دراسات قانونية

بحث قانوني متميز حول مصطلح القانون الشرعي

بحث قانوني شامل حول مصطلح القانون الشرعي

لا يمكن ضبط معنى مصطلح القانون الشرعي بغير تحليل جذر كلمة قانون و تتبع استعمالها التاريخي عند المسلمين و غيرهم.

الباب الأول : جذر كلمة قانون.

كلمةقانون يونانية الأصل أخذها علماء الطوائف المسلمة عن النصارى لتسمية أمر السلطان و الإمام بصفة كل منهما وصيا دينيا يحكمان حسب زعمهما الأمة بأمر الله مثلهما في ذلك بابا الكنيسة الكاثوليكية و قيصري الأرثدوكس و البروتستنت.
مع ذلك فقد بقي العلماء المسلمون في عهد الصحوة يحتفظون بكلمة قانون لتسمية أمر الأمة في حين تخلى الأوربيون عن هذا المصطلح.

الفصل الأول : تعريب كلمة قانون

استعملت كلمة قانون بمعنى الأمر الملزم في عهد البطالمة من الفراعنة اليونانيين، و استعملها باباوات الكنيسة بعد ذلك بمعنى الفتوى قبل أن يجعلوها مرادفا للأمر الكنسي الملزم كما في عهد الفراعنة البطالمة.
دخلت كلمة قانون إلى لغة العرب بمعنى الفتوى و بعد ذلك بمعنى الأمر الكنسي الملزم في عهد سيطرة الرومان على الشرق الأوسط ، و ظلت في ذاكرة العرب بعد تحرير الشام و مصر و أفريقية إلى أن أعاد علماء الطوائف استعمالها لتسمية أوامر السلاطين و الأئمة.

المبحث الأول: مصطلح القانون عند اليونان.

كلمة قانون يونانية الأصل تنطق عندهم كانون و تعني العصا. لقد استعار اليونانيون القدامى معنى العصا من خلال هذا اللفظ لتسمية الأمر الملزم متى صدر من جهة عمومية بأي طريق كان. فالأمر الجماعي الصادر بطريق الديمقراطية سمي عندهم قانونا كمثل الأمر الفردي الصادر بطريق الدكتاتورية.
فكما العصا التي في يد الراعي أداة ردع و توجيه لسلوك القطيع، يعتبر القانون في يد الحاكم أداة ردع و توجيه لسلوك الأشخاص في المجتمع.
لم يكن اليونانيون أول من استعار معنى العصا لوصف أمر الحاكم، بل سبقهم المصريون الفراعنة إلى ذلك. فقد كان الصولجان أهم رموز الحكم الفرعوني، و قد تبناه اليونانيون في عهد البطالمة بعد غزو الإسكندر المقدوني لمصر القديمة.
لعله منذ ذلك العهد عرف القانون اسما لأمر الحاكم كناية على تصرف الفرعون البطلمي به لردع سلوك رعاياه و توجيههم بنفس السهولة التي يحرك بها صولجانه.
كان الصولجان الذي في يد الفرعون البطلمي يرمز لسلطته الدينية بصفته إلها و في الوقت نفسه لسلطته الزمنية بصفته ملكا. لم تكن أوامره و قراراته بالتالي مجرد فتاوى و لا قرارات و أحكام زمنية بل كانت أوامر إلهية ملزمة على وجه الإكراه، بحيث يعاقب من يخالفها بجزاء في دنيوي يوقعه عليه زبانية الفرعون.
حكم البطالمة اليونانيين مصر القديمة بوصفهم فراعنة لها من سنة 323 قبل الميلاد إلى غاية 27 ميلادية حيث
سقطت دولتهم في عهد الفرعونة كليوباترا. و قد امتد سلطانهم من ليبيا غربا إلى الشام شرقا حيث بلاد العرب الأنباط الذين يكونون بالضرورة قد أخذوا عنهم مصطلح القانون باعتباره اسما لأمر الحاكم المتأله.

المبحث الثاني : مصطلح القانون عند الرومان.

معلوم أنه بعد اليونانيين البطالمة استعمر الرومانيون مصر القديمة لكنهم على خلاف أولائك لم يتبنوا رموز الحضارة الفرعونية فاستعاضوا عن الصولجان بالسيف المصفح.
لقد اختفى أيضا مع سيطرة قياصرة روما على مصر القديمة لفظ قانون من مصطلحات الحكم و حل محله لفظ ليكس الذي يعني النص علما أن الرومان اتخذوا النص رمزا للأمر الملزم منذ إصدار جمهوريتهم الأولى للألواح الاثنى عشر.
ففي فهم الرومان كل أمر ملزم بإرادة حكامهم هو ليكس أي نص بمعنى أمر ظاهر و مميز بارتفاعه على ما حوله كالمنصة تماما.
معلوم أن الرومان كتبوا في بداية أمرهم ألواحا اثنا عشر وضعوا فيها أحكام السلوك الملزم التي رأوها أساسية لحفظ المصالح في جمهوريتهم و جعلوها منصة نظام سلوكهم الاجتماعي.
اشتهرت الألواح بعد ذلك في العهدين الملكي و الإمبراطوري بصفتها نصا أي ليكس، فاستعار العامة و الحكام معا نعتها لتسمية كل أمر ملزم و لو كان غير مكتوب كما هو شأن أعراف التجارة في المياه الدولية التي سموها ليكس ميركاتوريا.
ظل القيصر الروماني بعد الانقلاب على النظام الجمهوري يحكم باستعمال السيف المصفح كرمز لسلطته الزمنية و الدينية معا بصفته إمبراطورا و في الوقت نفسه إلها، و ظل أمره ملزما لرعاياه بصفته نصا لا يعلوه أمر غيره.
بقي قيصر الرومان بغير منازع يحكم إمبراطوريته الشاسعة انطلاقا من روما بسيفه المصفح كرمز لسلطه الزمنية و الدينية مستعملا في ذلك أوامره المطلقة باعتبارها نصوصا مقدسة إلى أن تفشت المسيحية في بلاده. و لما تبين له عجز كل وسائل القمع ضدهم، اضطر للتفاهم مع ممثلي أتباع الدين المسيحي.
لأجل ذلك سمحت الأرستقراطية الوثنية من الرومان للقيصر قسطنطين بالدخول في دين المسيحيين و مفاوضة رئيس ملتهم على تقاسم السلطة. حدث ذلك في مجمع نيقيا سنة 313 ميلادية حيث اتفق قسطنطين مع بابا المسيحيين على الاعتراف المتبادل من طرف كل منهما بسلطة الآخر. فاعترف البابا بسلطة قسطنطين الزمنية بصفته إمبراطور الرومان، و اعترف قسطنطين للبابا بسلطته الدينية بصفته رئيس ملة النصارى.

