دراسات قانونية

دراسة وبحث قانوني حول تبرير ممارسة الأعمال الطبية

دراسة وبحث قانوني هام عن أسباب التبرير ممارسة الأعمال الطبية

ممارسة الأعمال الطبية

تمهيد :

يحتاج الطبيب عند ممارسته للمهنة القيام بأعمال مثل الكشف والتشخيص والعلاج , مما يتطلب منه المساس بأجسام المرضى , إما بطريق مباشر كإجراء العمليات الجراحية , أو التحاليـل الطبية , أو بطريق غير مباشر كإعطاء الأدوية والعقاقير التي قد تسبب آلاما ً أو تغيرات في وظائف الجسم .
ويلاحظ التشابه الشكلي بين جرائم القتل والإيذاء والأفعال المنافية للحشمة وبعض الأعمال التي يمارسها الأطباء , ولكن الفارق بينهما هو أن الأخيرة تعـد مشروعة طالما كانت مندرجـة في نطاق مباشرة الأعمال الطبية , وبذلك لا يسأل الطبيب جزائيا أو مدنيا عن الأفعال التي يأتيها أثناء ممارسته لمهنة التطبيب طالما توافرت في فعله الشروط التي تقررها التشريعات الجزائية .

المبحث الأول : ماهية العمل الطبي

هو نشاط يتفق في كيفيته وأصول مباشرته مع القواعد المقررة في علم الطب ويهدف إلى شفاء المريض , والأصل في العمل الطبي أن يكون علاجيا أي يهدف إلى تخليص الشخص من مرضه أو تخفيف حدته أو تخفيف آلامه , ولكن الفقه يميل إلى اعتبار الممارسات التي ترمي إلى الكشف عن أسباب المرض أو الوقاية منه وكل نشاط أو وسيلة تتصل بالعمل الطبي كاستخدام الكهرباء والأشعة من الأعمال الطبية .
وهكذا ذكر المشرع المصري في المادة /1/ من قانون مزاولة مهنة الطب صورا ً متنوعة من الأعمال الطبية كإبداء المشورة الطبية أو وصف أدوية أو أخذ عينة أو عيادة مريض وبوجه عام مزاولة مهنة الطب بأي صفة كانت .
ولقد نص المشرع على إجازة ممارسة الأعمال الطبية كما بين الشروط العامة والأصول التي يجب على الأطباء مراعاتها أثناء ممارسة المهنة الطبية في المادة / 185 / ف2 / ب ق.ع سوري وتقابلها م /186 / ف2 ق.ع لبناني والتي تنص : (( يجيز القانون :
ب- العمليات الجراحية والعلاجات الطبية المنطبقة على أصول الفن شرط أن تجرى برضى العليل أو رضى ممثليه الشرعيين أو في حالات الضرورة الماسة )) .

المبحث الثاني : تبرير ممارسة الأعمال الطبية

المطلب الأول : علة التبرير

تشكل الأعمال الطبية مساسا ًبجسم الإنسان وهي بذلك تشابه الأفعال التي تقوم عليها جرائم الاعتداء على سلامة الجسم ولكنهما يفترقان في أن جرائم الاعتداء تمس مصلحة الشخص في صيانة سلامة جسمه , ومن هنا قدر المشرع أن الأعمال الطبية وإن كانت تمس جسم الإنسان إلا أنها لم تهدر مصلحته في سلامة جسمه بل صانتها , ولم تعد تشكل اعتداءا ًعلى الحق الذي يحميه القانون , وبالتالي انتفت علة التجريم ، وأصبح الفعل مباحا ً .
واختلفت الآراء حول الأساس القانوني الذي يستند إليه تبرير الأعمال الطبية :
حيث ذهب البعض إلى تبريرها استنادا ً إلى انتفاء القصد الجرمي ، لأن قصد الطبيب يتجه إلى تحقيق شفاء المريض ولا يتجه إلى إلحاق الضرر به أو إيذائه ، ولكن هذا الرأي لم يسلم من النقد ، لأن القصد المتطلب في جرائم الإيذاء هو العلم بالفعل الذي يمس الجسم واتجاه الإرادة إليه وهما متوافران لدى الطبيب , فضلا ً عن أن انتفاء القصد الجرمي يؤدي إلى انتفاء الركن المعنوي للجريمة ، دون أن يهدم كيانها بكامله ، وهو بذلك يصلح كمانع مسؤولية وليس كسبب تبرير .
كما ذهب البعض إلى تبريرها استنادا ً إلى رضاء المجني عليه ، ورد البعض على هذا الرأي بأن الرضاء ليس سببا عاما ً للإباحة , كما أن الطبيب قد يقوم بأفعال لا يجيزها المريض لضرورة ماسة كبتر عضو مثلا ً .
والتعليل الذي يسود الفقه والقضاء يقوم على تبرير هذه الأعمال استنادا ً إلى سبب آخر هو الحفاظ على سلامة وصحة أفراد المجتمع ، ويدعم هذا السند النص القانوني الصريح في بعض التشريعات .

