دراسات قانونية

الخطأ تحت ستار الحقوق في القانون المصري (بحث قانوني)

بحث قانوني مميز حول الخطأ تحت ستار الحقوق في القانون المصري

مجلة المحاماة – العدد الثالث
السنة الحادية والثلاثون

الخطأ تحت ستار الحقوق في القانون المصري
دراسة قانونية وتاريخية للمادتين الرابعة والخامسة من القانون المدني المصري الجديد رقم (31) الصادر في 16 يوليه سنة 1948
تأليف أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة ميت غمر والعميد بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول سابقًا 1369هـ – 1950م

الأصل أن حرية الفرد مطلقة في استعمال الحقوق المخولة له قانونًا فله أن يستعمل حقه كيفما شاء وبأي وجه شاء غير أن هذه النظرية الفردية قد تأثرت بتشابك الحياة الاجتماعية وارتباط مصالح الأفراد وحقوقهم فلم يعد الفرد حرًا طليقًا في استعمال حقه حسبما يهوى ويرغب بل أصبحت غاية الحق تحقيق الخير لمصلحة الفرد ولمصلحة الجماعة في آن واحد – ومن ذلك اليوم أصبح الفرد مسؤولاً عن كل استعمال لحقه يؤدي إلى وقوع ضرر للغير.
ومنذ ذلك الحين بدأت الشرائع تعالج هذا الاتجاه الجديد في الفقه فنصت في قوانينها على قواعد المسؤولية المدنية في مثل هذه الحالات.

من بين هذه الشرائع القانون المدني المصري، فلقد نص القانون رقم (131) سنة 1948 الخاص بإصدار القانون المدني في الباب التمهيدي منه في المادتين الرابعة والخامسة على أنه لا تثريب على من يستعمل حقه استعمالاً مشروعًا أما من يستعمل حقه استعمالاً غير مشروع مما ينشأ عنه ضرر لغيره فتقع على كاهله مسؤولية تعويض ذلك الضرر.
فللمالك الحق في الانتفاع بملكه حسب ما يرى ولكن هذا الحق مقيد بوجوب مراعاة واحترام ملكية الجار فمسؤوليته قائمة متى لم يراعِ ذلك كمن يحفر بئرًا في ملكه وعلى حدود ملك جاره مما يلحق ضررًا بحائط ذلك الجار.
وللإنسان الحق في التقاضي للحصول على حق متنازع فيه ولكن مسؤوليته قائمة إذا استعمل حق التقاضي لمجرد الكيد والتشفي من خصم له وللإنسان الحق في استعمال التبليغ عن الجرائم ولكن مسؤوليته قائمة متى استعمل هذا الحق رغبة في النيل من سمعة الغير وإساءة له رغم براءته، ولقد وصف جمهور الشراح والفقهاء هذه الحالة القانونية (بالتعسف في استعمال الحق) أو (إساءة استعمال الحقوق (وتناولوها في كتبهم ومؤلفاتهم بكثير من البحث والتعليق.
إلى أن انبرى لهم العلامة بلانيول Planiol ونقد تلك التسمية التقليدية نقدًا لاذعًا فيؤكد لهم أن التعسف في استعمال الحق إن هو إلا خروج عن الحق فالحق ينتهي حيث بدأ التعسف في استعماله والعمل الواحد لا يمكن أن يكون في وقت ما متفقًا مع القانون ومخالفًا له – وليس معنى ذلك أنه يعترض على امتداد المسؤولية المدنية في هذه الحالة وإنما ينكر تلك التسمية المتناقضة المتعارضة فحسب وهي التعسف في استعمال الحق ويعتبرها خروجًا عن الحق وهو من قبيل الخطأ الموجب للمسؤولية التقصيرية.

ثم جاء بعد ذلك الأستاذ مارك دسرتو ورأى أن تعبير التعسف في استعمال الحق تعبير غامض ومن الممكن إيضاحه إذا استبدل بتعبير (تنازع الحقوق) مع تنظيم هذا التنازع كما فعل المشرع في مسائل التأمينات عندما نظم تنازع حقوق الدائنين الممتازين، ولقد وضع الأستاذ دسرتو لذلك التفضيل بين الحقوق المتنازعة ففضل حق المدعي إذا كانت حياته أو حريته في خطر أو كان في مكنة المدعي عليه تحقيق غرضه دون الإضرار بحق المدعي وفضل حق المدعي عليه إذا كانت المصلحة التي يدعيها المدعي غير مشروعة أو غير جدية.

