجاب والقبول، وكذا الفصل 32 من قانون الالتزامات والعقود المتعلق بالبيع بالمزاد العلني، وأورد مكانها تحت عنوان “العرض” أحكاما خاصة بالإيجاب، وتحت عنوان “إبرام عقد بشكل إلكتروني” أحكاما خاصة بالقبول.
لذلك سوف نحاول التطرق من خلال هذا المبحث إلى ركني التراضي في العقد الالكتروني الإيجاب والقبول الفقرة الأولى كما سنتناول في الفقرة الموالية إلى زمان ومكان إبرام العقد الإلكتروني.
المطلب الأول: الايجاب والقبول
وفقا للقواعد العامة لنظرية العقد، يتعين لإبرام العقد توافر الاركان المكونة له، ليقوم صحيحا لآثاره، وهي ..الرضا، المحل، السبب، إلى جانب الشكلية المتطلبة في بعض العقود.ولا يخرج العقد المبرم بطريقة إلكترونية عن هذا الإطار، فهو يخضع للقواعد العامة بالأساس في العديد من أحكامه.
غير أن خصوصية العقد الإلكتروني تفرض خضوعه لبعض الأحكام الخاصة التي تتوافق مع هذه الصفة، خاصة وأنه عقد يبرم عن بعد، ودونما تواجد مادي لأطرافه المتعاقدة. ومن أهم الخاصيات التي تميز العقد الإلكتروني ركن الرضا على اعتبار أنه قوام العقد وأساسه ولما يعتريه من اختلاف عن العقد العادي.
الإيجاب في العقد الالكتروني
مما يكاد يكون مجمعا عليه في الفقه[13] أن العقد ينعقد بتراضي الطرفين، حيث يتم هذا بتطابق القبول مع الإيجاب المعبر عنهما صراحة، أو ضمنا من قبل الموجب أو القابل كاملي الأهلية، فينعقد العقد بمجرد اقتران الإيجاب بقبول مطابق، ولا يختلف العقد الإلكتروني عن ذلك إذ يجب لانعقاده أيضا من اقتران القبول مع الإيجاب، إلا أن هذا الأخير قد لا يكون هو نفسه في العقد الإلكتروني كما أن طبيعته قد تختلف، عل أساس أنه قد يحتمل عدة صور وعدة أوجه.
ويعرف الإيجاب عموما بأنه التعبير البات المنجز الصادر من أحد المتعاقدين والموجه إلى الطرف الآخر بقصد إحداث أثر قانوني[14]، وباعتبار أن الإيجاب تعبير عن الإرادة فلابد أن تتوافر فيه شروطها، من حيث وجودها واتجاهها إلى إحداث أثر قانوني، كما لابد وأن يكون التعبير مشتملا على جميع العناصر الأساسية للعقد المراد إبرامه، ويشترط في الإيجاب أن يكون واضحا تماما، ومحددا لا يشوبه غموض، وأن يكون باتا منجزا لا رجعة فيه من جانب الموجب، إذ يجب أن يحتوي على العناصر الجوهرية التي لا ينعقد العقد بتخلفها.[15]
وباعتبار أن أكثر العقود التي تجري على الإنترنت هي عقود بيع[16]، فيجب أن يتضمن الموقع التجاري الشيء المبيع من حيث وجوده وجنس ونوعه ومقداره وثمنه، والطريقة التي يتم أداء الثمن فيها وغيرها من المسائل التي تعتبر ضرورية.[17]
ومن جهة أخرى يشترط أن يكون الإيجاب باتا لا رجعة فيه، ويتحقق ذلك إذا انطوى على الإرادة الموجب في إبرام العقد بمجرد اقتران القبول به، إذ لا يعد إيجابا إذا احتفظ صاحب الموقع بشرط يعن فيه أنه غير ملتزم بما عرضه في حالة القبول، وإنما يعتبر دعوى إلى التعاقد حتى لو تضمن كافة العناصر الرئيسية للعقد[18].
وإذا كان العقد الذي ينعقد في إطار التجارة الإلكترونية، يندرج من الناحية التشريعية في طائفة العقود التي تبرم عن بعدن فإنه من الطبيعي أن تعريف الإيجاب فيه يجب أن يتم في ظل تعريف الإيجاب في تلك العقود، لذا فإن التوجيه الأوربي الخاص بحماية المستهلك في العقود المبرمة عن بعد[19]، عرف الإيجاب في هذه العقود بأنه “كل اتصال عن بعد يتضمن كل العناصر اللازمة، بحيث يستطيع المرسل إليه أن يقبل ا لتعاقد مباشرة، ويستبعد من هذا النطاق مجرد الإعلان”.
