دراسات قانونية
بحث قانوني و دراسة مقارنة حول المسؤولية المدنية للطبيب في القانون السوري و الفرنسي
المسؤولية المدنية للطبيب
دراسة مقارنة في القانون السوري والفرنسي
بقلم المحامي الدكتور
فواز صالح
تمهيد:
المسؤولية الطبية هي موضع بحث وتمحيص منذ قرون عدة وقد كانت علاقة الثقة التي تنشأ بين الطبيب والمريض بعيدة عن مجال المنازعات القضائية.
في القديم لم يكن المريض يتوقع الشيء الكثير من طبيبه، حيث لم يكن الطب فعالًا، ولكن بالمقابل كان الطبيب يحسن الإستماع والتنصت إلى مريضه. وكان الطبيب يتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع، حيث ساهم في ذلك ما كان يمتاز به الطبيب من الاعتناء بالمريض والاستماع إليه ، والاشفاق على حالته ، وجاهزيته في كل وقت لمعالجة المرضى.
وقد عرفت جميع الحضارات الإنسانية القديمة موضوع المسؤولية الطبية. وقد كانت ممارسة مهنة الطب في بعض الحضارات حرة لا تخضع لأي قيد أو شرط، وبالمقابل كانت هذه الحضارات تتشدد في مساءلة الطبيب عن أخطائه.
في حين أن البعض الآخر كان يخضع مزاولة مهنة الطب لشروط محددة، وتقتصرها على أشخاص معينين. وكانت تتساهل بعض الشيء في مساءلة الطبيب عن أخطائه ، نتيجة لما كانت تتمتع به مهنة الطب من سمو، ولما يتمتع به الطبيب من خلق وعلم.
أهمية البحث:
سبق الإشارة إلى أن موضوع المسؤولية الطبية قديم ومعروف في معظم الحضارات القديمة زد على ذلك فإنه مطروق في الفقه المعاصر. ومع ذلك فإن أهمية هذا البحث تبدو من خلال:
1- إلقاء الضوء على القواعد الجديدة في المسؤولية الطبية ، وخاصة ما جاء به القانون الفرنسي الجديد المتعلق بحقوق المرضى والصادر في آذار عام 2002 وكذلك ما جاء به القانون الفرنسي الصادر بتاريخ 9/8/2004 والمتعلق بإجراء الأبحاث على الإنسان واللذان أدخلا تعديلات جوهرية على أحكام المسؤولية الطبية في القانون الفرنسي.
2- وتبدو أهمية هذا البحث أيضاً من خلال الدراسة المقارنة لأحكام المسؤولية المدنية للطبيب في القانون الفرنسي والقانون السوري.
3- وأخيراً تأتي أهمية هذا البحث من خلال الإشارة إلى الأحكام القضائية الجديدة الصادرة بشأن المسؤولية المدنية للطبيب في فرنسا وسوريا . وأود أن أنوه منذ الآن إلى الفقر الذي يعاني منه الاجتهاد القضائي في سوريا في مجال المسؤولية الطبية .
خطة البحث:
ارتأيت أن أقسم هذا البحث إلى مبحث تمهيدي أعرض فيه التطور التاريخي الذي مرت به المسؤولية الطبية. ومن ثم بعد ذلك قسمت البحث إلى فصلين:
الفصل الأول: وأتحدث فيه عن طبيعة المسؤولية المدنية للطبيب.
الفصل الثاني: وأتطرق فيه إلى طبيعة المسؤولية الطبية في ضوء أحكام القانون الفرنسي لعام 2002.
ومن ثم أنهيت البحث بخاتمة.
مبحث تمهيدي: ظهور المسؤولية الطبية وتطورها
المسؤولية الطبية la responsabilité medicale معروفة منذ القدم، حيث كان قانون حمورابي، الذي كان يطبق في بلاد ما بين النهرين في الألف الثانية قبل الميلاد ، يقضي بقطع يد الطبيب الذي تسبب في موت مريضه إذا كان رجلاً حراً ، أو إذا تسبب في تعطيل عينه الذي كان يعالجها. أما إذا تسبب الطبيب في موت عبد فكان يعوض عبداً بعبد([1]).
وكان القانون الفرعوني يفرض في بعض الأحيان عقوبة الإعدام بحق الطبيب المخطأ وكذلك الحال عند الإغريق ، حيث كان الطبيب يسأل إذا تسبب بوفاة المريض نتيجة إهماله وتقصيره ، أما إذا توفي المريض دون إهمال من الطبيب فلم يكن يسأل عن ذلك.
أما في القانون الروماني، فكان من الممكن أن تصل عقوبة الطبيب الذي تعمد في ارتكاب الضرر إلى الإعدام ، وكان العقوبة تنفذ من قبل أهل المريض، الذين كان يحق لهم أيضاً المطالبة بثروة الطبيب المخطئ.
وفي القانون الكنسي كانت عقوبة الطبيب ، في حال وفاة المريض الناجمة عن إهماله ، يمكن أن تصل إلى حد الإعدام ، حيث كان يسلم إلى أهل المريض الذين كان باستطاعتهم قتله أو استرقاقه. زد على ذلك أنه إذا لم يشفَ المريض، لم يكن الطبيب يستحق أجره([2]).
وفي الشريعة الإسلامية يمكن الحجر على الطبيب الجاهل، وجاء في الحديث النبوي الشريف أن: « من تطبب ولم يكن بالطب معروفاً فأصاب نفساً فما دونها فهو ضامن([3]) ».
وجاء في حديث نبوي آخر أن: « أي طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت ، فهو ضامن([4])».
وتكرس جميع التشريعات المعاصرة هذه المسؤولية، ومنها التشريع السوري والتشريع الفرنسي.
في الواقع برزت المسؤولية الطبية بشكل أساسي في النصف الثاني من القرن العشرين وفرضت نفسها على القضاء ، وأصبحت تشكل جزءاً مهماً من عمله.
ويبدو أن محكمة النقض الفرنسية قد أرست أسس المسؤولية الطبية لأول مرة بموجب القرار الصادر عنها بتاريخ 18/6/1835 وقد أثار هذا القرار ردود فعل غاضبة من قبل الهيئة الطبية([5]) .
وبمرور الزمن أصبح من الممكن تحديد الخطأ التقني للطبيب بشكل دقيق، وإذا تبين للمحكمة وجود علاقة سببية بين هذا الخطأ وبين الضرر الذي أصاب المدعي كانت تحكم على الطبيب بتعويض ذلك الضرر.
ومن ثم بعد ذلك برزت المسؤولية الطبية على صعيد آخر هو التزام الطبيب بإعلام المريض ، وبمعنى آخر الحصول على رضا المريض الحر والواعي من أجل إجراء العلاج اللازم.
ولم يُثر هذا الالتزام قبل سنوات الستينيات من القرن العشرين أمام القضاء، وذلك لأنه كان يفترض أن الطبيب كان يجري حواراً مميزاً مع مريضه الذي لم يكن يقبل النقاش ولا الإفشاء . ولكن بعد ذلك أخذ التزام الطبيب بإعلام المريض يحتل حيزاً كبيراً من عمل القضاء.
أضف إلى ذلك أن طبيعة المسؤولية المدنية للطبيب مرت بتطور كبير.
ففي فرنسا لا يوجد في القانون المدني لعام 1804 نصاً خاصاً بالمسؤولية المدنية للطبيب . وكانت هذه المسؤولية تعتبر حتى عام 1936 مسؤولية تقصيرية تخضع لأحكام المادة /1382/ التي تكرس المسؤولية عن العمل الشخصي . إلى أن أصدرت الغرفة المدنية في محكمة النقض الفرنسية قرارها الشهير المعروف باسم ميرسيه ((Mercier بتاريخ 20/5/1936 والذي اعتبر مسؤولية الطبيب عن الأضرار التي ألحقها بالمريض مسؤولية عقدية تخضع لأحكام المادة /1147/ من القانون المدني الفرنسي.
وهذا ما كرّسه أيضاً القانون الفرنسي الجديد الصادر بتاريخ 4/3/2002 والمتعلق بحقوق المرضى ونوعية نظام الصحة، والذي يقيم مسؤولية الطبيب، من حيث المبدأ ، على أساس الخطأ.
واقتصر في هذا البحث على دراسة مسؤولية الطبيب الفردية ، وكذلك مسؤوليته في نطاق المؤسسات الطبية الخاصة التي هي من اختصاص القضاء المدني في فرنسا([6]).
أما بالنسبة لمسؤولية الأطباء العاملين في المشافي الحكومية فهي من حيث المبدأ من اختصاص القضاء الإداري في فرنسا ، وبالتالي تخرج عن نطاق هذا البحث.
أما في سورية فلم يتضمن القانون المدني نصاً خاصاً بالمسؤولية الطبية. ولكن القضاء يُصر على اعتبار هذه المسؤولية من قبيل المسؤولية التقصيرية ، وبالتالي يخضعها لأحكام هذه المسؤولية، في حين أن الفقه يعارض ذلك([7]).
يتبيّن من كل ذلك أن مسؤولية الطبيب المدنية تتأرجح بين المسؤولية التقصيرية والمسؤولية العقدية.
الفصل الأول: طبيعة المسؤولية المدنية للطبيب
اختلف الفقه والقضاء حول طبيعة المسؤولية المدنية للطبيب بين اتجاهين: الاتجاه الأول يضفي على هذه المسؤولية الطابع التقصيري ، في حين أن الاتجاه الثاني يذهب إلى أن هذه المسؤولية هي ذات طبيعة عقدية .
المبحث الأول: المسؤولية التقصيرية
في الواقع لا خلاف حول طبيعة مسؤولية الطبيب تجاه الغير فهي دون أدنى شك ذات طبيعة تقصيرية([8]) .