زالت بفعل ذلك عن القيصر صفة الإله بالنسبة للمسيحيين في إمبراطوريته، لكنه مع ذلك ظل يحكمهم بنصوصه التي تستمد شرعيتها من اعتراف البابا بإلزاميتها كأحكام صادرة عن سلطة زمنية تنال التزكية من طرف الكنيسة.

ما من شك أن القيصر فقد بنتيجة ذلك سلطته الدينية على رعاياه المسيحيين لصالح البابا. فقد حاز هذا الأخير رسميا في مجمع نيقيا و باعتراف من القيصر سلطة الوصاية الدينية على مسيحيي الإمبراطورية الرومانية.
غير أنه مع احتفاظ القيصر بكامل السلطة الزمنية لم ينل البابا من السلطة الدينية إلا حق الفتوى التي سميت وقتئذ قانونا.
بالفعل استخرج البابا عصاه في مجمع نيقيا ليجعلها رمزا لسلطته الدينية بصفته راعي المسيحيين، و تصادف أن كانت ذاكرة الشعوب تحتفظ بلفظ قانون الذي تستعير به معنى العصا لتسمية أمر الحكام المتئلهين من البطالمة.
بل إن البابا حرص على تطبيق نعت القانون على ما تم الاتفاق عليه مع القيصر قسطنطين في مجمع نيقيا باعتباره أول فتوى صادرة رسميا من مؤسسة دستورية في الإمبراطورية الرومانية.
صار رعايا الرومان بمختلف مللهم يخضعون ملزمين بعد ذلك لأمر القيصر المسمى ليكس بصفته نصا لا يعلوه غيره، و بات المسيحيون في الوقت نفسه يتبعون قانون البابا باعتباره فتوى، على أساس أن البابا هو الجهة الوحيدة التي ترعى ديانتهم.
رغم الانشقاق الأرثدوكسي في القسطنطينية، ظل الباباوات في روما يفتون للمسيحيين بوجوب الخضوع لليكس الإمبراطوري و ما تفرع عنه من ليكس ملكي و أميري في أوروبا الغربية مهما كان محتواه و إن تعارض مع القانون.
استتب الأمر بذلك في أوروبا الغربية للكنيسة الكاثوليكية بحلف مع الأرستقراطية اللاتينية و قام فيها نظام الإقطاع بمباركة من البابا.
غير أن الكنيسة الكاثوليكية لم تكتف بدور الجهة التي تبارك عمل الطبقة الأرستقراطية، و قررت في مجمع ليون قلب الوضع رأسا على عقب.
تنفيذا لقرارات هذا المجمع ثار البابا إينوصون الرابع على الإمبراطور فريدريك الثاني سنة 1245 ميلادية و عزله فعين إمبراطورا غيره جعله تابعا له.
بثورته تلك، جعل البابا إينوصون الرابع قانونه الكنسي يعلو على الليكس الإمبراطوري و الملكي و الأميري و الإقطاعي في كل أوروبا الغربية فاجتمعت في يده السلطتين الزمنية و الدينية معا.
بات البابا بفعل ذلك حاكما مطلقا لأوروبا الغربية يتصرف منفردا بقانونه في شؤون الدين و الدنيا معا.
في ظل ذلك النظام ظهر القانون كأداة ردع و توجيه للسلوك الديني و الدنيوي معا، الشيء الذي وجد فيه علماء الطوائف المسلمة ضالتهم.

الفصل الثاني: أسلمة كلمة قانون.

لعل كلمة قانون تكون قد عرفت عند النبطيين في البتراء و غيرها من بلاد العرب أثناء حكم البطالمة لمصر. لكن المؤكد هو أنهم عرفوا هذه الكلمة من قساوسة المسيحيين في الشام و العراق و نجران و اليمن الذين كانوا يرددونها على رعياهم لتسمية الفتوى.
رغم ذيوع هذا اللفظ، فقد ظل العرب يستهجنونه باعتباره من كلام الأعاجم، إذ لم يثبت أن استعمله أي من شعراء الجاهلية، كما لم يثبت أنه ورد في أمثالهم.
بذلك يمكن القول أن كلمة قانون كانت تعد من غير لغة العرب عند نزول القرآن الكريم، فلم يكن من المستساغ استعمالها لمخاطبتهم بوحي الله عز و جل و لا بسنة محمد صلى الله عليه و سلم. مع ذلك لم يتورع السلاطين و الأئمة الطائفيون عن إدخالها إلى الثقافة الإسلامية.

المبحث الأول: استبعاد الوحي لكلمة قانون.

