دراسات قانونية

القانون الواجب التطبيق على الانابة القضائية (بحث قانوني)

إن أتخاذ قرار الإنابة القضائية هو أجراء قضائي يقرره قاضي المحكمة الذي ينظر الدعوى على وفق قانونه الوطني، فلا توجد أية مشكلة بهذا الشأن من تنازع القوانين في هذا القرار. ولكن تثور الصعوبة في أي من القوانين يطبق على أجراء الإنابة في الدولة الأجنبية، فهل هو قانون القاضي الذي قررها؟ أم قانون الدولة الأجنبية المطلوب أتخاذ الإنابة القضائية في إقليمها؟ كذلك فأن محل الإنابة ذاته ومدى تكيفه هل هو من الإجراءات أم موضوع يثير تساؤل أي من القوانين يحدد ذلك وتأثيره في أختيار أي من القوانين لتطبيقه؟ فإن غرض الإنابة القضائية تكون للحصول على دليل من أدلة الأثبات ومن ثم فأنها من الإجراءات والتي تكون الأختصاص فيها للقانون محل أبرامه، فقد نصت المادة (28) من القانون المدني العراقي ((قواعد الأختصاص وجميع الإجراءات يسري عليها قانون الدولة التي تقام فيها الدعوى أو تباشر فيها الإجراءات))(1).

ومن هذا النص تبين، أن القانون الذي يجب أن يطبق عند تنفيذ الإنابة القضائية هو قانون الدولة التي يتم بها هذا الأجراء، وعلى ما يرى الدكتور هشام علي صادق فأن أشكال الإجراءات المدنية تكون مرتبطة بتنظيم العدالة وهي تستند في ذلك إلى قانون الدولة بأسم منها لتحديد القانون الواجب للتطبيق هو قانون المكان إذ يوجد موضوع النزاع(2). وقاعدة خضوع الإجراءات لقانون القاضي هي قاعدة صريحة بدت ملامحها لدى شراح المدرسة الأيطالية في القرون الوسطى إذ فرق Bartole حوالي سنة 1235 بين الإجراءات والموضوع وحدد قانون القاضي هو الذي يسري على الإجراءات، أما الموضوع فيخضع لقوانين أخرى متباينة على وفق طبيعة المسألة المعروضة(3). ولقد حظيت التفرقة بين ما يمكن عده من مسائل الإجراءات وما يعد من مسائل الموضوع إهتماماً من قبل الفقه منذ وقت طويل، فقد أخضعوا القواعد الموضوعية للقانون الذي يحكم النزاع، في حين أخضعوا القواعد الإجرائية لقانون القاضي، وقد تأصلت هذه القاعدة وأزدادت رسوخاً بعد أن أخذت بها معظم التشريعات المعاصرة(4). وإذا كانت قاعدة خضوع الإجراءات لقانون القاضي قد حظيت بأتفاق غالبية فقهاء القانون الدولي الخاص، فأن هؤلاء الفقهاء قد أختلفوا فيما بينهم حول تبرير هذه القاعدة والأساس الذي تستند إليه، فذهب جانب في الفقه إلى أن القاعدة –خضوع الإجراءات لقانون القاضي- تجد أساسها في قاعدة أخرى من قواعد القانون وهي قاعدة خضوع شكل التصرف لقانون محل الأبرام، بينما أتجه فريق آخر إلى القول بأن هذه القاعدة تجد أساسها في فكرة النظام العام، وذهب فريق ثالث إلى أن أساس قاعدة خضوع الإجراءات لقانون القاضي، هو أن قواعد الإجراءات قواعد تنظيمية لسلطة القضاء في الدولة، وهي من السلطات العامة التي لا يمكن أن تخضع عند قيامها بمباشرة وظيفتها لقانون آخر غير قانون هذه الدولة(5). وسوف نتناول هذه الأسس الثلاثة كما يأتي:

الفرع الأول: أساس خضوع الإجراءات لقانون القاضي لقاعدة خضوع لشكل التصرف لقانون محل إبرامه.