إلا أن هذه التسمية والنظرية يتعارضان مع النظرية الحديثة التي تعطي لعنصر النية أهمية خاصة في تقدير المسؤولية إذ مما لا شك فيه أن مباشرة الحق بقصد الإضرار بالغير فيه خروج عن وظيفة الحق الاجتماعي التي قررها له القانون.
ثم أتى بعد ذلك سعادة مصطفى مرعي بك في مؤلفه (المسؤولية المدنية في القانون المصري) وذكر أن تعبير التعسف في استعمال الحق تعبير متناقض ويفضله تعبير آخر هو (الخطأ تحت ستار الحقوق) واستند في تأييد هذه التسمية الجديدة إلى تعريف الخطأ فالخطأ هو العمل الذي لا يأتيه الرجل الحازم الحريص اليقظ l’homme diligent فمن يتخذ حقه وسيلة للإيذاء ولو من غير قصد ونفع ظاهر له إنما يعبث في استعمال حقه وما العبث إلا صورة من صور الخطأ ففي هاتين الحالتين لا يسيء الفرد في استعمال حقه لأن الحق لا تحتمل طبيعته إساءة الاستعمال وإنما هو يرتكب خطأ مستترًا وراء الحق ظنًا منه أن الحق يحميه.
وفي اعتقادنا أن هذه التسمية الأخيرة للنظرية وهي (الخطأ تحت ستار الحقوق) فضل سائر التسميات لخلوها من التناقض والتعارض والغموض فضلاً عن اتساقها مع مبادئ القانون وروح التشريع.

أما وقد انتقينا التسمية الصحيحة للنظرية فيجدر بنا أن نحدد مكان تلك النظرية بين نصوص القانون المدني.
فلقد رأى المسيو لبنان دى بلفون أن مكان النظرية الطبيعي في باب الالتزامات بصدد بحث نظرية المسؤولية التقصيرية فما الخطأ تحت ستار الحقوق ألا توسع في فكرة العمل غير المشروع وهذا ما أخذت به بعض القوانين كالقانون البولوني في المادة (135) والقانون اللبناني في المادة (124) – ومشروع قانون الالتزامات الفرنسي الإيطالي.
إلا أن هناك اتجاهًا آخر في الفقه الحديث يرى أن نطاق تطبيق النظرية ليس مقصورًا على الحقوق الناشئة عن التزامات بل يمتد إلى كل قانون سواء في ذلك القانون المدني أو القانون التجاري أو قانون المرافعات بل لا يقتصر تطبيق النظرية على القانون الخاص وحده بل يمتد مجال تطبيقها إلى القانون العام كحق الاجتماعات وسائر الحقوق العامة، ولهذا يرى أنصار هذا الاتجاه أنه إذا كان هناك نص ينبغي بطبيعته أن يدرج على الأقل بين النصوص التمهيدية للقانون المدني فهو ذلك النص الذي يحكم هذه النظرية وذلك تمشيًا مع التقنين السويسري في المادة (2).

ولقد انضم القانون المدني المصري الجديد إلى هذا الاتجاه الثاني فنص على تلك النظرية في الباب التمهيدي من القانون في المادتين الرابعة والخامسة.
فلقد جاء في المادة (4) (من استعمل حقه استعمالاً مشروعًا لا يكون مسؤولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر) ولقد جاء في المادة (5) (يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:

( أ ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.
(ب) إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب ألبتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها.
(ج) إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة.
ويتعين علينا أن نلفت النظر إلى أن النظرية التي نحن بصددها خاصة بالحق ولا تتناول ما يسمى بالمكنة أو الرخصة.
ويقصد بالحق كل مكنة تثبت لشخص من الأشخاص على سبيل التخصيص كحق الفرد في ملكية عين من الأعيان أو حقه في المطالبة بدين له على الغير أو حقه في طلاق زوجته.
وأما المكنة فهي ثابتة للناس كافة ويعترف لهم بها القانون دون أن تكون محلاً للتخصيص كالحريات العامة وهذه الرخص لا حاجة إلى فكرة التعسف فيها لتأمين الغير ما ينجم من ضرر عن استعمال الناس لها لأن أحكام المسؤولية المدنية تتكفل بذلك على خير وجه.