ومن خلال التعريف السابق نلاحظ أن الإيجاب الإلكتروني له خصوصيته، التي تتمثل في أنه يتم عبر شركة عالمية للاتصال عن بعد، وذلك بوسيلة مسموعة مرئية، وما يلاحظ أيضا أن استخدام مثل هذه الوسيلة لا يثير مشكلة في حد ذاته، إذ يكفي ـ حسب تعبير الفقهاء ـ أن يحترم الإيجاب مقتضيات الشفافية والوضوح التي يفرضها تقنين الاستهلاك، لكيلا يعد إيجابا مضللا وفقا للقانون الفرنسي”[20]، أي يجب أن تعبر صورة الشيء المعروض للبيع تعبيرا أمينا عنه.
القبول في العقود الإلكترونية
يقصد بالقبول بصفة عامة[21]، موافقة الموجب له على الإيجاب الموجه إليه بالشروط التي تضمنه ودون تعديل، بحيث يترتب عليه انعقاد العقد إذا ما اتصل بعلم الموجب والإيجاب ما زال قائما[22]. وبالتالي لكي ينتج القبول أثره في انعقاد العقد، يجب أن يتطابق تماما مع الإيجاب في كل جوانبه، وإلا فإن العقد لا ينعقد، إذ أن اختلاف القبول عن الإيجاب يعتبر إيجابا جديدا وليس قبولا.[23]
والقبول الإلكتروني لا يخرج عن ذلك سوى أنه يتم بوسائط إلكترونية، بالإضافة إلى أنه يتم عن بعد، يخضع بحسب الأصل للقواعد والأحكام العامة التي تنظم القبول العادي أو التقليدي الذي لا يتم إلكترونيا، ولكنه يتميز ببعض القواعد الخاصة به، والتي ترجع إلى طبيعته الإلكترونية.
وعموما، إذا كان الأصل العام إمكانية حصول القبول صراحة أو ضمنا[24]، فإن الغالب أن يتم القبول الإلكتروني صراحة، لأنه يصعب أن نتخيل حدث مثل هذا النوع من القبول ضمنيا، فهو يتم عن طريق أجهزة وبرامج إلكترونية تعمل آليا، وهذه الأجهزة لا يمكنها استخلاص أإرادة المتعاقدين من تلقاء نفسها.
وما دام الأصل أن مجرد سكوت من وجه إليه الإيجاب لا يعد قبولا[25]، فإن من يتسلم رسالة إلكترونية عبر شبكة الإنترنت تتضمن إيجابا، ونص فيها على أن عدم الرد خلال مدة معينة يعتبر بمثابة قبول، يستطيع أن لا يعبر اهتمام لمثل هذه الرسالة.[26]
ومع ذلك فإن بعض التشريعات[27] تعتبر ـ استثناء ـ السكوت قبولا، إذا كان هناك تعامل سابق بين المتعاقدين واتصل الإيجاب بهذا لتعامل، أو في الحالة التي يحقق فيها الإيجاب منفعة محضة لمن وجه إليه، أو إذا كانت طبيعة المعاملة أو العرف التجاري، وغير ذلك من الظروف تدل على أن الموجب لم يكن ينتظر تصريحا بالقبول.
و للاعتداد بالقبول بشكل عام، فقد اشترط الفقه توافر شرطين أساسيين ..
الشرط الاول ويتمثل في ضرورة مطابقة القبول للإيجاب، إذ لابد لإنعقاد العقد من أن يصدر القبول مطابقا للإيجاب في كل عناصره، فلا يصح أن ينصب القبول على جزء آخر.
و بخصوص القبول الالكتروني فإنه هو الاخر لابد فيه من توفر هذا الشرط الأساسي، إذ لا يعتد بالقبول الإلكتروني إلا إن كان مطابقا للإيجاب الإلكتروني المتعلق به.
الشرط الثاني صدور القبول في الوقت الذي يكون الإيجاب فيه قائما، فكما يخضع القبول الإلكتروني للشرط الأول، يشترط فيه كذلك صدوره مطابقا للإيجاب في الوقت الذي يكون فيه الإيجاب فيه قائما وموجودا. فلا يصح القبول في الوقت الذي يكون فيه الموجب قد سحب إيجابه عبر الوسيط الإلكتروني.