يدعى هذا الفريق من الفقهاء أن خضوع الإجراءات لقانون القاضي هي أحد تطبيقات قاعدة الإسناد التي تفيد بخضوع شكل التصرف لقانون محل الإبرام(6)، وإن كلتا القاعدتين تجمعهما فكرة واحدة، وهي أن كلاً من الشكل في التصرفات القانونية مشابه في جوهره للإجراءات، وفي هذا يقول الدكتور هشام علي صادق: (فكل منهما هو المظهر الخارجي الذي يوجب القانون إتخاذه، وهو يستلزم مراعاة أوضاع معينة وتدخل الموظف العام، هو بالنسبة للتصرف القانون الموثق وبالنسبة لإجراءات المرافعات هم عمال القضاة وقانون المحل بالنسبة للتصرف القانوني هو قانون البلد الذي يبرم فيه، وقانون المحل بالنسبة للإجراءات المرافعات هو قانون البلد الكائنة به المحكمة ويتخذ لديها الأجراء))(7). إلا أن هذا الإتجاه قد تعرض إلى نقد من قبل الفقهاء، إذ ذكر المنتقدون له، بأن هناك إختلاف بين الأعتبارات التي تقوم عليها كل من القاعدتين وذلك (قاعدة الخضوع شكل التصرف لقانون بلد إبرامه على أحتساب تيسير أجراء التصرف على المتعاقدين لأن يثبت لهما الطابع التخييري وأن يكون في مقدارهما –ومن ثم- أبرام التصرف في غير الشكل المقرر في قانون بلد الإبرام إذ يتيسر لهما أستيفاء الشكل المقرر في قانونهما الشخصي أو في القانون الذي يحكم تصرفهما من حيث الموضوع))(8) .فإن قاعدة إخضاع الشكل لمحل إبرامه قاعدة إختيارية، بمعنى يمكن للأطراف المعنيين الإتفاق على خلافها وذلك بإخضاع شكل التصرف القانوني، لقانون آخر غير قانون محل إبرامه(9). بينما قاعدة خضوع الإجراءات لقانون القاضي قاعدة ملزمة للأطراف وغير إختيارية، كذلك هناك إختلاف في الهدف الذي تسعى كلتا القاعدتين إلى تحقيقه، في حين تهدف قاعدة خضوع الشكل إلى قانون محل إبرامه إلى تسهيل مهمة الأفراد عند قيامهم بأجراء التصرفات القانونية في دولة معينة، بينما تهدف قاعدة خضوع الإجراءات لقانون القاضي إلى تنظيم عمل السلطة القضائية بما يضمن حسن سير وتطبيق العدالة(10).

الفرع الثاني: فكرة النظام العام:

نتيجة للإنتقادات التي وجهت إلى الرأي الأول فقد ذهب اتجاه إلى أن أساس تطبيق قانون القاضي في مسائل الإجراءات هو النظام العام، وطبقاً لهذا الرأي فأن هذا النظام العام هو الأساس لهذه القاعدة ذلك لأن قواعد الإجراءات تهدف إلى تمكين الخصوم من الحصول على حقوقهم بأسهل الطرق، ومن ثم فأنه من الواجب الألتزام بهذه القواعد نظراً لإرتباطها بالصالح العام وبالنظام الاجتماعي في كل دولة(11). ولكن هذا الاتجاه قد أنتقد أيضاً من قبل الجانب الآخر من الفقه فالأستاذ أبو العلا علي أبو العلا النمر مثلاً يقول يجب ألا نخلط قاعدة خضوع الإجراءات لقانون القاضي، بمفهوم الدفع بالنظام العام الدولي، ذلك أن وظيفة هذا الدفع هي إستبعاد القانون الأجنبي الواجب التطبيق على النزاع أو مختص إختصاصاً عادياً بحكم النزاع وإحلال قانون القاضي محله، لتعارضه مع المفاهيم الأساسية في دولة القاضي ومن ثم ينعقد له الأختصاص في هذا المقام بصفة أستثنائية، مع أنعقاد الأختصاص له في المجال الأجرائي على نحو طبيعي وليس بصفة أستثنائية(12). وعندما يقال أن قواعد الإجراءات متعلقة بالنظام العام فالمقصود من ذلك أن هذه القواعد ملزمة وثم لا يجوز أن يفهم من هذا المصطلح أن هذه القواعد مطبقة بصفة أستثنائية نتيجة لاستبعاد القانون الأجنبي على وفق المفهوم التقليدي لأعمال الدفع بالنظام العام في القانون الدولي الخاص(13)، كذلك هناك من الإجراءات القضائية ما لا يدخل ضمن مفهوم النظام العام والتي يمكن الأتفاق على خلافها والتي تهدف إلى التيسير على الأشخاص ومراعاة مصالحهم وعلاقاتهم القانونية الخاصة، فيجوز الأتفاق على خلافها، وهذه القواعد تدخل ضمن قواعد المرافعات التي تخضع لقانون القاضي، ومع ذلك فأن القاعدة الأساسية كما يقول الأستاذ الدكتور حسن الهداوي هي خضوع هذه الإجراءات للقانون الكويتي فأن الصفة الأجنبية للنزاع قد تؤثر على القواعد المنظمة لأصول المحاكمات فتتبع أحكام خاصة بهذا الشأن كوضع مواعيد معينة وطرق خاصة للأشخاص المقيمين خارج الكويت وحضورهم(14).