أما مسؤولية الطبيب تجاه مريضه، والناجمة عن العلاج، فقد كانت محل خلاف فقهي وقضائي .
سبق الإشارة إلى أن القانون الفرنسي لم يتضمن نصاً خاصاً بالمسؤولية المدنية للطبيب . ونتيجة لذلك ذهبت غالبية الفقه إلى أنه يجب أن تطبق الأحكام العامة للمسؤولية عن العمل الشخصي في مثل هذه الحال([9]) .
وهذه الأحكام المنصوص عليها في المادة /1382/ من القانون المدني والتي تلزم كل من ارتكب خطأ سبب للغير ضرراً بإصلاح ذلك الخطأ وذلك عن طريق التعويض([10]) .
وسار القضاء الفرنسي على هذا الدرب أيضاً ولمدة تزيد على قرن من الزمن اعتبر خلالها مسؤولية الطبيب عن الأضرار التي تلحق بالمريض نتيجة العلاج مسؤولية تقصيرية([11]) .
وبعد ذلك هجر القضاء الفرنسي مبدأ المسؤولية التقصيرية للطبيب في حالة الأضرار التي تلحق بالمريض نتيجة العلاج . وكان المنعطف في ذلك القرار الصادر عن الغرفة المدنية لمحكمة النقض الفرنسية بتاريخ 20/5/1936 والمشهور باسم مرسيه Mercier. وقد جاء في القرار المذكور أن العلاقة بين الطبيب والمريض هي علاقة عقدية ناجمة عن عقد العلاج … ولا يلتزم الطبيب بموجب هذا العقد بشفاء المريض ، وإنما يلتزم بإعطائه العلاج الملائم واللازم ، والمطابق لمكتسبات العلم الحالية ، وأن يحيطه بالعناية الصادقة والحريصة ، مع مراعاة الظروف الاستثنائية . ومخالفة الطبيب لالتزامه العقدي تؤدي إلى مجازاته حسب قواعد المسؤولية العقدية حتى لو كانت هذه المخالفة غير إراداية([12])…
وأيد الفقيه الفرنسي ما ذهبت إليه محكمة النقض في القرار المشار إليه أعلاه.
ومنذ ذلك الحين أصبحت المسؤولية العقدية للطبيب عن الأضرار التي يلحقها بالمريض نتيجة العلاج مبدأً ثابتاً في القانون الفرنسي.
ولكن هذا لا يعني أن أحكام المسؤولية التقصيرية لم تعد تطبق على الأضرار التي يمكن أن تنجم عن العلاج.
ويمكن أن نتصور تطبيق أحكام هذه المسؤولية الأخيرة في حالات عدة، أهمها:
- غياب العقد
- ورفع دعوى أمام القضاء الجزائي
- والمسؤولية في وسط فريق طبي.
المطلب الأول: حالة غياب العقد
ويمكن أن نتخيل وقوع الضرر خارج نطاق العقد في حالات استثنائية، مثل: وقوع حادث سير ألحق ضرراً جسدياً جسيماً بأحد الأشخاص وأفقده الوعي، فإذا تصادف وجود طبيب في موقع الحادث، ومن ثم حاول أن ينقذ حياة المضرور ، فإذا نتج عن تدخله أي ضرر بالنسبة للشخص الذي تضرر من الحادث، فإن الطبيب هنا يكون مسؤولاً مسؤولية تقصيرية عن تعويض ذلك الضرر نتيجة غياب العقد بينه وبين المضرور .
كذلك الحال بالنسبة للطبيب الذي ألف كتاباً طبياً وقع فيه بعض الأخطاء المطبعية المتعلقة بمقادير جرعات الدواء الأمر الذي أدى إلى التسبب بوفاة مريض([13]) ، وكذلك الحال المسؤولية بالنسبة المدنية الناشئة عن بطلان العقد بسبب اختلال ركن من أركانه ، فهي ذات طبيعة تقصيرية.
ويكون الأمر كذلك إذا تدخل الطبيب لمعالجة أحد الأشخاص بموجب نص قانوني أو بناء على أمر السلطة العامة، مثال ذلك تقديم العون لشخص في حالة الخطر([14]).
وكذلك الحال بالنسبة للطبيب المدرسي ، فإذا أدى تدخل الطبيب لمعالجة أحد الأطفال إلى إلحاق الضرر به، يمكن لولي الطفل مطالبته بالتعويض على أساس المسؤولية التقصيرية ، وذلك لانتفاء العلاقة العقدية بين الطبيب وولي الطفل.
وفي الواقع، فإن القانون المعاصر يدخل النشاط الطبي في نطاق علاقات اجتماعية كثيرة دون أن يكون هناك عقد بين الطبيب وبين أطراف تلك العلاقات ، وبالتالي تطبق أحكام المسؤولية التقصيرية على الأضرار الناجمة عن تدخل الطبيب للعلاج في مثل هذه الحالات ، كما هو عليه الحال في طب العمل([15]).
وقد يلحق الضرر مباشرة بأقارب المريض أيضاً، ويكون ذلك عندما يتسبب الطبيب بوفاة المريض . فيمكن في مثل هذه الحال لأقارب المريض أن يطالبوا بالتعويض عن الضرر الذي لحق بهم نتيجة وفاة المريض، وهذا الضرر هو ضرر شخصي سواء كان مالياً أو أدبياً.
وفي الواقع فقد تطور الاجتهاد الفرنسي المتعلق بالتعويض عن الضرر الأدبي تطوراً كبيراً . ففي البداية كان القضاء يقبل تعويض الضرر الأدبي لأقارب المضرور المتوفى ، مثل الزوج ، الولد ، أحد الوالدين … ومن ثم بعد ذلك أقر القضاء الفرنسي تعويض الضرر الأدبي المباشر والمؤكد الذي أصاب أحد أقارب المضرور في حال الاعتداء الجسدي على المضرور الذي لم يفض إلى الموت وإنما إلى إحداث عاهة دائمة . وقد استقر القضاء الفرنسي ، بشقيه المدني والجزائي ، على هذا المبدأ في سنوات التسعينيات من القرن العشرين . ويعتبر القرار الصادر عن الغرفة الجنائية في محكمة النقض الفرنسية في 9/2/1989 أول قرار قضى لأقارب المضرور المصاب بعاهة دائمة بالتعويض عن الضرر الأدبي الذي أصابهم([16]).
والتعويض في مثل هذه الحال يكون نتيجة الضرر الذي أصاب المضرور والناجم عن العذاب المعنوي . وبالتالي يجب أن يرضي هذا التعويض المضرور مادياً ومعنوياً . ويبدو أنه في حالة المضرور المصاب بعاهة دائمة عذاب أقاربه أكبر وأصعب من عذابهم في حالة وفاة المضرور ، وبالتالي يصعب جداً أن ينسيهم مبلغ التعويض هذا العذاب . في الواقع يتألم المضرور المصاب بعاهة دائمة خطرة أمام أقاربه في كل يوم جسدياً ومعنوياً ، وهذا الألم يسبب لهم أيضاً ألماً معنوياً مستمراً ناجماً عن رؤية قريبهم في هذا الوضع المأسوي وهو يتألم ، وبالتالي فإن ألمهم يتجدد كل يوم ولا يمكن أن يخفف التعويض من حزنهم وإحباطهم([17]).
والمحاكم الفرنسية تميز بين نوعين من الضرر المعنوي في مثل هذه الحالة، وهما :
- الضرر البدني Le Préjudice d’affliction: وهو الضرر الذي ينجم عنه آثار عاطفية أو نفسية كالحزن والكآبة والصدمة العاطفية والقلق ….
- وضرر المصاحبة والمرافقة Le Préjudice d’accompagnement، وهو الضرر الذي يسبق التغييرات التي تطرأ على الحياة اليومية ، مثل: تغيير الحياة الزوجية ، الحرمان من الحياة العاطفية والجنسية بالنسبة للزوج، وكل مصاعب الحياة اليومية برفقة شخص عاجز مصاب بعاهة دائمة خطرة([18]).
المطلب الثاني: حالة رفع دعوى التعويض أمام القضاء الجزائي
استقر الاجتهاد القضائي في فرنسا على أنه إذا اتخذ المتضرر من خطأ طبي من نفسه مدعياً شخصياً أمام القضاء الجزائي وطالب بالتعويض ، فإن الطبيب في مثل هذه الحال يكون مسؤولاً وبالتالي يلزم بدفع التعويض على أساس المسؤولية التقصيرية المنصوص عنها في المادتين 1382 و 1383 من القانون المدني، ذلك لأن القاضي الجزائي في مثل هذه الحال يقرر إصلاح ضرر ناجم عن جنحة وليس عن عدم تنفيذ عقد([19]).
ويعتبر القرار الصادر عن الغرفة الجنائية في محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 12/12/1946 المرجع في هذا المجال، حيث جاء فيه أنه إذا كانت المسؤولية الطبية عقدية من حيث المبدأ، ولكنها ليست كذلك إذا كان الإخلال بالتزام يشكل جنحة، وذلك لأن سبب المسؤولية ناجم في مثل هذه الحال عن ارتكاب الجنحة([20]).
وكانت النتيجة المباشرة الناجمة عن هذا الوضع القانوني أنه في حالة الحكم ببراءة المدعى عليه – الطبيب- أو بعدم مسؤوليته في الدعوى العامة، لم يكن باستطاعة الضحية الحصول على التعويض، وذلك لأن المحكمة الجزائية نفت وجود الجريمة التي تعتبر مصدراً للتعويض.
