دراسات قانونية
مدى إلزامية التنصيب البرلماني للحكومة (بحث قانوني)
قراءة مزدوجة في مدى إلزامية التنصيب البرلماني للحكومة
جابر لبوع
باحث في سلك الدكتوراه- جامعة محمد الخامس-السويسي
مقدمة:
ربما سيصح نوعا ما أن نطبق المقولة التالية: قل لي ماذا يقول الدستور أقل لك من وكيف تكون الحكومة؟ فبعد انتظار طويل وبعد أخذ ورد من كل صوب وحدب، ها نحن نعاين حكومة شبه جديدة بحلة قديمة، فمنذ أن أعلن حزب الاستقلال انسحابه من حكومة ابن كيران في 8ماي 2013، وحالة من الأزمة السياسية رافقتها تحريك الأقلام والأقدام، وها هم يعلنون عن ولادة حكومة تضع حدا لأزمة الأغلبية. هذه الولادة العسيرة ربما قد تبدو سطحيا ولادة صحيحة وسليمة، لكن إذا ما عدنا إلى الأصل الذي يؤطر لكل السلوكات والتصرفات القانونية، فإن الأمر قد يستوقف لطرح يعض الملاحظات والتساؤلات:
– إذا كان الدستور ينص في الفصل 47 منه على مسطرة إقالة واستقالة الوزراء، فما هي المسطرة والإجراءات التي اتبعت عند انسحاب الاستقلال؟ وبغض عن هذا السوال هل ينص الدستور على كيفية اجراء التعديل في الحكومة القائمة؟ إذا كان الجواب بغياب نص صريح فهل من حل دستوري؟ ربما إذا رجعنا إلى الفصل 47 سنجده ينص على أن الملك يعين باقي أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، وهو ما يعني أن رئيس الحكومة سيتبع نفس الإجراء أثنا التعديل الحكومي، بالقياس على الفقرة الثانية من ذات الفصل، لكن الإشكال سيطرح حول ما الذي نتحدث عنه هل نتحدث عن حكومة جديدة أم تعديل حكومي؟ فالأصل هو أننا أمام ترميم حكومي للأغلبية وهو ما يفيد التعديل جراء تفكك الأغلبية الحكومية، وليس حكومة جديدة كما يدعى(بضم الياء). فما هي اجراءات هذا التعديل التي يجب اتباعها؟ فالذي كان من المنتظر هو أن تبحث الحكومة عن تحالف آخر، وهو الذي فيه وفقت، وتعوض المناصب الوزارية التي أصبحت منذ أن اعلن حزب الاستقلال عن انسحابه وزارات تصريف الأعمال.
لكن الأمر مختلف إذ تم إعادة هيكلة التشكيلة الحكومية السابقة كلها تقريبا، وهو الأمر الذي زاد الطين بلة لطرح بعض الأسئلة من قبيل: – هل يجوز ذلك دستوريا؟ إعادة الهيكلة يعني أن يقوم رئيس الحكومة بإعفاء الوزراء الآخرين من مهامهم عن طريق تقديم الطلب إلى الملك، كإجراء دستوري، ثم بعد ذلك يقترح لائحة جديدة للملك ليعينها . إن التعمق في تفسير النصوص الدستورية، وتحليلها، تؤدي إلى نتيجة مزدوجة، فمن جهة، يمكن القول بضرورة وإلزامية التنصيب البرلماني، ومن جهة أخرى، يتضح عدم إلزامية التنصيب البرلماني. والسؤال الذي يبقى مطروحا في ظل غياب أية جهة تكون تفسيراتها للدستور ملزمة، فأي من التفسيرين يكون صائبا؟
وعلى هذا الأساس سنحاول أن نعالج هذا الموضوع من ثلاثة زوايا:
أولا: المرجعية الدستورية للتعديل الحكومي
ثانيا: إلزامية الحكومة في تقديم برنامجها
ثالثا: الدستور وعدم إلزامية الحكومة في تقديم برنامجها
أولا: المرجعية الدستورية للتعديل الحكومي
بعدما أعلن حزب الاستقلال الانسحاب من الأغلبية الحكومية، أصبح على رئيس الحكومة ومن واجبه البحث عن تحالف جديد أو عن حزب آخر ليتم على إثره ترميم أغلبيته الحكومية، وهو الأمر الذي حدث بالفعل بعد مشاورات دامت ثلاثة أشهر ليتم التوافق حول صيغة التعديل.
