دراسات قانونية
مراسم عقد الجلسات في الدعوى العمومية (بحث قانوني)
من إعداد: إبراهيم البعلي
خريج الماستر المتخصص في المهن القضائية والقانونية
يشكل الحق في المحاكمة العادلة أحد أهم الأعمدة لدولة الحق والقانون، ومفهوم المحاكمة العادلة يحيل على أن المحاكمة تمت وفق الضوابط والإجراءات القانونية، و تمر المحاكمة العادلة بثلات مراحل أساسية، وهي البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي[1] ثم مرحلة المحاكمة، أي مرحلة عرض النزاع على المحكمة، هذه الأخيرة تعتبر أهم مرحلة في المحاكمة العادلة، حيث تصدر من خلالها المحكمة قرارها بالإدانة أو البراءة، إذ تحكمها مجموعة من القواعد والإجراءات، حيث يتمتع رئيس هيئة الحكم بصلاحية ضبط وتنظيم الجلسة، ويمنع كل ما من شأنه أن يعرقل سير المحاكمة، ويتخذ مختلف التدابير المتطلبة قانونا لحسن سيرها، من خلال تأكده من حضور أطراف الدعوى، وصيانة حقوقهم في الدفاع، واستنطاق المتهم والإستماع للشهود والخبراء والتراجمة، وعرض مختلف أدوات ووسائل الإقتناع، من أجل التهييئ لمرحلة عرض الأطراف لدفوعاتهم وردودهم على أوجه دفاع بعضهم، كل هذا بغية ضمان وتأمين سير الجلسة في ظروف شفافة وسليمة.
وفي كل الأحوال تبقى دراسة الدعوى من قبل هيئة الحكم منصبة على كل من البحث والمناقشات ثم المداولة، ويجب احترام كافة النصوص القانونية المؤطرة لانعقاد هيئة الحكم و الإجراءات التي تسلكها، خلال نظرها في الدعوى المعروضة عليها، ذلك أن إغفال بعض الإجراءات قد يرتب بطلان انعقاد الجلسة وبطلان الحكم[2] أو القرار[3] الصادر فيها، هذا ما يستدعي تسليط الضوء على مراسم عقد الجلسات في الدعوى العمومية، مع الإشارة إلى أهم المسائل التي قد ينتج عن إغفالها جزاء البطلان.
من هنا يطرح السؤال حول كيفية عقد الجلسات العادية في الدعوى العمومية ؟
وما هي أهم المراسم والإجراءات المتخذة للبت فيها ؟
في سبيل الإجابة عن هذا السؤال، و من أجل تيسير الفهم على القارئ، يتعين معالجة الموضوع من خلال مطلبين:
المطلب الأول: مراسم عقد الجلسات في الدعوى العمومية أمام المحاكم العادية.
المطلب الثاني: نموذج تطبيقي لمحاكمة في قضايا الجنايات معروضة على غرفة الجنايات الإبتدائية.
مميزات الأحكام والأوامر القضائية في قانون المسطرة المدنية المغربي
المطلب الأول: مراسم عقد الجلسات في الدعوى العمومية أمام المحاكم العادية.
سواء كانت المحكمة إبتدائية أو استئنافية فإن هناك مراسم وأعراف وتقاليد يتعين احترامها لإنعقاد الجلسات القضائية للبت في القضايا المعروضة عليها، وإن أول إجراء يقع قبل ولوج الهيئة إلى قاعة الجلسات، هو دق الجرس، إذ يعلن العون عن دخول الهيئة وينادي “محكمة”.
ودخول الهيئة المشكلة من الرئيس والمستشارين إذا كان القضاء جماعيا[4]، ووكيل الملك[5] إذا تعلق الأمر بقضية معروضة على محكمة ابتدائية، أو الوكيل العام للملك[6] إذا كانت القضية من اختصاص محكمة الإستئناف، وكاتب الضبط، دخول هذه الهيأة يخضع لترتيب معين، ذلك أنه يجب أن تلج الهيئة قاعة الجلسات وفق أدبيات معينة، حيث يكون أول من يلج القاعة رئيس الجلسة ويليه السادة المستشارين و ممثل النيابة العامة، ثم كاتب الجلسة أي كاتب الضبط.
تصل الهيئة إلى مكان مقاعدها فيأخذ الرئيس نظرة على قاعة الجلسات ليطمئن على جوها ويتأكد من علنيتها، باعتباره الساهر على تنظيم الجلسات وضبط النظام بها، فهو المكلف بتسيير البحث والمناقشات حسب المادة 298 من قانون المسطرة الجنائية، ثم يأذن بالجلوس فتجلس هيئة الحكم هي الأولى، وبعدها ممثل النيابة العامة، ثم كاتب الجلسة، ويجلس على يمين رئيس الجلسة أقدم القضاة الأعلى درجة[7]، ويبقى المتقاضون وهيئة الدفاع وبقية الحضور واقفين إلى أن تأخذ الهيئة مقاعدها احتراما لها.
بعدها يفتتح الرئيس الجلسة بقوله: “باسم جلالة الملك وطبقا للقانون”، ثم ينطق بالأحكام أو القرارات في القضايا التي كانت محجوزة للتأمل[8] أو المداولة[9]، ليتم بعدها بحث ومناقشة القضايا المعروضة على الجلسة حسب ترتيبها في جدول الجلسات.
عند فتح ملف قضية ما معروضة على هذه الجلسة، ينادي الرئيس على المتهم فيتم إحضاره أو حضوره ويبين الوضعية التي حضر فيها هل هي حالة اعتقال أو سراح، ويمثل المتهم دائما حرا ومرفوقا بحراس لمنعه من الهرب، لأن مبدأ الحضورية من المبادئ الأساسية التي ينبني عليها نظام المحاكمة الجنائية في القانون المغربي، حيث يخول للأطراف مواجهة بعضهم البعض، و سماع مرافعة ممثل الحق العام والرد عليه وتفنيد دعواه[10]، ثم ينادي على كل من دفاع المتهم[11] وفي حالة غيابه يعين من يقوم مقامه إذا كانت القضية معروضة على غرفة الجنايات الإبتدائية، والطرف المدني ودفاعه فيدلي هذا الأخير بما يفيد أداء القسط الجزافي[12] وبما يفيد صفة موكله كمطالب بالحق المدني، و بعد أن يتأكد من حضور الأطراف يقوم بالتحقق من هوية المتهم نظرا لتعدد الموضوعين بالقاعات المخصصة لذلك بالمحكمة أو بمفوضية الشرطة، وحتى لا يكون أي خطأ في إحضار متهم غير المتهم المعني بالقضية محل البحث والمناقشة، ويشمل التحقق من الهوية ذكر الإسم الشخصي والعائلي للمتهم واسم الأب والأم والسن والحالة العائلية والعنوان وكذا المهنة، وما إذا كان ذو سوابق قضائية أم لا، بعدها يشير الرئيس إلى أن هوية المتهم مطابقة لما جاء في محاضر ضباط الشرطة القضائية.