وبالتالي فإنه لم يكن باستطاعة القاضي المدني، فيما لو رفعت دعوى التعويض لاحقاً أمامه ، أن يمنح المضرور تعويضاً ، وذلك لأنه كان ملزماً بتطبيق مبدأ قوة الشيء المقضي به أمام القضاء الجزائي على الدعوى المدنية . ويستخلص من ذلك أن القاضي المدني لم يكن بإمكانه أن يحكم بوجود خطأ مدني فيما إذا كان القاضي الجزائي قد خلص إلى عدم وجود خطأ جزائي متمثل في الإخلال بالعلاج المقدم للمريض ، وهذا هو مبدأ وحدة الخطأ المدني والخطأ الجزائي . ولكن في السنوات الأخيرة تطور موقف المحاكم الجزائية تطوراً كبيراً في هذا المجال . أضف إلى ذلك أن الفقه الفرنسي ينتقد مبدأ وحدة الخطأ الجزائي والخطأ المدني ، وبالتالي نادى باستقلالية القضاء الجزائي عن القضاء المدني([21]) . فقد ذهبت الغرفة الجنائية في محكمة النقض إلى تصديق قرار قضى ببراءة طبيب مخدر من جنحة القتل غير القصدي ، ولكنها حكمت في الآن ذاته عليه بدفع تعويض لورثة الضحية على أساس المسؤولية العقدية المنصوص عنها في المادة /1147/ من القانون المدني الفرنسي([22]) .
وأكد القانون رقم 2000- 647 تاريخ 10/7/2000 على مبدأ استقلال الخطأ الجزائي عن الخطأ المدني ، وذلك في إطار الخطأ غير القصدي . لقد أضاف هذا القانون المادة 4-1 إلى قانون أصول المحاكمات الجزائية ، وتنص هذه المادة على أن غياب الخطأ الجزائي غير القصدي بمفهوم المادة 121-3 من قانون العقوبات لا يشكل مانعاً من رفع الدعوى أمام المحاكم المدنية بقصد الحصول على التعويض على أساس المادة 1383 من القانون المدني إذا ثبت وجود الخطأ المدني المنصوص عليه في هذه المادة ، أو تطبيقاً لنص المادة 1-452 L من قانون الضمان الاجتماعي إذا ثبت وجود الخطأ المنصوص عنه في هذه المادة([23]).
وفي القانون السوري، تجيز المادة 5 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لعام 1950 وتعديلاته إقامة دعوى الحق الشخصي ، تبعاً لدعوى الحق العام أمام المرجع الجزائي المختص . كما تجيز إقامتها على حدة أمام المحكمة المدنية المختصة ، وفي هذه الحالة على المحكمة المدنية أن توقف النظر في هذه الدعوى إلى أن تفصل دعوى الحق العام بحكم مبرم.
وتمنع هذه المادة المضرور فيما إذا أقام دعواه أمام القضاء المدني بالعدول عنها إقامتها أمام القضاء الجزائي. ولكن إذا أقامت النيابة العامة دعوى الحق العام ، يحق للمدعي الشخصي نقل دعواه إلى المحكمة الجزائية شريطة أن لا تكون المحكمة المدنية قد فصلت فيها بحكم في الأساس.
كما تنص المادة 91 من قانون البينات لعام 1947 وتعديلاته على أنه: « لا يرتبط القاضي المدني بالحكم الجزائي في الوقائع التي لم يفصل فيها هذا الحكم أو الوقائع التي فصل فيها دون ضرورة ».
ويترتب على ذلك أنه يجب التمييز بين فرضيتين:
الفرضية الأولى: صدور حكم جزائي بالإدانة: وتعد مسؤولية المتهم في هذه الفرضية ثابتة . ويجب على المحكمة المدنية أن تلزمه بالتعويض عن الضرر الذي سببه للمضرور . ولكن إذا قرر الحكم الجزائي عدم وقوع ضرر ، كأن يقرر بأن الفعل المنسوب إلى المتهم هو الشروع في القتل ولكن لم ينجم عنه ضرر شخصي، فعلى المحكمة المدنية أن تتقيد بذلك .
الفرضية الثانية: صدور حكم جزائي بالبراءة: يتقيد القاضي المدني، في هذه الفرضية ، بالحكم الجزائي الصادر بالبراءة إذا أثبت القاضي الجزائي -شريطة أن يكون ذلك ضرورياً للفصل في دعوى الحق العام- عدم وجود الخطأ، أو عدم نسبة الخطأ إلى المتهم ، أو عدم مسؤولية المتهم عن الفعل الواقع نتيجة توافر شروط الدفاع المشروعة . وبالتالي لا يجوز في مثل هذه الحالات أن يقرر القاضي المدني مسؤولية المدعى عليه عن ذلك الفعل.
أما إذا قرر القاضي الجزائي براءة المتهم لأن الفعل المنسوب إليه لا يشكل جرماً جزائياً ، فلا يتقيد القاضي المدني بذلك لأنه قد تتوافر في فعله أركان الخطأ المدني([24]).
المطلب الثالث: حالة المسؤولية في وسط الفريق الطبي
يتطلب بعض الأعمال الطبية وخاصة الجراحية، تضافر جهود أكثر من شخص من أجل إتمامها بنجاح تام . لذلك فإن مثل هذه الأعمال يقوم بها فريق طبي يرأسه الطبيب الجراح ، ويساعده طبيب مخدر ومساعدون وممرضات . ولكن في معظم الحالات لا يعرف المريض سوى الطبيب الجراح والطبيب المخدر . فالعلاقة غالباً تكون علاقة عقدية بينهما وبين المريض . وبالتالي فإن مسؤولية الجراح في مثل هذه الحالة هي مسؤولية عقدية ، وكذلك الحال بالنسبة للطبيب المخدر . أما بالنسبة لبقية الأشخاص فلا تربطهم أي علاقة عقدية بالمريض ، وبالتالي إذا ألحقوا الضرر بالمريض أثناء العمل الطبي الجراحي يمكن مطالبتهم بالتعويض عنه . وتكون هذه المطالبة من حيث المبدأ على أساس المسؤولية التقصيرية لا المسؤولية العقدية لانتفاء الرابطة العقدية . ولكن يمكن للمريض في مثل هذه الحال أن يطالب الطبيب الجراح بالتعويض عن تلك الأضرار ، والجراح يكون في مثل هذه الحال مسؤولاً مسؤولية عقدية عن أفعال غيره من أعضاء الفريق الطبي([25]).
وتجدر الإشارة إلى أن المسؤولية التقصيرية لا تقوم إلا إذا توافرت أركانها الثلاثة التقليدية وهي: الخطأ والضرر وعلاقة السببية بينهما.
أما بالنسبة للقانون السوري، فقد سبق الإشارة إلى أن القانون المدني لم يتضمن نصاً خاصاً يكرس مسؤولية الطبيب . ويذهب الفقه إلى أنه إذا وجد اتفاق بين المريض والطبيب ، فإن الطبيب يكون مسؤولاً مسؤولية عقدية عن الأضرار التي يلحقها بالمريض والناجمة عن عقد العلاج . أما إذا انتفت العلاقة التعاقدية بين الطبيب والمريض ، فإن مسؤولية الطبيب عن الأضرار التي يلحقها بالمريض تكون مسؤولية تقصيرية وفقاً لأحكام المادة /164/ من القانون المدني التي تنص على أن: « كل خطأ سبب ضرراً للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض »([26]).
أما القضاء فإنه مستقر على اعتبار مسؤولية الطبيب المدنية من قبيل المسؤولية التقصيرية حتى لو كان هناك اتفاق يربط المريض بالطبيب . فقد جاء في قرار صادر عن محكمة النقض السورية أن مسؤولية الطبيب عن عمله غير المشروع تتقادم بمرور ثلاث سنوات على اليوم الذي علم فيه المضرور بوقوع الضرر وبالشخص المسؤول عنه طبقاً لما جاء في المادة /173/ من القانون المدني . وفي هذه الدعوى كان الطبيب قد قام بتجبير كسر خطأً([27]).
وقد جاء في قرار آخر أنه :« طالما أن الأمر يتعلق بوقائع متصلة بالإهمال وبالواجبات العامة للطبيب فإن في وسع القضاء أن يكون له دور في تقدير هذه الوقائع واستخلاص ما إذا كان يستشف منها خطأ ارتكبه الطبيب مادام لا يرتبط بالتزامات طبية بحتة وأصول فنية »([28]).
وينتقد الفقه موقف محكمة النقض السورية من مسؤولية الطبيب المدنية التي تقيمها على أساس المسؤولية التقصيرية . « فما دام أن ثمة عقداً بين الطبيب والمريض ، أو من يقوم مقامه ، فإن التزام الطبيب بالعلاج يكون بمقتضى هذا العقد ، ومن ثم ، تكون مسؤوليته عقدية، …. »([29]).
المبحث الثاني: المسؤولية العقدية
أعرض أولاً الطبيعة العقدية للمسؤولية المدنية للطبيب في القانون الفرنسي في مطلب أول ، ومن ثم أخصص المطلب الثاني للطبيعة العقدية لهذه المسؤولية في القانون السوري.
المطلب الأول: في القانون الفرنسي
كانت المسؤولية المدنية للطبيب، تخضع في القانون الفرنسي ، حتى قبل عام 2002، للأحكام العامة للمسؤولية المدنية المنصوص عنها في القانون المدني. وسبق الإشارة إلى أن محكمة النقض الفرنسية، ومنذ عام 1936، تعتبر مسؤولية الطبيب الناجمة عن العلاج ذات طابع عقدي وبالتالي أخضعتها لأحكام المادة /1147/ من القانون المدني، والتي تنص على أنه يحكم على المدين إذا كان هناك محلاً لذلك، بدفع التعويض إما بسبب عدم تنفيذ الالتزام، أو بسبب التأخر في تنفيذه، ويستطيع أن يدفع المسؤولية عن نفسه إذا أثبت أن عدم التنفيذ يعود إلى سبب أجنبي لا يد له فيه، شريطة ألا يكون سيء النية([30]).
