دراسات قانونية
الدفع بوجود الترخيص الإداري لردّ دعوى المدعي برفع مضار الجوار (بحث قانوني)
الدفع بوجود الترخيص الإداري لردّ دعوى المدعي برفع مضار الجوار
البشير بن إسماعيل
باحث بسلك ماستر قانون الأعمال بتطوان
مقدمة:
يعتبر حق الملكية من أوسع الحقوق العينية الأصلية نطاقا، إذ يخول لصاحبه ممارسة حقه دون وساطة أحد ويمكنه الاحتجاج به في مواجهة الكافة(1).
غير أن صفة الإطلاق بهذا المعنى لم تعد تنسجم مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية الحديثة نتيجة غلو أصحاب الملكية في استعمال هذا الحق والخروج عن حدود المألوف.
موضوع هام للقراءة : رقم هيئة الابتزاز
الأمر الذي تنبه له المشرع المغربي وأحكم تنظيم الملكية بقواعد دقيقة منعا لكل إساءة في استعمالها، إذ عرف حق الملكية بموجب المادة 14 من قانون 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية(2) بأنه حق يخول لمالك العقار دون غيره سلطة استعماله واستغلاله والتصرف فيه، ولا يقيده في ذلك إلا القانون أو الاتفاق. مما يفيد أن ممارسة حق الملكية له حدود (القوانين والأنظمة الجاري بها العمل).
وهو الأمر نفسه الذي سبق أن أكده الفصل التاسع من الظهير الشريف -المنسوخ- الصادر بتاريخ 19 رجب 1333 (2 يونيو 1915) المحدد للتشريع المطبق على العقارات المحفظة، والذي نص على أن: “الملكية العقارية هي حق التمتع والتصرف في عقار بطبيعته أو بالتخصيص على أن لا يستعمل هذا الحق استعمالا تمنعه القوانين أو الأنظمة”.
واستعمال الحق بمغالاة أو بتعسف ودون مراعاة القوانين والأنظمة هو الذي كان وراء بروز نظرية عدم التعسف في استعمال الحق التي أقحمتها غالبية التشريعات -ومنها التشريع المغربي وإن كان ذلك بصورة ضمنية- في قوانينها الوطنية، فإذا تعسف صاحب الحق في استعمال حقه فإن ذلك يعتبر خطأ موجب لإثارة مسؤوليته (3).
ومما تجدر الإشارة إليه أن هناك من الحقوق ما يقتضي ممارسته ضرورة الحصول على ترخيص إداري أو إذن تمنحه المصالح الإدارية المختصة كبناء مقهى أو حانة أو حمام أو غيرها؛ غير أنه قد يحصل أن يتسبب صاحب الحق المرخص له بممارسته في إحداث ضرر بالغير.
في هذا الإطار يجدر بنا أن نتساءل عما إذا كانت هناك وسيلة بيد الطرف المتضرر لدفع الضرر الذي لحقه من جراء الحقوق المرخص له بممارستها؟ وهل يمكن للمدعى عليه -المتسبب في الضرر- الاحتماء وراء الترخيص الإداري للقول بمشروعية العمل الضار؟
في محاولة منا للإجابة عن الإشكالات المطروحة واقتضاء منا بضرورة العمل المنهجي، فإننا ارتأينا تقسيم موضوع دراستنا إلى فقرتين وفقا للتصميم الثنائي الآتي:
الفقرة الأولى: دعوى إلغاء القرار القاضي بمنح الترخيص الإداري
الفقرة الثانية: دعوى الفصل 91 من قانون الالتزامات والعقود
الفقرة الأولى: دعوى إلغاء القرار القاضي بمنح الترخيص الإداري
إن المبدأ في ظل التشريع الإداري أن مسؤولية الإدارة لا تقوم إلا إذا اتصف القرار الإداري بعدم المشروعية الذي يشكل خطأ مرفقيا، لأن الأصل هو احترام الدولة ومؤسساتها للقانون(4)، ومن تم تترتب مسؤوليتها في حالة مخالفته.
وهذه اللامشروعية قد تلحق القرار الإداري في شكله، فتكون لامشروعية إجرائية أو شكلية، وهي الحالات التي يرجع فيها القرار الإداري إما لعيب في الاختصاص أو في إجراءات صدوره، وقد تصيب اللامشروعية القرار الإداري في موضوعه فتكون لامشروعية موضوعية وهي الحالات التي يرجع فيها بطلان القرار الإداري إما إلى مخالفة القانون أو لانحراف في السلطة(5).