بعد استكمال عملية التحقق من هوية المتهم، يستدعي الرئيس الشهود فيتم إحضارهم بواسطة ضابط شرطة قضائية أو عون قوة عمومية أو عون قضائي، يمكن أن يأخذ بطاقة التعريف الوطنية لكل من الشهود فيتحقق منها، ويناولها لكاتب الجلسة ليحتفظ بها إلى آخر الجلسة، ويأمر بإخراج الشهود من قاعة الجلسات إلى حين المناداة عليهم، وهذا فيه ضمانة حقيقية لسير المحاكمة العادلة، ذلك أن عدم انسحاب الشهود سيجعلهم يستمعون لأقوال المتهم والطرف المدني وهو ما يمكن أن يؤثر على شهادتهم، فكان من اللازم إبعادهم عن ما يروج في الجلسة من أجل المحافظة على حيادهم وحقيقة شهادتهم، كما يتم المناداة على التراجمة والخبراء إن تطلبت القضية ذلك.
وقبل أن يبدأ الرئيس بالبحث في القضية باستنطاق المتهم، على السادة دفاع المتهم ودفاع الطرف المدني تقديم الدفوع الشكلية، وإلا سقط الحق في إثارتها من بعد، ومن بين الدفوع الشكلية نجد، عدم إشعار المشبوه فيه بحقوقه أثناء وضعه تحت تدابير الحراسة النظرية من طرف ضباط الشرطة القضائية، كحقه في التزام الصمت[13] وحقه في الإتصال بمحاميه أو أقاربه، وكذا تجاوز المدة القانونية للوضع تحت الحراسة النظرية، وغيرها من الدفوع، وفي حالة إثارتها من طرف الدفاع بعد موافقة الرئيس، يعطي الكلمة لممثل النيابة العامة للرد عن الدفع الشكلي فيقدم ردوده حول الدفع وملتمساته بشأنه، وقبل البت في الدفع يعيد الكلمة للدفاع الذي أثار الدفع من أجل التعقيب على رد ممثل النيابة العامة، وبعد تعقيبه يعطى التعقيب أيضا للسيد ممثل النيابة العامة، ليتم الحسم في الأمر بالحكم فيه، مداولة بين أعضاء الهيئة، إما جلسة[14] أو بعد رفع الجلسة والانسحاب لقاعة المداولة.
بعد البت في الدفوع الشكلية يغلق باب تقديمها، ويشرع الرئيس في استنطاق المتهم ويخبره بالتهمة المنسوبة إليه، ويمكنه طرح جميع الأسئلة التي يراها ضرورية للبحث، من أجل تكوين قناعة وجدانية وإصدار حكم عادل وداخل أجل معقول، كما يخول له القانون إصدار الأمر بتلاوة محضر من المحاضر المنجزة من طرف الشرطة القضائية، سواء تعلقت بالمعاينة أو التفتيش أو الحجز وكذا تقارير الخبراء، ومحضر الاستنطاق المنجز من قبل قاضي التحقيق، فسلطة الرئيس في هذا المجال واسعة حيث يمكنه إصدار أمر بتلاوة أي وثيقة من شأنها إظهار وكشف الحقيقة، وتقديم جميع أدوات الاقتناع، وهذا ما يعطي للمحكمة فرصة الفهم الدقيق والمستنير والوعي العميق بخبايا النازلة.
وعقب الانتهاء من استنطاق المتهم من طرف رئيس الجلسة، يفتح المجال لمحامي المجتمع، ممثل النيابة العامة من أجل طرح الأسئلة على المتهم، غير أن طرح هذه الأسئلة يكون عن طريق الرئيس أو بإذن منه، ولا تطرح في شكل خطاب مباشر للمتهم، بل توجه للرئيس وهو من يأذن للمتهم أن يجيب، وفي حالة لم يسمع المتهم السؤال يمكن إعادته، وعند عدم فهمه يتم شرحه وتفصيله حتى يعي فحواه ومضمونه، وبعدما ينتهي من طرح الأسئلة، يفسح الرئيس المجال لحاملي البذلة السوداء من أجل تقديم تساؤلاتهم، ويبدأ بدفاع الطرف المدني، هذا الأخير يقدم كل الأسئلة التي يراها مناسبة وتسير في صالح المطالب بالحق المدني، لتعطى الصلاحية بعدها لدفاع المتهم الذي يطرح الأسئلة التي من الممكن أن تساهم في الحكم بالبراءة، أو التمتيع بظروف التخفيف، فيجيب عنها المتهم.
وينتقل الرئيس للمناداة على أحد الشهود[15] ليدخل قاعة الجلسات، و لا يمكن للرئيس أن يستمع إلى جميع الشهود في نفس الوقت، بل يتعين فصلهم عن بعضهم للاستماع إليهم فرادى واحدا تلو الآخر، ثم يتأكد من هويته عن طريق طرح أسئلة تتعلق بالاسم العائلي والشخصي والسن والحالة العائلية والعنوان والمهنة والسوابق القضائية، ثم يسأله عن ما إذا كانت هناك عداوة أو قرابة أو مصاهرة أو تبعية بينه وبين أطراف الدعوى، وبعد التأكد من ذلك يذكر الشاهد بعقوبة شهادة الزور، ومدى جسامتها في حكم الشرع والقانون، ويأمره بتأدية اليمين القانونية المنصوص عليها في المادة 123 من قانون المسطرة الجنائية التي جاء فيها:
” يؤدي كل شاهد بعد ذلك اليمين حسب الصيغة التالية:
أقسم بالله العظيم أن أشهد بدون حقد ولا خوف، وأن أقول الحق كل الحق وأن لا أشهد إلا بالحق”.
وفي حالة ما إذا أغفل الرئيس هذا الإجراء يعرض حكمه للبطلان بنص المادة 331 من ق.م.ج، وبعد أداء الشاهد لليمين يدلي بشهادته[16] في النازلة محل النظر من قبل المحكمة، ويسأل الرئيس المتهم عن ردوده على ما تم الإدلاء به من طرف الشاهد، كما يمكن للرئيس أن يوجه أسئلة للشاهد من أجل التعمق أكثر في خبايا النازلة المعروضة، ويمنح هذه الصلاحية لكل من هيئة الدفاع وممثل النيابة العامة، وبعد أن يجيب الشاهد على جميع الأسئلة يطلب منه الرئيس بأن يبقى في قاعة الجلسات إلى أن تنتهي المناقشات أو المغادرة إن ارتأى ذلك، هذه المسطرة تطبق مع باقي الشهود إذا تعددوا، وفي حالة ما إذا انتاب الهيئة شك حول صحة الشهادة أو ظهور قرائن على زورية شهادة أحد الشهود، يذكر الشاهد بقول الحقيقة قبل أن تختتم المناقشات لأن أقواله ستصير نهائية، وسيتحمل عواقب شهادته في حالة تحققت حالة الزور في شهادته.