ويعود الفضل في هذا الانعطاف القضائي في طبيعة المسؤولية المدنية للطبيب إلى الفقيه الفرنسي ديموغ Demogue الذي نادى بتصنيف الالتزامات من حيث مضمونها إلى التزام بوسيلة Obligation de moyen ، والتزام بنتيجة Obligation de résultat [31].
ويعتبر قرار (مرسيه) المشار إليه أعلاه أول تطبيق قضائي لهذا التصنيف([32]).
وعقد العلاج الذي يربط الطبيب بمريضه هو عقد ملزم للجانبين ينشأ التزامات متقابلة على عاتق الطرفين . ويلتزم الطبيب بموجب هذا العقد بعلاج المريض والعناية به وتحسين حالته الصحية قدر الإمكان . وهذا ما أكده أيضاً قانون الآداب الطبية الفرنسية لعام 1995 الذي يلزم الطبيب بإعطاء المريض العلاج النوعي ، وأن يجنبه تحمل أي خطر غير مبرر([33]).
والتزام الطبيب بالعلاج هو التزام بوسيلة حيث يجب عليه أن يبذل جهده في استخدام جميع الوسائل الممكنة للوصول إلى شفاء مريضه . ويفرض هذا الالتزام على الطبيب أن يكون يقظاً وحذراً في ممارسة مهنته . والاجتهاد القضائي الفرنسي يؤكد في قرارات عدة الالتزام بالوسيلة الملقى على عاتق الطبيب بموجب عقد العلاج([34]).
ويترتب على ذلك أنه يقع على عاتق المريض إثبات خطأ الطبيب وعدم تحقق الشفاء لا يعني أن خطأ الطبيب ثابت، وإنما يجب على المريض إثبات ذلك الخطأ بوسائل أخرى ، كإثبات أن الطبيب لم يقم بواجبه كما يجب.
وبعد ذلك تشددت المحاكم في تطبيق الالتزام بالوسيلة وتفسيره ، حيث اعتبرت في بعض الأحيان أن التزام الطبيب هو التزام بتحقيق نتيجة كما هو عليه الحال عندما يقوم الطبيب بتنفيذ علاجات عادية ، أو عندما يقوم بتطبيق تقنيات موثوقة ومؤكدة([35]).
وفي السنوات الأخيرة تمّ تسليط الأضواء على المسؤولية الطبية ، وأدى ذلك إلى نشوء ما يسمى بأزمة المسؤولية الطبية([36]). وكان من أهم أثار هذه الأزمة على الصعيد النظري الحصول على التعويض، وعلى الصعيد العملي قامت بعض شركات تأمين المهن الصحية بفسخ عقود التأمين التي تربطها مع الأطباء أو بزيادة قسط التأمين نتيجة ازدياد الدعاوى في مجال المسؤولية الطبية التي كانت في الغالب تلزم الطبيب بدفع التعويض، وبالتالي كانت شركات التأمين ملزمة بدفع التعويض إذا كان ذلك الطبيب قد أمن على نفسه من المسؤولية المدنية. وبالتالي كان من شأن ذلك الوضع أن الطبيب أصبح يفكر ملياً قبل الإقدام على أي خطوة في علاج مريضه، وكذلك تزعزعت العلاقات بين الأطباء والمرضى من ناحية ، وبين الأطباء وشركات التأمين من ناحية أخرى ، كل ذلك أدى إلى تبني المشرع الفرنسي القانون رقم 2002-2003 تاريخ 4/3/2002 المتعلق بحقوق المرضى ونوعية نظام الصحة الذي عدل أحكام المسؤولية الطبية([37]).
وقد أثار تطبيق هذا القانون صعوبات على أرض الواقع فيما يتعلق بالتأمين من المسؤولية الطبية، الأمر الذي دفع المشرع للتدخل ثانية من أجل تذليل هذه الصعوبات ، وأصدر قانوناً مكملاً للقانون الصادر في 4/3/2002، وذلك بتاريخ 30/12/2002. وقد فعّل هذا القانون الالتزام الملقى على عاتق الطبيب بإبرام عقد تأمين من المسؤولية المدنية . وتنص المادة الأولى من هذا القانون على تقسيم التعويض المالي عن الأضرار الناجمة عن انتانات المشافي Les infections nosocomiales بين شركات التأمين وبين المكتب الوطني لتعويض الحوادث الطبية الذي أنشأه القانون الصادر في 4/3/2002 المتعلق بحقوق المرضى([38]).
وحاول هذا القانون أن يوفق بين حقوق أصحاب المهن الصحية وحقوق المرضى. وبالتالي فإن القانون كرس من جديد مبدأ المسؤولية القائمة على الخطأ سواء بالنسبة للممارسين أم للمؤسسات الصحية، وذلك من أجل أن يهدأ من قلق أصحاب المهن الحرة. وبالمقابل من أجل أن يلبي رغبات ضحايا الحوادث الطبية ، فإن المشرع أقام نظاماً لتعويض ضحايا الحوادث الطبية الناجمة عن الخطأ باسم التضامن الوطني([39]).
المطلب الثاني: في القانون السوري
أما في القانون السوري، فقد سبق الإشارة إلى أن الفقه يرى أن مسؤولية الطبيب تجاه مريضه هي مسؤولية عقدية ، ولكن الاجتهاد القضائي السوري يرى خلاف ذلك ، حيث يعتبر هذه المسؤولية تقصيرية.
وفي الحقيقة، يتفق ما ذهب إليه الفقه القانوني في سوريا حول الطبيعة العقدية لمسؤولية الطبيب تجاه مريضه مع رأي الفقه الإسلامي أيضاً . وقد ذهب الفقيه الحنفي الكبير السرخي إلى أن « فعل الفصّال والنزّاع مضمون ضمان العقد([40])».
ويرى الإمام الشافعي ، في المشهور من قولين له في كتابه الأم، أن الطبيب لا يستحق الأجر إذا فعل مالا يفعله مثله ، وهذا يدل على أن مسؤولية الطبيب هي عقدية في رأيه.
وقد جاء في كتاب الأم للإمام الشافعي أيضاً أنه: « إذا أمر الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يبطر دابته فتلفوا من عمله ، فإن كان ما فعل يفعله مثله مما فيه الصلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصناعة فلا ضمان عليه.
وإن كان فعل ما لا يفعل ممن أراد العلاج وكان عالماً به فهو ضامن([41]) ».
وتجدر الإشارة إلى أن محكمة النقض المصرية كانت تميل إلى اعتبار مسؤولية الطبيب عن الأضرار التي يلحقها بالمريض هي ذات طبيعة تقصيرية([42]) .
ولكن يبدو أن هذه المحكمة عدلت موقفها حديثاً، حيث أنها ترى بأن مسؤولية الطبيب الذي اختاره المريض لعلاجه والعناية به هي مسؤولية ذات طابع عقدي، ويلتزم الطبيب بموجب العقد ببذل العناية المطلوبة منه التي تستلزم جهود صادقة ويقظة تتفق مع الأصول المستقرة في علم الطب([43]).
- ويمكن فهم إصرار القضاء السوري على إضفاء الطابع التقصيري على المسؤولية المدنية للطبيب من ناحية تحقيق أكبر قدر ممكن من الحماية للمريض المضرور، إذ إن أحكام المسؤولية التقصيرية تؤمن له حماية أكثر من تلك التي توفرها أحكام المسؤولية العقدية، وخاصة من النواحي الآتية:
1- يشمل التعويض في المسؤولية التقصيرية الضرر المتوقع والضرر غير المتوقع ، في حين أن الضرر يشمل في المسؤولية العقدية ، من حيث المبدأ الضرر المتوقع فقط .
ولا يشمل الضرر غير المتوقع إلا إذا ارتكب المدين غشاً أو خطأ جسيماً ، طبقاً لما جاء في المادة /222/ مدني .
2- إذا تعدد المسؤولون في المسؤولية العقدية فلا يفترض التضامن بينهم وإنما لا بد من الاتفاق عليه صراحة ، أما إذا تعدد المسؤولون في المسؤولية التقصيرية كانوا متضامنين في التزامهم بتعويض الضرر، طبقاً لما جاء في المادة /170/ مدني .
3- أجازت المادة /218/ مدني الاتفاق على أعفاء المدين من أي مسؤولية تنشأ عن عدم تنفيذه التزامه التعاقدي إلا ما ينشأ عن غشه أو عن خطئه الجسيم . أما الاتفاق على الإعفاء من المسؤولية التقصيرية فيقع باطلاً ، وذلك لأن قواعد هذه المسؤولية تتعلق بالنظام العام ، وفقاً لما جاء في المادة / 218/ ، فقرة 3 مدني.
- وتقوم هذه المسؤولية على ثلاثة أركان وهي:
1- الخطأ: ويعني عدم تنفيذ الالتزام أو تنفيذه بشكل معيب ، ويجب على المريض إثبات هذا الخطأ ، وذلك لأن التزام الطبيب بالشفاء هو التزام ببذل العناية أو بوسيلة ، كأن يثبت المريض بأن الطبيب نسي قطعة من الشاش في بطنه بعد العملية .
2- الضرر: لا تقوم المسؤولية المدنية إلا إذا كان هناك ضرراً . ويشترط في الضرر أن يكون مباشراً وأكيداً وشخصياً . ويمكن أن يكون مادياً أو أدبياً .
وبالتالي إذا لم يؤد خطأ الطبيب إلى إلحاق ضرر بالمريض فلا يكون مسؤولاً عن ذلك مسؤولية عقدية .
3- علاقة السببية بين الخطأ والضرر: أي أن يكون الضرر الذي لحق بالمريض ناجماً عن الخطأ الذي ارتكبه الطبيب . فإذا انتفت علاقة السببية انتفت المسؤولية .