وبالرجوع إلى دستور المملكة[1] فإننا لن نجد فيه أي مقتضى صريح يتحدث عن التحالف الحكومي وعن طبيعة التشكيلة الحكومية، فقد جاء الفصل 47 من الدستور واضحا، بحيث ينص على أن:”يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها؛
ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها”
فهذا الفصل لا يفيد سوى الجهة المختصة بالتعيين ولا ينص على طبيعة التشكيلة الحكومية، وهو الأمر الذي كان المشرع الدستوري صائبا فيه إذ ترك الأمر مفتوح للسلطة التقديرية لرئيس الحكومة فإن شاء بحث عن تحالف وإن لم يشأ فله كامل الصلاحية في ذلك، فعمومية هذا النص تجد تبريرها في إمكانية حصول الحزب الفائز في الانتخابات على الأغلبية المطلقة للأصوات، وهو الأمر نفسه الذي لا يستدعي من الحزب الفائز عقد تحالفات مع الأحزاب الأخرى ما دامت الأغلبية متوفرة.
إن واقع الأمر يتجاوز هذه النظرة ففي المغرب ونظرا لطبيعة النظام الحزبي والخريطة المتحكمة في الانتخابات فإنه يصعب على أي حزب أن يحصد الأغلبية المطلقة للأصوات. مما يفرض عقد تحالفات يكون أساسها التوافق على البرنامج الحكومي، وهو ما يجعل دائما من هذا التحالف مهددا بالفسخ والانهيار نظرا لعدم ثبات الحياة السياسية ونظرا لتباين المواقف حولها. وهو ما حدث بالفعل عندما أقدم حزب الاستقلال على الانسحاب من الحكومة، وفرض إجراء تعديل في التشكيلة الحكومية، لكن ما هو الأساس الدستوري لهذا للتعديل؟ فقد ثارت العديد من النقاشات في هذا السياق حول ما الذي نتحدث عنه الآن، هل نحن أمام حكومة جديدة أم أمام تعديل حكومي جزئي أم نحن نتحدث عن إعادة هيكلة التشكيلة الحكومية؟
إذا عدنا مرة أخرى إلى الدستور لاستخراج الاحكام التي يمكن أن تنطبق والحكومة هاته، فلا يسعنا إلا أن نرجع إلى الفصل 47 من الدستور (الفقرة 4 و5 ) الذي ينص على ما يلي[2]: …ولرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة. ولرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة بناء على استقالتهم الفردية أو الجماعية.
يستفاد من هاتين الفقرتين، أن الدستور أعطى لرئيس الحكومة الحق في إعفاء أعضاء الحكومة أفرادا أو جماعات بمبادرة منه بمثل ما أعطى الحق لأعضاء الحكومة الآخربن حق الاستقالة بمبادرة منهم، وهو الذي حدث عندما قدم وزراء حزب الاستقلال استقالتهم وقبلها الملك.
مما يستدعي من الأمر إجراء تعويض للمناصب الوزارية الشاغرة، وما دامت الحكومة حكومة الأغلبية فإن الأمر يتطلب البحث عن حزب لترميم الأغلبية، فالدستور لا ينص إلا على الكيفية التي يتم بها إعفاء الوزراء واستقالتهم أما دون ذلك فيبقى الأمر غامضا، وأي تفسير ربما قد يكون صائبا بمثل ما يحتمل الخطأ. وعليه فإن ما يتطلبه واقع الأمر هو العودة من جديد إلى تطبيق الفقرة الثانية من الفصل 47 من الدستور، بعد استنفاذ الاجراءات الأخرى التي تكمن في قبول استقالة أعضاء الحكومة وصدور ظهير ملكي في شأنه يوقعه بالعطف رئيس الحكومة، وينشر بالجريدة الرسمية وهو ما تم بالفعل بصدور الظهير الشريف رقم 1.13.105[3] الصادر في 14 اكتوبر 2013 بتغيير الظهير الشريف رقم 1.12.01 الصادر في 3 يناير 2012 بتعيين أعضاء الحكومة[4]، الذي نص في مادته الأولى على ما يلي: ابتداء من 10 اكتوبر 2013 يعفى أعضاء الحكومة الآتي بيانهم من مهامهم، والتي شملت 7 وزراء و4 وزراء منتدبين.