معلوم أن الوحي نزل من عند الله عز و جل على محمد صلى الله عليه و سلم في القرن السابع الميلادي حيث كانت كلمة قانون تستعمل عند المسيحيين مرادفا للفتوى في حين كانت كلمة ليكس تستعمل عندهم بمعنى الأمر الملزم.
لم يستعمل الوحي أيا من هاتين الكلمتين الروميتين و اكتفى بما يقابلها في اللغة العربية و هي كلمتي أمر و فتوى.
استعمل الوحي كلمة أمر بمعنى ليكس الرومية لتسمية ما نعرفه اليوم باسم القانون المقدس لكونه أمر الله أي قانونه على الناس حيث قال الله عز و جل ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل و قلبوا لك الأمور حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون)[1]؛ و قوله عز و جل ( و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فائت لإأصلحوا بينهما بالعدل و أقسطوا إن الله يحب المقسطين)[2]، و قوله عز و جل ( ذلك أمر الله أنزله إليكم و من يتق الله يكفر عنه سيئاته و يعظم له أجرا)[3]
استعملت السنة النبوية نفس المصطلح كذلك لتسمية القانون المقدس حيث أخرج الإمام مسلم عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدثنا عمي عبد الله بن وهب حدثنا عمرو بن الحارث حدثني يزيد بن أبي حبيب حدثني عبد الرحمن بن شماسة المهري قال ( كنت عند مسلمة بن مخلد و عنده عبد الله بن عمرو بن العاص فقال عبد الله لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شر من أهل الجاهلية لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر فقال له مسلمة يا عقبة اسمع ما يقول عبد الله فقال عقبة هو أعلم و أما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة و هم على ذلك فقال عبد الله أجل ثم يبعث الله ريحا كريح المسك مسها مس الحرير فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة)[4] ؛ و أخرج ابن ماجة عن أبي عبد الله قال ثنا هشام بن عمار قال حدثنا يحيى بن حمزة قال ثنا أبو علقمة نصر بن علقمة عن عمير بن الأسود و كثير بن مرة الحضرمي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال( لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها)[5].

في مقابل ذلك استعمل الوحي نفس كلمة أمر ليسمي ما نعرفه اليوم باسم القانون الموضوع من طرف الأمة فقال الله عز و جل ( الذين استجابوا لربهم و أقاموا الصلاة و أمرهم شورى بينهم و مما رزقناهم ينفقون)[6] ؛ و قل عز و جل كذلك ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله ، و لو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون و أكثرهم الفاسقون)[7]

و جاء لفظ الأمر مستعملا كذلك في السنة النبوية بمعنى القانون الصادر عن الأمة حيث أخرج البخاري عن محمد بن سنان قال حدثنا فليح ح و حدثني إبراهيم بن المنذر قال حدثنا محمد بن فليح قال حدثني أبي قال حدثني هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال( بينما النبي صلى الله عليه و سلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم يحدث فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال و قال بعضهم بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال أين أراه السائل عن الساعة قال ها أنا يا رسول الله قال فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) [8].
من جهة أخرى استعمل الوحي كلمة فتوى بدل كلمة قانون الرومية كما كانت معروفة عند النصارى قبل الانقلاب البابوي على الإمبراطور في روما حيث كانت تعني الإخبار عن الحكم الديني على غير وجه الإلزام.
فقد أخرج ابن ماجة في سننه عن أبي بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الله بن يزيد عن سعيد بن أبي أيوب حدثني أبو هانئ حميد بن هانئ الخولاني عن أبي عثمان مسلم بن يسار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم( من أفتى بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه) [9]

طبقا لهذه النصوص المقدسة كان أمر الله مصطلحا يفيد معنى القانون المقدس و كان أمر الأمة مصطلحا يفيد بجانبه القانون الصادر عن الأمة. قانون الله الذي هو أمره صدر عنه عز و جل بطريق الوحي في القرآن و السنة، أما قانون الأمة فهو الذي يصدر عنها بطريق الشورى لإلزام أشخاصها بالمعروف و نهيهم عن المنكر.
فالأمة هي صاحبة الأمر بعد الله عز و جل لا يحل لأي كان منازعتها في صلاحية إصداره. أما أولوا الأمر منها فيتولون تنفيذه و تطبيقه باسمها و نيابة عنها بتفويض منها في حدود ما تختاره هي، و ليس أصالة عن أنفسهم.
فالأمة هي وحدها أهل الأمر، و متى نزع منها و وسد لغيرها كما في ظل أنظمة الطوائف المسلمة، ظهرت علامة من العلامات الخطيرة للساعة و ليس للسعادة.

المبحث الثاني: استعمال الطائفيين لكلمة قانون.

انتزع الطائفيون من أمة محمد صلى الله عليه و سلم صلاحية إصدار الأمر و وسدوه لأوصياء دينيين ابتدعوا لهم الولاية عليها فجعلوا القانون كما هو مصطلح عليه عند النصارى الكاثوليك و سيلتهم للحكم.
كان ذلك هو حال السلطانيين من أهل العصبية القبلية بامتدادها الشعوبي و كذلك الأمراء من الخوارج، و أيضا حال الإماميين من الروافض و من المتصوفة.
معلوم أن القرن السابع الهجري الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي تميز بانقلاب البابا في روما على حكم الإمبراطور و ما ترتب عنه من جعل القانون بمعنى الفتوى الدينية أعلى درجة من الليكس أي الأمر الإمبراطوري أو الملكي أو الأميري حسب الأحوال.
لم يكن خبر ذلك ليغيب عن سلاطين الطوائف المسلمة و أئمتها مع علمائهم الذين كانوا يلهثون وراء كل بديل لشرع الله يخفون به حق الأمة في حكم نفسها بنفسها و في إصدار الأمر بغير منازع.
ففي تلك المرحلة من التاريخ كان نظام الطوائف الأربعة قد استحكم في الأمة و بات السلاطين و الأئمة مع علمائهم يمارسون الوصاية الدينية عليها مثل ما صار يفعل البابا في روما مع قساوسته.
تحققت حينئذ نبوءة رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديثه صلى الله عليه و سلم عن ذات أنواط إذ اتبع الطائفيون سنة النصارى الكاثوليك في استعمالهم الاصطلاحي لكلمة قانون.

بدأ ذلك في أواخر أيام الدولة العباسية و تأكد جليا مع استتباب الأمر للسلاطين العثمانيين انطلاقا من 1299 ميلادية.