الفصل الثاني: طبيعة مسؤولية الطبيب في ضوء أحكام قانون حقوق المرضى الفرنسي لعام 2002
أضافت المادة /98/ من قانون حقوق المرضى ونوعية نظام الصحة الفرنسي لعام 2002 مواد جديدة إلى قانون الصحة العامة. ومن هذه المواد المادة 1-1142L. والتي تنص على أنه لا يسأل محترفو الصحة، وهم الأطباء والصيادلة والممرضون والممرضات، وكذلك كل مؤسسة يتم فيها إنجاز الأعمال الفردية المتعلقة بالوقاية أو بالتشخيص أو بالعلاج، عن النتائج الضارة لتلك الأعمال إلا في حالة الخطأ ، وذلك باستثناء الحالة التي تقوم فيها مسؤوليتهم على عيب في مادة أو منتج صحي. وتلزم المؤسسات والأقسام والهيئات المنصوص عنها في الفقرة الأولى بتعويض الأضرار الناجمة عن انتانات المشافي Les infections nosocomiales ، باستثناء ما إذا أثبت أنها ناجمة عن سبب أجنبي لا يد لها فيه([44]).
وأضاف القانون رقم 806/2004 الصادر بتاريخ 9/8/2004 ، والمتعلق بسياسة الصحة العامة في فرنسا والمعدل للنظام القانوني للأبحاث الطبية الحيوية ، فقرة ثانية إلى هذه المادة([45]) . وتنص هذه الفقرة على أنه لا تقوم مسؤولية مهني أو قسم أو هيئة المشار إليهم في الفقرة الأولى ، أو صانع منتجات صحية ، فإن أي حادث طبي أو إصابة Iatrogene أو التهاب يعطي الحق للمضرور، أو لورثته بعد وفاته ، في التعويض باسم التضامن الوطني ، عندما تكون هذه الأمراض ناجمة مباشرةً عن أعمال متعلقة بالوقاية أو التشخيص أو العلاج ، وتكون قد أدت بالنسبة للمريض إلى نتائج استثنائية بالنظر إلى حالته الصحية وكذلك التطور المتوقع لها ، وأن تبرز هذه النتائج طابعاً جسيماً يحدده مرسوم يصدر بذلك ، ويقدر طابع الجسامة بالنظر إلى فقدان القدرة الوظيفية ، ونتائجها على الحياة الخاصة والمهنية ، هذه النتائج التي تقدر بعد الأخذ بالحسبان بصورة خاصة نسبة العجز الدائم أو مدة العجز المؤقت عن العمل . ويعطي الحق في التعويض باسم التضامن الوطني نسبة عجز دائم هي أكثر من النسبة المحددة في جدول خاص يصدر بمرسوم ، هذه النسبة التي يجب أن تكون على الأكثر مساوية لـ 25% ومحددة بموجب ذلك المرسوم([46]) .
واستثنت المادة L.1142-3 من قانون الصحة العامة الفرنسي ، في صياغتها الناجمة عن القانون الصادر بتاريخ 9/8/2004 ، مسؤولية القائم بالبحث الطبي الحيوي من الأحكام السابقة . وتبقى المسؤولية في نطاق إجراء الأبحاث الحيوية الطبية خاضعة لأحكام المادة L.1121-10 من القانون نفسه ، والتي تجعل القائم بهذه الأبحاث مسؤولاً بحكم القانون عن الأضرار التي تلحق بالشخص الذي قبل أن يخضع لها والتي لا تحقق أي فائدة مباشرة وشخصية له.
يستخلص من كل ذلك أن مسؤولية محترفي الصحة ، ومنهم الأطباء ، في ضوء الأحكام الجديدة تقوم من حيث المبدأ على أساس الخطأ . وفي حالات استثنائية أقامها المشرع على أساس الضرر.
المبحث الأول: المسؤولية القائمة على أساس الخطأ
من الرجوع إلى أحكام الفقرة الأولى من المادة L.1142-1 من قانون الصحة العامة الفرنسي نجد أنها تقيم مسؤولية محترفي الصحة، ومنهم الأطباء ، وكذلك المؤسسات والأقسام والهيئات التي يتم فيها القيام بالأعمال الفردية المتعلقة بالوقاية أو التشخيص أو العلاج ، على أساس الخطأ . وجاءت هذه المادة بصيغة مطلقة بحيث أنها لم تميز بين حالة وجود عقد بين المريض والطبيب وحالة عدم وجوده . وبالتالي لم يعد من الممكن تكييف هذا المسؤولية بالمسؤولية العقدية في رأي بعض الفقهاء ([47]).
وبالتالي فإن هذا النص يطبق حتى لو كان هناك عقداً بين الطبيب والمريض.
ولم تحدّد المادة L.1142-1 المشار إليها أعلاه المقصود من الخطأ. وبالتالي يمكن القول أن الحلول السابقة التي توصل إليها الاجتهاد القضائي قبل دخول القانون الجديد حيز التنفيذ تبقى مطبقة. ويترتب على ذلك أنه لا يشترط في الخطأ الذي يرتكبه الطبيب أن يكون على درجة معينة من الجسامة. فالأحكام العامة للمسؤولية القائمة على الخطأ ، والمنصوص عنها في المادتين 1382 و 1383 من القانون المدني، كانت تطبق على كل خطأ سبب ضرراً للغير، ولم تستثنِ الطبيب من ذلك([48]).
والخطأ هو إخلال بالتزام سابق ، وانحراف في السلوك . ومعيار الانحراف هو معيار الرجل المعتاد . وكذلك الحال بالنسبة للخطأ الطبي ، حيث يتم مقارنة سلوك الطبيب المخطئ بسلوك الرجل المعتاد ، وهو في هذه الحال طبيب من الاختصاص نفسه ووجد في الظروف نفسها التي ارتكب فيها الطبيب الملاحق بالتعويض عن الفعل الضار ، فإذا تصرف الطبيب المعتاد بالطريقة ذاتها التي تصرف بها الطبيب الملاحق بالتعويض فمعنى ذلك أن هذا الأخير لم يخطأ وبالتالي لا تقوم مسؤوليته([49]).
وأهم صور الخطأ هي الآتية:
- العمل غير المشروع
- والإخلال بالواجب الإنساني
- والخطأ التقني.
أولاً: العمل غير المشروع
ومثال ذلك إذا نفذ الطبيب عملاً طبياً يحظره القانون صراحة كأن يجري بحثاً على شخص دون الحصول على رضاه وفقاً لأحكام المادة L.1121-1-1 من قانون الصحة العامة ، حيث يشكل هذا الفعل اعتداءً على السلامة الجسدية للشخص .
وكذلك الحال إذا قام الطبيب بعمل طبي لا يهدف تحقيق غاية طبية للمريض ، مثال ذلك الجراحة التجميلية دون مراعاة الشروط المتعلقة بها ، وكذلك العملية الجراحية التي تتم في إطار تغيير الجنس دون مراعاة الشروط القانونية المتعلقة بها([50]).
ثانياً: الإخلال بالواجب الإنساني المفروض على الطبيب
في الواقع الواجب الإنساني هو من صميم مهنة الطب، حيث يلتزم الطبيب بموجب ذلك باحترام شخص المريض وكرامته. ونتيجة لأهمية الالتزامات الناجمة عن هذا الواجب قام المشرع بتكريسها في القانون المتعلق بحقوق المرضى لعام 2002([51]).
وتتعلق هذه الالتزامات بالرضا وبالسر الطبي واحترام كرامة المريض والالتزام بإعلامه بخطورة العمل الطبي وبالنتائج المترتبة عليه.
وأي إخلال بالتزام من هذه الالتزامات يرتب مسؤولية الطبيب تجاه المريض وبالتالي يلتزم بتعويض الضرر الذي يلحق به.
ثالثاً: الخطأ الطبي التقني
في الواقع يلتزم الطبيب بأن يعطي المريض العلاج النافع وأن يحيطه بالعناية اللازمة ويجب أن يكون ذلك منسجماً مع المعطيات العلمية المكتسبة. وكل ذلك يتطلب من الطبيب أن يقوم بعدد معين من الأعمال الطبية، مثل: إجراء بعض التحقيقات ، وضع التشخيص، إعطاء علاج، أو إجراء مداخلة جراحية. وإذا نجم عن أي عمل من هذه الأعمال ضرراً فلا يعني ذلك أن الطبيب مسؤول عن ذلك وإنما يجب إثبات الخطأ في جانب الطبيب حتى تقوم مسؤوليته. وإثبات الخطأ يكون عن طريق إثبات انحراف الطبيب في عمله عن سلوك الرجل المعتاد، وهو في مثل هذه الحال طبيب يوضع في الظروف نفسها التي وجد فيها الطبيب الذي سبب بعمله ضرراً للمريض . ويكون ذلك عن طريق الخبرة الطبية([52]).
والاجتهاد القضائي في فرنسا مستقر على أن الخطأ التقني الطبي يكون نتيجة عدم مراعاة القانون، كما هو عليه الحال بالنسبة للطبيب الذي يقرر بموجب شهادة طبية حجر شخص في مشفى للأمراض النفسية دون أن يقوم بمعاينة المريض([53]).
وقد يكون نتيجة مخالفة أعراف المهنة وأصولها النافذة، ومثال ذلك إذا أجرى الطبيب عملية جراحية دون إجراء تحاليل سابقة تعتبر بموجب العرف الطبي ضرورية([54]).
وقد يكون الخطأ الطبي نتيجة عدم مراعاة المعطيات العلمية المكتسبة، والاجتهاد القضائي مستقر على ذلك منذ عام 1936 عندما أصدرت محكمة النقض الفرنسية القرار المشهور باسم (ميرسيه) بشأن طبيعة المسؤولية المدنية الطبية([55]).
ويقصد بالمعطيات العلمية المكتسبة المعطيات والمعلومات المعروفة والتي تم نشرها وقت قيام الطبيب بعمله، والتي يجب أن تحوز على ثقة وموافقة غالبية العلماء.
