دراسات قانونية
مراحل تطور نظام التقاضي ووسائل التبليغات القضائية (بحث قانوني)
المطلب الأول : التبليغات القضائية في قوانين وادي الرافدين :
مما لاشك فيه ان الحاجة إلى القوانين والعدالة الاجتماعية تشكل من أولويات الحضارات التي بلغت مرحلة متقدمة من النضج السياسي والاجتماعي، وكذلك كان الأمر بالنسبة للمجتمعات العراقية القديمة، حيث يؤكد الباحثون بان الدراسات المختلفة ونتائج الحفريات التي أجريت في العراق تبين بوضوح وبشكل لا يقبل الشك بان التكوينات السياسية التي ظهرت بحدود (4000 ق . م) في الأقسام الجنوبية في العراق توضح بان الاعتماد لم يكن مطلقاً على الأعراف والتقاليد فقط بل كانت لها قوانين ثابتة تنظم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية(1). فحضارة وادي الرافدين تتميز بالسبق الحضاري في الكثير من نواحي العلم والمعرفة وهي صاحبة الفضل على كل الحضارات التي تلتها، ومما يلفت النظر الى حضارة وادي الرافدين انها تتميز بالحيوية والمرونة وبالرغم من ان هناك من يعتقد ان الفضل يعود إلى القانون الروماني بوصفه القانون الأمثل والأكمل، الا ان المكتشفات الأثرية الحديثة في العراق منذ مطلع القرن السابق قد صححت الخطأ الذي وقع فيه بعض الباحثين ودلت على ان الحلقة القانونية الأولى بدأت في وادي الرافدين وليس عند الرومان(2).والتبليغات القضائية بوصفها من إجراءات التقاضي فقد كانت تشكل حلقة مهمة من حلقات الإجراءات القضائية عند العراقيين القدماء، حيث ان إجراءات التقاضي كانت تمر بعدة حلقات ابتداءً من رفع الدعوى وانتهاءً باصدار الأحكام، وهذا بلا شك يشكل عملية قضائية في منتهى الدقة، وهي بهذا الوصف لا تختلف كثيراً عما هو الحال عليه في القوانين الحديثةوالجدير الإشارة ان شريعة حمورابي قد عالجت إجراءات التقاضي وبينت مسائل في منتهى الدقة تستحق الإعجاب والتقدير من حيث كيفية إصدار قرار الحكم من قبل القاضي وكذلك كيفية محاسبة القاضي عن أخطائه المهنية والمرجع الذي يتولى تدقيق الأحكام الصادرة عن المحاكم.
ومما يدعو إلى الإعجاب في تلك الفترة الموغلة في القدم والتي تتجاوز آلاف السنين هي دقة إجراءات التقاضي لدى العراقيين القدماء، وهذا ان دل على شيء إنما يدل على مدى النضوج الفكري والاجتماعي لدى العراقيين في تلك المرحلة، في وقت سادت فيه فكرة الانتقام الفردي، حيث كان الفرد يقتص بنفسه لنفسه، مع عدم وجود سلطة عليا تتولى الفصل في القضايا والمنازعات. فمن الإجراءات التي كان يتوجب على الشخص ممارستها هي إقامة الدعوى على الخصم من اجل الحصول على حقه وحمايته، كذلك تعد دعوة الخصم للمحاكمة من الشروط التي كان يترتب على تخلفها تعطل النظر في الدعوى ومن ثم التحقيق في الدعوى وتنتهي الإجراءات بصدور القرار الحاسم في الدعوى. والذي يهمنا من كل الإجراءات القضائية السالفة هو الإجراء المتمثل بالتبليغات القضائية، فبعد اتخاذ الإجراءات الخاصة باقامة الدعوى، تبدأ الخطوة اللاحقة والمتمثلة بتحديد موعد للمرافعة للنظر في القضية، وبعد تحديد موعد المرافعة، يبلغ كل طرف من أطراف الدعوى بالحضور إلى المحكمة، وكانت مهمة التبليغ تقع على عاتق الموظفين الذين كان يطلق عليهم (ريدي بابتم Ridi babtim) وكان التبليغ عادة يتم بصورة تحريرية، ومن هذه التبليغات ما جاء في الوثيقة السومرية التي يعود تاريخها إلى حدود (2000 ق . م) “اذا لم يحضر صباح غد أمام المحكمة، سوف يصدر القرار النهائي بعد أداء القسم باسم الملك وأمام الشهود(3).