الفرع الثالث: خضوع الإجراءات لقانون القاضي كون القضاء مرفق عام.

أن القواعد الإجرائية تنظم مرفقاً عاماً، هو القضاء، ومن ثم إخضاعها لقانون القاضي الذي ينظر النزاع كون أن القضاء مرفق عام يخضع فقط لقانون الدولة التي ينتمي إليها، فالقاضي لا يأتمر بأوامر المشرع الأجنبي فلا يمكن له إلا أن يطبق قانونه الوطني والذي يستمد من سلطته القضائية(15). والقانون القاضي يخضع من حيث الشكل للقانون العام الداخلي بعده ينظم مرفقاً عاماً هو القضاء ولكنه يرتبط مادياً بالقانون الخاص في الإطار الذي يطبق فيه هذا المرفق العام قواعد خاصة في العلاقات الخاصة الدولية، فالقواعد الإجرائية جزء من قواعد القانون العام، وأن السلطة القضائية المنظمة بهذه القواعد، ولهذا تعد تلك القواعد من القانون العام للدولة، وكذلك مبررات هذا الأساس تكمن في السلطة العامة وسيادة الدولة، فسلطة القاضي في إصدار حكم يحسم النزاع وينهي الخصومة القضائية يعد تعبيراً عن عمل السلطة القضائية في الدولة وهو ما يعد تعبيراً عن السلطة العامة فيها، وعلى وفق مبدأ المساواة في السيادة بين الدول، فلا يجوز لدولة ما أن تتخذ إجراءات قضائية في نطاق السيادة الإقليمية لدولة أخرى وفي هذا الخصوص يذهب لوسوارين ويوريل إلى أن التشريعات الفرنسية تحدد المحاكم الفرنسية وليس أهلية المحاكم الأجنبية وكل ما يمكنها أن تفعله هو أن تقرر ما إذا كانت المحكمة الفرنسية مختصة أم لا(16)، وفي ضوء ذلك فأن القاضي ملزم بتطبيق القواعد الإجرائية التي ينظمها قانون دولته ولكن قراره يكون محلاً للنقض، ولكن هذا لا يعني عدم تطبيق القانون الأجنبي أطلاقاً، فالأصل هو تطبيق القانون الوطني، ويمكن إستثناءً تطبيق القانون الأجنبي على بعض العلاقات الخاصة القانونية ذات العنصر الأجنبي إذا كان المشرع الوطني يسمح لذلك وأشار إليه بقواعد الإسناد الوطنية، ذلك أن تطبيق القانون الأجنبي قد جاء بموجب القانون الوطني لدولة القاضي، ومن جهة أخرى توجد عدة أعتبارات في العلاقات الخاصة الدولية لتطبيق القانون الإجرائي الأجنبي، كفكرة أحترام الحقوق المكتسبة والذي يمكن ملاحظته في نطاق تنفيذ الحكم الأجنبي، وفي هذا أثار المشرع الفرنسي كيفية تنفيذ الإنابة القضائية في الخارج بموجب القانون الفرنسي، ما لم يتطلب القانون الأجنبي شكلاً خاصاً لتنفيذها، فإذا كان هذا القانون يتطلب شكلاً معيناً للتنفيذ، تعين على القاضي الفرنسي الرجوع إلى القانون الأجنبي(17)، ويمكن تطبيق القانون الأجنبي على الإنابة القضائية متى ما طلبت الدولة المنيبة تطبيق قانونها الوطني في إقليم الدولة المنابة، وموافقة هذه الدولة على ذلك، ومن ثم يمكن أن يطبق القانون الإجرائي الأجنبي للحصول على أدلة الإثبات في الخارج من خلال الإنابة القضائية، إذا كان من شأنه تحقيق العدالة بصورة أدق وأسرع(18).