وصور الخطأ التقني الطبي عديدة وأهمها:
- الخطأ في التشخيص
- والخطأ في اختيار العلاج
- والخطأ في تطبيق علاج أو تنفيذ عمل جراحي
- والخطأ في المراقبة الطبية([56]) .
المبحث الثاني، الاستثناء: المسؤولية بحكم القانون
استثنت المادة L1142-1 من قانون الصحة العامة من نطاق مسؤولية الطبيب القائمة على الخطأ حالتين وهما المسؤولية الناجمة عن عيب في جهاز أو منتج ، وحالة الأضرار الناجمة عن الالتهابات التي يصاب بها المريض بسبب وجوده في المستشفى les infections nosocomiales.
وكذلك الحال بالنسبة للمادةL1142-3 من قانون الصحة العامة ، والمضافة أيضاً بموجب قانون حقوق المرضى لعام /2002/ والمعدل بموجب القانون الصادر بتاريخ 9/8/2004 والمتعلق بسياسة الصحة العامة في فرنسا، التي استثنت من نطاق المسؤولية القائمة على الخطأ مسؤولية القائم بالبحث الطبي – الحيوي حيث تبقى مسؤوليته خاضعة لأحكام المادة L1121-10 .
المطلب الأول: المسؤولية الناجمة عن جهاز أو منتج
سبق الإشارة إلى أن القضاء الفرنسي ضيق كثيراً من نطاق الالتزام بالعناية أو الالتزام بوسيلة الملقى على عاتق الطبيب بموجب عقد العلاج ، وتحول شيئاً فشيئاً إلى إلقاء التزام بنتيجة على عاتق الطبيب ، وكانت الغاية من ذلك هي تعويض المضرور عن الأضرار التي لحقت به في نطاق عقد العلاج الطبي. وهكذا فقد اعتبر القضاء أن الطبيب المخبري يلتزم بتحقيق نتيجة وليس بوسيلة بالنسبة لموثوقية نتائج التحليل ومصداقيتها، وبالتالي فإن مسؤولية الطبيب المخبري تتحقق بمجرد إعطاء نتائج خاطئة . وكان هذا الالتزام بنتيجة قاصراً فقط على التحاليل المعتادة والتي لا تخضع كثيراً لعنصر الاحتمال الطبي([57]).
أما بالنسبة للتحاليل التي كانت تعتبر دقيقة وحساسة، فكان التزام الطبيب المخبري هو بوسيلة وليس بتحقيق نتيجة([58]).
وكذلك الحال فيما لو قدم الطبيب جهازاً أو مادة طبية، حيث كان القضاء يميز بين نوعين من الالتزامات : التزام بوسيلة بالنسبة للأعمال التي تتم في نطاق العلاج ، والتزام بنتيجة بالنسبة للأضرار التي تنجم مباشرة عن الجهاز أو الآلة . وهذا الأمر ظهر جلياً بالنسبة لطبيب الأسنان الذي يلتزم بتركيب طاقم أسنان اصطناعي لمريضه([59]).
وذهبت محكمة النقض الفرنسية في قرار لها إلى أنه يقع على عاتق الطبيب التزاماً بنتيجة وبالسلامة بالنسبة للمادة المستعملة من أجل تنفيذ العمل الطبي في نطاق العلاج([60]). ويتعلق هذا القرار بمريضة سقطت من على الطاولة أثناء المعاينة الشعاعية، وكانت محكمة الاستئناف قد قررت عدم مسؤولية الطبيب عن الأضرار التي لحقت بها، وذلك لأنها قدرت أن الحادث وقع بفعلها. وقد صدقت محكمة النقض هذا القرار ، وعللت ذلك بقولها أنه وإن كان في هذه الحال هناك عقد بين المريضة وبين طبيبها يلقي على عاتق هذا الأخير التزاماً بنتيجة وبالسلامة فيما يتعلق بالمواد التي يستعملها من أجل تنفيذ العمل الطبي، ولكن يجب في مثل هذه الحال على المريضة إثبات أن الضرر ناجم عن تلك المواد.
وهذا ما أكدته محكمة النقض الفرنسية في قرار آخر ذهبت فيه إلى أن العيادة التي قدمت المادة المطهرة للطبيب، والتي سببت حروقاً من الدرجة الأولى والثانية للمريض، تعتبر مسؤولة عن الأضرار التي لحقت بالمريض وذلك لأن عقد العلاج الذي تَّم إسعاف المريض بموجبه إلى المؤسسة الطبية الخاصة يلقي على عاتق هذه المؤسسة التزاماً بنتيجة وبالسلامة فيما يتعلق بالمنتجات، كالأدوية، التي تقدمها([61]).
وكرّس المشرّع الفرنسي هذا الاجتهاد القضائي في المادة L1142-1 من قانون الصحة العامة، والتي استثنت مثل هذه الحالات من نطاق المسؤولية القائمة على الخطأ.
المطلب الثاني: الأضرار الناجمة عن الأخماج Les infections nosocomiales
ويقصد بالأخماج هنا الالتهابات التي يصاب بها المريض نتيجة وجوده في المشفى. وقد بين البلاغ الصادر عن وزير التضامن والصحة الحماية الاجتماعية بتاريخ 13/10/1988 المقصودة بهذه الأخماج أو الالتهابات. فهي تتعلق بكل مرض سببته جراثيم وميكروبات أصابت مريضاً بعد قبوله في مؤسسة صحية إما للبقاء فيها أو لتلقي العلاج دون البقاء فيها، وسواء ظهرت أعراض تلك الالتهابات أثناء إقامة المريض في المشفى ، أو تم التعرف عليها بعد ذلك أثناء فحص سريري.
وفي هذه الحالة أيضاً كان الاجتهاد القضائي يلقي على عاتق الطبيب التزاماً بنتيجة وبالسلامة([62]).
والمشرّع الفرنسي كرس هذا الاجتهاد أيضاً في نص المادة L1142-1، الفقرة آ من قانون الصحة العامة، وبالتالي استثنى مسؤولية المؤسسات الطبية في مثل هذا الحالة من أحكام المسؤولية القائمة على الخطأ.
زد على ذلك أن المادة 71 من تقنين الآداب الطبية الفرنسي توجب على الطبيب أن يحرص على تعقيم الأدوات الطبية التي يستخدمها في عمله والتخلص من النفايات الطبية وفقاً للإجراءات المنصوص عليها في القانون. وهذا بالطبع يؤدي إلى القضاء على الأسباب التي تسبب مثل هذه الالتهابات([63]).
المطلب الثالث: مسؤولية القائم بالأبحاث الطبية الحيوية
استثنى قانون حقوق المرضى لعام2002 مسؤولية القائم بالأبحاث الطبية الحيوية من نطاق أحكام المسؤولية القائمة على الخطأ، وأبقتها خاضعة لأحكام المادة L1121-7من قانون الصحة العامة. وتنص هذه المادة على أنه يلتزم القائم بالأبحاث الطبية الحيوية بتعويض الشخص الذي قبل أن يخضع لها أو ورثته، عن الأضرار التي لحقت به إذا كانت هذه الأبحاث لا تحقق منفعة فردية مباشرة له حتى لو لم يكن هناك خطأ، ولا يمكن له أن يدفع المسؤولية عن نفسه بإثبات فعل الغير أو انسحاب الشخص الإرادي من التجربة. إذاً هذه المسؤولية هي مسؤولية موضوعية تقوم على المخاطر.
أما الفقرة الثانية من المادة المذكورة فتنص على أنه بالنسبة للأبحاث الطبية الحيوية التي تحقق منفعة فردية ومباشرة، فإن القائم بالأبحاث يلتزم بتعويض الشخص الذي قبل الخضوع لها، أو ورثته، عن الأضرار التي لحقت به إلا إذا أثبت أنه لم يخطأ، ولا يمكن له هنا أيضاً أن يدفع المسؤولية عن نفسه بإثبات فعل الغير أو انسحاب الشخص الإرادي من التجربة.
ويتضح من ذلك أن هذه المسؤولية هي مسؤولية خاصة تقوم على خطأ مفترض ولكنه يقبل إثبات العكس.
وبتاريخ 9/8/2004 أصدر المشرّع الفرنسي القانون رقم 806/2004 المتعلق بسياسة الصحة العامة والذي أدخل في قانون الصحة العامة أحكام التوجيه الأوروبي الصادر عام 2001 والمتعلق بالأبحاث الطبية الحيوية . وبالتالي فإن هذا القانون عدّل النظام القانوني لهذه الأبحاث في القانون الفرنسي. وأصبحت مسؤولية القائم بمثل هذه الأبحاث تخضع لأحكام المادة L1121-10 من قانون الصحة العامة. وتنص هذه المادة على أنه يلتزم القائم ببحث طبي حيوي بتعويض الأضرار الناجمة عن البحث والتي تلحق بالشخص الذي قبل أن يخضع له أو بورثته، باستثناء حالة ما إذا أثبت أن هذه الأضرار غير ناجمة عن خطئه أو عن خطأ أي متدخل آخر في البحث دون أن يكون له الحق في التمسك بخطأ الغير أو برجوع الشخص الذي قبل بصورة مسبقة الخضوع للبحث عن رضاه. وعندما تنتفي مسؤولية القائم بالبحث، يمكن للمضرورين الحصول على التعويض طبقاً للشروط المنصوص عليها في المادة L1142-3 من هذا القانون.
ويستلزم إجراء البحث الطبي الحيوي أن يقوم القائم به بإبرام عقد تأمين بشكل مسبق تضمن مسؤوليته المدنية طبقاً لنص هذه المادة ، وكذلك مسؤولية أي متدخل في البحث بغض النظر عن العلاقات القائمة بين المتدخلين والمروج أو القائم بالبحث . وأحكام هذه المادة هي من النظام العام . ويغطي التأمين من المسؤولية المدنية المنصوص عليه في الفقرة السابقة النتائج المادية للكوارث التي تعود أسبابها إلى البحث الطبي الحيوي منذ أن توجه أول مطالبة للمؤَّمن أو للمؤِّمن خلال الفترة الممتدة من بداية البحث وحتى انقضاء مدة لا يمكن أن تقل عن عشر سنوات على انتهاء البحث.