المطلب الثاني
زمان ومكان إبرام العقد الإلكتروني
مما لا شك فيه أن تحديد زمان ومكان إبرام العقد بصفة عامة له أهمية قصوى من الناحية القانونية، حيث تترتب عليه اثار عديدة، مثل تحديد الوقت الذي يحق للمستهلك العدول عن التعاقد، كما أنه يعتبر نقطة بداية ترتيب عليه اثار العقد، فمن هذه اللحظة تنقل الملكية، وحسب سريان مدة التقادم، وكذلك تحديد أهلية المتعاقدين التي ينبني عليها صحة العقد. وكذلك فإن لتحديد مكان إبرام العقد الإلكتروني أهميته فبمعرفة القانون الواجب التطبيق[28]، أو تحديد المحكمة المختصة [29]في حالة حدوث منازعة حول العقد الإلكتروني.
زمان إبرام العقد الالكتروني
قبل الشروع في تحليل هذه المسألة لابد أن نعرض أولا للتكييف الفقه للتعاقد الالكتروني من حيث اعتباره تعاقدا بين حاضرين أم غائبين. نشير في هذا الصدد إلى أن المعيار المعتمد للتمييز في التعاقد بين غائبين والتعاقد بين حاضرين، يتمثل في أن نفصل بين الإيجاب والقبول مدة زمنية ليتسنى للموجب العلم بالقبول[30].
ففي التعاقد بين حاضرين تنمحي هذه الفترة فيعلم الموجب بالقبول وقت صدوره، أما في التعاقد بين غائبين فإن القبول يصدر ثم تمضي فترة هي المدة اللازمة وصول القبول للموجب هذا واختلف الفقهاء حول اعتبار التعاقد عبر الانترنيت تعاقدا بين غائبين أم تعاقد بين حاضرين إلى ثلاثة اراء مختلفة.
الرأي الأول يرى أنصار هذا الرأي أن التعاقد عبر الانترنيت هو تعاقد بين حاضرين فهو عقد فوري، فطرفي العلاقة التعاقدية على اتصال دائم من خلال الشبكة، ففكرة الفروق الزمنية التي تفرضها عملية التعاقد بين غائبين غير متواجدة بالنسبة للتعاقد الذي يتم من خلال شبكة الانترنيت[31].
الرأي الثاني يرى أنصار هذا الرأي أن التعاقد عبر الانترنيت هو تعاقد بين غائبين من حيث الزمان[32].
الرأي الثالث يرى أنصار هذا الرأي أن الامر يختلف من حالة إلى أخرى، وأنه لايمكن أن نعطي للتعاقد عبر الأنترنيت وصفا عاما بأنه تعاقد بين حاضرين أو غائبين، بل يجب أن نفرق بين كل واحد على حده[33].
عموما فإن تحديد زمان انعقاد العقد متوقف على تطبيق القواعد العامة لتحديد وقت اقتران القبول بالإيجاب الذي يتوقف على تحديد وقت استلام الرسالة الإلكترونية. ونميز هنا بين فرضيتين.
. الفرضية الاولى ففي هذه الحالة يقوم الموجب بتعيين نظام معلومات للاستلام الرسالة الإلكترونية كالبريد الإلكتروني أو موقع معين أنشأه صاحبه على شبكة الأنترنيت. ففي هذه الفرضية نأخذ بنظرية استلام القبول.
الفرضية الثانية ففي هذه الحالة لا يقوم الموجب بتحديد نظام معلومات لتلقي الرسالة، فيكون العقد مبرما وقت دخولها إلى البريد الإلكتروني للموجب، أو أي نظام معلومات تابع له. وبذلك يتحدد وقت إبرام العقد في وقت التوصل بالرسالة الإلكترونية، وبذلك نأخذ في هذه الفرضية بنظرية التوصل بالقبول.
إلا أن هناك من الحالات ما يتخذ منحنى مغاير، ومن ضمن ذلك التعاقد عبر التفاعل المباشر، ففي مثل هذا يعلم الموجب بالقبول وقت صدوره دون أن تفصل بين الإيجاب والقبول أي مدة. لذلك تطبق عليه أحكام التعاقد عبر الهاتف.
مكان إبرام العقد الإلكتروني
لقد وقع خلاف بين الفقهاء في هذه المسألة، فقد ذهب جانب إلى اعتبار التعاقد عبر الأنترنيت كالتعاقد بين حاضرين، مستبعدين في ذلك نظرية التفرقة الجغرافية في هذا النوع من التعاقد. هذا ويكتسي تحديد مكان إبرام العقد الإلكتروني أهمية بالغة فهو الأساس الذي يحدد المحكمة صاحبة الاختصاص.وتجد صعوبة تحديد مكان إبرام العقد أساسها في صعوبة تحديد المكان الذي ترسل منه الرسالة الإلكترونية ومكان استلامها.