المطلب الثاني : نطاق التبرير

لقد أوضح المشرع أن الأعمال الطبية هي ( العمليات الجراحية والعلاجات الطبية ) ويلاحظ أن التعبير الثاني متسع بحيث يشمل الأول , لأن العمليات الجراحية ليست إلا نوعا ًمن العلاج الطبي . . .. والأصل أن سبب التبرير ينصرف إلى الطبيب الذي يمارس الأفعال التي تساعده في تحقيق الغاية المنشودة وهي علاج المريض أو تخفيف آلامه .
ولكن الفقه والقضاء يميلان إلى توسيع نطاق تبرير ممارسة الأعمال الطبية سواء ًمن حيث الأفعال والوسائل أو من حيث الأشخاص القائمين والمشاركين بهذه الأعمال .

أولا من حيث الأفعال : 
لا يجوز أن يقتصر العمل الطبي على العلاج بل يجب أن يشمل كل نشاط مرتبط به كحيازة المواد المخدرة أو الكشف على جسم المريض أو إعطاء المريض ما يراه مناسبا ً من أدوية وعقاقير كيماوية دون أن تشكل هذه الأفعال جرائم يعاقب عليها القانون .
وتعليل ذلك أن الاعتراف بالحق يقتضي أيضا ً تبرير الأفعال الضرورية واللازمة لممارسته , ويصعب حصر هذه الأفعال لأنها مرتبطة بالنظريات الطبية التي تخضع لتطور مستمر .
وعلى ذلك لا يعتبر مبررا ً ما يصدر عن الطبيب من أعمال غير طبية كأن يضرب المريض أو يوجه إليه عبارات السب والقذف , بل يعتبر فعله جريمة يسأل عنها , وهكذا فقد أدانت محكمة النقض المصرية بتاريخ 23/4/1931 بجريمة الضرب المفضي إلى الموت طبيبا ً كان يجري عملية , فتحرك المريض أثناءها فضربه بقبضة يده على رأسه وصدره فتوفي على أثرها (1) .

ثانيا من حيث الأشخاص :
ينصرف التبرير من جهة أخرى إلى أشخاص يمارسون بعض الأعمال الطبية بترخيص محدود كالقابلة والصيدلي وغيرهم , كما ينصرف أيضا ً إلى الأشخاص الذين يشاركون الطبيب في ممارسته للمهنة كالممرض والمساعد والمخدر وغيرهم , وهذا مستفاد من الطبيعة الموضوعية لأسباب التبرير .
المطلب الثالث : شروط التبرير

لا لا يستفيد كل من يمارس العمل الطبي من سبب تبرير ولا يعد فعله مشروعا ً إلا إذا توافرت فيه بعض الشروط المستمدة من نص القانون ومن الفقه والقضاء وهي :
1- أن يكون القائم بالعمل طبيبا ً . 2- رضاء المريض أو من يمثله شرعا ً .
3- أن يراعي الطبيب أصول الفن و المهنة . 4- أن يتدخل الطبيب بقصد العلاج .

الشرط الأول : صفة الطبيب
لم ينص المشرع على هذا الشرط صراحة ً , ولكن السائد فقها ً وقضاء ً أن الشخص الذي يمارس العمل الطبي يجب أن يكون طبيبا ًحاصلا ً على شهادة معترف بها في بلد التطبيب , ولذلك تحصر قوانين الصحة العامة في عدة دول ممارسة العمل الطبي بالأشخاص الحائزين على شهادة أو إجازة علمية معترف بها , والحاصلين على ترخيص قانوني بمزاولة المهنة الطبية .

أولا ً- الحصول على ترخيص بمزاولة المهنة 
و لا يكفي لتوافر صفة الطبيب مجرد الحصول على الإجازة في الطب , بل يجب الحصول على ترخيص بمزاولة مهنة التطبيب من السلطات المختصة وفقا ً للقوانين واللوائح المنظمة لهذا الأمر .
وهذا ما سار عليه قانون تنظيم مزاولة المهنة الطبية في سوريا رقم /12/ لعام 1970 حيث أكدت المادة /2/ أنه لا يجوز لأحد أن يزاول مهنة الطب أو القبالة أو التمريض أو المساعدة الطبية ، إلا إذا كان حائزا ً على الشهادة العلمية وحاصلا ً على ترخيص بمزاولة المهنة من وزارة الصحة .
وبذلك لا تعدو الشهادة العلمية أن تكون الأساس الذي يستند إليه الشخص الذي يرغب في الحصول على الترخيص المذكور , وقد يكون هذا الترخيص عاما ً , بحيث يشمل جميع أنواع العلاج المعتمدة , __________________________________________________ _____________________________________
(1) مجلة المحاماة س12 ص197 و د. محمد نجيب حسني ، شرح قانون العقوبات ص 178 .