كان السلاطين العثمانيون أكثر حرصا على جمع صلاحيات إصدار الأمر كله بين أيديهم بصفتهم يملكون السلطتين الدينية و الزمنية معا بوصاية على أمة محمد صلى الله عليه و سلم انطلاقا من اسطنبول كما يتولى بابا روما وصايته الدينية و السياسية على أوروبا المسيحية انطلاقا من روما.
لم يكن لمعارضة الراشدين في تلك الفترة صوت يسمع لافتتان العالم ببدعة الوصاية الدينية في خضم التعصب الشعوبي.
فقد تردد صدى هذه البدعة و ذاك التعصب في الأندلس و أفريقية و السودان و فارس و السند و الهند.
جاءت المعارضة لمزاعم السلاطين العثمانيين على يد الروافض الصفويين في بلاد فارس ليس لفائدة تحرير الأمة من وصاية السلطان بل لجعلها وصاية للإمام الرافضي.
تنافس السلاطين الأتراك و الأئمة الروافض في صراع شعوبي لتركيز السلطات جميعا كل بين يديه، و لم يتورع أي منهما عن استعارة كلمة قانون الكاثوليكية لتسمية ما يصدر عنهما من أوامر و قرارات و فتاوى.
تجند علماء الطرفين بعد ذلك لترويج هذا المصطلح ضمن أحكام الفقه، فبات مألوفا استعماله من طرف المسلمين لتسمية الأمر الملزم الصادر بغير وحي من الله عز و جل في القرآن و السنة.
بناء على امتلاك السلطان و الإمام الطائفيين وصاية دينية مزعومة على الأمة، بدا و كأن في الإسلام شرعان هما شرع الله المنزل في القرآن و السنة، و شرع الوصي الديني الموضوع بالقانون.
لقد اختلط بفعل ذلك مفهوم الشريعة الإسلامية على العلماء أنفسهم، و لا زال إلى الآن؛ بحيث يجعل كثير منهم ضمنها أحكام الفقه و السياسة الشرعية التي تقررت تحت وصاية الأئمة الروافض و السلاطين الشعوبيين.
و الصواب أنه ليس في الإسلام شرعان بل شرع واحد هو أمر الله عز و جل المنزل في القرآن و السنة. مجموع أحكام ذلك الشرع في شؤون الدين و الأخلاق و الحقوق الدنيوية هي وحدها الشريعة الإسلامية؛ هي وحدها القانون المقدس بصفته أمر الله. أما ما سوى ذلك من أحكام الفقه و السياسة الشرعية فلا يمكن أن يكون من الشريعة لأنه من وضع الإنسان سلطانا كان أو إماما أو أمة.

الباب الثاني: تطور استعمال مصطلح القانون.

في تطور مثير انقلب شأن مصطلح قانون رأسا على عقب عند النصارى كما عند المسلمين.
فقد بات مصطلح القانون مستهجنا عند النصارى بعد إقبالهم على الحداثة كتجربة حضارية بديلة للتجربة الكنسية. أما المسلمون الراشدون على الخصوص، فهم على العكس من ذلك يستحسنون مصطلح القانون بصفته مكملا للشريعة، أملا منهم في أن تسترجع الأمة به صلاحيتها لإصدار الأمر من غير منازع.

الفصل الأول: تخلي النصارى عن مصطلح قانون.

بدأ نصارى أوروبا الغربية في التخلي عن مصطلح القانون انطلاقا من القرن السابع عشر و تبعهم إلى ذلك نصارى أوروبا الشرقية و باقي العالم في القرن العشرين.

المبحث الأول: اختفاء مصطلح القانون في أوروبا الغربية.

معلوم أن القرن السابع عشر شهد في أوروبا تحول كل من ألمانيا و بريطانيا و ما لها من مستعمرات في أمريكا و أستراليا إلى الديانة البروتيستانية. عرفت كذلك فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر ثورة علمانية انتقل صداها إلى باقي أوروبا و إلى أمريكا اللاتينية. بفعل هذه التحولات صار الغرب منسلخا عن القانون الكنسي.
ذلك أن الألمان آثروا بدافع شعوبي جعل الوصاية الدينية لقساوستهم برئاسة القيصر بدل القساوسة اللاتينيين برئاسة البابا في روما. لأجل ذلك بدلوا محتوى الدين المسيحي لتمكين القصير من تولي رئاسة الملة بشكل مستقل.
حدث ذلك لأول مرة في ألمانيا و ما لبث أن تفشى بين الانجلوسكسونيين خاصة في بريطانيا.
صار القيصر الألماني و كذلك الملك الإنجليزي كل منهما وصيا دينيا مطلقا على شعبه المسيحي ليس للبابا اللاتيني في روما سلطان عليه.
كان المسيحيون السلافيين قد فعلوا نفس الشيء قبل ذلك بقرون حيث استبدلوا رئاسة البابا اللاتيني لهم برئاسة القيصر الروسي في موسكو بعد سقوط القيصر اليوناني في القسطنطينية.
معلوم أن السلافيين اضطروا هم أيضا لتبديل كثير من عقائد الدين المسيحي لتحقيق استقلالهم، لكن قيصرهم على خلاف القيصر الألماني و معه الملك الإنجليزي اختار الاستعانة بالقساوسة الذين دفعوه إلى تكرار إنتاج نظام القانون الكنسي في أوروبا الشرقية.

بالفعل، استبعد قيصر الألمان كما ملك الإنجليز القساوسة من حاشيته، و استعاضا عنهم بمفكرين أوعزوا لكل منهما تحميل مسؤولية أعمال الحكم لممثلي الشعب و الاكتفاء بدور رمزي مع تحمل كامل المسؤولية الدينية عن أعمال رعاياهم.