وإذا حاولنا التمعن في الظهير سيتضح أن النسخة الثانية من حكومة ابن كيران، هي عبارة عن إعادة ترميم للأغلبية لتستمر في ممارسة مهامها الدستورية، لكن الأمر لم يتوقف عند الترميم وفقط بل تجاوزه إلى إعادة توزيع المناصب الوزارية من جديد، وإعادة هيكلة للتشكيلة الحكومية، وهو الأمر الذي لم نجد له سندا دستوريا، إلا أنه يمكن القول بأن قواعد الممارسة السياسة تفرض مثل هذه النتازلات عندما يتعلق الأمر بإعادة بناء التحالف الحكومي. وهو ما فتح الباب لمجموعة من النقاشات والتساؤلات حول مدى دستورية هذه الحكومة؟ هل الحكومة يتوجب عليها أن تقدم برنامجها من جديد إلى البرلمان لنتال تنصيبها أم أنها غير ملزمة بتقديم برنامجها لأنها ليست حكومة جديدة منبثقة عن انتخابات جديدة حتى يتطلب الأمر ذلك؟
ثانيا: في مدى إلزامية الحكومة في تقديم برنامجها
لقد تباينت الرؤى في مدى وجوب تقديم البرنامج الحكومي لتنال الحكومة المعدلة التنصيب النهائي فهناك من ذهب في اتجاه عدم إلزامية الحكومة في تقديم برنامجها أمام البرلمان وحججه في ذلك تنطلق من ظهير التعيين، حيث اعتبر هذا الاتجاه بأن أول قاعدة هنا، لمن يستوعب الأسس القانونية لظهائر التعيين، تكمن في أن ظهير التعديل الحكومي جاء معدِّلا ومغيِّرا لظهير تعيين الحكومة التي تشكلت أول الأمر في يناير 2012، لذا لو كان الأمر يتعلق بحكومة جديدة لكان تعيينها قد تم بظهير جديد كليا وليس بتعديل ظهير 2012، وفي ديباجة ظهير التعديل الحكومي تمت الإحالة بشكل جليّ على الفصل 47 من الدستور، الذي ينظم مسطرة التعديل الوزاري، ولم يشر بتاتا لوجود أية حكومة جديدة ولم يحل على الفصل 88 الذي يتعلق بتشكيل الحكومة من أساسها، وعلى هذا الأساس يكون أساس وجود الحكومة واضح دستوريا، فهي حكومة تشكلت يوم 3 يناير 2012، وحازت على التنصيب البرلماني آنذاك وفق أحكام الفصل 88 من الدستور، وعرفت يوم 10 أكتوبر 2013 تعديلا هم جزءا كبيرا من أعضائها لكنه لم يعطها صفة الحكومة الجديدة بأي حال من الأحوال، وذلك تأسيسا على صريح مواد ظهير التعديل الحكومي، وعلى استمرارها بشكل عادي رغم استقالة وزراء الاستقلال من بضعة أشهر[5].
هذا الرأي مردود عليه، لأن الوقوف على صياغة الظهير الشريف وبنائه الدستوري لا يقف حائلا دون تقديم البرنامج الحكومي كما أن عدم ربط الفصل 47 من الدستور بالفصل 88 منه في الظهير الشريف لا يعني أن الحكومة منصبة، لأن الاستناد في البناء القانوني للظهير على الفصل 47 يجد سنده في ما خصه الدستور من صلاحية للملك وليس لهم الحق حتى أن يقحموا الفصل 88 في ظهير التعيين لأن هذا الفصل الأخير يدخل من صميم الصلاحيات الممنوحة لأعضاء البرلمان، كما أن اعتبار الحكومة منصبة بأثر رجعي هو نوع من التفسير لنصوص الدستور لا يلزم جميع الجهات، فالدستور عندما ربط تحمل الحكومة مسؤوليتها واستكمال تنصيبها عن طريق التصويت البرلماني على البرنامج الحكومي، لم يقم بربطه بالفصل 47 من الدستور مباشرة بل جاء منفصلا عنه ومكملا له. وهذا لا يعني أن البرنامج الحكومي يسري أثره طيلة مدة ولاية الحكومة حتى في حالة إجراء تعديل حكومي، فالفصل 88 جاء واضحا ولم يتحدث لا عن حكومة جديدة ولا عن حكومة قديمة، إذ نص على أنه: بعد تعيين الملك لأعضاء الحكومة، يتقدم رئيس الحكومة…… ويعرض البرنامج الذي يعتزم تطبيقه…،
تعتبر الحكومة منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب المعبر عنها بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم لصالح البرنامج الحكومي.[6]
وما يمكن أن يستفاد من هذا التنصيص، هو أن مقياس وجود الحكومة يرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم الأغلبية، لأن الأمر هنا يتجاوز المفهوم الوظيفي للعلاقة بين الحكومة والبرلمان، ويصب في العلاقة السياسية بين الأغلبية البرلمانية والحكومة.