وقد خول المشرع للرئيس أثناء الاستماع للشهود أو بعده أن يعرض جميع أدوات الاقتناع على المتهم أو الشهود من أجل التعرف عليها، كأن تكون هذه الأداة عبارة عن سلاح أبيض تم حجزه بمكان ارتكاب الجريمة، أو هاتف تمت سرقته وجد بحوزة المتهم، أو أي أداة من شأنها أن توصل الهيئة للاقتناع الصميم إما بالإدانة أو البراءة.
إلى هنا يقفل باب البحث ويفتح باب آخر لدراسة القضية، وهو ما يسمى بباب المناقشات، والذي عالجه المشرع في المادة 306 من قانون المسطرة الجنائية حيث جاء فيها:
“تجري المناقشات بعد انتهاء البحث، ما لم يتقرر خلاف ذلك بمقتضى قانون خاص، أو بأمر من الرئيس حسب الترتيب الآتي:
–يقدم الطرف المدني إن وجد طلبه بالتعويض عن الضرر.
-تقدم النيابة العامة ملتمساتها.
-يعرض المتهم دفاعه وكذا المسؤول عن الحقوق المدنية عند الإقتضاء.
-يكون المتهم آخر من يتكلم.
يعلن الرئيس بعد ذلك عن انتهاء المناقشات”.
عملا بهذا النص تجري المناقشات بتقديم كل طرف لدفوعاته الموضوعية بشأن النازلة، إذ يعطي الرئيس الكلمة للطرف المدني أولا، حيث يقوم هذا الأخير بعرض المطالب المدنية للطرف المدني المتضرر من الجريمة، وغالبا ما تكون المطالب عبارة عن تعويض مادي للحكم به لفائدة المتضرر جبرا للضرر الذي نال منه نتيجة الجريمة، كما يقوم بتوضيح مدى جسامة وحجم الضرر المادي و المعنوي الذي أصاب الضحية أو ذويه، أما في الشق الجنائي أو الدعوى العمومية فيكتفي دفاع الطرف المدني بالقول بمتابعة المتهم وفق ملتمسات ممثل النيابة العامة.
ثم ينتقل الرئيس لإعطاء الكلمة لممثل الحق العام – وكيل الملك أو الوكيل العام- وذلك ليقوم بالتوقف على النصوص المجرمة للفعل الذي أتاه المتهم، وكذا أركان الجريمة المرتكبة من ركن مادي ومعنوي، ومدى توفرهما في النازلة، حيث يقوم برصد عناصر الركن المادي من فعل الاعتداء ونتيجة إجرامية وعلاقة سببية بينهما، وعلى مستوى الركن المعنوي يناقش مدى توافر القصدين العام والخاص، كما يحاول ما أمكن أن يدحض دفوعات المتهم، كأن يتمسك المتهم بأنه كان في حالة دفاع شرعي، مما يجعل ممثل النيابة العامة يسعى لمناقشة شروط حالة الدفاع الشرعي والقول بتوافرها أو عدم توافرها، ليبقى له في الأخير حق تقديم ملتمسات من أجل تطبيق نص القانون على حقيقة الواقع.
ويمنح الكلمة بعد هذا إلى دفاع المتهم، من أجل تقديم طلباته أيضا، والتي في الغالب الأعم ما يتم التركيز فيها على مناقشة أركان الجريمة وبالخصوص محاولة نفي القصد الجنائي، من أجل تبرئته من الفعل إن كان يؤمن ببراءته، وذكر ظروف ارتكاب الجريمة –كأن تكون نتيجة استفزاز- وكذا الظروف الإجتماعية للمتهم للاستفادة من ظروف التخفيف إن كانت الجريمة ثابتة في حقه.
وبمجرد ما ينتهي كل الأطراف من تقديم مختلف الطلبات والملتمسات، يعطي الرئيس الكلمة للمتهم ليضيف ما يريد إضافته، لأنه يكون آخر من يتكلم حسب المادة 306 من قانون المسطرة الجنائية، بعدها يأمر الرئيس بإخراج المتهم من قاعة الجلسات، فيستشير الرئيس مع المستشارين ويعلن عن توقيف الجلسة ويرفعها بقوله:
“باسم جلالة الملك وطبقا للقانون رفعت الجلسة للمداولة”، وهنا عليه أن يحدد ما إذا كانت سترفع الجلسة للمداولة لآخر الجلسة، أم لتاريخ تحدده الهيئة، فإذا تم تحديد المداولة لآخر الجلسة يذهب أعضاء الهيئة إلى قاعة مخصصة لهذا الغرض[17] من أجل تداول الحديث حول مدى إمكانية إسناد الفعل الجرمي للمتهم أم نفيه عنه، أو تمتيعه بظروف التخفيف أو التشديد، أو وقف تنفيذ العقوبة أو اتخاذ تدبير وقائي ما، وبعد استقرار الهيئة على قرار معين، تعود بنفس الطريقة التي دخلت بها أول مرة، ويفتتح الرئيس الجلسة باسم جلالة الملك وطبقا للقانون، ويأمر بإحضار المتهم ويتلو منطوق الحكم الذي استقر عليه نظر الهيئة، سواء بالإدانة أو البراءة أو تأجيل القضية لجلسة لاحقة أو اتخاذ إجراء تكميلي، وقرار الهيئة يضم شقين الأول يتعلق بالدعوى العمومية، أي الشق الجنائي من القضية وذلك إما بالإدانة[18] أو البراءة[19]، بينما الشق الثاني يكون مخصصا للدعوى المدنية التابعة إن كان لها محل، ويتم فيه النطق بالحكم القاضي بتعويض المتضرر أي الطرف المدني، بعد تلاوة منطوق القرار، يشعر الرئيس المتهم بحقه في ممارسة الطعن بالاستئناف في المقرر داخل أجل 10 أيام[20]، ويكون الحكم أو القرار الصادر في القضية باسم جميع أعضاء الهيئة، ولا يمكن أبدا إسناده إلى واحد من أعضائها.