بناء على ذلك التوجيه أباح كل من القيصر و الملك البروتستنتيين لأفراد شعبهما البدعة و الردة و مختلف المعاصي الدينية دون خوف عليهم من عذاب الله بدعوى أنهم يشملونهم برعايتهم الدينية التي تكفل لهم الشفاعة ما لم ينازعوهم ملكهم.
بناء على ذلك أيضا استدعى القيصر و الملك البروتستنتيين شعبيهما لانتخاب ممثليهم السياسيين قصد اختيار أعضاء الحكومة و محاسبتهم عن عملهم دون تدخل منهما.
نشأ بنتيجة ذلك نظام الديمقراطية الحديثة، و صار الدين عند البروتستنتيين حالة شخصية لا سبيل لربطها بتجربة الحضارة من غير طريق الديمقراطية نفسها.
في خضم ذلك و على عكس السلافيين، تخلى الأنجلسكسونيون جميعا عن مصطلح القانون. فاستعاض عنه الألمان عفويا بمصطلح من لغتهم هو جيستز و كذلك فعل البريطانيون حيث استعملوا و لا يزالون كلمة لوو بدل كانون.
لم يحدث مثل ذلك بنفس السهولة عند اللاتينيين من شعوب أوروبا الغربية. فقد اضطرهم التنافس الشعوبي مع الأنجلسكسونيين إلى التحول عن النظام الكنسي لما رأوا جيرانهم البروتستنتيين يحققون سبقا في الثورة الصناعية و استعمار العالم بفضل القوة التي وفرها لهم النظام الديمقراطي.
معلوم أن بلاد اللاتينيين في فرنسا و إسبانيا و إيطاليا على الخصوص هي مهد الكاثوليكية و موطنها، و أنه استحال على القساوسة البروتستنتيين جذبها إليهم. فقد ظلت الأرستقراطية اللاتينية و لا تزال هناك متمسكة بالنظام الكنسي كوسيلة لإقامة الحضارة مع ما يحمله من قواعد و مصطلحات كمصطلح القانون.
لما أنجز الفرنسيون ثورتهم العلمانية سنة 1789 لم يكن مفكريهم ليعولوا على عفوية الشعب للتخلي عن مصطلحات النظام الكنسي. لأجل ذلك أوصوا بإيجاد البدائل الرسمية، فاختاروا كلمة الحق الموضوعي لتحل في لغتهم محل كلمة قانون.
نفس الشيء حصل في باقي البلاد اللاتينية بعد انخراطها في تجربة الحداثة بدل النظام الكنسي، بل إن الشيء نفسه حصل أيضا في بلاد السلافيين لنفس السبب.
بفعل هذا التحول، بات النصارى في عمومهم يعزفون عن مصطلح القانون لما فيه من ارتباط بالنظام الكنسي الذي رغبوا عنه.

المبحث الثاني: تخلي الحداثيين عن مصطلح القانون.

أخذا بمنطق الجدلية الهيجلية تمكن البروتستانت من التوافق مع العلمانيين الآخذين بمنطق ديكارت المادي، فخاض الاثنان معا غمار تجربة حضارة الحداثة التي باتت تسيطر على العالم المعاصر.
تمثل الحداثة تجربة حضارة الكتلة العلمانبروتستانتية. إنها كتلة مؤلفة من الممالك البروتستنتية و هي بريطانيا و الدانمرك و السويد و كذلك الولايات الخاضعة للتاج البريطاني فيما وراء البحار و هي استراليا و كندا.
تتميز هذه الممالك بالدور الرمزي الذي يلعبه الملك مع كونه وصيا دينيا على شعبه بحكم رئاسته للملة.
إلى جانب هذه الممالك البروتستنتية، يضم التكتل ممالك أخرى غير بروتستنتية اختارت اتباع نفس نظام الممالك البروتستنتية و هي ممالك إسبانيا و بلجيكا الكاثوليكيتين، و أيضا ممالك تايلاند و بوتان و كمبوديا البوذية و إمبراطورية اليابان البوذية كذلك.
حاول كثير من الملوك المسلمين في الشرق و الغرب اتباع النموذج البروتستنتي لكنهم لم يفلحوا، فقد اضطرهم الضغط الطائفي حينا و الضغط الراشدي حينا آخر إلى التمسك بحق الحكم الفعلي.

بجانب الممالك الغير مسلمة، تكاد تتجمع في التكتل العلمانبروتستنتي كل الجمهوريات غير المسلمة. يأتي على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية متبوعة بروسيا و فرنسا و البرتغال و سويسرا و ألمانيا و إيطاليا و بولونيا و رومانيا و باقي دول أوروبا الشرقية باستثناء تركيا و البوسنة و ألبانيا. تنتمي إلى نفس الكتلة بصفتها دولا علمانية كذلك كل من الصين و الكوريتين و الفيليبين و الهند و باقي دول آسيا باستثناء الدول المسلمة هناك.

تعد كذلك أطرافا في التكتل العلمانبروتستنتي كل دول أفريقيا غير المسلمة مثل جمهورية جنوب أفريقيا و زيمبابوي و موزنبيق.
أخيرا ليست واحدة من دول أمريكا اللاتينية غير عضو في هذا التكتل. أما دولتي الفاتيكان و إسرائيل فلها وضع خاص في هذا التكتل حيث تقع منه موقع القلب.
يجب أن ننبه إلى أنه على خلاف الأمة المسلمة، ليست الكتلة العلمانبروتستانتية منتظمة في وعاء قانوني رسمي. بل إن الانتماء إليها يتم بقبول حضارة الغرب و اتباع مذهبه القانوني في الحقوق، و هو الشيء نفسه الذي تفعله دولة الفاتيكان رغم ادعائها التدين و تفعله كذلك دولة إسرائيل رغم امتناعها عن وصف نفسها بأنها علمانية.
ليس ضمن التكتل هذا فقط دول ترفض أن تنعت بالعلمانية مثل الفاتيكان و إسرائيل، بل إن دولا علمانية مثل فرنسا و إيطاليا كما روسيا و الصين و الهند ترفض أن يقال عنها أنها في نفس التكتل مع البروتستانت. إنها تفضل كلها أن يقال عنها أنها عضو في التكتل الأطلسي أو الغربي أو طرف في تجربة حضارة الحداثة.
لعل ذلك مؤشر كافي على الشرخ العميق الذي ينذر بتصدع التجمع العلمانبروتستنتي. فقد حدث التوافق العلمانبروتستنتي بتجمع القوم من بلاد الغرب الأوروبي و من الأمريكتين حول نفس المبادئ الحقوقية التي أبرزها الحرية الفردية ، تقديم القانون الوضعي على الدين و على الحقيقة الكونية، الأخذ بديمقراطية الأغلبية و بإيديولوجيا حقوق الإنسان. لكنهم لم يحسموا أمرهم بشأن الوصاية الدينية.

