دراسات قانونية

دراسة قانونية موجزة حول القصد الجنائي في جرائم تزييف العملة

القصد الخاص في تزيف العملة :

يتطلب لقيام جرائم تزييف العملة توافر قصد جنائي خاص وهذا القصد الخاص ينطوي هو الآخر على علم وإرادة لا ينصرفان إلى أركان الجريمة ، وإنما ينصرفان إلى وقائع أخرى لا تدخل ضمن عناصر الجريمة ، أي انه علم وإرادة منصرفين إلى وقائع خارجة عن أركان الجريمة كجريمة تزييف العملة لا يكفي لتوافر القصد الجنائي فيها توافر القصد العام وهم العلم والإرادة المنصرفين إلى جميع عناصر جريمة التزييف ، وإنما يلزم أن تتوافر إلى جانب هذا القصد قصد خاص هو نية استعمال العملة المزيفة فيما زيفت من أجله(1). ولذلك يمكن تعريف القصد الجنائي الخاص :بأنه النية المحددة للفعل وهي نية الأضرار بالدولة والأفراد أو اتجاه إرادة الجاني إلى تحقيق نتيجة معينة يعاقب عليها القانون من جراء ارتكاب الركن المادي(2). ولهذا يتحدد القصد الجنائي الخاص في هذه الجرائم ومن جميع هذه الأعمال نية غش الحكومة والجمهور والحصول على ربح غير مشروع لنفس الجاني أو لغيره ، ويتبين أن الضرر المباشر الذي يحظره القانون ويعاقب عليه في جرائم تزييف المسكوكات ليس عنصراً مستقلاً فيها بل انه مندمج في عنصر المعنوي والأدق في القصد الجنائي الخاص فيها ، وهو كما قلنا نية الإصرار أو إرادة لنتائج الضارة التي يحظرها القانون ومن ثم وجب أن يكون السبيل إلى تقدير وجوده من عدمه هو الرجوع إلى هذه النية(3). إلاّ أن محكمة النقض المصرية قضت بان نية الخداع اللازم توفرها في جريمة تزييف العملة هي نية الأضرار بالثقة العامة في العملات ذات التداول القانوني ، ومجرد التزييف كاف لافتراض هذه النية الخاصة ، أما نية الحصول على ربح فتعد من البواعث على الجريمة ومن ثم لا تدخل في تكوين القصد الجنائي بصورة عامة(4). ومن جهة أخرى فإذا لم يتوافر القصد الخاص فلا تقوم الجريمة كمن يزيف قطعة من العملة ليرى غيره مبلغ مهارته وحذقه وهو ينوي ان يعدمها بعد إتمام غرضه، أو يعلم أن ما يحوزه هو نقود مزيفة ولكنه يسلمه إلى الغير بدافع مصلحة يريد تحقيقها ، كان يقصد تسليم النقود المزيفة إلى البوليس يستعين بها في تحرياته ، أو أن يحتفظ بتلك العملة لهواية خاصة وميل إلى اقتنائها لا إلى دفعها في التعامل أو يسلمها لصديق لمشاهدتها ثم يتلفها في الحال ، في كل هذه الصور ومثيلاتها يعلم الجاني بالتزييف ولكن لم تتجه نيته إلى استعمال النقود المزيفة أو ترويجها على أنها صحيحة ، فالجريمة ينقصها ذلك القصد الخاص أو النية الخاصة التي بيناها(5). ولذلك يرى قسم من الفقهاء(6). أن العنصر المعنوي في جريمة تزييف العملة يكمن في الفرض أو الباعث من وراء الفعل ويتمثل في حصول الجاني لنفسه أو لغيره على فوائد ومنافع غير مشروعة ، وإن هذا الفرض أو الباعث ينتج حتماً عن علم الجاني بتزييف العملة (قصد عام) وفي إرادة استعمالها كما لو كانت صحيحة (قصد خاص) ولا يوجد شرط مميز ومستقل عن العلم بتزييف العملة وإرادة استعمالها . في حين يرى فريق آخر من الفقهاء(7). بأنه لا عبرة من الناحية القانونية البحتة لباعث الجاني في القصد الخاص فقد يكون غرضه من تداول العملة النقدية تحقيق ربح شخصي أو لغيره أو الإضرار بمصالح الدولة الاقتصادية والسياسية ، ولذلك فان الباعث ليس له تأثير إلاّ في حدود سلطة القاضي في تقدير العقوبة ، ولذلك نجد أن التشريعات قد انقسمت إلى قسمين:

القسم الأول

نجد أن بعض التشريعات قد أغفلت شروط توافر القصد الخاص على أساس أن صانع العملة المزيفة حينما اقدم على فعل التزييف كان قاصداً وضع العملة المزيفة موضع التداول ، ولهذا فان القصد الخاص يتضمنه فعل التزييف ، ومن هذه التشريعات القانون الفرنسي (م 132) والإيطالي (م 453/1) والقانون الإسباني وكذلك البرتغالي والقانون المصري والقانون المغربي والقانون اليمني وكذلك القانون العراقي والبغدادي وكذلك القانون العراقي الحالي والقانون التونسي.