هذا في المسطرة الحضورية أي حالة افتراض مثول الشخص المتهم أمام غرفة الجنايات الإبتدائية، وهناك حالة أخرى يستدعى فيها المتهم فيمتنع عن الحضور، ولا تتمكن عناصر الشرطة من إحضاره بناء على إصدار مذكرة بحث في حقه وأمر بإلقاء القبض، في هذه الحالة يقوم رئيس غرفة الجنايات الإبتدائية – أو ينتدب مستشارا للقيام بهذا الإجراء- بإصدار أمر بإجراء مسطرة غيابية، يضمنه ضرورة حضور[21] المتهم داخل أجل 8 أيام، تحت طائلة البت في متابعته وتوقيف تمتعه بحقوقه المدنية، ويذكر فيه هويته الكاملة وصفاته ونوع الجناية المتابع من أجلها والأمر بإلقاء القبض عليه، ويتم تعليق الأمر في باب مسكنه وإن لم يتم التعرف عليه، يعلق بباب المحكمة الجنائية المختصة بالنظر في القضية، وترسل نسخة منه لمدير الأملاك المخزنية التابع له آخر مسكن للمتهم[22]، وبعد مرور 8 أيام تبت غرفة الجنايات الإبتدائية في قضيته ولو دون حضوره ودون حضور دفاعه، وهذا فيه تضييق على حقوق الدفاع التي يتمتع بها المتهم من أجل إجباره على المثول أمام المحكمة ومحاكمته في إطار المسطرة الحضورية.
بمجرد ما يأتي اليوم المحدد في الأمر بإجراء المسطرة الغيابية تدخل هيئة الحكم قاعة الجلسات بنفس الطريقة التي سبق تناولها كما هو شأن باقي القضايا، ثم يتأكد الرئيس من مبدأ علنية الجلسة، يدعو كاتب الجلسة لتلاوة أمر إجراء المحاكمة غيابيا وقرار الإحالة، ثم يستمع إلى الشهود إلا إذا تعذر ذلك، كما تعطى الكلمة لدفاع الطرف المدني إن كان طرفا، وإلى ملتمسات ممثل النيابة العامة، فيتم حجز القضية للمداولة وفق الإجراءات العادية، وبعدما يستقر نظر الهيئة على الحكم في القضية تعود لقاعة الجلسات وتنطق بالقرار المتخذ في حق المتهم الغائب، هذا القرار الذي لا يقبل الطعن بأي طريق من طرقه العادية منها أو غير العادية، ويتم نشره بالجريدة الرسمية بمبادرة من النيابة العامة ويبلغ إلى إدارة الأملاك المخزنية، ويترتب عنه تجريد المتهم من الحقوق المدنية منذ صدوره إلى حين انتهاء مدة العقوبة المحكوم بها ما لم يقدم نفسه أو يتم القبض عليه.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى دور كاتب الجلسة، هذا الأخير الذي يلعب دورا جد مهم، إذ يشتغل في صمت يكتفي بالاستماع لما يقال وما يثار بالجلسة، يشرع في تحرير محضر حول القضية منذ دخول الهيئة إلى أن يتم الفصل فيها، يلخص أهم ما راج في القضية من أسئلة وأجوبة موجهة للمتهم، وحضور الشهود والخبراء والتراجمة وتصريحاتهم، ومرافعات السادة المحامين والسيد ممثل النيابة العامة، وتضمينه أهم ملتمساتهم، ومنطوق الحكم الصادر عن الهيئة، ويعتبر المحضر المنجز من قبل كاتب الجلسة وثيقة رسمية لا يمكن الطعن فيها إلا بالزور، وإن حضور كاتب الجلسة ضروري تحت طائلة بطلان انعقاد الجلسة والحكم الصادر فيها.
ويجب التأكيد على أن العلاقة التي تطبع بين مؤسسة النيابة العامة وهيئة الحكم وهيئة الدفاع وكتابة الضبط، يجب أن تكون علاقة ود واحترام كل مؤسسة لمكوناتها، ومكونات الهيئة الأخرى، دون تطاول مؤسسة على أخرى، لأن هاته المؤسسات بجميعها تعتبر أسرة واحدة تسمى أسرة القضاء، و بتظافر مجهوداتها تنتج العدالة، وتتحقق الغاية من الولوجية للمحاكم وهي إصدار حكم عادل وداخل أجل معقول.
بناءا على تم تناوله أعلاه، يتعين الانتقال من التنظير إلى التنزيل والتطبيق، وهو ما يمكن ترجمته على مستوى هذه المحاكمة، التي تتلخص وقائعها فيما يلي:
على الساعة 11 من يوم 26 يناير 2018 تقدم المسمى عمر العلمي لمفوضية شرطة مدينة الرباط، ووضع سكينا متوسط الحجم ذو قبضة من حديد وخشب، رهن إشارة احد ضباط الشرطة القضائية، وأفاد أنه قتل صديقا له يسمى: محمد القاديري، وقام بلفه داخل كيس بلاستيك ووضعه بغرفة في سطح المنزل الذي يشتغل فيه، حيث كان ينوي الهرب غير أن أحد أصدقائه يسمى: يونس رزقي أقنعه بتسليم نفسه، ويرجع سبب القتل، إلى أن المتهم كان يحب فتاة اسمها: فدوى الإدريسي وكلما ذكر قصة حبه لصديقه كان يستهزئ به ويستفزه، وهو ما خلف له حقدا وبغضا تجاهه، الأمر الذي دفعه إلى الانتقام منه خصوصا بعدما امتنع عن مساعدته في إقامة علاقة مع الفتاة المذكورة[23].
(فيديو ) د.عبد الله درميش: شرح قانون المسطرة المدنية – قواعد الاختصاص- الدرس الأول.
المطلب الثاني: نموذج تطبيقي لمحاكمة في قضايا الجنايات معروضة على غرفة الجنايات
الإبتدائية
جريمة القتل العمد مع سبق الإصرار
باسم جلالة الملك وطبقا للقانون نعلن عن افتتاح الجلسة[24]
قضايا المناقشة ملف عدد 113/2018
المتهم: عمر العلمي، أحضر في حالة اعتقال وحضرت تؤازره الأستاذة حسناء جعفر، محامية بهيئة…: حاضرة السيد الرئيس.
ذوي حقوق الضحية: زيد القاديري، تخلف رغم التوصل، ينوب عنه الأستاذ محمد المثيوي، محام بهيئة…
حاضر السيد الرئيس وأدلي لكم بما يفيد أداء القسط الجزافي وما يفيد صفة موكلي كمطالب بالحق المدني.
الشاهد: يونس رزقي، بعد حضوره والاحتفاظ ببطاقته الوطنية، غادر القاعة إلى أن يتم المناداة عليه للإدلاء بشهادته.
بعد أن أصبحت القضية جاهزة للمناقشة، لاحظ السيد الوكيل العام للملك شخصا يأخذ صورا للمتهم ولقاعة المحكمة فأثار جريمة من جرائم الجلسات وطلب تقديم المعني للمحاكمة، وقد تعرف السيد الرئيس على هويته و استمع إليه وأكد المعني أنه لا يملك أي إذن باستعمال آلة التصوير داخل قاعة المحكمة وبعدها أعطيت الكلمة للسيد الوكيل العام فالتمس هذا الأخير تطبيق المادة 301 من ق.م.ج وبعد المداولة جلسة قررت المحكمة باسم جلالة الملك طبقا للقانون الحكم على المخالف المسمى سفيان الوكيلي بحجز آلة التصوير لفائدة الدولة ومغادرة قاعة المحكمة.