بالفعل، توافق القوم هناك لرفض القانون الكنسي دون الاتفاق مع ذلك على رفض الوصاية الدينية. ذلك أن ملوك بريطانيا و هولندا و السويد و النرويج و الدنمرك و بوتان و تايلاند و كمبوديا و اليابان كما ملوك اسبانيا و بلجيكا مع بابا الفاتيكان و حاخامات إسرائيل، لا زالوا كلهم يحملون صفة الأوصياء الدينيين على شعوبهم.

صحيح أن هؤلاء الأوصياء المزعومين تنازلوا دستوريا عن سلطتهم لحكم شعوبهم و اكتفوا بلعب أدوار رمزية، لكن ذلك لا يضمن عدم عودتهم لسدة الحكم في ظل حالة الاستثناء الديمقراطي التي كما سنرى يمكن أن تدوم إلى ما لا نهاية.
تلك هي قضية ما بعد الحداثة التي لا يمكن لأحد التنبؤ بها؛ فهل سيكون المستقبل للأوصياء الدينيين، أم أن القوى العلمانية ستفلح في استبعادهم نهائيا.
بغض النظر عن هذا الأمر المستقبلي، يبقى أن عموم الحداثيين مجمعون على استبعاد لفظ القانون من اصطلاحاتهم الحقوقية عكس ما يفعل المسلمون.
فالحداثيون يحتفظون باصطلاح القانون لتسمية ما كانت تصدره الكنيسة في الماضي من أحكام ملزمة لرعاياها، و لا يستعملون هذه الكلمة إلا في سياق تاريخ الأنظمة الحقوقية و السياسية.
عكس ذلك، يحرص المسلمون على الإكثار من استعمال لفظ القانون لتسمية أنظمة الحقوق؛ بل إن المتشبهين منهم بالحداثيين ممن يسعون لاستبدال الشرع بالقانون الوضعي يتعمدون استعمال كلمة قانون لمضاهاة الطائفيين الذين يفضلون التركيز على نظام الشرع.

الفصل الثاني: تمسك المسلمين بمصطلح القانون.

لا يحل للمسلمين الغاوين المتشبهين بالحداثيين استبدال نظام الشرع بنظام القانون الوضعي، كما لا يصح للطائفيين رفض استعمال كلمة قانون تنطعا. فذلك مصطلح يستعمل لتمييز ما يصدر عن الأمة من أحكام ملزمة، عما أنزله الله عز و جل من شرع.
أحكام الفقه و السياسة الشرعية ليست من الشرع عكس ما يروجه الطائفيون؛ إذ لا تعدو أن تكون قانونا وضعيا قد يكون شرعيا و قد يكون بدعيا.
من الأجدر بالنسبة للطائفيين كما الحداثيين معا التمييز بين الشريعة التي هي أمر الله و الذي يمكن تسميته مجازا باسم القانون المقدس، و بين أمر الأمة الذي يمكن تسميته مجازا كذلك باسم القانون الشرعي.
فقولنا شرع و شريعة إنما نقصد به أمر الله المنزل للناس في القرآن و السنة، و قولنا قانون شرعي إنما نقصد به أمر الأمة الصادر بطريق الشورى للإلزام و الالتزام بالمعروف و النهي و التناهي عن المنكر.
فكما لا يكون الحكم من الشريعة إلا بثبوت دليل قطعي عليه من وحي الله عز و جل في القرآن أو السنة، لا يكون القانون شرعيا إلا بصدوره أمرا بمعروف أن نهيا عن منكر من الأمة بطريق الشورى.
يصح بالفعل أن يكون القانون شرعيا، و ذلك ما يجب على المسلمين استيعابه ما داموا قد رفضوا الحداثة تمسكا منهم بالشرع، و رفضوا كذلك التخلي عن مصطلح القانون لإمكان توافقه مع الشرع.

المبحث الأول: رفض الأمة لنظام الحداثة

تكاتفت قوى التجمع العلمانبروتستنتي مبكرا لاستعمار العالم فوقعت الأمة الإسلامية كغيرها من الأمم التي نال منها الضعف فريسة للاستعمار الغربي. بفعل الاستعمار تمكن الغرب من نشر مذهبه العلمانبروتستنتي في الحقوق عبر العالم.
من الملفت للنظر أن الأمم كلها قبلت بالحداثة وفق المذهب العلمانبروتستنتي، إلا الأمة الإسلامية وحدها. فرغم تعرضها للاستعمار و قلة حيلتها، رفضت أمة محمد صلى الله عليه و سلم و لا تزال اتباع نهج الحداثة.
بالفعل، لم ينج من سيطرة الغرب في بداية القرن العشرين إلا العالم الأرثدوكسي في روسيا القيصرية و أوروبا الشرقية. لكن الثورة الشيوعية التي حدثت هناك أنهت في هذا الجزء من العالم المسيحي كل وجود لنظام القانون الكنسي. فقد أحل محله الشيوعيون قانونا علمانيا و إن لم يتوافقوا مع الغرب حول نظام حرية السوق.
ظهرت بذلك كتلتين لنفس المذهب الحقوقي إحداهما غربية ذات توجه لبرالي و أخرى شرقية ذات توجه شيوعي. لقد استفادت الشعوب المستعمرة من التجاذب بين هاتين الكتلتين حيث أمكنها التحرر من الاستعمار ، لكن من دون أن تتحرر كلها من المذهب الحقوقي العلمانبروتستنتي. منها أمم بوذية تَعَلْمَنَت مع الشيوعيين كالصين و فيتنام و كوريا الشمالية ، و كذلك بعض دول أفريقيا الوثنية ، و منها من تعلمن مع الغرب كالهند و كوريا الجنوبية و جنوب إفريقيا و غيرها من أمم الهندوس و البوذيين و الوثنيين. من الأمم كذلك من اتبع نموذج الملكية البروتستنتية كبوابة للحداثة مثل اليابان و بوتان و كمبوديا و تايلاند و إسبانيا.
في نفس هذا الوقت ، ظلت الأمة المسلمة تتحين الفرصة لتأكيد التزامها بالقانون المقدس كتعبير لرفض نظام الحداثة.
و قد تم لها ذلك بحمد الله في الثاني و العشرين من سبتمبر 1969 حيث تأسست منظمة المؤتمر الإسلامي لتكون وعائها القانوني بعد غياب مؤسسة الخلافة منذ الثالث من مارس 1924.