يستفاد مما تقدم ان التبليغات القضائية لدى العراقيين القدماء كانت تتسم بدرجة عالية من الدقة، ودليلنا على ذلك هي ان مهمة التبليغ كان من مهام طائفة معينة من الموظفين التابعين للمحكمة فلم يكن اجراء التبليغ عشوائياً، من جهة أخرى فالتبليغات القضائية كانت تتم بصورة تحريرية على شكل وثيقة وهي بهذا الوصف تقترب كثيراً من التبليغات في الوقت الحاضر وهي صفة الشكلية حيث لابد ان يكون التبليغ بصفة ورقة صادرة عن المحكمة ومشتملة على جملة بيانات.هذا وإن المدد القانونية للتبليغات في قوانين العراق القديم كانت تختلف من قضية إلى أخرى، فعلى سبيل المثال وفي دعوى قضائية تتعلق بسرقة تعود إلى فترة حكم (سمسو أيلونا) والتي جاء فيها “انه على صاحب الدعوى ان يجلب المتهم إلى المحكمة في غضون خمسة ايام، والا فانه سوف يتحمل المسؤولية القضائية” في حين جاء في وثيقة مكتشفة متعلقة بمسألة ابن يظهر عدم الطاعة تجاه والديه بالتبني ان مدة التبليغ للحضور إلى المحكمة استغرقت ثلاثة ايام، ويبدو ان سبب الاختلاف في هذه المدد عائد إلى نوعية القضية المعروضة ومدى أهميتها(4). من هنا يظهر ان حضور الطرفين كان يمثل نقطه تحول في الإجراءات القضائية في قوانين العراق القديم، فبدون حضور الطرفين كان يتعذر السير في الدعوى، الا اذا كان الخصم قد تبلغ و تخلف عن الحضور.وتشير المعلومات عن الاجراءت القضائية في عهد حمورابي ان تلك الإجراءات تبدأ باقامة المدعي لدعواه ومن ثم تنعقد المحكمة على أساس الشكوى المقدمة، ومن ثم تبدأ المحكمة بعملها بفحص الأدلة ومن ثم استدعاء المدعى عليه لبيان دفاعه واستجواب الشهود، وفي حاله عدم حضور أطراف الدعوى للمرافعة تقرر تأجيل الدعوى مدة لا تزيد عن ستة اشهر(5).ان تأجيل الدعوى بسبب عدم حضور اطراف الدعوى لدى العراقيين القدماء نابع من ضرورة عدم سلب حق الخصوم في الدفاع مما ينعكس سلباً على مراكزهم، وهذا المبدأ مقرر كذلك لدى التشريعات الحديثة ومنها التشريع العراقي(6).الذي يقرر ترك الدعوى للمراجعة في حال عدم حضور الطرفين يوم المرافعة.ولعل خير مثال يدل على ضمانات العدالة في بلاد وادي الرافدين والمتمثلة بضرورة تبليغ أطراف الدعوى لحضور المحاكمة وعدم الاستماع إلى طرف واحد دون الآخر، لما يشكله من خرق وسلب حق الطرف الآخر في الدفاع عن نفسه، الا في حاله كون الطرف الاخر قد تبلغ لكنه لم يحضر المرافعة، ذلك اللوح الطيني الذي عثر عليه منقبو الآثار في مدينة (نفر) حيث احتوى هذا اللوح على اول سابقه قضائية في تاريخ البشرية والتي يمكن ان تعنون “بالزوجة المتسترة على الاخبار بالجريمة“.