استأنفت أطوار الجلسة بدءا بالمتهم وذلك بالتأكد من هويته:
إسمك: عمر العلمي.
اسم الأب: محمد بن أحمد
اسم الأم : فاطمة بنت محمد
الســن: 28 سنة
الحالة العائلية: عازب
العنوان: شارع عبد الكريم الخطابي، رقم 50، الرباط.
المهنة : حارس عمارة.
السوابق قضائية: بدون.
هوية المتهم مطابقة لمحضر الضابطة القضائية.
الدفع الشكلي المثار من طرف هيئة دفاع المتهم.
” سيدي الرئيس قبل البدء في مناقشة أطوار هذه القضية اسمحوا لي أن أتقدم بدفع شكلي.
إن من بين الضمانات القانونية التي جاء بها الدستور المغربي وقانون المسطرة الجنائية الجديد و التي تهدف إلى تعزيز حقوق الدفاع، و تمتين الضمانات المخولة للمتهم، ما نصت عليه الفقرة الثالثة من الفصل 23 من الدستور وكرسته الفقرة الثانية من المادة 66 من القانون المذكور، هي حق المشتبه به في التزام الصمت.
وبرجوعكم إلى المحضر ستلاحظون أن محرره لم يقم بإشعار مؤازري بحقه في التزام الصمت.
ولذلك فإننا نلتمس منكم حفاظا على حقوق المتهم التي انتهكت التصريح ببطلان محضر الاستماع إليه، و لسيادتكم واسع النظر “.
رد السيد الوكيل العام للملك على الدفع الشكلي.
” السيد الرئيس المحترم السادة أعضاء الهيئة الموقرة:
لا يمكن التسليم بما أثاره دفاع المتهم في دفعه الشكلي لأنه غير صحيح، فالثابت من محضر الاستماع إلى المشبوه فيه خلال وضعه تحت الحراسة النظرية هو خلاف ما أثاره الدفاع، فالمتهم هو من قدم نفسه إلى مركز الشرطة واعترف بكل أفعاله الإجرامية، ووجهت له عدة أسئلة حول الجريمة وحول ظروف ارتكابها وقد أجاب عنها بالاعتراف، كما أن محكمة النقض هرم القضاء المغربي مستقرة على أن خرق أي إجراء مسطري دون حدوث ضرر لا يستوجب تقرير جزاء البطلان، وهكذا يعتبر الدفع الشكلي المثار غير منسجم ووقائع القضية.
وعليه فإننا نلتمس من مجلسكم الموقر رفض الدفع الشكلي ولكم واسع النظر”.
حكم المحكمة في الدفع الشكلي :
“باسم جلالة الملك وطبقا للقانون قررت المحكمة بعد المداولة جلسة رفض الدفع الشكلي مع الاستمرار في مناقشة القضية بدءا بالمتهم”
عمر العلمي: أنت متابع من قبل السيد قاضي التحقيق بهذه المحكمة بجريمة القتل العمد مع سبق الإصرار المنصوص عليها و على عقوبتها في الفصول 392 و 393 و 394 من القانون الجنائي.
الأسئلة التي وجهت للمتهم من قبل المحكمة:
ماذا تقول في المنسوب إليك؟
أين كنت يوم وقوع الجريمة؟
ماذا كنت تفعل بمعية الضحية في المنزل الذي تحرسه ليلة وقوع الجريمة؟
هل احتسيتم الخمر أنت والضحية ليلة وقوع الجريمة؟
لماذا قتلت الضحية؟
الأسئلة الموجهة للمتهم من قبل السيد الوكيل العام الملك:
ما هي الآلة التي استعملها في الاعتداء ؟
ما هو موضع الطعنات وعددها ؟
ما هو سبب احتفاظه بقنينة البنزين ؟
أسئلة دفاع المطالب بالحق المدني للمتهم:
هل كانت بينه وبين المجني عليه عداوة سابقة؟
أسئلة دفاع المتهم للمتهم:
كيف كانت علاقة مؤازري بالضحية ؟
وبعد استنطاق المتهم اعترف بما نسب إليه.
المناداة على الشاهد يونس رزقي:
إسمك: يونس رزقي.
اسم الأب: محمد بن محمد.
اسم الأم: عائشة بنت المدني.
الســن: 27 سنة.
الحالة العائلية: عازب.
العنوان: الحسيمة.
المهنة: صباغ.
السوابق قضائية: بدون.
بعد أن تم التأكد من عدم وجود أية عداوة أو خصومة أو قرابة أو مصاهرة أو تبعية بين الشاهد و أطراف النزاع، أدى الشاهد اليمين القانونية، ثم طرحت عليه مجموعة من الأسئلة:
الأسئلة التي وجهت للشاهد من قبل المحكمة:
ماذا تعرف عن النازلة؟
كيف عرفت أن المتهم قتل المجني عليه؟
هل أخبرك المتهم أنه كان ينوي الهرب بعد ارتكابه للجريمة؟
الأسئلة الموجهة للشاهد من طرف السيد الوكيل العام الملك:
هل سبق للمتهم أن اشتكى للشاهد من معاملة الضحية ؟
أسئلة دفاع المطالب بالحق المدني للشاهد:
بدون أسئلة
أسئلة دفاع المتهم للشاهد:
كيف كانت حالة المتهم عندما قابله بالمقهى، هل كان يبدو مرتاحا، أم كان في حالة ذعر و خوف شديد؟
بعد الانتهاء من طرح الأسئلة قررت الهيئة فتح باب المناقشات بإعطاء الكلمة ل:
كلمة دفاع المطالب بالحق المدني.
“ السيد الرئيس المحترم، السادة المستشارين، السيد ممثل الحق العام.
أنوب في هذا الملف عن السيد زيد القاديري بصفته شقيق المجني عليه محمد القاديري، وأعلن انتصابه مطالبا بالحق المدني في مواجهة المتهم الماثل أمامكم المتابع من أجل جناية القتل العمد مع سبق الإصرار طبقا لمقتضيات الفصول 392، 393 و 394 من القانون الجنائي، والمجني عليه في هذه القضية هو شاب لم يتجاوز عمره الثلاثين سنة، كان قيد حياته يفيض نشاطا وحيوية ، كان يعمل ليل نهار من أجل تلبية طلبات والديه ومساعدة أسرته، كان ينفق على والديه بكرم وسخاء، يسد حاجاتهما من الغذاء والدواء والكساء، كان مثالا للابن البار شأنه شأن شقيقه المطالب بالحق المدني.
سيدي الرئيس، السادة أعضاء الهيئة الموقرة.