إن هذا الرأي الذي تبناه الأستاذ، رغم عدم وجوب إمكانية الأخذ به ولا يلزم الأطراف الأخرى، إلا أنه يبقى في آخر المطاف رأيا محترما، وهو نابع من قراءة تأويلية لنص الدستور ولظهير التعيين. وفي نفس الاتجاه نجد أن الأستاذ خالد الناصري، اعتبر هو بدوره أن الحكومة غير ملزمة في تقديم برنامجها، ورغم أنه لا يستند على الظهير إلا أن تصريحه يوحي بأنه يرى بعدم إلزامية التنصيب البرلماني للحكومة ما دامت قد حصلت على أغلبيتها[7].
الرأي الثاني: يذهب في اتجاه الزامية الحكومة في تقديم برنامجها أمام مجلس النواب، وحجتهم في ذلك هو التعيين الملكي الذي يسستبعه التنصيب البرلماني حسب منظوق الفصل 88 من الدستور[8]، إضافة إلى استنادهم على البلاغ الصادر من الديوان الملكي والذي يتحدث عن حكومة جديدة وليس تعديل حكومي.
ونحن بدورنا نذهب في الاتجاه الثاني، في كون التعيين الملكي يستتبعه تقديم البرنامج الحكومي امام البرلمان، ما دام الأمر يتعلق بإعادة بناء الأغلبية، وليس الأمر هنا يتوقف عن مجرد مفاهيم فقط كون الحكومة جديدة أم أن الأمر مجرد تعديل وفقط، حيث أن الحكومة في كل الأحوال ملزمة لكي نتال التصيب البرلماني بعرض برنامجها لكي يتم التصويت عليه في مجلس النواب.
لأن الأمر يتعلق هنا بالأغلبية كما قلنا سابقا، ولا يمكن أن يسري البرنامج الذي طالما كان قد حظي بأغلبية الأصوات، طيلة مدة ولاية الحكومة، لأن الفصل 88 جاء مقيدا للفصل 47 من الدستور بناء على قاعد النص الخاص يقيد النص العام ، بدون أن يضع أية شروط، لأن المشرع عندما يريد أن يقصد شيئا فهو يقصده مباشرة، فلو كان الحديث في الفصل 88 عن حكومة جديدة تنبثق عن انتخابات جديدة لكان قد أكد على ذلك بصريح النص، فالنص الدستوري ينص على أنه بعد تعيين الملك لأعضاء الحكومة سواء جراء انتخابات جديدة أو جراء إجراء تعديل حكومي، تتقدم الحكومة بعرض برنامجها للحصول على ثقة مجلس النواب.
فهذه القراءة التي حاولنا أن نبين فيها إلزامية التنصيب، ليست قراءة جامدة –لأنه كما قلنا سابقا أي تفسير قد يحتمل الصواب بمثل ما قد يحتمل الخطأ-، بل حتى من زاوية أخلاقية، تدعيما وتكريسا لممارسات ترسخ الطابع البرلماني وبخصوصية مغربية متميزة، لأنه بالرجوع إلى التجربة المقارنة والبحث فيه، فربما لن نجد وقوع مثل هذا الحالة المغربية، المتعلقة بضرورة تقديم البرنامج الحكومي جراء تعديل الحكومة.