ويلخص الدكتور فوزي رشيد هذه السابقة(7). بالقول “ان جريمة قتل ارتكبت في بلاد سومر في حدود (1850 ق.م) وتتمثل حوادث هذه الجريمة ان ثلاثة رجال قتلوا أحد موظفي المعبد ولاسباب غير معروفة اخبر هؤلاء القتلة زوجة القتيل بمقتل زوجها، ولكن الغريب في هذا الامر أن الزوجة احتفظت بسر القتلة ولم تبلغ السلطات الرسمية بالأمر، بيد ان يد العدالة كانت حتى في تلك الازمان الموغلة في القدم مهيمنة ومكينة وبخاصة في بلاد وادي الرافدين، فبلغ خبر الجريمة علم ملك سلالة (ايسن) فاحال القضية للنظر فيها إلى (مجمع المواطنين) في مدينة (نفر) وهو المجمع الذي كان محكمة للفصل في القضايا، وفي ذلك المجمع نهض تسعة رجال ليقاضوا المتهمين وبدأ هؤلاء في نقاش القضية ان الجريمة لا تقتصر على الرجال الثلاثة وهم القتلة الفاعلون، بل يلزم ايضاً مقاضاة الزوجة بسبب بقائها ساكتة كاتمة للامر بعد ان علمت بالجريمة، الامر الذي يجعلها شريكة في الجريمة، وعلى اثر هذا الاتهام انبرى في المحكمة رجلان للدفاع عن المرأة فدافعا بان المرأة لم تشترك في مقتل زوجها، ولذلك ينبغي تبرئتها فلا ينالها العقاب، فاقر أعضاء المحكمة حجج الدفاع مبررين قرارهم بالقول “ان العقوبة ينبغي الا تشمل سوى القتلة الفاعلين” وبموجب ذلك لم تحكم محكمة (نفر) الا على الرجال الثلاثة ويشير الدكتور فوزي رشيد وبحق ان هذه السابقة تمدنا بان المحاكم في العراق القديم كان لا يحق لها ان تصدر حكماً بحق أي شخص مالم يكن حاضراً المحاكمة بمعنى ان يكون قد تبلغ. فضلاً عن ذلك فان هذه الوثيقة تمدنا بمعلومة هامة الا وهي ظهور نظام المحاماة في وادي الرافدين كذلك تدل على اهتمام العاملين السومريين في مجال القضاء بقرارات المحاكم التي اكتسبت صفة السوابق القضائية اذ كانت تدون بعدة نسخ ليسهل الرجوع اليها عند الحاجة(8).
______________________________
1- د. فوزي رشيد، الشرائع العراقية القديمة، ط3، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987، ص11.
2-أستاذنا د. عباس العبودي، ضمانات العدالة في حضارة وادي الرافدين، بحث منشور في دراسات قانونية وهي مجلة فصلية تصدر عن قسم الدراسات القانونية في بيت الحكمة، العدد الثاني، السنة الثانية، بغداد، 2000، ص19.
3- للمزيد من التفصيل راجع: أحلام سعد الله الطالبي، نظام التقاضي في العراق القديم، دراسة مقارنة مع بقية بلدان الشرق الادنى، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الآداب، جامعة الموصل، 1999، ص93.
تجدر الاشارة أن تحديد موعد المرافعة للنظر في القضية لم يكن مقتصراً على القضاة انفسهم، بل كان للملك الحق في تحديدها، وهذا يعني انه كان هناك تعيين ملكي لموعد القضايا التي يتم قبول النظر فيها من قبل الملك، احلام سعدالله الطالبي، المصدر السابق، ص92.
4- احلام سعد الله الطالبي، مصدر سابق، ص93-94.
5- شعيب احمد الحمداني، قانون حمورابي، منشورات بيت الحكمة، بغداد، 1988، ص72.
6- راجع الفقرة (1) من المادة (54) مرافعات عراقي.
7- د. فوزي رشيد. مصدر سابق، ص17-18.
8- أستاذنا د. عباس العبودي، تاريخ القانون، ط2، جامعة الموصل، 1997، ص105.