إن هذه الأسرة لم تفقد شيئا من الأشياء التي يسهل تعويضها بالمثيل، فالفقيد لا يعوض ولا مثيل له، والضرر المادي الذي أصاب هذه الأسرة هو ضرر جسيم، أما الضرر المعنوي الذي أصابها والألم الذي ألم بها عميق جدا، لذلك فإننا لذلك نلتمس من مجلسكم الموقر في الدعوى العمومية الحكم بإدانة المتهم من أجل المنسوب إليه، طبقا لملتمسات السيد الوكيل العام للملك، وفي الدعوى المدنية التابعة، الحكم عليه بأدائه لفائدة شقيق المجني عليه، تعويضا مدنيا قدره 500 ألف درهم مع تحديد أمد الإكراه البدني في الأقصى.
ولمجلسكم الموقر واسع النظر“.
كلمة السيد الوكيل العام للملك.
“السيد الرئيس المحترم السادة أعضاء الهيئة الموقرة:
يقول الله جل جلاله : “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق”.
وفي آية أخرى: ” ومن أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فسادا في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا”.
فالحق في الحياة هبة ربانية وحق دستوري قانوني بامتياز، لا يحق لأي أحد أن ينتهكه ولا يجوز لأي أحد أن يسلبه.
السيد الرئيس إنني بعد أن استغرقت في قراءة أوراق هذه القضية وظروفها وملابساتها، تساءلت وصرخت من أعماقي:
ألهذا الحد يمكن أن يصل ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ؟
ألهذا الحد يمكن أن يصل ظلم الإنسان لأخيه الإنسان من أجل الحقد ؟
ألهذا الحد يمكن أن يصل ظلم الإنسان لأخيه الإنسان من أجل الكره والضغينة ؟
إن الجريمة التي تحاكمون المتهم اليوم من أجلها هي جريمة قتل عمد مع سبق إصرار، بحيث أن هذا المتهم عمر العلمي قام بالمساس بالحق في الحياة، والحق في الأمن والأمان، الذي كان يتمتع به المجني عليه أثناء حياته.
السيد الرئيس السادة المستشارين من فضلكم أنظروا إلى الصور الفوتوغرافية المرفقة بالملف والتي تصور المجني عليه وهو ملقى على الأرض، وعليه عدة جروح وطعنات شديدة بالسكين على مستوى الصدر والبطن.
إن الثابت من خلال هذه الصور ومختلف وثائق الملف وخاصة محضر الضابطة القضائية، وتقرير التشريح الطبي، وقرار الإحالة الصادر عن السيد قاضي التحقيق، وشهادة الشاهد، واعتراف المتهم، فإن متابعته من أجل جناية القتل العمد مع سبق الإصرار، هي متابعة في محلها ومتوفرة بجميع عناصرها القانونية، استناداً إلى مجموعة من المعطيات:
حيث أن المتهم اعترف خلال جميع أطوار ومراحل المحاكمة انه كان يخبر الضحية بأنه يريد إقامة علاقة بالمسماة فدوى الإدريسي وأنه كان ينوي الزواج منها، في حين أن الضحية كان يسخر منه في كل مرة، هذا ما خلف له عقدة وسخطا وغضبا مما جعله يخطط لقتله وهذا ما حدث فعلا، وبعدها قام بلف جثته في كيس من بلاستيك، كما جاء ذلك على لسانه ولسان الشاهد.
فالمتهم اعترف انه استعمل السكين كأداة لتنفيذ الجريمة وهذا فعلا ما يستفاد من التقرير الطبي الموجود بالملف.
أما دفع المتهم بكونه كان في حالة دفاع شرعي:
أولا هذا ليس بمبرر لارتكاب جريمة القتل في حق المجني عليه، بل وحتى حالة الدفاع الشرعي كما هي منصوص عليها قانونا غير قائمة في واقعة الحال، فلم يكن هناك خطر قائم ولم يكن هناك اعتداء أصلا في جانب المجني عليه، وبالطبع تكون حالة الدفاع الشرعي منتفية وغير متوفرة شروطها.
فالمتهم لم يكتفي برد الخطر الذي يزعمه بل ارتكب جريمة كاملة الأركان.
فركنها المادي متمثل في الطعن بواسطة سكين، والنتيجة الإجرامية تحققت، كون الضحية محمد القاديري وافته المنية وفارق الحياة، والعلاقة السببية بين السلوك والنتيجة ثابتة من خلال اعتراف المتهم وما خلص إليه التقرير الطبي، أي أن الوفاة كانت نتيجة الطعن بالسكين.
أما الركن المعنوي فهو أيضا متوفر ويتمثل في اتجاه إرادة المتهم الاعتداء على المجني عليه.
وكل دفع يرمي إلى نفي القصد الجنائي الخاص تكذبه وتدحضه وقائع القضية التي يستخلص منها وجود نية القتل لدى المتهم، والدليل على ذلك هو الأداة المستعملة في الاعتداء أي السكين وهو عبارة عن أداة حادة و قاتلة، يضاف إلى ذلك موضع توجيه الطعنة الذي هو البطن والصدر، فلو لم يكن ينوي قتل الضحية لوجه طعنته إلى موضع آخر كالرجل أو اليدين أو الظهر، لكن إصراره على تنفيذ مخططه الإجرامي وإفراغ الحقد الدفين الذي يحمله تجاه المجني عليه جعله لا يتراجع إلى الخلف إلا بعد أن تخرج روح الضحية منه.
وعليه تبقى جناية القتل العمد مع سبق الإصرار ثابتة في حق المتهم الماثل أمامكم بكافة عناصرها القانونية والمادية ثم المعنوية، وما يؤكد ذلك هو اعتراف المتهم وكما تعلمون السيد الرئيس السادة المستشارين أن الاعتراف القضائي من بين أهم وسائل الإثبات في المادة الجنائية.
السيد الرئيس السادة المستشارين لكل هذه الأسباب، فإننا نلتمس من مجلسكم الموقر إدانة المتهم من أجل ارتكابه جناية القتل العمد مع سبق الإصرار، والحكم عليه بالإعدام نعم السيد الرئيس السادة المستشارين الإعداااااااام.
ولمجلسكم الموقر واسع النظر”.
كلمة دفاع المتهم.
” الحمد لله تعالى فهو الأول بلا ابتداء و الآخر بلا انتهاء فهو الحكم العدل الذي لا يظلم عنده احد مثقال ذرة لا في الأرض و لا في السماء.
سيدي الرئيس المحترم السادة أعضاء الهيئة الموقرة:
أتولى في هذا الملف مؤازرة المتهم الماثل أمامكم و المتابع من قبل هذه المحكمة من اجل جناية القتل العمد مع سبق الإصرار طبقا لمقتضيات الفصل 392 و 393 و 394 من القانون الجنائي.