فإذا كان وقت استلام الرسالة سهل التحديد من خلال أن لكل رسالة إلكترونية تاريخ محدد باليوم والساعة، بخلاف مكان إرسالها ومكان استلامها. وأمام هذه الصعوبة، ارتأى البعض القول بأن مكان إرسال الرسالة يتطابق مع مكان منشئ رسالة (الموجب له) ومكان استلامها يتطابق مع المكان الذي يقع فيه مقر المرسل إليه (الموجب)
ومكان استلام رسالة القبول طبقا لما سبق قد يتغير بتغير مكان جهاز الموجب إذا ما حمله إلى مكان اخر وتلقى فيه الرسالة. والجواب هنا هو الأخذ بمقر عمل الموجب كمكان لاستلام الرسالة، بغض النظر عن المكان الذي يوجد فيه نظام المعلومات.
هنا وتجدر الإشارة في ختام تحليلنا غي زمان ومكان إبرام العقد الإلكتروني إلى أن هذه الأحكام التي أوردناها طبقا للمقتضيات القانونية المنصوص عليها في المادة 15 من قانون الأونسترال النموذجي للتجارة الإلكترونية إنما هي نصوص مكملة يجوز لأطراف العقد الإلكتروني أن يتفقوا على مخالفتها.
المبحث الثاني
إثبات العقد الإلكتروني
يعرف الإثبات أنه إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي يحددها القانون على صحة واقعة قانونية يدعيها أحد طرفي الخصومة وينكرها الطرف الآخر.
ومن هذا يتضح أن الإثبات المقصود هو الإثبات القضائي الذي يتم عن طريق تقديم الدليل أمام القضاء وأن ينصب على واقعة قانونية معينة وأن يكون بالطريقة التي يحددها القانون.
والإثبات في المعاملات الإلكترونية تعتريه الكثير من الصعوبات من الناحية التقنية نظراً لحداثة هذه التكنولوجيا وتعقيدها ولما يتسم به أصحاب المعاملات الإلكترونية غير المشروعة من مكر ودهاء وحيلة وغش واحتيال باستعمال تقنيات معلوماتية عالية الكفاءة وبسرعة فائقة يستطيعون من خلالها طمس أي عمل غير مشروع ومحو آثاره الخارجية الملموسة.
و من أهم المشاكل التي يثيرها اثبات العقد الالكتروني نجد حجية المحررات الالكترونية، ويشترط في هذه الاخيرة أن تحتوي على عنصرين أساسيين يتمثل العنصر الأول في شرط الكتابة\ الفقرة الاولى\ أما العنصر الثاني فيتمثل في التوقيع \الفقرة الثانية\.
المطلب الاول
الإثبات بالكتابة
الكتابة هي باب من أبواب إثبات الحقوق، وهي : الخط الذي توثق به الحقوق بالطرق المتعارف عليها، والرجوع إليها عند الحاجة، والواضح أن الشريعة الإسلامية أوجبت الكتابة في التعاملات وأكدتها.[34]
فالكتابة ما زالت في حقيقة الأمر، على قمة الهرم الذي تضم طرق الإثبات جميعا وهي الوسيلة الأكمل والأفضل للإثبات على وجه العموم،[35] وتحظى الكتابة بأهمية وقوة مطلقة في الإثبات، وهي أكثر أنواع الأدلة استعمالا وانتشارا في الأنظمة المعاصرة، وذلك لأن أغلب العقود والتصرفات القانونية والمعاملات المدنية والتجارية تتم كتابة.[36]
وهنا يتضح أن الكتابة تلعب دورا محوريا في مجال إثبات الحقوق وإثبات العقود والاتفاقيات التي تبرم على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الكيانات المختلفة وفي جميع التصرفات المالية. وقد كرس هذا المبدأ التوجيه الإسلامي بوجوب كتابة الدين نتيجة تعاملات مالية من قرض أو بيع عين إلى أجل،[37]
أما بالنسبة للإثبات في العقود التي تجري عبر الانترنيت فإنها لا تقوم على دعامة مالية يمكن الرجوع إليها كلما اقتضى ذلك، بل هي مثبتة على دعائم الكترونية غير مادية وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور ما يسمى بالإثبات الالكتروني، وتعتبر رسالة البيانات التي يتبادلها طرفي العلاقة الوسيلة التي يعول عليها في اثبات التصرف القانوني الذي أبرم إلكترونيا.