المطلب الثاني : التبليغات القضائية في القوانين الرومانية :
ان الخوض في نظام التقاضي بشكل عام وفي وسائل التبليغات القضائية على وجه الخصوص في القوانين الرومانية، يحتم علينا تسليط الضوء على أهم مراحل تطور هذا القانون واهم الأمور المتفرعة منه، حيث قيل الكثير عن هذا القانون وذلك لكثرة الأمور التي طرأت عليه وعلى وجه الخصوص في موضوع الدعاوى ونظام التقاضي. لقد كان العرف في العصر الملكي يشكل المصدر الأول في القانون، ونظراً لكون القواعد العرفية غير مدونة فقد دفع هذا الامر بالشعب إلى المطالبة بضرورة إصدار قانون مكتوب بحيث يكون الكافة على علم به، ومن جهة ثانية يمنع رجال الدين وهم من الاشراف من احتكار معرفة القانون وطرق تأويله وتطبيقه، حيث كان رجال الدين يستغلون جهل العامة بالقواعد العرفية، وصاروا يفسرون قواعد العرف لصالح ابناء طبقتهم من الاشراف كان من نتيجة كفاح العامة أن وضع قانون مدون سمي بقانون الألواح الاثني عشر(1). ولم يقف الامر عند ظهور قانون الألواح الاثني عشر، بل ظهرت مستحدثات جديدة على هيكلية القانون الروماني واهم هذه المستحدثات وبقدر تعلق الأمر بموضوعنا، هي ما طرأت على نظام التقاضي لدى الرومان، حيث يمكن التمييز في تاريخ التقاضي عند الرومان بين ثلاثة أنظمة رئيسية يتميز كل منها بخصائص يختلف عن النظام الآخر، وهذه الأنظمة هي نظام دعاوى القانون ونظام الدعاوى الكتابية وأخيراً نظام الإجراءات غير العادية. أما في المرحلة الأولى للقانون الروماني حيث كان يسود نظام دعاوى القانون، فقد كانت الدعاوى محددة على سبيل الحصر، وكان من الواجب الحتمي على الافراد اتباع الشكليات المقررة لكل دعوى وفي حالة عدم اتباع تلك الشكليات فالبطلان هي النتيجة المتحققة، اذن كانت الشكلية او الطابع الشكلي هي الصفة الأساسية لهذه الدعاوى(2).وتجدر الإشارة هنا ان البريتور لم يكن يمد يد المساعدة إلى كل ادعاء يعرض امامه بل إلى الادعاءات التي كان يمكن ان تصاغ باحدى الصيغ والاشكال، حيث كان من الواجب ان يخضع المواطن الروماني والذي كان يريد رفع دعوى معينة إلى تلك الطقوس(3).وكانت دعاوى القانون على نوعين رئيسيين: الاولى كانت تسمى الدعاوى التقريرية اما الأخرى فكانت تسمى الدعاوى التنفيذية، اما الدعاوى التقريرية فقد كان القصد منها الحصول على اعتراف من الخصم بالحق المدعى به، او التوصل إلى اقراره في حالة رفض الخصم هذا الاعتراف، اما بخصوص الدعاوى التنفيذية فكان يقصد بها التوصل إلى اقتضاء حق سبق ثبوته عن طريق دعوى من الدعاوى التقريرية سواء باعتراف الخصم او باقرار القضاء له(4).