وقد يكون خاصا ً بمزاولة أعمال معينة من التطبيب , وهكذا تحظر المادة 47/ج من قانون مزاولة المهنة الطبية على طبيب الأسنان إجراء أي عمل جراحي لا علاقة له بأمراض الأسنان وجراحتها.
وتختلف التشريعات في أصول وإجراءات منح الترخيص بمزاولة مهنة الطب , ولكنها تكاد تجمع على ضرورة توافر ثلاثة شروط لمنح هذا الترخيص وهي :
1- الجنسية . 2- الحصول على المؤهل العلمي . 3- القيد في سجل نقابة الأطباء .

ثانيا ً- الأشخاص الذين هم بحكم الأطباء 
الأصل أن الحق في ممارسة الأعمال الطبية يقتصر على الأطباء دون غيرهم , لكن القانون يعتبر بعض الأشخاص كالقابلات والممرضات في حكم الأطباء نظرا ً للأعمال الطبية التي يمارسونها ومن البديهي القول بأن سبب الإباحة ينصرف فقط للأعمال المصرح لهم قانونا ً القيام بها .

1- القابلة : وهي التي تمارس مهنة التوليد , ولا يجوز لها مباشرة غيرها من الأعمال الطبية كعمليات الختان وتسأل عن جريمة جرح عمدية وفقا ً لما قضت به محكمة النقض المصرية في 11/3/1974 لأنه يعد خروجا ًعن نطاق ترخيصها (1) .
2- الممرض : وهو الذي يقوم ببعض الأعمال الطبية البسيطة تحت إشراف الطبيب , وهكذا فقد أدانت محكمة النقض المصرية في 27/5/1935 بجريمة القتل الخطأ الممرض الذي أدخل قسطرة في قبل المريض بطريقة غير فنية فأحدث له جروحا ً في المثانة فتوفي على أثرها (2) .
3- الصيدلاني : وهو الذي يقوم بإعطاء الدواء إلى المرضى حسب إرشادات الطبيب , وبالتالي فلا يحق له القيام بعملية الحقن وفقا ً لما ذهبت إليه محكمة النقض المصرية في 13/12/1960 ويسأل عن جريمة جرح عمدية (3) . ولقد عارض البعض هذا الحكم على اعتبار أن عملية الحقن تعتبر بسيطة و يمكن حتى للناس العاديين القيام بها , والذي أراه أن عملية الحقن وإن كانت بسيطة , فقد ينتج عنها أضرار جسيمة إذا أسيء استعمالها , ولذا يجب حصر القيام بها بالأطباء والممرضين المتمرنين عليها .

ثالثا ً- الأثر المترتب على انعدام صفة الطبيب 
لا يستفيد من سبب تبرير الشخص الذي يباشر أعمالا ً طبية دون أن يكون حاصلا ًعلى الشهادة العلمية والترخيص , مهما كان لديه من الخبرة والدراية , ولو لم ينجم عن فعله أي ضرر , ولو نجح في علاج المريض وشفاءه وكان ذلك بطلب من المريض وتوافرت لديه نية العلاج , وبالرغم من ذلك يسأل عن جريمة مزاولة المهنة بدون ترخيص , كما يسأل عما يحدثه من إيذاء في جسم المجني عليه . __________________________________________________ _____________________________________
(1) مجموعة أحكام محكمة النقض س 25 رقم 59 ص 263 .
(2) مجموعة القواعد القانونية جـ 4 رقم 417 ص 585 .
(3) مجموعة أحكام محكمة النقض س 11 رقم 176 ص 904 .