في ظل التجارب الدستورية السابقة، خصوصا بعد التعديل الدستوري لسنة 1996، انقسم الرأي في الفقه الدستوري المغربي في مسألة التنصيب بمناسبة تقديم البرنامج الحكومي، إلى اتجاهين، الاتجاه الأول وهو الذي يعتبر أن الحكومة تعتبر قائمة الذات بمجرد تعيينها من طرف الملك وهو الأساس الدستوري لمسؤولية الحكومة أمام الملك وبالتالي فالتنصيب أحادي، أما الاتجاه الثاني وهو الذي يعتبر ان الحكومة لا يمكن أن تباشر أعمالها بعد تعيينها من طرف الملك إلا بعد حصولها على ثقة مجلس النواب بالمعبر عنها بالأغلبية المطلقة، فالرفض أو الموافقة هما الأساس الدستوري لمسؤولية الحكومة أمام مجلس النواب، وبالتالي فتنصيب الحكومة هو تنصيب مزدوج.
وإذا كان هذا النقاش شرعيا في ظل الدساتير السابقة، فإن ذلك قد أغنى الساحة الفقهية المغربية بأفكار وآراء من الممكن أن تساعد وتساهم في بلورة ممارسة دستورية وسياسية أساسها انبثاق الحكومة عن أغلبية برلمانية تدعيما وتقوية للطابع البرلماني للنظام السياسي المغربي، وهو ما حدث بالفعل مع دخول دستور 2011، حيز التنفيذ، بحيث سيحسم نهائيا في الأمر عن طريق التقعيد الدستوري ليجعل من مسألة التنصيب البرلماني أمر لا محيد عنه، وهو ما ينسجم و الممارسة الديمقراطية في الأنظمة البرلمانية الحديثة، التي تكون فيها الحكومة منبثقة من الأغلبية.
وإذا كنا فيما سبق قد وضعنا الأسس الدستورية لدعم أطروحة التنصيب البرلماني جراء التعديل الحكومي، وما دام المؤيدين لعدم إلزامية الحكومة بتقديم برنامجها في الحالة التي نحن بصدد الحديث عنها لم يؤسسوا بما فيه الكفاية دستوريا لموقفهم، فهل فعلا الدستور المغربي، يخلوا من جواب على هذه الحالة؟
ثالثا: الدستور وعدم إلزامية الحكومة المعدلة في تقديم برنامجها
إن التمعن في النص الدستوري، وقراءة قراءة تجعل منه كتلة نصية واحدة متجانسة ومتراصة، توحي بأن رئيس الحكومة، دعما وتقوية للمركز الدستوري الذي أصبح يحتله بموجب نصوص دستور 2011، غير ملزم بعرض البرنامج الحكومي من جديد. ولتبسيط هذه الرؤية سنحاول أن نتناولها على الشكل التالي:
قراءة فقرات الفصل 47 من الدستور في ترابطها توضح أن رئيس الحكومة يشكل عنصر مركزي فيها، وذلك كالآتي:
أن الملك يعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها.
الإعفاء الملكي لأعضاء الحكومة مقرون بالاستشارة القبلية لرئيسها.
حق رئيس الحكومة إعفاء أعضاء الحكومة بمبادرة منه.
د- استقالة عضو أو اكثر من أعضاء الحكومة لا يتم مباشرة أمام الملك، بل من خلال رئيس الحكومة.
ه- استقالة رئيس الحكومة تؤدي إلى إعفاء الحكومة بكاملها.