وتقبل الوثيقة المحررة بشكل إلكتروني للإثبات، شأنها في ذلك شأن الوثيقة المحررة على الورق، شريطة أن يكون بالإمكان التعرف، بصفة قانونية على الشخص الذي صدرت عنه، وأن تكون معدة ومحفوظة وفق شروط من شأنها تماميتها.
وتصف المادة 417 من ق ل ع المغربي[38] على مما يلي: “الدليل الكتابي ينتج من ورقة رسمية أو عرفية ويمكن أن ينتج من المراسلات والبرقيات ودفاتر الطرفين إلخ”.
ولكي تكون لها حجية في الإثبات لابد من توفر شرط جوهري وهو التوقيع[39].
المطلب الثاني
التوقيع الإلكتروني
حتى يكون للسند التقليدي الحجية الكاملة في الاثبات لابد أن يشتمل على توقيع باعتباره العنصر الثاني من عناصر الدليل الكتابي، ومكملا لها وهو ما أكده المشرع المغربي في الفصل 426 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء فيه “يسوغ أن تكون الورقة العرفية مكتوبة بيد الشخص الملزم بها بشرط أن تكون موقعة منه ويلزم أن يكون التوقيع بيد الملتزم وأن يرد في أسفل الورقة ولا يقوم الطابع أو الختم مقام التوقيع ويعتبر وجوده كعدمه” تبين أن المشرع المغربي حصر التوقيع على المحرر باليد على خلاف المشرع المصري والاردني اللذان اعتبرا التوقيع باليد أو الختم أو بصمة الاصبع جائزا.
و يتضح مما سبق أن التوقيع هو الشرط الهام في الورقة العرفية لأنه هو الذي يتضمن قبول الموقع لما هو مدون في الورقة أو بعبارة أخرى هو الذي ينسب الكتابة إلى صاحب التوقيع ، ويجب أن يشتمل التوقيع على إسم الموقع ولقبه كاملين فلا يكفي التوقيع بعلامة مختصرة أو بالأحرف الأولى من الاسم ، وكما يكون التوقيع بإمضاء شخص يمكن أن يكون بالختم أو ببصمة الإصبع .
هذا بالنسبة للتوقيع على المحرر التقليدي أما بالنسبة للتوقيع على المحرر الإلكتروني فقد انقسمت التشريعات[40] في تحديد مفهومه، فركز بعها على شكل التوقيع بينما ركز بضها على وظائفه[41].
وفي المغرب صدر قانون التبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية[42]، وقد تضمن تشريعا ينطلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية، فنصت المادة 2-417 منه على أنه: “يتيح التوقيع الضروري لإتمام وثيقة قانونية التعرف على الشخص الموقع ويعبر عن قبوله للالتزامات الناتجة عن الوثيقة” فهذا التعريف من قبل المشرع المغربي للتوقيع الإلكتروني فلم يسبق وأن عرفه في ق ل ع من قبل.[43]
أما القانون الفرنسي وفي المادة1316/4 من التقنين المدني الفرنسي المعدلة بقانون التوقيع الإلكتروني الفرنسي رقم 230/2000 ، فقد عرف التوقيع بأنه 🙁 التوقيع الضروري لإتمام التصرف القانوني الذي يميز هوية من وقعه ، ويعبر عن رضائه بالالتزامات التي تنشأ عن هذا التصرف وعندما يكون إلكترونيا فيجب أن يتم باستخدام وسيلة آمنة لتحديد هوية الموقع وضمان صلته بالتصرف الذي وقع عليه[44]
والتوقيع الإلكتروني له صور متعددة ويقصد بذلك البيانات والمعلومات المتصلة بمنظومة بيانات أخرى[45]، ومن صور التوقيع الإلكتروني:
التوقيع بالقلم الإلكتروني : يعتد هذا التوقيع على نفس الخاصية التي تقوم عليها التوقيعات الخطية ا لتقليدية، إلا أنه هنا يتم استخدام قلم إلكتروني[46] تحديد نمط معين تتحرك به يد الشخص الموقع أثناء التوقيع، إذ يتم توصيل قلم إلكتروني بجهاز الحاسب الآلي، ويقوم الشخص بالتوقيع باستخدام هذا القلم الإلكتروني الحسابي الذي يسجل حركات يد الشخص أثناء عملية التوقيع، للتعريف به وسمة مميزة لهذا الشخص[47]، حتى انه يمكن الكتابة بهذا القلم على شاشة الحاسب الآلي، وذلك باستخدام برنامج خاص للكمبيوتر، ويقوم بوظيفيتين خدمة التقاط التوقيع، وخدمة التحقق من صحة التوقيع[48]، وبجانب تمييزه بسهولة استخدامه وبساطته، يتميز أيضا بقدر كبير من الثقة والأمان، ويتم هذا التوقيع بواسطة الموقع نفسه الذي ينقل المستند الموقع عليه منه يدويا إلى جهاز الماسح الضوئي، فيقوم بقراءة وتصوير ونقل التوقيع اليدوي كمجموعة رسوم بيانية تحفظ داخل جهاز الحاسب، ثم يتحول بدوره إلى توقيع إلكتروني ويمكن إضافته إلى الوثيقة المراد توقيعها[49].