وهذا ما أكدته محكمة النقض المصرية في 13/12/1960 بقولها كل من لا يملك حق مزاولة المهنة يسأل عما يحدثه بالغير من ضرر ويعتبر معتديا ً (1) .
كما قضت في حكم سابق في 4/1/1937 بأن الجرح الذي يحدثه الحلاق بجفن المجني عليه وهو يزيل الشعرة هو جريمة جرح عمدية لأنه غير مرخص له بإجراء مثل هذه العمليات (2) .
ويرد على الأصل السابق استثناء يتمثل في ممارسة العمل الطبي من شخص غير طبيب , وذلك في حالة الخطر الجسيم الذي يهدد صحة المريض ولم يكن من سبيل آخر إلى دفعه بغير هذا العمل , وبذلك تمتنع مسؤوليته الجزائية استنادا ً إلى قيام حالة الضرورة ، ولا يستفيد من يبب تبرير .
ولعل الحكمة من كل هذا التشدد هي قصر هذه المهنة الإنسانية على أصحابها وحمايتها من المشعوذين والدجالين والدخلاء المتظاهرين بقدرتهم على العلاج من الأمراض .

الشرط الثاني : رضاء المريض
استقر الرأي الغالب في الفقه وبعض التشريعات ومنها القانون السوري واللبناني والفرنسي على ضرورة حصول الطبيب على رضاء المريض قبل البدء في مباشرة العلاج , وتزداد أهمية هذا الشرط كلما ازدادت خطورة العمل الطبي الذي يراد إجرائه , وخاصة في حالة العمليات الجراحية الدقيقة أو المستحدثة كزراعة الأعضاء والأنسجة .
ومبرر هذا الشرط هو صيانة حق المريض في سلامة جسمه واحترام حريته الشخصية فالبعض قد يفضل الموت على العيش بعاهة أو إعاقة دائمة , فالقانون يرخص للطبيب علاج المرضى ولكنه لا يخوله إخضاعهم للعلاج رغما ً عن إرادتهم , فإذا رفض المريض أو من يمثله شرعا ً تدخل الطبيب فلا يجوز له أن يقوم بأي من الأعمال الطبية , وإلا تقررت مسؤوليته وفقا ً للقواعد العامة.

أولا ً- شكل الرضا 
الأصل أن يحصل الطبيب على رضاء المريض قبل إجراء العلاج ولا فرق بعد ذلك في طريقة صدور هذا الرضا , الذي قد يكون صريحا ً أو ضمنيا ً :
1 ً_ الرضاء الصريح : وهو كل فعل إيجابي يقوم به المريض ويفهم منه قبوله بالعلاج , وقد يكون هذا الفعل بالقول أو الكتابة أو الإشارة المفهومة .
2 ً_ الرضاء الضمني : وقد يكون سلبيا ً بسكوت المريض واستسلامه طائعا ً لما يقوم به الطبيب , وقد يكون بفعل إيجابي , وهكذا قررت محكمة السين الابتدائية في 2/3/1937 رفض دعوى المريض الذي عرض نفسه على طبيب العيون لوجود نقطة بيضاء في عينه , فسلمه بطاقة تتضمن موعد وتاريخ __________________________________________________ _____________________________________
(1) مجموعة أحكام محكمة النقض س 11 رقم 176 ص 904 .
(2) مجموعة القواعد القانونية جـ 4 رقم 34 ص 31 .

إجراء العملية في المشفى وبعدما أجريت له العملية علم أنه تلقى عينا ً صناعية (1) ، كما قضت محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 31/10/1933 بأن مجرد الذهاب إلى الطبيب المتخصص يعتبر رضاء بالعلاج الذي تخصص فيه (2) ، ويلاحظ التعارض بين مضمون هذا الحكم وضرورة أن يصدر الرضا من المريض وهو على علم تام بنوع ونتائج ومخاطر العمل الطبي المراد إجرائه ، ولا يستقيم هذا الحكم ولو أنه حصر الرضا بحالة الطبيب المتخصص .
ويرد على الأصل السابق بعض الاستثناءات منها :
أً_ حالة الضرورة الماسة : يجوز للطبيب أن يفترض الرضاء إذا كان المريض في وضع لا يمكنه من التعبير عن إرادته كأن يكون فاقدا ً للوعي , وفي غياب من يمثله , ولم يكن في ظروفه ما يحمل على الاعتقاد برفضه للعمل الطبي , فيعد فعله مبررا ً وإن خالف القاعدة العامة التي تتطلب رضاء المريض ، ويستند هذا الافتراض إلى أن الرغبة في التخلص من المرض أمر طبيعي عند كل شخص .
وبذلك نصت المادة /16/ من نظام واجبات الطبيب السوري رقم /7962/ لعام /1978/ : ( يجوز للطبيب إسعاف المريض القاصر أو الفاقد للوعي بدون موافقته وبغض النظر عن أي اعتبار آخر ) .
ب- صدور الرضاء من شخص غير المريض : حيث يجوز للطبيب عندما يعجز المريض عن إبداء رأيه أو عندما يكون قاصرا ً أن يأخذ الإذن ممن ينوب عن المريض قانونا ً بحسب الترتيب الشرعي للولاية على النفس كالولي أو من يتولى الرقابة عليه , ولا يعتد في هذا الصدد برضا الزوج عندما تكون الزوجة قادرة على التعبير لأن الرضاء حق شخصي للمريض دون غيره .
ج- تدخل الطبيب دون رضاء المريض : يجوز أن يتدخل الطبيب رغم معارضة المريض ولا يكون عمله مبررا ً استنادا ً إلى إجازة القانون أو استعمال حق , بل على أساس أداء الواجب أي تنفيذ أمر شرعي صادر عن السلطة كما يحدث في حالات التطعيم الإجباري وانتشار الأوبئة والأمراض المعدية .