وإنه لواجب ثقيل أن يتولى المرء مؤازرة متهم بجريمة قتل و هو بريء منها براءة الذئب من دم يوسف، لن أسعى لإثبات براءة مؤازري من جريمة القتل، لان البراءة هي الأصل حسب المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية، فالبراءة لا تحتاج إلى دليل، بل التهمة هي التي تحتاج إلى دليل .
و ما حصل في هذه القضية هو أن المؤازر دخل في شجار مع المجني عليه و تطور الأمر بينهما إلى اشتباك و تبادل الضرب و الجرح أفضى إلى موت المجني عليه.
هذه الوقائع التي تشددت المحكمة في وصفها و كيفتها بأنها جناية قتل عمد مع سبق الإصرار والحال غير ذلك .
صحيح أن المتهم اعترف في سائر أطوار البحث و التحقيق انه ضرب المجني عليه لكنه أكد على أن هذا الأخير هو من بادره بالضرب و الجرح، بحيث وجه إليه ضربة على رأسه بواسطة قنينة مشروب فارغة أصيب على إثرها بجرح غائر على مستوى الرأس، و كان المجني عليه يهم بمواصلة اعتدائه وتوجيه مزيد من الضربات لمؤازري لولا أن استعمل هذا الأخير سكينا كان معه ليدافع به عن نفسه، و يوقف العدوان و الخطر الموجه إليه، إذا أليس هذا دفاعا شرعيا عن النفس؟ و إن لم يكن كذلك فما المقصود بالدفاع الشرعي ؟
فالأمر هنا لا يتعلق بجريمة قتل كما أوضحت في مستهل مرافعتي، لعدم توفر الركن المعنوي، أي نية إزهاق الروح غير متوفرة لدى مؤازري الذي كان تحت تأثير الكحول و كان أمام اعتداء استفزازي، و كما هو معلوم فالاستفزاز من الأعذار المخفضة للعقاب حسب الفصل 416 من القانون الجنائي و اعتقد أن مقتضياته منطبقة على وقائع هذه القضية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فان مؤازري تقدم أمام الضابطة القضائية و أخبرهم بوقائع الحادثة و أبان عن ندمه الشديد، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن نية القتل لم تكن متوفرة لديه، بل كان في وضعية استفزازية كان مضطرا معها أن يدافع عن نفسه، لذا فان متابعة مؤازري من اجل جناية القتل العمد ليست في محلها، لأن السرعة التي ارتكب بها الفعل و الحالة الانفعالية التي كان عليها المؤازر والاستفزاز الذي تعرض له، بالإضافة إلى كونه كان تحت تأثير الكحول، هذه الوضعية التي لم تترك له فرصة للتفكير في الأداة التي يستعملها ولا في الموضع من الجسم الذي يوجه إليه الضربات و لا عددها.
لذلك سيدي الرئيس فإنني التمس من مجلسكم الموقر أن تصرحوا بأن الوقائع المعروضة عليكم لا تشكل جريمة قتل عمد مع سبق الإصرار، وإنما تشكل ضربا و جرحا أفضى إلى الموت دون نية إحداثه، و أن تصرحوا تبعا لذلك أن مؤازري كان في حالة استفزاز الذي يشكل عذرا مخفضا للعقاب، و أن تمتعوه بأقصى ما يمكن من ظروف التخفيف نظرا لظروفه الاجتماعية و عدم سوابقه القضائية.
و لمجلسكم الموقر واسع النظر..”
سؤال الرئيس للمتهم_آخر سؤال_: عمر العلمي هل من إضافة؟.
“وبعد أن كان المتهم آخر من تحدث، قررت المحكمة باسم جلالة الملك وطبقا للقانون حجز الملف للمداولة لآخر الجلسة، رفعت الجلسة”
بعد المداولة :
باسم جلالة الملك وطبقا للقانون قررت غرفة الجنايات الابتدائية علنيا، حضوريا، ابتدائيا بإدانة المتهم عمر العلمي والحكم عليه:
في الدعوى العمومية:
30 سنة سجنا نافدا بعد تمتيعه بظروف التخفيف، و حجز السكين الذي استعمل كأداة لارتكاب الجريمة لفائدة الخزينة.
و في الدعوى المدنية التابعة:
بتعويض مادي قدره 200000 درهم لذوي حقوق الضحية مع تحديد أمد الإكراه البدني في الأقصى.
يعتبر هذا الحكم بمثابة تبليغ، عمر العلمي لك حق الطعن في هذا القرار بالاستئناف داخل أجل 10 أيام يبدأ من هذا اليوم.
بـاسم جلالة الملك وطبقا للقانون
رفعت الجلسة
خاتمة:
بالرغم من ارتباط موضوع الدراسة بالجانب العملي أكثر من النظري، إلا أنني حاولت قدر الإمكان الإحاطة به مع التركيز على أهم الإجراءات التي تمر منها المحاكمة، من استنطاق للمتهم واستدعاء الشهود، وتقديم الدفوع الشكلية والموضوعية، وانتقال الهيئة للمداولة، ثم الحكم في النازلة، وسعيا لتقريب الصورة أكثر، تم إدراج نموذج لمحاكمة افتراضية تهم قضية من قضايا الجنايات، عرضت على غرفة الجنايات الإبتدائية بإحدى محاكم الإستئناف.
انتهى بحمد الله وتوفيقه
[1] – حسب المادة 83 من قانون المسطرة الجنائية فإنه:
“يكون التحقيق إلزاميا:
1- في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد أو التي يصل الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها ثلاثين سنة.
2- في الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث.
3- في الجنح بنص خاص في القانون.
يكون اختياريا فيما عدا ذلك من الجنايات و في الجنح المرتكبة من طرف الأحداث، وفي الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر”.
[2] – يصدر عن المحاكم الإبتدائية.
[3] – يصدر عن محاكم الإستئناف ومحكمة النقض.
– تعتبر الأحكام والقرارات والأوامر كلها مقررات قضائية، فلفظ المقرر يشملها جميعها حسب المادة 364 من قانون المسطرة الجنائية.
[4] – ويكون القضاء جماعيا في كل من الجنايات التي تختص بالنظر فيها محاكم الإستئناف، وهنا نميز بين تشكيلة غرفة الجنايات الإبتدائية التي تعقد جلساتها برئيس- قد يكون رئيس غرفة- ومستشارين اثنين وكاتب الضبط ثم الوكيل العام للملك، أما غرفة الجنايات الإستئنافية فتعقد جلساتها برئيس–قد يكون الرئيس الأول محكمة الإستئناف- و 4 مستشارين وكاتب الضبط وممثل النيابة العامة، والجنح التأديبية أي التي تتجاوز عقوبتها سنتين حبسا.
– بينما يكون القضاء فرديا في باقي الجنح -أي الجنح الضبطية- والمخالفات، حيث تكون الهيئة فيها مشكلة من قاض وممثل النيابة العامة وكاتب الضبط.