وقد أشارت المادة (13) من قانون الإثبات العراقي(19). إلى أن إجراءات الإثبات تخضع لقانون القاضي الذي ينظر الدعوى، وهذا القاضي يحدد على وفق قانونه الوطني طريقة دعوة الشهود لأداء الشهادة –مثلاً- أو أداء اليمين أو أي أجراء آخر مراد أتخاذه بخصوص الدعوى المنظورة أمامه، وكل هذه المسائل تتمتع بصفتها الشكلية، وهي أدلة جزء من الخصومة ويرتب القانون أثراً قانونياً لتطبيقها وجزاءً لمخالفتها وهذا المعنى كما يذهب الأستاذ عز الدين عبد الله هو ما عبرت عنه محكمة النقض الفرنسية بقولها أن طريقة إثبات التصرفات القانونية تخضع، مثل شكلها الخارجي، بتشريعات البلد الذي أبرمت فيه وقواعد العرف فيها(20). وقد أقر معهد القانون الدولي الخاص في دورة انعقاده في لوزان في 11 آب 1947 هذا الإتجاه ووافق على القواعد أهمها أن يجري إثباتها في مواد القانون الدولي الخاص على وفق الإجراءات المقررة في قانون القاضي، وأن يخضع قبول أدلة الإثبات وقوتها عبء أثباتها والقرائن القانونية للقانون الواجب التطبيق على الوقائع والتصرفات القانونية أو العلاقات القانونية المراد أثباتها، وفي الأحوال كلها يكون قانون القاضي هو الواجب التطبيق إذا كان القانون الأجنبي مخالفاً للنظام العام في دولة القاضي. ولكن الصعوبة تثار في ما يمكن عده من مسائل الإجراءات وما يمكن عده من مسائل الموضوع، وخصوصاً إذا علمنا بأن قانون المرافعات وهو قانون أجرائي يضم كذلك قواعد موضوعية(21)، ويلاحظ بهذا الصدد أن التفرقة بين ما يعد من مسائل الإجراءات ومسائل الموضوع مرده إلى قانون القاضي كونها مسألة تكييف والتي يختص بها القاضي الذي ينظر الدعوى، فقد نصت فقرة (أولاً من المادة 17) من القانون المدني العراقي (القانون العراقي هو المرجع في تكييف العلاقات عندما يطلب تحديد نوع هذه العلاقات في قضية تتنازع فيها قوانين لمعرفة القانون الواجب تطبيقه من بينها)(22). أي عد مسألة ما من مسائل الإجراءات أو مسائل الموضوع مرجعها إلى القانون العراقي وتحديد طبيعة هذه المسألة المتنازع فيها وردها إلى نظام قانون معين. والإنابة القضائية بوصفها أجراء قضائي جزء من الدعوى المنظورة، تدخل ضمن مسائل الإجراءات وتخضع لقانون القاضي الذي يتقدم بطلبها، وهذا القانون هو الذي يحدد الكيفية في تحريرها والمعلومات التي يحتويها المطلب ونطاق الإنابة القضائية وكيفية إرسالها وبيان الجهة المختصة بتسليم طلب الإنابة إلى الجهات التي ترسلها إلى الدولة الأجنبية، وبصورة عامة فأن قانون القاضي هو الذي يحدد كافة المسائل المتعلقة بطلب تنفيذ الإنابة القضائية كافة(23).