ثانيا ً- شروط الرضا 
يذهب الفقه والقضاء إلى ضرورة توافر عدة شروط ليكون رضاء المريض ذا قيمة قانونية :
1 ً_ أن يكون الرضا متبصرا ً : أي أن يصدر الرضا عن المريض وهو عالم بحقيقة حالته الصحية وبنوع العمل الطبي المقترح وما يترتب عليه من نتائج ومخاطر , ولا يكفي استخلاص الرضاء عن كل الأعمال الطبية من مجرد ذهاب المريض إلى عيادة الطبيب , فقد يقبل المريض ببعض الأعمال دون غيرها ، بل يجب توضيح العلاج بشكل كاف للمريض حتى يصدر رضائه وهو على بينة من الأمر . __________________________________________________ _____________________________________
(1) عبد السلام التنجي , المسؤولية المدنية للطبيب ص 378 .
(2) عبد السلام التنجي , المسؤولية المدنية للطبيب ص 377 .

2 ً_ أن يكون الرضا حرا ً : أي أن يكون للمريض الحرية الكاملة في الاختيار بين أن يخضع للعلاج الطبي أو لوسيلة طبية دون أخرى , ويقتضي هذا الشرط عدم فرض العلاج على المريض واستبعاد الضغوط العائلية التي من شأنها التأثير على حرية المريض في اتخاذ قراره ، وأن تكون إرادته سليمة من الغش والإكراه والتدليس .
3 ً_ أن يكون موضوع الرضا مشروعا : أي أن يكون العمل الطبي بقصد العلاج وألا يخالف النظام العام والآداب العامة كعمليات تحويل الجنس أو الإجهاض دون ضرورة , وبذلك قضت محكمة النقض الفرنسية بأن الرضا لا ينفي الصفة غير المشروعة عن العمل الطبي .
ثالثا ً- إثبات الرضا 
يقع عبء إثبات رضاء المريض على عاتق الطبيب باعتباره قد باشر عملا ً وعليه هو أن يبرر مشروعيته , ويستخلص هذا الرضا من القرائن وظروف الحال في مثل هذه الأعمال , ولقد توسع القضاء في مفهوم هذه القرائن تيسيرا ً لأداء مهنة الأطباء الإنسانية .
وفي الأعمال الطبية الخطرة أو المستحدثة يشترط غالبا ً أن يكون الرضا الصادر من المريض صريحا ً وكتابيا ً ومع ذلك فإن عبء إثبات رضاء المريض يقع على عاتق الطبيب .

الشرط الثالث : مراعاة أصول المهنة
إن إباحة عمل الطبيب مشروطة بأن يكون ما يجريه مطابقا ً للأصول العلمية المقررة في مهنة الطب , فإذا فرط في إتباع هذه الأصول أو خالفها حقت عليه المسؤولية الجنائية , وهذا هو مضمون حكم لمحكمة النقض المصرية بتاريخ 11/1/1984 (1) , ويثير هذا الحكم نقطتين مهمتين هما :

أولا ً- ماهية الأصول الطبية
ويقصد بها تلك الحقائق الثابتة والقواعد المتعارف عليها علميا ً ونظريا ً بين أهل العلم من الأطباء بحيث لا يتسامحون مع من يجهلها أو يتخطاها , ولا يعني ذلك أن الطبيب ملزم بتطبيق رأي أغلب الأطباء , فإذا استخدم وسيلة طبية لم يثبت خطرها علميا ً وكانت محل خلاف بين مؤيد ومعارض لها , فلا يعد مخالفا ً للأصول الطبية طالما كان مقتنعا ًبجدواها وكان هدفه شفاء المريض لا مجرد تجربتها .
وبذلك قضت محكمة الإسكندرية بتاريخ 30/12/1943 بأن الطبيب يسأل عن خطأه في العلاج إذا كان ظاهرا ً لا يحتمل نقاشا ً فنيا ً تختلف فيه الآراء .
كما لا يعتبر فشل العلاج قرينة قطعية على خطأ الطبيب لأن عمله هو التزام بعناية وليس التزام بغاية فالطبيب يلتزم بالأصول الطبية ويعمل كل ما بوسعه لتحقيق شفاء المريض , ولو لم يتحقق الشفاء فعلا ً وبناءا ً عليه لا تقوم المسؤولية الجزائية للطبيب إلا إذا خالف أحد أصول الفن الطبي . __________________________________________________ _____________________________________
(1) مجموعة أحكام محكمة النقض س 35 رقم 5 ص 34 .