وعلى هذا الأساس، نجد أن المشرع مكن الطرف المتضرر من جراء قرار إداري مس بحقوقه، كالقرار القاضي بمنح ترخيص إداري لبناء محلات أو إقامة مشاريع استثمارية ترتب عنها فيما بعد إلحاق الضرر بالغير، إمكانية الطعن فيه للشطط في استعمال السلطة وذلك داخل أجل 60 يوما من تاريخ نشر أو تبليغ المقرر المطعون فيه. كما مكنه من رفع تظلم استعطافي للسلطة التي أصدرت المقرر أو إلى التي تعلوها مباشرة أو إلى محكمة النقض داخل أجل 60 يوما من تاريخ تبليغ مقرر الرفض الصريح للطعن الإداري.
ومما ينبغي الإشارة إليه هو أن سكوت الإدارة عن الملتمس الاستعطافي الإداري، يعدّ رفضا في نظر القانون، وبالتالي يتعين على المعني بالأمر أن يقدم طلبا إلى محكمة النقض داخل أجل 60 يوما تبتدئ من تاريخ انصرام الأجل أعلاه (الفصل 360 من ق.م.م).
ونفس المقتضى جاءت به المادة 23 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية.
غير أن سلوك هذه المسطرة ليس مطلقا، وإنما هو مقيد بشرط أساسي، وهو أن لا تكون هناك إمكانية أمام المتضرر من القرار الإداري القاضي بمنح الترخيص الإداري للغير -المتسبب في الضرر- للمطالبة بحقوقه، وذلك طبقا لما قضت به الفقرة الأخيرة من الفصل 360 من ق.م.م التي نصت على أنه: “لا يقبل طلب الإلغاء الموجه ضد المقررات الإدارية إذا كان في استطاعة من يعنيهم الأمر المطالبة بحقوقهم لدى المحاكم العادية”.
وهو المقتضى نفسه الذي كرسته المادة 23 من القانون 41.90 في فقرتها الأخيرة وإن اختلفت عن الأولى من حيث الصياغة إلا أن مضمونهما واحد، حيث نصت على أنه لا يقبل الطلب الهادف إلى إلغاء قرارات إدارية إذا كان في وسع المعنيين بالأمر أن يطالبوا بما يدعونه من حقوق بطريق الطعن العادي أمام القضاء الشامل.
ومن تطبيقات المقتضيين الأخيرين، ما جاء به القرار الصادر عن محكمة النقض رقم 29 صادر بتاريخ 18 يناير 1996 الذي جاء فيه ما يلي:
“وحيث إن السيدين يطلبان، بسبب الشطط في استعمال السلطة، إلغاء القرار الصادر عن رئيس المجلس البلدي لجماعة اليوسفية الرباط بتاريخ 23/04/1993 تحت عدد 1 م 1، القاضي بالترخيص للطالب بفتح واستغلال حمام …
لكن، حيث إن سبب الطعن بالإلغاء هو حصول الضرر للطاعنين من الحمام المجاور لهما، وأن الفصل 91 من ق.ل.ع ينص على أن للجيران الحق في إقامة دعوى على أصحاب المحلات المضرة بالصحة أو المقلقة للراحة لطلب إزالة هذه الأضرار أو إجراء ما يلزم فيها من التغيير لرفع الأضرار التي يتظلمون منها، وأن الترخيص لا يحول دون إعطاء الإمكانية للطاعنين للمطالبة برفع مضار الجوار أمام القضاء الشامل، وبالذات أمام المحكمة الابتدائية باعتبار وقائع النازلة، مما يجعل طلب إلغاء قرار الترخيص الإداري بفتح الحمام المذكور، طلب غير مقبول لوجود دعوى موازية من شأنها أن تحقق للطاعنين نفس ما يطلبانه في دعوى الإلغاء المعروضة وذلك عملا بالفصل 360 من ق.م.م”(6).
من هذا القرار نستخلص قاعدتين في مجال قاعدة إلغاء قرار السلطة الإدارية المانحة للترخيص الإداري للشطط في استعمال السلطة:
القاعدة الأولى: وهي أنه لا يمكن للمتضرر أن يرفع دعوى إلغاء قرار منح الرخصة الإدارية إذا كانت هناك دعوى أخرى بإمكانه سلوكها لاقتضاء حقه؛
القاعدة الثانية: عدم إمكانية الجمع بين دعوى الإلغاء ودعوى أخرى، كدعوى الفصل 91 من ق.ل.ع -موضوع الفقرة الثانية من هذا الموضوع-، فالثانية تغني عن الأولى.