الفصل 88 من الدستور هو بدوره يمكن أن يبرر عدم إلزامية الحكومة المعدلة بتقديم برنامجها، بحيث أن ذات الفصل رغم أنه لا يشير إلى الأزمنة التي يمكن أن تنال فيها الحكومة تنصيبها، فإنه يمكن أن يؤكد بأن التنصيب البرلماني يتم بمجرد إعلان التشكيلة الحكومية الجديدة بعد الانتخابات، وليس جراء إجراء تعديل حكومي، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، ما دام أن رئيس الحكومة هو الذي يتحمل مسؤولية الحكومة بكاملها، فإن العبارة فإن العبارة الواردة في الفصل 88 من الدستور “…يتقدم رئيس الحكومة أمام مجلسي البرلمان مجتمعين، ويعرض البرنامج الذي يعتزم تطبيقه”، تفيد بأن أعضاء الحكومة معفيين من هذا الإجراء، وهو ما يتماشى مع تقوية دور رئيس الحكومة في الدستور الجديد، لأن الحصول على ثقة البرلمان في المرحلة الأولى تتعلق برئيس الحكومة وحده وفي إطار التضامن الحكومي، وذلك من خلال التصويت بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب لصالح البرنامج الحكومي. وعدم حصول رئيس الحكومة على هذه الأغلبية، فإن المسؤولية يتحملها هو وحده، لأنه بسقوط رئيس الحكومة تسقط الحكومة برمتها، من الناحية المنطقية. لكن إذا ما تعمقنا في النص الدستوري قد يفيد الأمر عكس ذلك، أي أنه في حالة التصويت بالأغلبية المطلقة ضد البرنامج الحكومي، فإن ذلك لا يؤدي إلى سقوط الحكومة، كيف ذلك؟
ينص الفصل 88 من الدستور في فقرته الأخيرة على ما يلي:” تعتبر الحكومة منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب المعبر عنها بتصويت بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم، لصالح البرنامج الحكومي”، لكن هذا النص يفتح الباب للتفسير المرن عندما تغيب فيه تبعات وآثار عدم الحصول على هذه الأغلبية المطلقة أو في حالة التصويت بالأغلبية المطلقة ضد البرنامج الحكومي؟
إذا كان الدستور 1996 واضحا في الآثار المترتبة عن عدم منح الثقة للحكومة في برنامجها الحكومي ، والمتمثلة في تقديم الحكومة لاستقالتها الجماعية أمام جلالة الملك عملا بمقتضيات الفصل 75 من ذات الدستور، فإن الفصل 88 من الدستور المراجع لسنة 2011 لم يورد مقتضيات واضحة في هذا الخصوص، ولم يشر إلى أية إمكانية للاستقالة الجماعية للحكومة في حالة التصويت بالرفض على برنامجها الحكومي، فالفقرة الثانية من الفصل 88 اكتفت بتحديد نصاب التصويت، لصالح البرنامج الحكومي.
ولو حاولنا تقريب الفصل 88 من الفصل 103، سيكون جوابنا هو عدم وجود أية صلة ما بين ما هو منصوص عليه في مسطرة البرنامج الحكومي وبين ما هو مقرر بشأن التصريحات الحكومية ورفض النصوص القانونية المنصوص عليها في الفصل 103 من الدستور الجديد، نظرا لكون إجراءات الفصل 88 من الدستور تتحدث عن شرط الأغلبية المطلقة للموافقة على البرنامج الحكومي، في حين نجد أن الإجراءات المسطرية المقررة في الفصل 103 من الدستور تتحدث عن شرط الأغلبية المطلقة من اجل رفض التصريح الحكومي أو التصويت بالرفض على نص قانون. الأمر الذي يفيد أن الاستقالة الجماعية للحكومة أمام جلالة الملك تتقرر إذا ما تم سحب الثقة من الحكومة إعمالا لمسطرة الفصل 103 وليس في شأن التصويت على البرنامج الحكومي طبقا للفصل 88، وذلك خلافا لما كان ينص عليه دستور 1996، حيث الترابط الواضح بين الفصل 60 منه[9] والفصل 75[10].
وعلى هذا الأساس أصبح التصويت على البرنامج الحكومي في ضوء المستجدات الدستورية الأخيرة لا يترتب عنه آثار استقالة الحكومة، ولكن في مقابل ذالك أصبحت إمكانية إجبار الحكومة على إعادة صياغة برنامجها الحكومي قائمة وممكن الحدوث بدون أي تعقيدات مسطرية، ولعل هذا يفتح المجال أمام مجلس النواب بأن يكون فاعلا أساسيا في مجال إعداد السياسات العامة للدولة.