وتعفى الدولة، إذا كانت هي القائمة بالبحث أو المروجة له، من إبرام عقد التأمين من المسؤولية المدنية . وفي كل الأحوال تخضع الدولة للالتزامات المفروضة على المؤِّمن عندما تكون شركة التأمين تابعة لها([64]).
المبحث الثالث: تعويض ضحايا الحوادث الطبية غير الناجمة عن الخطأ
من الأهداف الأساسية لصدور القانون المتعلق بحقوق المرضى عام 2002 هو تلبية طلبات المضرورين من الحوادث الطبية المطابقة للقانون الذين لم يكن يحق لهم الحصول على تعويض عن طريق المسؤولية الطبية وذلك لانعدام ركن الخطأ، لذلك فقد قرر المشرع وضع نظام للتعويض في هذه الحالة يستند على التضامن الوطني وفقاً لما طالبت به جمعيات ضحايا الحوادث الطبية منذ سنوات عدة. وهذا النظام مكرس في المادة L1142-1 من قانون الصحة العامة. وتطبق هذه الأحكام الجديدة على الحوادث الطبية الناجمة عن أعمال الوقاية والتشخيص والعلاج التي تمت اعتباراً من 5/9/2001، حتى لو كان التعويض عن الأضرار الناجمة عن هذه الحوادث محل دعوى تنظر أمام القضاء طالما لم يصدر قراراً قطعياً فيها، طبقاً لما نص عليه القانون رقم 1577/2002 تاريخ 30/12/2002، في المادة الثالثة منه([65]).
تنص الفقرة الثانية من المادة L1142-1 من قانون الصحة العامة الفرنسي على أنه عندما لا يمكن إثبات مسؤولية الطبيب أو المؤسسات والأقسام والهيئات الطبية المنصوص عنها في الفقرة الأولى، أو منتج المواد ، فإن الحوادث الطبية تعطي الحق للمضرور في الحصول على تعويض باسم التضامن الوطني ، عندما تكون هذه الحوادث مرتبطة مباشرة بأعمال الوقاية أو التشخيص أو العلاج، وترتب عليها بالنسبة للمضرور نتائج غير عادية، وتمثل درجة من الخطورة.
ومن أجل ذلك أنشأت المادة L1142-22 المكتب الوطني للتعويض عن الحوادث الطبية المرتبط بوزارة الصحة([66]).
ويقوم هذا المكتب بتعويض الأضرار الناجمة عن تلك الحوادث والأضرار والإنتانات باسم التضامن الوطني.
وهذا المكتب هو هيئة عامة ذات طابع إداري مرتبطة بوزارة الصحة. ويحدّد المرسوم رقم /140/ تاريخ 19/2/2003، المعدل لقانون الصحة العامة تكوين هذا المكتب وآلية عمله. إضافةً إلى التعويضات التي يدفعها هذا المكتب، فإنه يأخذ على عاتقه النفقات الإدارية الناجمة عن عمل اللجان الإقليمية للمصالحة والتعويض، وكذلك نفقات الخبرة التي تطلبها هذه اللجان.
وتتكون موارد هذا المكتب، طبقاً لنص المادة L1142.23 من قانون الصحة العامة، من المبالغ المحددة سنوياً في القانون المالي للتأمين الاجتماعي بالإضافة إلى موارد أخرى.
وعلّق القانون الفرنسي منح التعويض على توافر شروط معينة، كما أخضع ذلك لإجراءات محددة.
المطلب الأول: شروط التعويض
يستفيد من التعويض باسم التضامن الاجتماعي ضحايا الحوادث الطبية والإصابات الخارجية أو إنتانات المشافي، عندما لا تتوافر أركان المسؤولية بالنسبة لممتهن العمل الصحي، أو مؤسسة صحية أو صانع لمنتجات دموية. إذاً يتعلق الأمر هنا بتعويض نتائج ما نسميه بالضرر أو الاحتمال العلاجي. ومع ذلك فإن المشرع تجنب استخدام هذا المصطلح L’aléa thérapeutique لأن الفقه لم يتفق بعد على تعريف له. وبالمقابل فإن المشرع لم يبين المقصود من الحوادث الطبية، أو الإصابات أو إنتانات المشافي.
إضافة إلى الأضرار التي لا يمكن أن تؤدي إلى قيام المسؤولية الطبية فإنه منذ صدور القانون رقم /1577/ تاريخ 30/12/2002([67])، والذي عدّل المادة L1142-1-1 فقرة 2 من قانون الصحة العامة([68])، يمكن أيضاً تعويض الأضرار الناجمة عن إنتانات المشافي باسم التضامن الوطني عندما يستحق فيها شرط الحساب المنصوص عليها في المادة L1142-1 من قانون الصحة العامة([69]).
وحتى تعطي هذه الحوادث الحق في التعويض يجب أن يتوافر فيها الشروط التي نص عليها القانون وهي:
أولاً: شرط السببية
يجب أن تكون الأضرار المدعى بها ناجمة مباشرة عن عمل وقائي أو عن عمل تشخيصي أو علاجي ، طبقاً لما جاء في المادة L1142-1 من قانون الصحة العامة. ويفترض أن هذا الشرط لا يثير أي صعوبات . ومع ذلك فإن نتائج بعض إنتانات المشافي التي أصابت المريض في المشفى ولكنها غير ناجمة عن عمل وقائي أو تشخيصي أو علاجي يجب أن تستبعد من نطاق التعويض ، مثل الإصابة بمرض Legionnellose.
ثانياً: يجب أن تسبب هذه الأضرار للمريض نتائج غير عادية بالنظر إلى حالته الصحية
ويهدف هذا الشرط إلى التمييز بين ما ينتج من فشل العلاج وتطور الحالة المريضة للمريض، وبين ما ينجم عن الحادث الطبي .
ثالثاً: شرط الجسامة
يقتصر الحق في التعويض باسم التضامن الوطني على الأضرار التي تصل أو تجاوز حداً معيناً من الجسامة يتم تحديده بمرسوم. وبالنسبة للأضرار التي لا تتوافر فيها هذا الشرط لا يمكن للمضرور أن يحصل على أي تعويض طالما أن أركان المسؤولية الطبية غير متوافرة.
وتقدّر جسامة الأضرار بالنظر إلى فقدان القدرات الوظيفية ونتائجها على الحياة الخاصة والمهنية التي تقدّر بالنظر إلى نسبة العجز الدائم أو مدة التعطيل المؤقت عن العمل . ونسبة العجز الدائم المطلوبة من أجل الاستفادة من هذا التعويض لا يمكن أن تكون أعلى من 25% تحدد بجدول خاص يتم تحديده بمرسوم ، طبقاً لما جاء في المادة L1142-1 ، فقرة 2.
وينتقد الفقه بشدة هذا الشرط ، ويرى فيه نوع من التمييز بين ضحايا الحوادث الطبية . زد على ذلك أن نسبة 25%، على افتراض أن المرسوم سينص على ذلك ، هي عالية جداً الأمر الذي قد يؤدي إلى حرمان عدد كبير من ضحايا الحوادث الطبية من الاستفادة من نظام التعويض باسم التضامن الوطني([70]).
المطلب الثاني: إجراءات حل النزاعات ودياً
من أجل تسريع وتبسيط حل النزاع ودفع التعويض وضع القانون إجراءات لحل النزاعات ودياً تقوم بها لجان إقليمية تسمى اللجان الإقليمية للمصالحة والتعويض، وهذه اللجان مكلفة أيضاً بتسهيل حل النزاعات الأخرى بين أصحاب المهن الصحية وزبائنهم وكذلك المؤسسات الصحية ومنتجي المواد الدموية، طبقاً لما جاء في المادة L1142-5 وما يليها من قانون الصحة العامة([71]).
في الحقيقة قبل صدور قانون حقوق المرضى لعام 2002 ، كان ضحايا الحوادث الطبية يشتكون من طول أمد دعاوى المسؤولية وإجراءات المطالبة بالتعويض وكذلك تعقيداتها والنفقات الباهظة التي تتطلبها.
لذا تدخّل المشرّع من أجل تلبية هذا المطلب لجمعيات ضحايا الحوادث الطبية.
ومع ذلك لا يستفيد من هذه الإجراءات لحل النزاع ودياً إلا ضحايا الحوادث الطبية الذين تتوافر في الضرر الذي لحق بهم الشروط المطلوبة في القانون . وبالمقابل فإن اللجوء إلى هذه الإجراءات هو أمر اختياري بالنسبة للمضرور ، ويمكن له أن يفضل رفع الدعوى أمام القضاء المختص (المدني والجزائي).
كما يمكن له أن يقوم بالإجرائين معاً، أي أن يطالب بحل النزاع ودياً وفي الآن ذاته يرفع الدعوى أمام القضاء المختص.
أولاً: اللجان الإقليمية للمصالحة والتعويض
تكون هذه اللجان برئاسة قاضي إداري أو مدني ويكون في عضويتها ممثلين عن المرضى والزبائن ، وممثلين عن أصحاب المهن الصحية والمسؤولين عن المؤسسات وكذلك ممثلين عن المكتب الوطني للتعويض والمؤمنين، طبقاً لما جاء في المادة L1142-6 فقرة 1. وحّدد المرسوم رقم /120/ 2003 الصادر بتاريخ 19/2/2003 كيفية تشكيل هذه اللجان وآلية عملها.