ثانيا ً- جزاء الإخلال بالأصول الطبية 
لا يكون عمل الطبيب مبررا ً إذا خالف الأصول المرعية في الطب , كأن يجري عملية جراحية بأدوات غير معقمة أو أن يترك سهوا ً أحد أدوات الجراحة في جسم المريض .
وبناءا ً عليه لا تقوم المسؤولية القصدية للطبيب إلا إذا تعمد مخالفة أحد أصول الفن الطبي ، أي أن تتجه إرادته قصدا ً إلى المخالفة ، وبذلك ينتصب الركن المعنوي للجريمة إلى جانب الركن المادي الموجود أصلا ً ويتكامل كيان الجريمة التي تعد جريمة قصدية .

1 ً_ طبيعة الخطأ الموجب للمسؤولية الطبية :
يحاسب الطبيب بحسب تعمده للفعل أو تقصيره أو إهماله في أداء واجبه , ولا خلاف حول المسؤولية القصدية للطبيب , ولكن الخلافات تثور عند الحديث عن الخطأ الموجب لمسؤولية الطبيب والذي يتخذ عدة صور :

أً_ الخطأ العادي :
ويقصد به الإخلال بقواعد الحيطة والحذر العامة التي يلتزم بها كافة الناس , حيث استقر الفقه والقضاء على إمكانية مساءلة الطبيب عن هذه الأخطاء مهما كانت يسيرة أو جسيمة ومن أمثلتها أن يجري الجراح العملية وهو في حالة سكر أو أن ينسى في جوف المريض مشرطا ً أو ما شابه .

ب_ الخطأ المهني :
وهو انحراف الطبيب عن أصول مهنته , ولقد ثارت الخلافات حول درجة جسامة الخطأ الموجب لمسؤولية الطبيب ، وتبعا ً لذلك ظهر إتجاهين مختلفين بين الفقهاء :
الإتجاه الأول : ذهب البعض إلى مساءلة الطبيب عن الخطأ الجسيم دون اليسير ، وحجتهم في ذلك أن الخطأ المهني جائز على كل طبيب ، لأن الطب من أكثر العلوم دورانا ً على الإحتمال واعتمادا ً على الظروف ، ثم أكدوا أن التقدم العلمي لا يتاح إلا إذا أمن رجل الفن من المسؤولية عن أخطائه الفنية ، وأعطي قدرا ً من الحرية والاستقلال في العمل ، وأخيرا ً فإن مسؤولية الطبيب عن كل خطأ فني يؤدي إلى إقحام القضاء في مناقشات طبية دقيقة يصعب عليه الفصل فيها .
وبذلك قضت المحاكم المختلطة المصرية بتاريخ 2/2/1911 ومحكمة بوردو الفرنسية بتاريخ 25/5/1982 بأن الطبيب لا يسأل عن الخطأ اليسير بل عن الخطأ الجسيم أو الجهل بالأصول التي يتوجب على كل طبيب الإلمام بها .
الإتجاه الثاني : لقد تعرض الإتجاه الأول لنقد شديد ، مما دفع بغالبية الفقهاء إلى المناداة بمساءلة الطبيب عن كافة أخطاءه الجسيمة واليسيرة ، حيث بينوا أن فكرة ترج الخطأ هي تفرقة أخلاقية لا قانونية ، كما أكدوا أن التسليم برأيهم لا يؤدي إلى إعاقة الإبتكار والإبداع ، لأن مؤاخذة الطبيب عن خطأه اليسير لا يعني الحكم عليه بمجرد الشك بل لا بد من ثبوت الخطأ بصفة قاطعة ، كما أنه لا مبرر للمخاوف من إقحام القضاء في المناقشات الطبية الدقيقة ، لأن الأطباء ليسوا أهل الفن الوحيدين الذين يخطئون ، بل هناك مهن أخرى قد تفوق الطب في تعقيد مسائلها ودقتها ، ويخطىء أربابها ويطرح أمرهم على القضاء ليفصل في مسؤوليتهم .
ولقد تأيد هذا الإتجاه بحكم لمحكمة النقض السورية برقم /156/ وتاريخ 3/3/1975 ، والمصرية بتاريخ 28/1/1959 ينصان على أن مسؤولية الطبيب تخضع للقواعد العامة متى تحقق وجود الخطأ مهما كان نوعه , فنيا ً أو غير فني , جسيما ً أو بسيطا ً (1) .