أما وقد فرغنا من هذه الدراسة التمهيدية للنظرية فيجدر بنا أن نحدد منهج البحث وفي تحديدنا له يتعين علينا أن نجاري الفقه الحديث.
فيمتاز الفقه الحديث بأسلوبين من البحث العلمي قد أحدثا اتجاهًا جديدًا في العلم القانوني ولها شأن خطير في توجيه التشريع الحديث وهذان الأسلوبان هما الدراسة التاريخية والبحث المقارن وذلك علاوة على دراسة النظم القانونية الحالية.
فقد عالجنا في الباب الأول الدراسة الفقهية للنظرية بما تحتوي عليه من لمحة تاريخية واتجاه القانون المقارن، ثم عالجنا في الباب الثاني التطبيق القانوني للنظرية فبحثنا معيارها وبعض تطبيقاتها في القضاء المصري.

الباب الأول: فقه النظرية

قديمًا كان البحث الفقهي قاصرًا على دراسة النظم القانونية الحالية ولما تغلغل الفقهاء في البحث وازدادت جهودهم أرادوا دراسة قوانينهم لا باعتبارها وحدة مستقلة خاصة بل باعتبارها أيضًا حلقة من سلسلة حياة مضطردة الحلقات يتصل ماضيها بحاضرها كي يستخلصوا ما وصل إليه التشريع الحالي من خطي في التقدم والرقي.
ولا شك أن النظام القانوني القديم قد طرأ عليه التغير نظرًا لازدياد الحضارة واتساع المعاملات وتشعب البلدان.
ولم يقتصر الفقهاء على دراسة تلك النظم القانونية القديمة وإنما بحثوا تلك النظم لدى سائر الدول كي يتمكنوا من تقدير ما وصلت إليه دولتهم من التقدم التشريعي بالنسبة لسائر الدول الأخرى وهذا ما يسمى في عالم القانون باتجاه القانون المقارن.
وبذلك سنتناول في هذا الباب بحثين.
البحث الأول: فذلكة تاريخية للنظرية:
البحث الثاني: اتجاه القانون المقارن:

البحث الأول: فذلكة تاريخية:

إن من المبادئ المسلم بها في فن التشريع أن القانون المصري قد استقى أحكامه من القانون الفرنسي ألا وهو قانون نابليون كما أن الأخير قد استمد بعض نصوصه من القانون الروماني – فالقانون الروماني يعتبر المصدر التاريخي للقانونين الفرنسي والمصري.
وقد طرأ على القانون المصري شيء من التغير بسبب إلغاء المحاكم المختلطة والقوانين التي كانت تطبقها.
أما القانون الروماني: فقد اتخذت نظرية الخطأ تحت ستار الحقوق مكانها بين سائر النظريات في الفقه والقضاء منذ زمن بعيد وذلك رغم تعارضها مع القاعدة الرومانية التي تقضي بأن من استعمل حقه فليس بظالم. Qui sno jure ulitur niminem loedit
وحقيقة الأمر أن للقانون الروماني الفضل في وضع بذور تلك النظرية.
فلقد كان للأب سلطة مطلقة على بنيه patria potestas
ولقد كان للسيد سلطة مطلقة على عبيده dominica potestas
ولقد كان للزوج سلطة مطلقة على زوجته manus
ولقد كان للمالك سلطة مطلقة على المال محل ملكيته dominium ex jure quiritium
كل منهم يستعمل حقه بأي وجه شاء ولأي غرض أراد إلى الخير أو الشر بحسن نية أو بقصد الإضرار دون أدنى مسؤولية حتى كان للأب سلطة تصل إلى حق الحياة أو الموت على بنيه jus vitoe ac necis فله أن يبيعهم وأن يحكم عليهم بعقوبة الإعدام.
ولكن هذه السلطة نقصت شيئًا فشيئًا منذ العهد الأخير نتيجة الأفكار الحديثة فتغيرت حقوق رب الأسرة وطرأ عليها بعض الفتور التي تحد من سلطتها فلم يعد له حق العقاب أو حق بيع أولاده.
أما حق الملكية وهو يخول لصاحبه حق الاستعمال usus وحق الاستغلال fructus وحق التصرف ab usu وهذه الحقوق كانت تستعمل بصفة مطلقة إلا أن حق الملكية قد خضع لعدة قيود مراعاة للجوار وللمصلحة العامة فيجب على المالك أن يترك حول منزله أو حقله مسافة معينة بلا بناءً أو زراعة وعليه أن يتخذ الحيطة لبنائه الذي يهدد جاره بالسقوط وقد نصت على ذلك الألواح الاثنا عشر.
كما يتعين على المالك عدم استعمال ملكه استعمالاً ضارًا بالغير بقصد الإساءة إليه – ولقد قرر الفقه الروماني البيان Ulpien أن من حفر بئرًا في أرضه وتعمق في الحفر يكون مسؤولاً إذا كان من شأن ذلك إسقاط حائط الجار.
وكل ذلك تطبيقًا لنظرية سلم بها في عهد الرومان وتدعى نظرية Notacensoria لعقاب من يستعمل حقوقه بأسلوب ينطوي على إساءة الغير أو بكيفية تعارض المصلحة العامة.
ولقد جاء في موسوعة جوستنيان بصراحة أنه لا يسمح بعد اليوم باستعمال الحق بغير مبرر مشروع.
ولقد انتقلت هذه النظرية إلى القانون الفرنسي القديم وظهرت لها عدة تطبيقات من بينها تنظيم العلاقة بين الملاك وجيرانهم واستقرت هذه النظرية وتناولها الفقهاء بالجدل والشرح وطبقها الفرنسي في أحكامه.
ولما قامت الثورة الفرنسية التي تؤيد المذهب الفردي individualisme فقد اختفت النظرية ردحًا من الزمن إذ أن مبدأ نصرة الفردية معناه – تسخير القوانين لحماية الفرد باعتباره العنصر الأهم في الحياة لا باعتباره جزءًا من كل هو الجماعة ونتيجة لذلك اعتبرت الحقوق مطلقة المدى وإن صاحب الحق في استعماله سيد لا يسأل عما يترتب على هذا الاستعمال من الأضرار التي قد تحيق بغيره.