الفقرة الثانية: دعوى الفصل 91 من قانون الالتزامات والعقود
بعد أن تعرضنا لمدى إمكانية الطعن في قرار السلطة الإدارية مانحة الترخيص الإداري كوسيلة خولها المشرع للمتضرر لدفع الضرر الذي قد يلحقه نتيجة استعمال الغير لحقوقه المرخص بها إداريا، وتوقفنا على قاعدة مفادها منع إقامة دعوى الإلغاء للشطط في استعمال السلطة متى كان للمدعي دعوى أخرى يستطيع أن يستوفي حقه بها، فإنه ينبغي أن نتعرض لهذه الدعوى الموازية ولمدى إمكانية تمسك المدعى عليه بالترخيص الإداري لرد هذه الدعوى -وهو بيت القصيد-.
جوابا عن الشق الأول من السؤال يمكننا الاحتكام إلى مقتضيات الفصل 91 من ق.ل.ع الذي يقضي بأن: “للجيران الحق في إقامة دعوى على أصحاب المحلات المضرة بالصحة أو المقلقة للراحة لطلب إما إزالة هذه الأضرار وإما إجراء ما يلزم فيها من التغيير لرفع الأضرار التي يتظلمون منها …”.
من هذا الفصل نستنتج أن للمتضرر أن يطالب إما:
بإزالة المحلات المضرة بالصحة والمقلقة للراحة، أي بهدمها وقلعها من أصلها أو بوقف نشاطها؛
وإما بإجراء تغييرات في هذه المحلات لرفع الأضرار التي يتظلمون منها، وذلك بالعمل على إصلاح وتعديل مصدر الضرر.
كما أن للمتضرر إمكانية الجمع بين الطلبين في دعوى واحدة، كأن يطالب أساسا بإزالة المحلات المضرة أو المقلقة للراحة واحتياطا بإجراء ما يلزم فيها من التغيير لرفع الأضرار التي يتظلمون منها. أما بخصوص الشق الثاني من السؤال، فقد جاء بعبارة هامة جدا، وهي: “… ولا يحول الترخيص الصادر من السلطات المختصة دون مباشرة هذه الدعوى”. مما يفيد أنه لا يحق للمدعى عليه في دعوى رفع مضار الجوار أن يتمسك بالدفع بوجود الترخيص الإداري -كدفع موضوعي- للقول بشرعية العمل الضار.
غير أننا لا يمكننا الحسم بهذه السرعة ما لم نعرج على مقتضيات الفصل 92 من ق.ل.ع الذي يقضي بما يلي: “ومع ذلك، لا يحق للجيران أن يطلبوا إزالة الأضرار الناشئة عن الالتزامات العادية للجوار كالدخان الذي يتسرب من المداخن وغيره من المضار التي لا يمكن تجنبها والتي لا تتجاوز الحد المألوف”.
وعليه، فبناء على هذه المقتضيات يجب أن نميز بين نوعين من الضرر:
النوع الأول: الضرر المألوف
فهذا النوع من الضرر هو الذي يقصده الفصل 92 المذكور أعلاه، إذ لا يحق لمن تضرر منه المطالبة بإزالته، وقد ضرب المشرع مثالا للضرر المألوف بالدخان الذي يتسرب من المداخن، شريطة أن لا يتجاوز الحد المألوف.
وفي هذا الصدد، قضت المحاكم الأردنية على أن: “للمالك ألّا يغلو في استعمال حقه إلى حد الضرر بملك جاره، وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها …”(7).