وسنقتصر على النوع الأول والمسماة بالدعاوى التقريرية على اعتبار ان هذا النوع تحدث فيه إجراءات المرافعة من حيث حضور الأطراف وكيفية إعلام الطرف الآخر بالحضور وما يترتب على ذلك من آثار، في حين ان الدعاوى التنفيذية(5). هي أشبه ما تكون بالمحررات التنفيذية في الوقت الحاضر والتي تتم بعد صدور الحكم او نتيجة الحصول على محرر تنفيذي. والدعاوى التقريرية هي الأخرى بدورها تنقسم إلى عدة أنواع فهناك دعوى القسم أو الرهان، وهناك دعوى طلب تعيين قاضٍ او حكم، ثم أضيف اليها لاحقاً دعوى الإعلان(6). فاما دعوى القسم او الرهان، فهي دعوى عامة، بمعنى انها تعتبر الوسيلة العامة للدفاع عن الحق، لحمل الخصم على الاعتراف به في كل حالة لا يوجد فيها نص قانوني يوجب اتباع طريقة اخرى، وسميت بدعوى القسم لان كلا من الخصمين كان يقسم يميناً دينية على صحة ادعائه، ثم استعيض عنها برهان بمقتضاه يتعهد كل من الطرفين بدفع مبلغ من المال إلى الخزانة العامة في حال ما اذا خسر الشخص دعواه(7).الملاحظ على هذا النوع من الدعاوى انها كانت لا تبدأ الا بعد حضور طرفي النزاع ومعهما الشيء موضوع النزاع اذا كان منقولاً او ما يرمز اليه اذا كان عقاراً، مع الشهود، وبعدها يدعي كل من الطرفين الشيء لنفسه باشارات وعبارات شكلية محددة إذا أخطأ فيها خسر الدعوى، لذلك لا يكون هناك مدع او مدعى عليه وانما يعد الطرفان كلاهما مدع(8).
نستنتج مما تقدم ان حضور الأطراف هو شرط أساسي للبدء في الدعوى و بخلافه يتعذر السير فيها، مما يعني ان هناك مسالة إعلام او تبليغ الأطراف بضرورة الحضور لاجراء المرافعة والا كيف يكون بمقدور الأطراف من معرفة اليوم المحدد لنظر الدعوى. ان ما يدعو للتأمل قليلاً، هو الإجراء المتمثل في نظر الدعوى من قبل اكثر من جهة، حيث كانت إجراءات نظر الدعوى تمر بعدة مراحل وصولاً الى إصدار الحكم النهائي في الدعوى المعروضة ان هذا الأمر لم يكن مقصوراً على القانون الروماني، بل كان موجوداً ايضاً ومعروفاً لدى العراقيين القدماء(9).ففي القانون الروماني بعدما تتخذ الإجراءات المتمثلة بحضور الأطراف وقيامهم بالحركات والعبارات المحددة سلفاً وكل ما يتعلق به لدى الحاكم (البريتور) عندها يامرهما الأخير بترك الشيْ اشعاراً لها بسلطان الدولة وتدخلها لمنع الفصل في النزاع بالقوة بعد ذلك يتداعى الطرفان الى اليمين أو الرهان ويقوم الحاكم باختيار من تكون له من الطرفين حيازة الشيء بضمان كفيل، ثم يختار (الحكم) الذي يعهد له بالفصل في النزاع، وأخيراً تنتهي هذه المرحلة باشهاد الحاضرين على إتمام اجراءاتها، اما المرحلة الثانية فيقوم (الحكم) بتحقيق ادعاءات الطرفين مستعيناً بكافة طرق الإثبات التي يقدمها كل من الطرفين لتدعيم ادعائه وإصدار الحكم لصالح أحدهما(10). هذا وقد تكون دعوى القسم او الرهان عينية إذا كان موضوع النزاع مطالبة كل من الطرفين بشيء معين، وقد تكون دعوى الرهان او القسم شخصية اذا كان موضوعها مطالبة شخص لاخر بمبلغ من النقود كدين ناشئ من عقد او ما شابه ذلك.أما الدعوى الأخرى من الدعاوى التقريرية فهي دعوى طلب تعيين قاض أو حكم، وتتمثل هذه الدعوى في طلب شفهي يقدم إلى الحاكم لتعيين قاض او حكم وذلك بعد ان يكون الطرف الأول قد أعلن ما يدعيه إلى الطرف الآخر ولكنه أنكر عليه ما يدعيه، وتمتاز هذه الدعوى ببساطتها وقلة كلفتها إذ ليس هناك رهان ولا أموال لصالح الخزينة إذا خسر الشخص دعواه(11).