أما بخصوص القانون الواجب التطبيق عند تنفيذ الإنابة في الدولة الأجنبية الأصل، هو إن قانون تلك الدولة الأجنبية المطالبة بالتنفيذ هو القانون الواجب التطبيق لتنفيذ الإنابة القضائية المرسلة من الدولة التي تنظر أحدى محاكم النزاع. ذلك لأن هذا التنفيذ متعلق بمسألة الإجراءات ومن ثم تخضع لقاعدة (خضوع الإجراءات لقانون القاضي)، وهو الحصول على دليل من أدلة الإثبات، أما محل هذا الدليل فله أهمية في تحديد القانون الواجب التطبيق وهذا المحل قد يكون عملاً قانونياً وهو إتجاه الإرادة لأحداث أثر قانوني معين، كالبيع مثلاً أو فعلاً مادياً كالفعل الضار. هذا المحل يفرق فيه بين ما يدخل ضمن الموضوع وما يدخل ضمن الإجراءات والتي بدورها تؤدي إلى أختيار القانون الواجب التطبيق(24). فالقانون المختص بالموضوع هو ما تشير إليه قاعدة الإسناد الوطنية سواء كان هذا القانون وطنياً أم أجنبياً. فالشروط المتعلقة بوجود الواقعة وصلاحيتها لكي تعد مصدراً للحق تخضع للقانون الموضوع والذي قد يكون أجنبياً كرُكن العقد مثلاً أما الشروط الإجرائية والتي تخضع لقانون القاضي مثل كون الواقعة متعلقة بالدعوى أو إجراءات تقديم الدليل ذاته ما لم تعد جزءً من مسائل المرافعات بأحتسابها قواعد تحقق حسن سير العدالة دون التعرض لموضوع النزاع، فتكون منضمة بموجب أحكام قانون القاضي المطالب بتنفيذ الإنابة والذي يبين كيفية الحصول على الإقرار القضائي من الخصم وكيفية إنتقال المحكمة لمعاينة وإجراءات تقديم الخبرة ومناقشة الخبير، وكيفية أداء الشهادة وكيفية أداء اليمين، حتى لو لم يقر قانون الدولة طالبة التنفيذ بشكل معين للأجراء يقره قانون القاضي الأجنبي الذي ينفذ الإنابة القضائية، وفي هذا الخصوص ذهب الدكتور أحمد عبد الكريم سلامة مسبباً ذلك بالقول: (وحيث أن إجراءات التحقيق أو الإثبات لم ينهض بها القاضي المختص بنفسه، وأناب في خصوصها سلطة أخرى، فيكون إختصاص قانون تلك الدولة بحكم الأشكال والإجراءات اللازمة لتنفيذ العمل –موضوع الإنابة- غير مثير للشك، فيختص قانون السلطة المنابة بحكم كيفية أداء الشهادة وكيفية الحصول على القرار وكذلك كيفية أستجواب الخصوم، والوجه الذي تتم فيه المعاينة والخبرة)(25). كذلك فأن قانون القاضي هو الذي يحدد الأشخاص الذين يمكن سماع شهاداتهم وكذلك الممنوعين عن أدائها، مثل الطبيب أو المحامي. فإذا كانت الإنابة القضائية منصبة لسماع شهادة أحد من هؤلاء الممنوعين عن أدائها بموجب قانون القاضي الأجنبي المراد منه تنفيذ الإنابة، فيمكن لهذا القاضي أرجاء طلب الإنابة والتقيد بقانونه، حتى لو كان قانون الدولة الطالبة يسمح بسماع شهادات من يمنعهم القانون الأجنبي للدولة المطالب منها التنفيذ(26). وتأسيساً على ما تقدم فللمحكمة المطالبة منها تنفيذ الإنابة القضائية اللجوء إلى وسائل الإكراه التي يخولها بها قانونها الوطني في سبيل تنفيذ الإنابة القضائية المرسلة إليها من دولة أخرى، كذلك يمكن لهذه المحكمة أن تلغي قرارها تنفيذ الإنابة القضائية، إذا صدر قانوناً جديداً في دولتها وأن تنفذ هذه الإنابة بموجب القانون الجديد. وإذا كان الأصل أن يطبق قانون القاضي على تنفيذ الإنابة القضائية لدى الدولة المنابة، إلا أنه يمكن إستثناء تطبيق قانون الدولة المنيبة على أجراء الإنابة القضائية في إقليم الدولة الأجنبية، ذلك عندما تطلب الدولة ذلك مع طلب تنفيذ الإنابة القضائية وحصول موافقة الدولة المنابة على ذلك، خصوصاً وأن طبيعة الإنابة القضائية من حيث قبول تنفيذها تسمح في أن تقدم الدولة المطلوب منها التنفيذ بعض التساهل في ذلك. ولكن هذا التنفيذ للإنابة القضائية