ومما يعتبر أيضا من الضرر المألوف، إنشاء مؤسسة تعليمية بين الساكنة، وهذا ما أكدته المحكمة الإدارية بالرباط في أحد أحكامها تحت رقم 1076 صادر بتاريخ 21/03/2013، حيث ورد فيه ما يلي:
“وحيث يهدف الطلب إلى الحكم بإلغاء قرار رئيس المجلس البلدي رقم 2290، القاضي بعدم الموافقة على منح الطاعنة الشهادة الإدارية لإنشاء مؤسسة تعليمية بطريق المهدية القنيطرة بسبب الشطط في استعمال السلطة مع ما يترتب على ذلك قانونا …
وحيث إن القرار الإداري القاضي برفض الترخيص بإحداث مدرسة بدعوى وجود شكايات واعتراضات الجوار التي لا سند لها من القانون دون أن يوازن ويرجح مصالح علمية وتربوية وثقافية ناصعة معتبرة شرعا من مصالح مجموع الشعب ومصالح خاصة أنانية وضيقة الأفق غير جديرة بالحماية، جاء مشوبا بالتجاوز في استعمال السلطة وخارقا للدستور وللاتفاقيات الدولية ومآله الإلغاء مع ما يترتب على ذلك من آثار قانونية”(8).
وعليه فمتى تمت المطالبة بإزالة هذا النوع من الأضرار، فإنه يحق للمدعى عليه الحاصل على الترخيص الإداري أن يدفع بوجود ترخيص إداري لرد دعوى المدعي متى كان النشاط الذي تسبب في الضرر يتوقف على الحصول على ترخيص إداري من الجهات المختصة.
النوع الثاني: الضرر غير المألوف
بمفهوم المخالفة لنص الفصل 92 من ق.ل.ع، فإنه يحق للجيران أن يطلبوا إزالة الأضرار الناشئة عن الالتزامات العادية للجيران متى تجاوزت الحد المألوف.
وفي هذا السياق، جاء في قرار صادر عن محكمة الاستئناف ببني سويف بمصر بأن : “الجار ملزم بتعويض جاره عما يصيبه من الضرر ولو لم يخالف نصا من نصوص القانون واللوائح، وذلك متى كان الضرر فاحشا يتجاوز الحد المألوف بين الجيران …”(9).
وهذا النوع من الأضرار يخول لمن أصابه المطالبة بإزالته، وليس لصاحب الترخيص الإداري التمسك بالدفع بهذا الترخيص لرد دعوى المدعي.
وقبل أن نختم موضوعنا، فإننا نتساءل تبعا لدعوى رفع مضار الجوار عن مدى أحقية المتضرر أو المتضررين من المطالبة بالتعويض إلى جانب الدعوى الأصلية؟
يجب التمييز في هذا الإطار بين الأفعال التي ألحقت الضرر بالجار والتي تكون قد ارتكبت بغير قصد الإضرار وبين تلك التي ارتكبت بقصد الإضرار.
فأما الأولى، فإنه لا محل للمسؤولية المدنية فيها ما دام الشخص فعل ما كان له الحق في فعله غير قاصد الإضرار بالغير. ومن تطبيقات القضاء بخصوص هذه الحالة ما قضت به محكمة الزقازيق في مصر بتاريخ 22/10/1933، بأنه: “للجار حق مطالبة جاره بتعويض ما لحق زراعته من ضرر بسبب ظلال الأشجار طالما كان الجار غير متعمد من وراء الزراعة الإضرار بجاره وطالما أنه قد اتبع الأصول الزراعية الملحوظة قانونا أو عرفا في الزراعة أو في الغرس “(10).
أما في الحالة الثانية، فإن المسؤولية المدنية تقوم، وبالتالي يحق للمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحقه.
ومن الأمثلة التي يكون فيها الشخص متعمدا قصد الإضرار بالجار ما قرره القضاء الفرنسي من أن: “المالك يعتبر متعمدا الإضرار بالجار إذا أحدث ضوضاء قصد تنفير الحيوانات ومنع الغير من الصيد في أرض مجاورة”(11).
خاتمة:
ختاما، فإننا نخلص إلى ما يلي:
للمدعي، الذي تضرر من التزامات الجوار نتيجة للترخيص الصادر عن السلطات الإدارية المختصة والذي مس بحقوقه، الحق في طلب إلغاء قرار منح الترخيص الإداري وفقا لإجراءات محددة قانونا ما لم تكن له دعوى أخرى يمكنه بواسطتها أن يبلغ مرماه؛
لا يمكن للحاصل على الترخيص الإداري لممارسة حق من حقوقه التمسك بالدفع بوجود هذا الترخيص لرد دعوى المدعي برفع مضار الجوار إلا في الحالات التي لا يكون فيها الضرر بليغا ولا يتجاوز الحد المألوف، أو بعبارة الفصل 92 من ق.ل.ع مما يدخل في طائفة الالتزامات الناشئة عن الالتزامات العادية للجوار.
(محاماه نت)