أما النوع الأخير من أنواع الدعوى التقريرية فهي تلك الدعوى المسماة بدعوى الاعلان، مما تجدر الإشارة إليه ان هذه الدعوى لم ترد في قانون الألواح الأثني عشر، لكنها أدخلت بعده عن طريق قانونين: الأول هو قانون (سيليا) وذلك بالنسبة للديون التي يكون محلها أداء مبلغ معين من النقود، والقانون الثاني هو قانون (كالبورينا) وذلك في حالة المطالبة بالديون التي يكون موضوعها أداء شيء معين، وتمتاز هذه الدعوى بالبساطة وعدم التعقيد، وتتلخص إجراءاتها بادعاء المدعي بوجود دين على المدعى عليه، فإذا أنكره المدعى عليه، انذره المدعي بالحضور الى مجلس الحاكم القضائي بعد ثلاثين يوماً لتعيين قاض للفصل في النزاع، فاختيار القاضي لا يتم في الحال، بل بعد مرور ثلاثين يوماً(12).ان من خلال النوع الأخير من الدعاوى التقريرية والمسماة بدعوى الإعلان مدى أهمية الاجراء المتمثل بالإنذار او الإعلام او التبليغ، حيث كان لابد من إنذار المدعى عليه بضرورة الحضور الى مجلس الحاكم القضائي (البريتور) من اجل الفصل في النزاع، ويمكننا القول بان دعوى الإعلان قد استمدت تسميتها من ذلك الإجراء والذي يقضي باعلان المدعى عليه، وتتشابه هذه الدعوى مع دعوى طلب تعيين حكم او قاض في انها لا تتضمن رهاناً.
أمام الجمود الذي كان يكتنف نظام دعاوى القانون والتي كانت الشكلية المفرطة العلامة الدالة عليها، الأمر الذي يرهق المواطنين الرومان ويثقل عليهم كثيراً بحيث كان الكثيرون يفقدون حقوقهم بسبب عدم مراعاتهم لتلك الإجراءات المحددة سلفاً، بسبب كل هذه الصعوبات التي كان يتصف بها نظام دعاوى القانون، ظهرت الحاجة الماسة إلى ضرورة الانتقال من هذا النظام الى نظام الدعاوى الكتابية. ظهر نظام الدعاوى الكتابية في القرن الثالث قبل الميلاد في المنازعات بين الأجانب والرومان، ويمتاز هذا النظام بالتحرر نوعاً ما من الشكليات للدعاوى الرومانية، وقد كان الحاكم يتمتع بقدر من المرونة والحرية عند نظره للدعوى، وهكذا ظل نظام الدعاوى الكتابية مقتصراً على فض النزاعات بين الأجانب والرومان إلى ان صدر قانون (ايبوتيا/ 130 ق.م)، ففتح أمام المتقاضين سبيل الخيار بين هذا النظام وبين نظام دعاوى القانون القديم، وفي عهد (أغسطس) صدر قانون (جوليا) الذي جعل نظام الدعاوى الكتابية واجب الاتباع(13).وإذا كان نظام الدعاوى الكتابية قد تحرر نوعاً ما من الشكلية الصارمة والتي كان يتصف بها نظام دعاوى القانون، إلا ان التقاضي فيه كان يمر بنفس الدورين الذين كانا في النظام القديم، إلا انه ظهر في هذا النظام إجراء جديد لم يكن معروفاً في النظام القديم، ويتمثل هذا الإجراء في إعلان الخصم لخصمه بصيغة الدعوى التي ينوي مباشرتها قبله(14).ان الإجراء المتمثل باعلان الخصم لخصمه بصيغة الدعوى، هو من قبيل تبليغ الخصم الآخر بفحوى الدعوى، الأمر الذي يتمكن معه الخصم الآخر من إعداد دفاعه للرد على طلبات خصمه، ويبدو أن هذا الإجراء الذي تضمنه نظام الدعاوى الكتابية يتشابه نوعاً ما مع ما هو الحال عليه في التشريعات الحديثة من حيث اشتمال ورقة التبليغ على عدة بيانات منها طلبات المدعي والمكان والزمان المعينين لحضور المرافعة … الخ.