القسم الثاني

وقد اشترط توافر القصد الخاص بالترويج ونص عليه صراحة مثل القانون الألماني (146) فقرة (1) والقانون السوفيتي والقانون النرويجي والقانوني السوري والقانون اللبناني (440) والقانون الأردني والقانون الكويتي(8). أما القصد الخاص الذي اشترطت اغلب التشريعات توافره في جرائم التزييف فهو توافر علم الجاني وإرادته والباعث لديه لتحقيق غاية أو نتيجة معينة . ولذلك فقد جاء رأي الأستاذ (بلا) حول الأسس التي يقوم عليها القصد الجنائي والتي نصت به الاتفاقية في المادة الثالثة بما يأتي : ((يفترض القصد التدليسي بالنسبة لكافة الأفعال المتصلة بالصنع غير المشروع ويقع على الدفاع إثبات عكس ذلك ، ويجب العقاب على هذه الجرائم باعتبارها جرائم مادية ، وحتى في حالة عدم توافر القصد التدليسي فانه يعاقب عليها وإنما تخفف العقوبة في هذه الحالة)) وترتيباً على ذلك يمكن التوصل لعقاب جميع أفعال الصنع الذي يجري بقصد فني أو علمي بمعرفة أشخاص غير مرخص لهم بذلك ، إذ إن مثل هذا الصنع له خطورته فمن الممكن أن تقع الأشياء المقلدة تحت أيدي أشخاص آخرين يضعونها في التداول أو حتى بمعرفة هؤلاء الذين قلدوا العملة لهذه الأغراض الثقافية في بادئ الأمر ثم يحاولون ترويجها بعد ذلك ، فتجريم هذه الأفعال كجرائم مادية يقلل من احتمالات ومخاطر وضع العملة المزيفة في التداول(9). أما رئيس المؤتمر فقد فسر في الجلسة الأخيرة للأعمال التحضيرية للاتفاقية الدولية لمنع تزييف العملة كلمة الغش بما يلي (الغش Fraudueux) هو الإرادة الحرة لصنع العملة المزيفة مع قصد الحصول منها للجاني أو لغيره على منفعة غير مشروعة . إلاّ أن مندوب إيطاليا عارض هذا الرأي واشترط توافر قصد جنائي خاص وفسر رأي رئيس المؤتمر على انه شرح لمعنى القصد الجنائي العام(10). أما الفقيه الإيطالي (مانزيني)(11) . فيرى أن القصد العام يكون كافياً لتحقيق جريمة تزييف العملة باعتباره يمثل الإرادة الواعية والمدركة لأفعال تزييف العملة ، وأن القانون الإيطالي لم ينص صراحة أو ضمناً على ضرورة توافر قصد خاص في هذه الجرائم فمجرد تقليد أو تمويه أو إنقاص أو تزوير عملة يترتب عليه خطر الطرح في التداول في أي وقت وقد يحدث ذلك دون إرادة المزيف كما لو سرقت منه . أما (بانبي) فإنه يقسم القصد الجنائي إلى ثلاثة عناصر ، العنصر الأول علم الجاني بالتزييف وهو القصد العام ، والعنصر الثاني توافر الإرادة في وضع العملة المزيفة موضع التداول والعنصر الثالث الغاية من ارتكاب هذا الفعل وهي تحقيق الربح غير المشروع له أو لغيره(12). أما الفقه الهندي فيشترط لقيام هذه الجريمة توافر قصد أو استعمال العملة المزيفة على أساس أنها صحيحة. أما الفقه الإنكليزي فانه لا يشترط القصد الخاص في جريمة التقليد أو الترويج(13). ويرى الدكتور محمد عيد الغريب بأنه ليس من الضروري اللجوء إلى القصد الخاص باعتباره يمثل إرادة استعمال العملة المزيفة وهذا ما يؤدي إلى انتفاء القصد في حالات تزييف العملة لمجرد المزح أو لغرض فني أو علمي أو الغلط في الواقع أو الخطأ غير المقصود . فالقصد العام كاف ويغني عن استلزام شرط متميز ومستقل عن العلم بتزييف العملة والإرادة الواعية لارتكاب الفعل المادي(14). أما موقف قانون العقوبات العراقي ، فانه قد اغفل إيراد القصد الخاص في نص المادة 280 والخاص بتزييف العملات المعدنية في حين ، أورد عبارة (بقصد الترويج) في المادة (281) التي تطرقت إلى تزييف العملة الورقية والسندات المالية والأوراق المصرفية وهو تفريق لا مبرر له ، إذ إن المحكمة في التجريم والعقاب عن النوعين من العملات هي واحدة وفي هذا الصدد نقترح على المشرع العراقي أن يشير في مشروع قانون العقوبات إلى ضرورة توافر القصد الجنائي الخاص من خلال النص على عبارة (نية دفع العملة المزيفة في التعامل على أساس إنها عملة حقيقية) . وكذلك لم ينص المشرع اليمني على القصد الخاص وهذا يعتبر نقصاً وندعو المشرع اليمني أن يشير إلى ذلك في قانون العقوبات.