ولقد صدر القانون المدني الفرنسي 1904 وفي ذهن المشرع تلك الأفكار السابقة فلم يرد في هذا القانون نص يؤيد هذه النظرية ويحبذ المبادئ التي استقر عليها الفقه والقضاء الفرنسيان في عهد القانون الفرنسي القديم إلا أن التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي سارت في خلال القرن – التاسع عشر – أثرت في هذا المذهب الفرنسي وساءت النظرية الاجتماعية التي تقضي بأن الفرد عنصر في جماعة تتجه جهوده إلى تحقيق مصالحه مع تحقيق مصلحة الجماعة التي يعيش فيها ومن ثم قيدت الحقوق الفردية.
ولقد ناصر هذا المذهب الحديث القضاء الفرنسي والبلجيكي نتيجة لانتكاص مبادئ الفردية وأيدهما في ذلك الفقيهان الفرنسيان سالي وجاسران وحاولوا جميعًا الحد من صرامة النصوص الصادرة وليدة هذه الروح الفردية فأصبح من المسلم به أن الحقوق الشخصية قد منحها القانون للفرد لغرض معين ولا يصح استعمالها بما يتنافى مع هذا الغرض ولا يتعرض صاحب الحق للمسؤولية المدنية – ولقد أيدت هذا المبدأ محكمة النقض الفرنسية في 26 ديسمبر سنة 1893 في أحد أحكامها
S’il est de principe que l’usage d’une faculté légale ne saurait constituer une faute ni motiver par suite une condamnation il en est autrement orqusue d’une ltelle faculté degenre en abus.
ولقد صدر القانون المدني المصري المختلط سنة 1875 والقانون المدني المصري الأهلي سنة 1883 نقلاً عن القانون الفرنسي وعلى غراره وقد كانت النصوص الفرنسية متأثرة بالمذهب الفردي فلم يرد نص صريح يقر النظرية وإنما وردت بعض نصوص لحالات فردية تقر تلك النظرية منها:

المادة (168) من القانون المدني الأهلي التي تنص:
(يجوز للقضاة في أحوال استثنائية أن يأذنوا بالوفاء على أقساط أو في ميعاد لائق إذا لم يترتب على ذلك ضرر جسيم لرب الدين).
والمادة (522) من القانون المدني الأهلي التي تنص:
(لا يجوز للوكيل أن يعزل نفسه عن الوكالة في وقت غير لائق).
ففي الحالة الأولى أعطى القانون للقاضي حق تأجيل الوفاء إلى ميعاد لائق وهذا ما يسمى في القانون بالمهلة القضائية délai de grâce.
وفي الحالة الثانية حرم القانون على الوكيل أن يعزل نفسه في وقت غير لائق حتى لا يلحق ضررًا بالموكل.
ولكن الفقه المصري لم يقتصر على هذه الحالات وإنما كون نظرية الخطأ تحت ستار الحقوق مستندًا إلى هذه الحالات الفردية ومبادئ العدالة والقانون الطبيعي ولقد سار القضاء المصري على نهجه وطبقها في أحكامه.
ولما صدر مشروع تنقيح القانون المدني جاء في المادة السادسة نص يؤيد تلك النظرية صراحة فقد جاء فيها: (يصبح استعمال الحق غير جائز في الأحوال الآتية):
( أ ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.
(ب) إذا كان متعارضًا مع مصلحة عامة جوهرية.
(ج) إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة أو كانت هذه المصالح قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها أو كان استعمال الحق من شأنه أن يعطل استعمال حقوق تتعارض معه تعطيلاً يحول دون استعمالها على الوجه المألوف.
وهذا النص عام يقرر هذه النظرية ويتفق مع اتجاه القانون المقارن.
ولما صدر القانون المدني المصري الجديد رقم (131) سنة 1948 جاء في المادتين الرابعة والخامسة تسليم بهذه النظرية على وجه العموم بل لقد جاءت نصوص فردية تؤيد هذه النظرية وما هي في الحقيقة إلا تطبيق لهذين النصين العامين الواردين في الباب التمهيدي من القانون المدني (المادتان الرابعة والخامسة).
فلقد جاء في باب الوكالة في المادة 716/ 1
(إذا كانت الوكالة بأجر فإن الوكيل يكون ملزمًا بتعويض الموكل عن الضرر الذي لحقه من جراء التنازل في وقت غير مناسب وبغير عذر مقبول).
ولقد جاء في باب الملكية في المادة (806):

(على المالك أن يراعي في استعمال حقه ما تقضي به القوانين والمراسيم واللوائح المتعلقة بالمصلحة العامة أو بالمصلحة الخاصة وعليه أيضًا مراعاة الأحكام الآتية):
المادة (807):
1 – على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار.
2 – وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها إنما له أن يطلب إزالة هذا المضار إذا تجاوزت الحد المألوف على أن يراعي في ذلك العرف وطبيعة العقارات وموضع كل منها بالنسبة إلي الآخر والغرض الذي خصصت له ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق).
هذا فيما يتعلق بالتطور التاريخي التشريعي
أما فيما يتعلق بهذا التطور في الفقه فلقد ناصب بعض الفقهاء هذه النظرية العداء ومن بينهم ديمولومب واسمان وبلانيول وعمانويل ليفي وبيفنوارفلقد ذكر ديمولومب أنه إذا كان العمل مشروعًا ومبنيًا على استعمال الحق فليس ثمة مسؤولية ولقد قرر اسمان أن النظرية تتناقض مع المبدأ القانوني المقرر في المادة (1382) من القانون المدني الفرنسي والتي تشترط الخطأ لقيام المسؤولية والقول بغير ذلك يؤدي إلى الخلط بين الخطأ الأدبي والخطأ القانوني وبعبارة أدق الخلط بين علم الأخلاق وعلم القانون فضلاً عما يؤديه من تحكم القضاة في الدعاوى.
ولقد ذكر عما نويل ليفي أن النظرية لم تأتِ بجديد فهي تدخل في نظرية المسؤولية التقصيرية أما بيفنوار فهو ينكر النظرية فيما يتعلق بحق الملكية فيعتبره حقًا مطلقًا غير مقيد ولو استعمل بنية الإضرار بالغير وسوء نية، أما غير ذلك من الحقوق فهو يسلم بالتعسف فيه وبالمسؤولية.
ولكن رغم ما تقدم فقد ظهر بعض فقهاء حديثين أيدوا هذه النظرية ودافعوا عنها دفاعًا قويًا وفندوا الحجج التي ذكرها الفقهاء المعارضون للنظرية استنادًا إلي وجهة نظرهم واستندوا في تأييد النظرية إلى قواعد الإنصاف والأخلاق.
ومن بين هؤلاء الفقهاء جوسران وسالي وكابيتان.
إلا أن هؤلاء الفقهاء قد اختلفوا فيما بينهم على كيفية تطبيق تلك النظرية وأساس ذلك التطبيق وهذا ما سنتناوله فيما بعد.

إغلاق