التوقيع الرقمي : أو الكودي(Digital Signature)، وذلك عن طريق استعمال عدة أرقام يتم تركيبها لتكون في النهاية ” كود يتم التوقيع به “[50]، ويتميز هذا النوع من التوقيع بخاصية استخدام رقما سريا[51] لا يعرفه إلا صاحب التوقيع، حيث تستخدم هذه الخاصية فقط في المراسلات الإلكترونية، وعند استخدام بطاقات الائتمان وتحرير العقود الإلكترونية[52]، ويعتبر هذا النوع من التوقيعات أكثرها انتشارا وأوسعها استخداما وخاصة في المجالات المصرفية والتعاملات البنكية وأصبح لدى معظم البنوك إن لم تكن جميعها خدمة الصراف الآلي التي تعتمد أساسا على وسائل تقنية حديثة تستخدم من أجل سحب أو إيداع النقود فيها ببطاقات ممغنطة، فقد سارعت مؤسسات مصرفية وبنوك في إصدار بطاقات إلكترونية مختلفة الاستخدامات وبمزايا متنوعة، مما يجب التأكيد عليه أن الرقم الري بمفرده لا يعد توقيعا إلكترونيا مقابلا للتوقيع التقليدي، وإنما يعد توقيعا إلكترونيا إذا تضمن تقديم البطاقة، والاستعمال الحقيقي، وإتمام عملية سحب النقود وفق التعليمات الصادرة من البنك[53].
التوقيع البيومتري(signature biométrique)[54]: وهو طريقة من طرق التحقق من الشخصية عن طريق الاعتماد على الخواص الفيزيائية والطبيعية والسلوكية للأفراد التي جعلها الله سبحانه وتعالى تختلف وتتميز من شخص لآخر، ومن هذه الطرق بصمة الأصبع مسح العين البشرية وهما: وسيلتان مما يمكن تسميته بالبيومتركس، وهي خصائص بيولوجية خاصة في جسم الإنسان لا تتكرر من شخص لآخر[55]:
وللموثوقية يمكن الاعتماد على الخواص الذاتية لشخص منها: بصمة الأصبع، أو بصمة العين، أو بصمة الصوت، ويتم تخزينها بصورة رقمية مضغوطة، ويستطيع العميل أإدخال البطاقة في جهاز الصراف الآلي، حيث يتم المقارنة بين الصفة الذاتية للشخص مع تل كالمخزنة في نظام الحاسب الآلي[56].
ويتم التحقق من شخصية المستخدم أو العميل مع هذه الوسائل البيومترية عن طريق جهة إدخال المعلومات إلى الحاسب الآلي مثل الفأرة (sourie)، ولوحة المفاتيح (clavier) ليقوم هذا الحاسب بعد ذلك بمطابقة صفات المستخدم مع هذه الصفات المخزنة، ولا يسمح له بالتعامل إلا في حالة المطابقة[57].
الخاتمة
حاولنا من خلال هذا البحث تسليط الضوء ولو بشكل مقتضب على أهم الإشكالات القانونية والعملية التي تواجه الإثبات الإلكتروني، وكذا القوانين المنظمة له في هذا الإطار، لذا فإن التساؤل الاشكالي الذي سيظل يطرح نفسه بقوة هو مدى قدرة القانون المنظم للتبادل الإلكتروني على مواجهة تطورات وتحديات النظام الإلكتروني وكذا المعاملات الرقمية المتعلقة به في المستقبل ؟.
(محاماه نت)