إثبات القصد الجنائي

تثبت أفعال تقليد العملة أو تزييفها أو تزويرها أو انتقاص شيء من معدنها أو إدخالها إلى البلاد أو إخراجها أو حيازتها أو ترويجها أو التعامل فيها أو الشروع في أي فعل من هذه الأفعال بكل طرق الإثبات بما في ذلك البينة والقرائن طبقاَ للقواعد العامة في الإثبات الجنائي لا يقيد المحكمة في ذلك أي قيد إلاّ أن يكون استنتاجها عند الإثبات أو النفي سائغاً مقبولاً(15) . فللمحكمة ان تستخلص ومن جميع الوقائع والظروف مدى توافر القصد الجنائي في حدود سلطاتها الموضوعية ، ولكن لا يعيب الحكم عدم تحدثه صراحة وعلى استقلال عن العلم باركان الجريمة ما دامت الوقائع كما أثبتها تفيد توافره لدى الجاني(16). وكذلك يمكن إثبات القصد الجنائي الخاص بكل طرق الإثبات(17) . ولعل تقرير هذا الحكم في الفقه الجنائي مصدره الرغبة في ترك مسألة تقدير وتحقيق القصد الجنائي الخاص للقاضي أي (لقاضي الموضوع) ولكن يجب ان يرد بحكم الإدانة تدليل سائغ وكاف على تحقق القصد الجنائي الخاص ، ولا يؤثر أو لا يفيد تحقق وثبوت القصد الجنائي العام في حكم الإدانة في القول بتحقق وثبوت القصد الجنائي الخاص(18). وقد قضت محكمة النقض المصرية في حكم لها بأن : تقدير قيام القصد الجنائي من عدم تقديره من ظروف الدعوى أمر موضوعي(19). كما قضت بأنه إذا كان حكم الإدانة قد ورد على دفاع المتهم بالترويج بأنه لم يكن يعلم أن الأوراق المالية التي معه مزورة بقوله (إن هذا الدفاع مردود بأن قسم أبحاث التزييف والتزوير قد أبان بأن بالأوراق عيوباً ظاهرة لا تخدع الإنسان العادي منها :

أولاً: أن الأوراق المستعملة رديئة وتفتقر إلى جودة الصقل التي هي من خصائص الورقة الصحيحة

ثانياً: كما أن الورق النقدي المضبوط خالٍ من وسيلة الضمان المميز للورقة الصحيحة، وهي عبارة عن شعيرات لونية حريرية حمراء أو زرقاء اللون متناثرة ما بين ألياف الورقة وجهاً وظهراً

ثالثاً: إن النقوش والزخارف مطموسة وغير دقيقة في كثير من المواضع .

رابعاً: إن الورق المطبوع يحمل عيوباً طباعية واحدة مشتركة ، فكل هذه الثغرات تؤكد علم المهتمين بالأوراق المقلدة المزيفة ، هذا بالإضافة إلى أن ظروف الدعوى تشير صراحة إلى أن المتهمين كانوا على علم بأن أوراق النقد المضبوطة مقلدة ومزورة .

كما يشير إلى ذلك تحركاتهم واستعمالهم الصنف ومحاولتهم تمزيق بعض الورق المضبوط فان هذا السبب كاف في إثبات توافر ركن العلم(20).

أما موقف القضاء العراقي ، فهو كأي إثبات شخصي فانه على درجة كبيرة من الصعوبة والدقة في نسبته لان على الادعاء العام إثبات أمرين ، أولهما أن الجاني قد قبل بملء رضاه النتائج المترتبة على أفعاله ، وثانيهما إثبات أن الفعل الذي أتاه الجاني كان بمحض إرادته وان المتهم كان لديه القصد في تزييف العملة(21). ولقد أوضحت المادة (213) من قانون الإجراءات الجزائية العراقي إمكانية إثبات العناصر المكونة للجريمة بمختلف الوسائل وحتى القرائن البسيطة ، فالأدلة التي تستنبطها المحكمة ، وفي أي دور من أدوار التحقيق أو المحاكمة تتمثل بالإقرار وشهادة الشهود ومحاضر التحقيق والمحاضر والكشوفات الرسمية الأخرى وتقارير الخبراء الفنيين(22) والقرائن والأدلة الأخرى المقررة قانوناً. ولهذا كان من الطبيعي أن يقع عبء إثبات حسن النية على عاتق المتهم لان الأصل في فعله التجريم ، وتزييفه أو ترويجه للنقد المزيف قرينة على سوء النية التي يدل عليها فعله المادي ، فإذا ادعى انه بريء ، فعليه هو إقامة الدليل على براءته . ويرى جانب من الشراح أن القصد الجنائي الخاص قصد مفترض على أساس أن الأصل في من يقلد العملة أو يزورها انه يفعل ذلك بنية ترويجها ،وفي من يروجها أو يدخلها إلى البلاد انه يفعل ذلك بنية الغش وتحقيق ربح غير مشروع إلاّ إذا قام الدليل على غير ذلك ، ويؤدي هذا الرأي إلى القول بأنه يجب على (الدفاع) ان يثبت عكس هذا الافتراض لينفي ثبوت الجريمة في حق المتهم(23).

إغلاق