ج _ الامتناع عن العلاج : 
لقد سار الفقه والقضاء على إقرار مسؤولية الطبيب الممتنع عن النجدة متى ما كان امتناعه لمجرد الإساءة إلى الغير لأنه يعد هنا سيء النية ومتعسفا ً في استعمال الحق .
ويلاحظ أن المشرع السوري قد أوجب على الطبيب في المادة /15/ من نظام واجبات الطبيب أن يقوم بالإسعاف الأولي للمريض المهددة حياته بالخطر ، في حال عدم وجود طبيب مختص ، ولكنه عاد وأكد في المادة 11/ج من النظام ذاته على حق الطبيب في رفض المعالجة لأسباب مهنية أو شخصية ، وذلك في الحالات غير الطارئة .
ويؤيد ذلك حكم لمحكمة النقض السورية رقم /856 / في 29/6/1976 جاء فيه أن امتناع الطبيب عن القيام بالعلاج في الوقت المناسب يشكل خطأ ً إذا اقترن بمخالفة الواجب أو الاتفاق الخاص (2) .

__________________________________________________ _____________________________________
(1) مجلة القانون لعام 1975 ص 619 .
(2) مجلة القانون لعام 1976 ص 696 .

الشرط الرابع : قصد العلاج
يجب أن تكون الأعمال الطبية التي يباشرها الطبيب هادفة إلى شفاء المريض أو تخفيف آلامه , ويكفي مجرد القصد ولو لم يتحقق بعدها شفاء المريض بالفعل , ولا يكون فعل الطبيب مبررا ً وتقوم مسؤوليته إذا كانت الأعمال التي يمارسها لهدف غير العلاج كإجراء تجربة علمية أو الانتقام أو لتخليص الشخص من الخدمة العسكرية مثلا ً , ويذهب بعض الفقه إلى أن هذا الشرط ذو طبيعة شخصية , لأنه يقوم على باعث معين لدى الطبيب .
و يثير تطبيق هذا الشرط بعض الصعوبات وخاصة فيما يتعلق بالأعمال الطبية المستحدثة :

أولا ً_ عمليات التجميل : ونميز فيها بين نوعين :

1 ً_ عمليات يتوافر فيها قصد العلاج : 
أ- عمليات تستهدف علاج تشويه أو خلل مادي : كإصلاح عضو أو إعادته إلى وضعه الطبيعي مثل إزالة الإصبع السادس أو تقويم الأسنان , فهي في حقيقتها أعمال علاجية ذات صبغة تجميلية .
ب- عمليات تستهدف علاج مشكلة نفسية : يعاني صاحبها من تشويه أو شكل منفر يجعل من حياته عبئا ً ثقيلا ً عليه قد يدفعه للانتحار, وهكذا قضت محكمة استئناف ليون بتاريخ 22/5/1936 بعدم مسؤولية الجراح الذي قام بعملية تجميل لسيدة تعاني من حالة تدهور نفساني شديد (1) , ولا شك في مشروعية هذه العمليات ما لم تعرض صحة الشخص أو سلامة أعضاءه للخطر .

2 ً_ عمليات لا يتوافر فيها قصد العلاج : 
كالقيام بعمليات التجميل لمجرد زيادة الحسن ، أو لعدم رضاء الشخص عن شكله الخارجي ، وتلاقي هذه العمليات رواجا ً متزايدا ً وخاصة لدى النساء ، ولا يقصد بهذه العمليات الشفاء من ألم ، بل مجرد إرواء غريزة حب المظهر الحسن ، بالرغم من المخاطر التي قد تنجم عنها .
وهكذا قضت محكمة النقض الفرنسية في بادئ الأمر في 29/11/1920 بمسؤولية طبيب عن الأضرار التي ألحقها بفتاة بعد معالجتها بالأشعة لإزالة شعرات في ذقنها، فتسبب لها بمرض جلدي قبيح ، بالرغم من انطباق العلاج مع قواعد العلم (2) .
ولا يخلو هذا الحكم من إجحاف بحق الأطباء ، الأمر الذي دفع بالقضاء الفرنسي إلى تبديل موقفه في حكم لمحكمة استئناف باريس في 12/3/1931 يقضي بإعادة مسؤولية الطبيب إلى القواعد العامة التي تتطلب الإخلال بأحد شروط ممارسة المهنة ، بشرط أن ينبه الشخص إلى المخاطر التي قد يتعرض لها ويحصل على قبوله الصريح بها ، وكان ذلك في قضية تتلخص وقائعها في محاولة جراح إصلاح شكل ساق سليمة عضويا ً لسيدة , فأنتهت الحال ببتر ساقها (3) . __________________________________________________ _____________________________________
(1) , (2) , (3) عبد السلام التنجي , المسؤولية المدنية للطبيب ص 404 , 397 ، 399 .