وتنعقد هذه اللجان إما لحل النزاعات ودياً، أو للمصالحة. وعندما تنعقد للمصالحة يمكن لها أن تفوض كلاً أو جزءاً من اختصاصها إلى وسيط أو أكثر مستقل ، طبقاً لما جاء في المادة L1142-5، الفقرتان 2 و3.
ثانياً: رفع النزاع إلى اللجنة
يمكن لكل شخص يعتقد بأنه ضحية لضرر ناجم عن عمل وقائي أو تشخيصي أو علاجي، أو لورثته في حال وفاته رفع النزاع إلى اللجنة، طبقاً لما جاء في المادة L1142-7، فقرة 1 من قانون الصحة العامة. ويجب أن يكون الطلب مرفقاً بالأدلة، وخاصة تقرير طبي يبين بدقة الأضرار التي لحقت بالمضرور، طبقاً لما جاء في المادة R-795-49 من قانون الصحة العامة المضافة بالمرسوم رقم /140/2003.
وإذا رأت اللجنة، بعد إجراء الخبرة إذا اقتضى الأمر ، أنه لا يتوافر في الضرر شرط الجسامة، عليها أن تعلن عدم اختصاصها وإبلاغ الأطراف بذلك.
ثالثاً: الإجراءات أمام اللجنة
إذا قررت اللجنة أن الشروط المطلوبة قانوناً وخاصة الجسامة، متوافرة في الضرر الذي لحق بالمدعي، فعليها أن تصدر رأياً حول ظروف الضرر وأسبابه وطبيعته وشموله وكذلك حول نظام التعويض الذي يجب تطبيقه، طبقاً لما جاء في المادة L.1142-8 من قانون الصحة العامة. ويجب أن يصدر هذا الرأي خلال مدة ستة أشهر اعتباراً من تاريخ رفع الطلب إلى اللجنة، ويجب أن يبلغ إلى الأطراف المعنية. ويجب أن يكون الرأي مسبوقاً بخبرة طبقاً لما جاء في المادة L1142-12 من قانون الصحة العامة. ويتم اختيار الخبراء من قائمة الخبراء الطبيين الوطنية التي تضعها اللجنة الوطنية الجديدة للحوادث الطبية.
وإذا رأت اللجنة أن الضرر يستوجب مسؤولية أحد أصحاب المهن الصحية، أو مؤسسة صحية أو منتج للمواد الدموية، يجب أن يبلغ الرأي إلى مؤمن المسؤول عن الضرر الذي يجب أن يتقدم بعرض خلال مدة أربعة أشهر يهدف إلى تعويض المضرور عن الضرر الذي لحق به كاملاً (في حدود عقد التأمين المبرم مع المسؤول).
ويؤدي قبول المضرور للعرض إلى انعقاد الصفقة طبقاً لما جاء في المادة L1142-14 من قانون الصحة العامة، وفي هذه الحال يجب أن يتم دفع التعويض خلال مدة شهر اعتباراً من تاريخ وصول القبول إلى المؤمن، وإذا تأخر الدفع عن تلك المدة يترتب على المسؤول دفع فوائد عنها ضعف المعدل القانوني لها.
ويمكن للمضرور أن يرفض العرض الذي تقدم به المؤمن، وبالتالي عليه أن يرفع الدعوى أمام القاضي المختص من أجل تقدير مبلغ التعويض الناجم عن الأضرار التي لحقت به. وإذا تبين للقاضي بشكل واضح أن العرض الذي تقدم به المؤمن غير كاف يمكن له أن يحكم على المؤمن كجزاء ، بدفع مبلغ على الأكثر يساوي 15% من قيمة التعويض الذي يحكم به.
وفي حالة سكوت المؤمن، أو إذا رفض تقديم عرض، أو إذا كان المسؤول غير مؤمن عليه، فإن المكتب الوطني للتعويض يأخذ على عاتقه دفع التعويض للمضرور، ويحتفظ بحقه في الرجوع على المسؤول أو على مؤمنه، طبقاً لما جاء في المادة L1142-17 من قانون الصحة العامة.
وعندما تقرر اللجنة بأن الأضرار قابلة للتعويض باسم التضامن الوطني، يجب تبليغ الرأي الصادر عنها إلى المكتب الوطني للتعويض الذي يجب عليه أن يدفع التعويض طبقاً للإجراءات نفسها المطبقة على المؤمن والمشار إليها أعلاه، وفق ما جاء في المادة L1142-17 من قانون الصحة العامة.
رابعاً: الطعن برأي اللجنة
يمكن للمضرور أن يرفض الرأي الصادر عن اللجنة، وعليه في مثل هذه الحال أن يرفع دعوى المطالبة بالتعويض أمام القضاء المختص. وبالمقابل لا يمكن لمؤمن المسؤول عن الضرر أو للمكتب الوطني للتعويض أن يعترض على ذلك القرار إلا بعد دفع التعويض للمضرور، وبعد ذلك يكون الاعتراض بموجب دعوى الحلول. في الحقيقة إذا كان المؤمن يعتقد أن مسؤولية المؤمن عليه غير متحققة فإنه يحق له أن يحل محل هذا الأخير فيرفع الدعوى على الغير المسؤول عن الضرر أو على المكتب الوطني حسب الحال للمطالبة بالتعويض الذي دفعه للمضرور، وفقاً لما جاء في المادة L1142-14، فقرة 8 من قانون الصحة العامة . وكذلك الحال يحق للمكتب الوطني الرجوع على المسؤول عن الضرر سواء صاحب أحد المهن الصحية، أو المؤسسة الصحية أو منتج المواد الصحية، إذا كان يرى خلافاً لرأي اللجنة أن مسؤوليته متحققة نتيجة لتوافر أركانها، وفق ما جاء في المادة L.1142-17، فقرة 7 من قانون الصحة العامة.
الخاتمة:
المسؤولية الطبية بشقيها المدنية والجزائية معروفة منذ القدم، وبعد ذلك عرفت بشقها المسلكي أيضاً. واقتصرت هذه الدراسة على بيان أحكام المسؤولية المدنية للطبيب. وبينت أن هذه المسؤولية غير مفعلة في القانون السوري، فمن النادر أن يجد الباحث حكماً صادراً من محكمة النقض بشأن هذه المسؤولية، وهذا يدل على أن هذه المسؤولية لا تزال في مرحلة السبات.
وبالمقابل فإن المسؤولية المدنية للطبيب عرفت تطوراً هائلاً في القانون الوضعي الفرنسي، وكان آخر تعديل طرأ عليها صدر بموجب القانون رقم /806/2004 ، الصادر بتاريخ 9/8/2004، والمتعلق بسياسة الصحة العامة في فرنسا والمعدة للنظام القانوني للبحوث الطبية الحيوية ، والذي يجعل القائم بهذه البحوث مسؤولاً بحكم القانون عن الأضرار التي تلحق بالشخص الذي قبل أن يخضع لها والتي لا تحقق أي فائدة مباشرة وشخصية له.
وقبل ذلك بقليل كان المشرع الفرنسي قد أصدر قانوناً خاصاً يتعلق بحقوق المرضى ونظام الصحة ، وكان ذلك بتاريخ 4/3/2002 ، الذي كرس صراحة المسؤولية المدنية للطبيب وأقامها من حيث المبدأ على أساس الخطأ. وقد مرت المسؤولية المدنية للطبيب بتطور هام وكبير منذ صدور القانون المدني الفرنسي عام 1804، والمعروف بقانون نابليون، والذي لم يكرس نصاً خاصاً لهذه المسؤولية ونتيجة لذلك كانت محكمة النقض الفرنسية تعد هذه المسؤولية ذات طبيعة تقصيرية. إلا أن هذه المحكمة أحدثت أول تطور هام في هذه المسؤولية في عام 1936 عندما اعتبرت مسؤولية الطبيب عن الضرر الذي ألحقه بالمريض الذي اختاره برضاه والناجم عن العلاج ذات طبيعة عقدية. واستمر الحال كذلك إلى أن صدر القانون المتعلق بحقوق المرضى ونظام الصحة، الذي أقام نظاماً كاملاً للمسؤولية المدنية للطبيب. وقد أقام هذا القانون مسؤولية الطبيب المدنية على أساس الخطأ من حيث المبدأ، وأقامها على أساس الخطر في بعض الحالات الاستثنائية.
وفي الحقيقة يعود سبب تفعيل المسؤولية المدنية للطبيب في القانون الوضعي الفرنسي وتطورها، بالشكل الذي أظهرته هذه الدراسة، إلى أن التأمين من هذه المسؤولية هو شرط إلزامي حيث لا يستطيع الطبيب أن يمارس مهنته إلا بعد إبرام عقد تأمين من المسؤولية المدنية مع إحدى الشركات المرخص لها بذلك.
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد صدور قانون حقوق المرضى في فرنسا عام 2002، والذي تشدد كثيراً بالنسبة للمسؤولية المدنية للطبيب ، ثارت صعوبات عدة على أرض الواقع بشأن التأمين من المسؤولية الطبية . ونتيجة لذلك تدخل المشرع الفرنسي ثانية في 30/12/2002 وأصدر قانوناً مكملاً لقانون حقوق المرضى ينص على توزيع التعويض المالي عن الأضرار الناجمة عن انتانات المشافي بين شركات التأمين وبين المكتب الوطني لتعويض الحوادث الطبية الذي أنشأه قانون حقوق المرضى لهذه الغاية .
المقترحات والتوصيات:
من أجل تفعيل المسؤولية المدنية للطبيب في القانون السوري لابد من أن يتدخل المشرع كي:
1- يكرس قواعد خاصة بهذه المسؤولية تضع حداً للخلاف القائم حول طبيعة هذه المسؤولية في الفقه والقضاء.
2- يلزم الطبيب بالتأمين من المسؤولية المدنية كشرط لممارسة المهنة.
(المحامي الدكتور
فواز صالح)