تنكرت كل الدول الإسلامية علنا لنظام الحداثة بانضمامها إلى هذه المنظمة الدولية. فحتى جمهورية تركيا التي كان دستورها قد أعلن علمانيتها فعلت ذلك من حيث أن الانضمام إلى منظمة المؤتمر يمثل إعلانا للانتساب إلى أمة محمد صلى الله عليه و سلم بما يحمل ذلك من التزام بالقانون المقدس، و هو الشيء الذي يتناقض مع نظام الحداثة.

ليس مهما أن أكثر الدول الأعضاء انضمت إلى هذه المنظمة نفاقا، إذ يكفي شرعا أن يعلن الشخص انتمائه للأمة بطريق النطق بالشهادتين و لو نفاقا أو بطريق الدخول في ذمة الملة المسلمة إن كان كافرا و لو خداعا ليقبل ضمنها.
كان إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي بالنسبة للراشدين من حيث لم يدر الطائفيون و لا الحداثيين، خطوة عملاقة في طريق فك الحصار عن أمة محمد صلى الله عليه و سلم، و قد فتح الباب لحمل شعلة صحوتها و العمل على توحيد قوها.
فكما خطط الحداثيون اللبراليون لذلك ظلت الأمة المسلمة كامنة في وعائها القانوني هذا لا يكاد العالم يهتم لوجودها إلا عند الحاجة لتزكية موقف ضد الكتلة الشيوعية.
بقي الأمر على ذلك إلى حين سقوط النظام الشيوعي العالمي و انهيار إمبراطوريته. إذ خلت بفعل ذلك حلبة الصراع للمواجهة بين مذهبين قانونيين هما : الإسلامي من جهة ، و الحداثي من جهة أخرى.
فليس من مذهب قانوني يتحفظ أو يتضاد مع أطروحات الغرب القانونية و السياسية بعد سقوط النظام الشيوعي العالمي إلا مذهب القانون الإسلامي.

ليس الخلاف بين الإسلام و الحداثة هين، بل هو عالمي يبلغ حد صراع الحضارات.

صحيح أن حجم العالم الحداثي و قوته تؤهلانه لمحاصرة الأمة الإسلامية و توجيه الضربات الموجعة لها، لكن حجم هذه الأخيرة يحميها من الاستئصال، كما صلابة قواها الراشدة تؤهلها ليس فقط لفك الحصار عن نفسها، بل و للسيطرة على العالم أجمع.
فشعب الأمة يمثل نسبة 20% من ساكنة كوكب الأرض و يمتد إقليمها على مساحة 35 مليون كيلومتر مربع مع حضور مكثف في كل القارات.
الأهم من ذلك كله أن العشرون في المائة من سكان الأرض هؤلاء يشكلون أمة متجانسة على قلب رجل واحد، خلاف الثمانين في المائة من الحداثيين الذين تفرقهم أحقاد الشعوبية و الدين و التاريخ، و لا يتحدون إلا لمواجهة الأمة الإسلامية.
ليس سرا أنه يسهل بسبب ذلك على أمة محمد صلى الله عليه و سلم السيطرة على العالم متى انشغل عنها الحداثيون بأن غاب عنهم من يجمع صفوفهم و يقود جمعهم.
إن الخلاف الذي يهمنا بين الإسلام و الحداثة ليس هو الديني و لا هو الثقافي أو العسكري؛ بل فقط تلك النظرة عبر كل منهما إلى الحقيقة القانونية و السياسية.
فالحداثيون بمن تشبه بهم من المسلمين يرون في القانون الإسلامي نظير القانون الكنسي في حين ذلك يجد فيه المسلمون النظام الأمثل للسلوك الحضاري.

المبحث الثاني : عودة لفظ القانون الإسلامي .

رأينا كيف شاع استعمال لفظ القانون بين المسلمين في مرحلة الانحطاط لدرجة أن أحد السلاطين العثمانيين اتخذه لقبا رسميا له. غير أن ذلك لم يدم طويلا، إذ سرعان ما عزف عنه العوام بفعل التوجيه الطائفي في مرحلة الاستعمار و إبان الحرب الباردة بين الكتلتين الشيوعية و اللبرالية.
ففي هذه المرحلة ترادف لفظ القانون عند المسلمين ليس مع الدين عكس ما كان عليه الحال عند النصارى بل مع الأحكام المخالفة للشرع.
تميزت تلك المرحلة من تاريخ الأمة في بدايتها باستعمال الإمبريالية الحداثية لأنظمة عسكرية انقلب قادتها على الخليفة العثماني في تركيا و على ملوك مسلمين و كذلك على أحزاب و جماعات إسلامية في العراق و سوريا و مصر و السودان و اليمن و ليبيا و الجزائر و نيجريا و تشاد و موريتانيا و الصومال و تونس و إندونيسيا و أفغانستان و إيران و باكستان و غيرها.
أما الملوك المسلمون الذي نجوا من الانقلابات العسكرية فقد بادر أكثرهم إلى اتباع النموذج البروتستنتي بقبول إملاءات الغرب القانونية، بينما تمسك أقلية منهم بالتقاليد السلطانية و أعلنوا التزامهم بأحكام الشرع دون سواها.
سيرا على خطى النظام العسكري التركي الذي جعله الحداثيون نموذجا للعلمانية المسلمة، سعت الحكومات العسكرية في الجمهوريات المسلمة إلى استبدال نظام الشرع جملة و تفصيلا بنظام القانون الوضعي. في حين ذلك سعى الملوك المسلمون المتشبهين بالبروتستنتيين إلى حفظ نظام الشرع شكليا مع جعل الأسبقية في كل شيء للقانون الوضعي و قام المتمسكون بالتقاليد السلطانية بخلط أحكام الفقه و السياسة الشرعية مع أحكام الوحي في القرآن و السنة في نظام واحد سموه الشرع.
جاء رد فعل العلماء و عامة الناس من المسلمين على ذلك مختلف بين تيارات ثلاث، أحدها للمتشبهين بالحداثيين الذين استحسنوا استبدال الشرع بالقانون الوضعي، و ثانيها للعلماء و العوام من الطائفيين الذين استحسنوا الخلط بين الفقه و الوحي باعتبارهما شرعا واحدا، أما ثالث رد فعل فقد جاء من طرف العلماء الراشدين و الأحزاب السياسية الراشدة الذين دعوا إلى أسلمت القانون الوضعي و عدم خلط أحكام الفقه و السياسة بأحكام بالوحي.
أما المتشبهون بالحداثيين فقد أشاعوا لفظ قانون في وسائل الإعلام و في الخطابات الرسمية كما كتبوها في النصوص الدستورية مع الحرص على عدم استعمال كلمة شرع و شريعة لدرجة أن مجرد ذكر هذه الكلمة في نص الدستور أصبحت مطلبا للمعارضة الإسلامية.