وأخيراً ظهر نظام الإجراءات غير العادية، والتي ترجع في أصولها الى ما جرت عليه عادة الأباطرة منذ بداية العصر الإمبراطوري من الفصل بأنفسهم في بعض القضايا ومن إحالة القضايا التي تمس بالإدارة للموظفين الإمبراطوريين للفصل فيها دون التقيد بالإجراءات العادية، وتتلخص فلسفة هذا النظام بان الفصل في الدعوى يتم في دور واحد أمام القاضي بعدما كانت تمر بمرحلتين امام الحاكم ثم امام الحكم في النظام القديم. وان الذي يقوم بالفصل في الدعوى هو قاض موظف من قبل الإمبراطور، أما إجراءات نظر الدعوى في ظل هذا النظام فتبدأ بطلب من المدعي، الا ان إحضار المدعى عليه لم يعد متروكاً أمره للمدعي، وإنما اصبح يتم بمساعدة موظف قضائي بصفة عامة، كذلك اصبح من الممكن السير في الدعوى بدون حضور المدعى عليه إذا اتخذت الإجراءات اللازمة لإحضاره ولكنه لم يحضر(15).يمكن القول بان النظام الأخير والمسمى بنظام الإجراءات غير العادية كان يمثل خطوة متقدمة في القانون الروماني، وذلك بخصوص المسائل المتعلقة بالتبليغات، حيث لم تعد مهمة إبلاغ الخصم الآخر في الدعوى مقتصراً على المدعي، بل اصبح هناك طائفة من الموظفين القضائيين كان من مهامهم مساعدة المدعي في اجراء التبليغات، وان لم يكن هناك طائفة محددة في سلك القضاء يتولى هذه المهمة بنفسها على غرار ما كان عليه الحال لدى العراقيين القدماء. من خلال عرض أهم التطورات المتلاحقة التي شهدها القانون الروماني على مر الفترات المتعاقبة، يظهر لنا بشكل لا يقبل أدنى شك مدى الفرق الكبير ما بين قوانين وادي الرافدين وبين القانون الروماني، من حيث ممارسة إجراءات التقاضي بشكل عام، ومن حيث إجراء التبليغات على وجه الخصوص، فلقد كانت إجراءات التقاضي لدى العراقيين القدماء تمتاز بدقه عالية وترابط متين، بحيث كان يوضح للأفراد الإجراءات القانونية الواجبة الاتباع من اجل الحصول على حقوقهم، والتي تبدأ برفع الدعوى مروراً بالتحقيق في القضية قبل بدء المحاكمة وإجراء التبليغات اللازمة لأطراف النزاع وانتهاءً بصدور الأحكام .هذه السلسلة المترابطة من الإجراءات القضائية لدى العراقيين القدماء لا تختلف كثيراً من حيث الغاية مع ما هو عليه الأمر بالنسبة للتشريعات الحديثة رغم الفارق الزمني بين تلك العصور الموغلة في القدم وبين عصرنا الحاضر .في حين ان الإجراءات القضائية الرومانية القديمة، كانت الصفة البارزة فيها هي طابع الفردية (الخاصة) الى حد بعيد، فلقد كان المدعي يقوم باجراءات الدعوى بنفسه للحصول على حقه، كما كان المترافع وحده الذي يدير إجراءات المرافعة، فكان يدعو خصمه الى القضاء، ويقود سير الدعوى ضد الخصم ويشرف بنفسه على تنفيذ الحكم، علاوة على ذلك كله كانت الشكلية المفرطة في التنظيم القضائي الروماني يمثل الحبل الذي يخنق الكثيرين عند لجوئهم الى القضاء وذلك لعدم مراعاتهم لتلك الشكليات(16).وان كان هناك تطور طرأ على القانون الروماني، فالفضل بذلك يعود الى الحضارة العربية، لان الحضارة العربية كانت ذو تأثير واضح على القانون الروماني(17).
(محاماه نت)