المؤشر الأخير الذي يمكن أن يؤدي بنا إلى القول بعدم إلزامية تنصيب الحكومة المعدلة، هو منطوق الفصول 89 و 90 و92 و93 من الدستور.إن ربط هذه الفصول فيما بينها يمكن أن تفيد بأن رئيس الحكومة غير ملزم بتقديم برنامجه مرة ثانية لينال التنصيب البرلماني، فرئيس الحكومة هو المسؤول عن حكومته وعن تصرفات الوزراء، وهكذا نجد أن:
الفصل 89 ينص في فقرته الثانية على أن:” تعمل الحكومة، تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي”، وبالتالي إذا لم يرضى أعضاء في التحالف الحكومي على هذا البرنامج بعدما كانوا قد صوتوا عليه بالإيجاب، فهناك مخرجين، الأول يتعلق بإعطائهم الحق في مجلس الحكومة بأن يقترحوا ما يرونه مناسبا لكي يتم إدراجه في جدول الأعمال، وما دام رئيس الحكومة هو الذي له القرار النهائي، فهو غير ملزم بالأخذ بها. المخرج الثاني، إما أن يقوموا بالخروج عن مضامين البرنامج الحكومي في إطار القطاعات التي يسيرونها، وهذا أمر مستبعد ما دام رئيس الحكومة يظل مراقبا ومسؤولا، عن ما يصدرونه من قرارات، وهو ما يفتح له الباب لإعفائهم من مهامهم. وإما أن يقدموا استقالتهم، ويباشر رئيس الحكومة في اتخاذ الإجراءات الدستورية اللازمة.
المقررات التي يصدرها رئيس الحكومة يوقعها بالعطف الوزراء المكلفين بتنفيذها، وهم بذلك يتحملون المسؤولية عن تنفيذها.
ج- رئاسة رئيس الحكومة للمجلس الحكومي دليل واضح على مركزه ومكانته في الدستور.
د- مسؤولية الوزراء عن تنفيذ السياسة الحكومية، المسندة إليهم من طرف رئيس الحكومة، ووجوب إطلاع المجلس الحكومي عن أدائهم في ذلك.
يشكل كل ما أسلفنا ذكره، مؤشرات دالة على أن الحكومة لا تتحمل مسؤولية مجزأة أمام البرلمان، بل يعتبر رئيس الحكومة المركز الرئيسي في كل التصرفات، وبالتالي فإن الانشقاق داخل صفوف التحالف الحكومي، لا يؤدي بالضرورة، بعد إعادة تشكيل الأغلبية إلى تقديم البرنامج الحكومي امام البرلمان لينصب الحكومة مرة ثانية.
وعطفا على كل ما سلف، يمكننا أن نسجل النتائج التالية:
تفسير الدستور يؤدي بنا إلى النتيجتين معا.
فمن جهة إلزامية الحكومة في تقديم برنامجها نسجل ما يلي:
أن وضوح النص الدستوري يستبعد التأويلات السياسية له.
قراءة الفصل 47 لا يمكن أن نفصلها عن ما ينص عليه الفصل 88 من الدستور.
أن إجراء التعديل في الحكومة لا يحول دون تقديم البرنامج الحكومي، ما دام الأمر يتعلق بالأغلبية، وبالتالي يعني البحث عن سبل الاستمرارية، وهو الامر الذي يستدعي كذلك إعادة صياغة بنود البرنامج الحكومي من جديد وعرضه للتصويت داخل مجلس النواب.
تقديم البرنامج الحكومي ضرورة لتدعيم أخلاقيات العلاقة بين الحكومة والبرلمان، وتكرسا للطابع البرلماني للنظام الدستوري المغربي
ومن جهة عدم إلزامية الحكومة في تقديم برنامجها، يتضح ما يلي:
هو القراءة المكتملة لنصوص الدستور ككتلة نصية واحدة تؤدي عكس نتائج قراءة الفصل 47 و88 من الدستور.
غياب الآثار القانونية في حالة التصويت ضد البرنامج الحكومي.
مركز رئيس الحكومة في الدستور الجديد يحول دون تقديمه للبرنامج الحكومي مرة ثانية.
وما دام الدستور يعطي لنا تفسيرين، بالإضافة إلى تضارب التفسيرات لنص الدستور بين التفسير الحكومي الذي يرى بأن الحكومة منصبة قبليا، والتفسير البرلماني الذي يرى بضرورة استكمال الحكومة لوجودها القانوني، فإن الأمر يستدعي توفر هيئة خاصة لتفسير الدستور لتجاوز كل الخلافات التي يمكن أن تحدث بين المؤسسات، وتفاديا للتفسيرات الخاطئة للدستور.
(محاماه نت)