ثانيا ً_ عمليات التعقيم والإجهاض : 
لا يباح للطبيب القيام بهذه العمليات إلا في حالة وجود ضرورة صحية معتبرة تستهدف إنقاذ حياة شخص أو وقايته من متاعب صحية لا يتحملها , وبذلك فهي أعمال علاجية لا حرج في القيام بها . وهكذا قضت م 47/ ب من قانون تنظيم مزاولة المهنة الطبية في سوريا بجواز إجراء الإجهاض من قبل الطبيب أو القابلة , إذا كان استمرار الحمل يشكل خطرا ًعلى حياة الحامل بشهادة طبيبين مختصين.

ثالثا ً_ عمليات نقل الدم والأعضاء : 
ونفرق هنا بين طرفي هذه العملية وهما المتلقي , وتعد عملا ً علاجيا ً صرفا ً في حقه , والمتبرع الذي تشكل مساسا ً بجسمه بغير قصد العلاج , ويمكن تبرير نقل الدم كونها عملية يسيرة ولا تشكل أي خطر عليه بل قد تعود عليه بالمنفعة , ويكفي الرضا ليكون سببا ً لإباحتها , أما نقل الأعضاء فقد يؤدي إلى أضرار كبيرة بصحة المتبرع , ولا يمكن تبريرها إلا على أساس توافر حالة الضرورة ، وتحقيق المصلحة الإجتماعية التي تتمثل في صيانة سلامة أفراد المجتمع .
ولقد أجاز المشرع السوري عمليات نقل الأعضاء في القانون رقم /30/ لعام 2003 الذي نص في المادة /1/ منه على ما يلي : يجوز للاختصاصيين في المشافي القيام بنقل عضو ما كالقرنية أو الكلية أو غير ذلك من الأعضاء وحفظه أو غرسه لمريض يحتاج إليه .

رابعا ً _ القتل الرحيم : 
ويقصد به قيام الطبيب بالتسبب بموت مريض يعاني من آلام مبرحة لا تطاق ، بأي وسيلة كانت وذلك تحت وطأة الإلحاح الشديد والطلب المستمر من هذا المريض أو من ذويه .
ويلاحظ أن جميع القوانين والتشريعات في أكثر بلدان العالم لاتقرّ به لأي سبب من الأسباب ، وتوجب العقاب على من يقوم به , ومن ضمنها سوريا ، حيث نصت المادة /50/ من نظام واجبات الطبيب : ( لا يجوز إنهاء حياة مريض مصاب بمرض مستعص غير قابل للشفاء مهما رافق ذلك من آلام ) ، ويندرج هذا الفعل تحت طائلة المادة /538/ ق.ع.س والتي تنص على عقاب من قتل إنساناً قصداً بعامل الإشفاق بناءً على إلحاحه بالطلب , ولم تخالف في ذلك إلا هولندا التي صدر فيها حديثا ً ما يسمى بقانون الموت الرحيم .
ويجدر بنا التفريق بين هذا الفعل المجرم شرعا ً وقانونا ً وبين ما يسمى بالموت الإكلينيكي أو السريري والذي يعرف بتوقّف جذع المخ عن العمل وعن التحكم بوظائف الجسم الحيوية .
ويجوز في هذه الحالة للطبيب أن يرفع أجهزة الإنعاش الصناعية عن هذا المريض الذي يعد ميتا ً بسبب تلف جذع المخ فيه , أما نبضات القلب وحركات التنفس الظاهرية فما هي إلا نتيجة مباشرة لأجهزة الإنعاش المركبة عليه .

مراجع البحث

1- شرح قانون العقوبات القسم العام , محمد نجيب حسني .
2- شرح قانون العقوبات المصري القسم العام ، حسن ربيع .
3- قانون العقوبات القسم العام , علي عبد القادر قهوجي .
4- قانون العقوبات القسم العام ، عبود السراج .
5- القانون الجنائي , علي الراشد .
6- المسؤولية المدنية للطبيب , عبد السلام التنجي .
7- المسؤولية الجزائية للطبيب , رسالة قانونية للمحامي فهد عتيق .
8- مجموعة القوانين والأنظمة المتعلقة بالمهنة الطبية في سوريا .

(محاماة نت)
إغلاق