[5] – في الجلسة يطلق لفظ وكيل الملك على وكيل الملك و نوابه، وجرت العادة أن يترافع النواب بدل وكيل الملك إلا نادرا، نظرا لتعدد مهامه، لمعرفة اختصاصات وكيل الملك راجع المواد من 39 ل 47 من قانون المسطرة الجنائية.
[6] – نفس ما قيل عن وكيل الملك يقال عن الوكيل العام للملك، ذلك أنه يترافع عنه نوابه في الجلسة، للإطلاع على اختصاصات الوكيل العام للملك أنظر المواد من 48 إلى 51 من قانون المسطرة الجنائية.
[7] – إذا كانت القضية ينظر فيها قضاء جماعي.
-[8] التأمل يكون في القضاء الفردي ذلك أن القاضي يذهب وحده ليتأمل في وسائل الإثبات المتوفرة من أجل تكوين القناعة الوجدانية.
[9]– المداولة تتحقق عندما يكون القضاء جماعيا، إذ يتوجه أعضاء الهيئة لقاعة المداولات من أجل تداول القناعات التي توصل إليها كل عضو، ويفصل في القضية عبر التصويت بالأغلبية.
–[10] وقد تم التنصيص على هذا المبدأ في المادة 311 من قانون المسطرة الجنائية.
[11] – ويشترط هذا الإجراء إذا كانت الجريمة المتابع من أجلها المتهم جناية، حيث يكون عليه لزاما تنصيب محامي، نفس الأمر بالنسبة للجنح المرتكبة من طرف الأحداث والأشخاص المصابون بعمى أو بكم ، أو كان من شأن البت في القضية أن ينتهي بالحكم بإبعاد المتهم، أو كان المتهم في وضعية صحية لا تسمح له بالحضور، مما يتعين معه الإنتقال إلى المكان الموجود به من أجل استنطاقه، مما يستفاد معه أنه يمكن محاكمة المتهم ولو دون مؤازرته من طرف محامي في باقي القضايا.
[12] – يؤدى مبلغ القسط الجزافي عن كل طلب مدني في المادة الجنائية، ما لم يكن المطالب بالحق المدني مستفيدا من المساعدة القضائية، ويقدر ب 30 درهم في المخالفات وعند استئناف الحكم يتم زيادة مبلغ 50 درهم، بينما في الجنح يحدد في 100 درهم وعند استئناف الحكم تضاف إلى المبلغ 100 درهم، أما في الجنايات فيكون المبلغ هو 500 درهم.
[13]– وتجدر الإشارة إلى أنه إذا لم ينتج أي ضرر عن عدم إشعار المشتبه به بحقه في التزام الصمت، فإنه لا يترتب عنه البطلان، وقد سبق للمحكمة الابتدائية بميدلت أن تقيدت بالمفهوم الظاهر للحق في التزام الصمت، وقررت بطلان محضر ضابط شرطة قضائية لم يشعر المشتبه به بهذا الحق، لكن لما تم الطعن فيه بالنقض، كان لمحكمة النقض تصورا وفهما آخر للنص، ذلك أن خرق أي إجراء مسطري لا يرتب البطلان إلا إذا صاحبه ضرر للشخص المعني، أما إذا لم يحدث أي ضرر فلا مجال لتقرير حالة البطلان.
– راجع حكم المحكمة الإبتدائية بميدلت تحت عدد 2466، في الملف الجنحي التلبسي عدد: 2467\2015 بتاريخ 2015\11\26.
-[14] أي النظر في الدفع داخل قاعة الجلسات دون الإنسحاب لقاعة المداولات.
-[15] وفي هذا السياق تلزم الإشارة إلى أن الإستماع إلى الشهود يكون ضروريا في المرحلة الإبتدائية بالنسبة للجنح ، ويكون اختياريا في المرحلة الإستئنافية.
[16] – يجب التنبيه إلى أنه لا يعتد بالشهادة إلا إذا كانت أمام القضاء، أما تلك التي تكون أمام أجهزة أخرى، كالتي تجرى أمام ضباط الشرطة القضائية فهي مجرد تصريحات لا ترقى إلى مقام الشهادة، ولا يمكن الإستناد عليها في إدانة المتهم إلا إذا عضدتها حجج أخرى، و يطرح أمر حجية الشهادة والتصريح بكثرة في قضايا المسطرة المرجعية، حين يتم إمساك شخص مشبوه فيه فيذكر على لسانه أشخاصا آخرين بأنهم كانوا متورطون معه في الجريمة، سواء بالمساهمة أو المشاركة، فهذا الذكر الذي يقع من جانب الشخص المشتبه به مجرد تصريح لا يرقى إلى مصاف الشهادة، ولا يمكن للقضاء الجنائي أن يستند عليه في إدانة المتهم، إلا إذا كانت هناك قرائن أخرى تثبت مشاركة أو مساهمة المتهم الثاني الذي ذكر على لسان المتهم الأول، لأن القضاء الجنائي يبني قناعته على أساس ما راج أمامه في الجلسة.
[17] – هذه القاعة تسمى بقاعة المداولات، لا يمكن لأحد أن يلجها إلا بإذن من الرئيس، ولا يجوز لأعضاء الهيئة الخروج منها إلا بعد المداولة والتوجه مباشرة لقاعة الجلسات للنطق بالمقرر.
– في حالة الحكم بإدانة الشخص الذي حضر في حالة سراح، يأمر الرئيس بالقاء القبض عليه فورا.[18]
أما الحكم بالبراءة يترتب عنه إطلاق سراح المتهم فورا، ما لم يكن متابع من أجل جريمة أخرى.-[19]
[20]– راجع المادة 440 من قانون المسطرة الجنائية.
– إذا كان عدم حضور المتهم راجع لسبب حال دون حضوره، يمكنه تقديمه ليتم تقديره من طرف القضاء هل هو عذر مقبول أم لا.[21]
– أنظر المادة 444 من قانون المسطرة الجنائية.[22]
–[23] بالنسبة لوقائع هذه النازلة هي وقائع حقيقية مستمدة من قضية سبق وعرضت على القضاء وقال كلمته بشأنها، أما الأسماء والتاريخ والمحكمة المختصة والأسئلة الموجهة لكل من الشاهد والمتهم والدفوع والمرافعات ومنطوق القرار، فهي من صميم عمل الطلبة الباحثين الذين جسدوا هذه المحاكمة.
[24] – قام بتجسيد المحاكمة ثلة من طلبة الماستر المتخصص في المهن القضائية والقانونية، بكلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية بتطوان، وهم:
جفرا بلقاسم
إبراهيم البعلي
مخلص الهدار
محمد المثيوي
عبد الغني قسماوي
محمد حجاج
حسناء جعفر
إحسان الحراق
هجر صنهاجي