عكس ذلك، حرم المتمسكون بالتقاليد السلطانية استعمال كلمة قانون باعتباره مناقضا للشرع.
بحمد الله جرت رياح الأحداث بما لم تشته سفن الحداثيين و الطائفيين معا، و لاحت بوادر التغيير الراشد إلى الأفق. فقد تبين للإمبريالية فشل محاولة علمنة الأمة الإسلامية كما اتضح للسلطانيين خطأ الخلط بين أحكام الفقه و السياسة و الوحي.
بنتيجة ذلك أوعزت الإمبريالية للحكام العسكريين بالتراجع عن العلمانية.
حدث ذلك في وقت لم تكن الحرب الباردة قد انتهت، و بضغط على كل منهما من الطرف الآخر، عمل المعسكرين الشيوعي و اللبرالي بوسائل شتى، كل من جهته، على حماية أتباعه من التغيير الراشد.
فقد تمكن حلفي وارسو و الأطلسي مرحليا من كبح رغبة التغيير الراشد في العالم الإسلامي و توافقوا لإبقائه مقسما عبر استقدام الحوزة الرافضية إلى السلطة في إيران، و إملاء تعديلات دستورية تعترف شكليا بالشريعة كمصدر للقانون الوطني في غيرها من الجمهوريات العسكرية.
من جهتهم، و في مواجهة صحوة العامة الذين اتضح لهم الفرق بين الفقه و الوحي، نصح العلماء الطائفيون حكامهم بالتخلي عن الخلط بين أحكام الفقه و السياسة و الوحي.
في خضم ذلك كله احتاجت الحوزة الرافضية كما الحكام العسكريون و السلطانيين إلى استعمال مفردات تميز القانون الوضعي بمعناه الحداثي عن الأحكام الوضعية التي يعتبرونها ذات مصدر إسلامي.
باستثناء المملكة العربية السعودية حيث يستعمل مصطلح النظام لتسمية الأحكام الوضعية الصادرة عن ولي الأمر، تكاد كل الدول الناطقة بالعربية و الفارسية و الأردية تستعمل كلمة قانون لتسمية ما تعتبره أحكاما شرعية ملزمة.
بذلك بات السواد الأعظم في العالم الإسلامي يميز بوضوح بين الشرع من جهة و القانون من جهة أخرى.
صار بنتيجة ذلك و بتسخير من الله عز و جل، ممكن للراشدين من علماء الأمة و أحزابها السياسية، انتقاد كل أحكام القانون باعتبارها غير مقدسة و تقديم الاقتراحات لتعديلها بما يجعلها شرعية غير بدعية.
على خلاف الشأن في البلدان القليلة التي لا زالت تخلط أحكام الفقه و السياسة بالوحي، يجوز في أي بلد مسلم آخر انتقاد أي قاعدة قانونية من التشريع أو العرف أو الفقه أو القضاء أو العادة سواء في الدستور أو في غيره مع المطالبة بتعديلها دون أن يعتبر ذلك انتقاد لأحكام الشرع و طلب لتعديله.
وعيا منها بهذا التحول بدأت القوى الراشدة تتحدث عن واجب أسلمت القانون، و تمخض عن ذلك بروز مصطلح القانون الإسلامي إلى السطح و هو مصطلح يقصد به القانون الشرعي مميزا من جهة عن الشرع بصفته قانونا مقدسا و عن الأحكام البدعية الطائفية و الحداثية من جهة أخرى باعتبارها قوانين غير شرعية.
لأجل ذلك بات من واجب العلماء الراشدين صياغة نظرية القانون الشرعي بوضوح يسمح بالتمييز بينه و بين الشرع من جهة و بينه و بين القانون البدعي من جهة أخرى.
في مقابل ذلك، تيقنت قوى الوصاية الطائفية من استحالة منع الصحوة الراشدة للأمة، و شعرت بدنو أجل انهيارها. لذلك نجدها تتعاون مع الإمبريالية العلمانبروتستانتية و طابورها الخامس من المسلمين المتشبهين بالحداثيين في خطوة يائسة للتعتيم على الدراسات القانونية الشرعية في الجامعات و ووسائل الإعلام.
فلعل القائمين على هذا المنتدى من مشرفين و مشاركين واعون بهذه الحقيقة، و نتمنى أن يجعلوه نافذة حرة يطل عبرها المتخصصون في القانون الشرعي بدراساتهم على الأمة.

[1] سورة التوبة الآية 48
[2] سورة الحجرات الآية 9
[3] سورة الطلاق الآية 5
[4] صحيح مسلم: كتاب الإمارة: باب قوله لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق .. الجزء: 3 الصفحة: 1524 رقم الحديث: 1924
[5] سنن ابن ماجة: الجزء: 1 ، الصفحة: 5 ، رقم الحديث: 7
[6] سورة الشورى الآية 38
[7] سورة آل عمران الآية 110
[8] صحيح البخاري: كتاب العلم: باب من سئل علما الجزء: 1 الصفحة: 33 رقم الحديث: 59
[9] سنن ابن ماجة، الجزء: 1، الصفحة: ،20 رقم الحديث: 53

(محاماة نت)
إغلاق