والذي يطبق عليها قانون الدولة المنيبة، يجب أن تتوافر فيه عدة شروط فضلاً عن طلب هذه الدولة صراحة، وموافقة الدولة المطلوب منها التنفيذ صراحة على ذلك، و يجب الحصول على تلك الموافقة أن لا يكون قانون الدولة المنيبة يتعارض مع النظام العام لدى الدولة الأجنبية (المطالبة بالتنفيذ)، أو حق الدفاع، كذلك فإن الواقع العملي وواقع الملاءمة أو الإتفاق الدولي قد يفرض على الدولة الأجنبية المنابة أن تتبع الأشكال والإجراءات التي يقتضي بها قانون الدولة المنيبة والتي تنظر أحدى محاكمها الدعوى، وهذا نراه بشأن صيغة اليمين أو طريقة التحليف، أو تدخل سلطة دينية معينة(27). ومن جهة أخرى فلغرض الحصول على موافقة الدولة المنابة لتطبيق قانون الدولة المنيبة، فضلاً عن إلى أنه يجب أن لا يتعارض مع النظام العام في الدولة المنابة الأجنبية، فأنه يجب أن لا يستحيل تطبيق هذا القانون لدى الدولة المنابة لصعوبات العملية –مثلاً- أو أنه يتضمن حقوق الدفاع ولكنه لا يرتقي إلى تلك الضمانات لهذه الحقوق التي يوفرها قانون الدولة المنابة(28). أما إذا كان تنفيذ الإنابة القضائية في إقليم الدولة الأجنبية بوساطة الممثل الدبلوماسي أو القنصلي التابع لدولة المنيبة فيخضع هذا الممثل الدبلوماسي أو القنصلي لقانون دولته، ولكن دون أن يكون له الحق في الإخلال بقانون الدولة الأجنبية المعتمد لديها(29). فالقانون الوطني هو الذي يحدد سلطات هذا الممثل ويبين الطرائق التي يمكن لهذا الممثل الدبلوماسي أو القنصلي أن يمارس هذه السلطات من خلالها، فإذا كان تنفيذ الإنابة مخالفاً لأحكام قانون دولته أو كان التنفيذ مشوباً بعيب جزاؤه بطلان هذا التنفيذ، كان ذلك التنفيذ باطلاً بموجب القانون الوطني لهذا الممثل الدبلوماسي أو القنصلي. يتضح مما تقدم أن الأصل هو أن يطبق قانون الدولة الأجنبية المنابة لتنفيذ الإنابة القضائية، وأن الإستثناء هو تطبيق قانون الدولة المنيبة، وإن الأساس القانوني لتطبيق قانون الدولة الأجنبية المنابة هو قاعدة (خضوع الإجراءات لقانون القاضي)، والتي أختلف الفقه في تحديد الطبيعة القانونية لهذه القاعدة، فذهب رأي إلى أن هذه القاعدة هي من قواعد تنازع القوانين، ومن ثم يتحدد إختصاص قانون القاضي بمقتضى قاعدة الإسناد الوطنية، ويؤيد جانب من الفقه المصري النظر إلى هذه القاعدة بعدها من قواعد الإسناد المزدوجة على وفق المعنى المفهوم لدى الفقه التقليدي(30). ويرى جانب آخر أنه لا يمكن عد هذه القاعدة بمثابة قاعدة إسناد، ذلك لأن إختصاص قانون القاضي في هذا المجال يستبعد وجود أي تنازع حقيقي بين قانون القاضي الوطني والقانون الأجنبي، ويستند في ذلك إلى أساس أن أختصاص قانون القاضي بالمسائل الإجرائية مرجعه إلى القانون الدولي العام والذي يخول كل دولة في أن تختص أختصاصاً منفرداً قاصراً على القانون الذي ينظم عمل السلطة القضائية وأجراءاتها وفي هذا الخصوص يذهب الدكتور عز الدين عبد الله إلى القول بأن (الأساس الصحيح الذي تقوم عليه قاعدة خضوع المرافعات لقانون القاضي هو أن القضاء وظيفة من وظائف الدولة تباشرها بوساطة سلطة من سلطاتها العامة ولا شك أن هذه السلطة تؤدي تلك الوظيفة على وفق القواعد المقررة في قانون دولة دون أية دولة أجنبية، وتكون هذه القواعد من القانون العام)(31).

أما الإتجاه الثالث، فيرى أن قاعدة خضوع الإجراءات لقانون القاضي تعد قاعدة مادية من قواعد القانون العام ولكنها تؤدي وظيفة قاعدة الأسناد(32). وهذا الأتجاه وسط بين الأتجاهين السابقين، فإذا كان قانون القاضي هو الواجب التطبيق كون القضاء مرفقاً من مرافق الدولة العامة، كذلك فأن القوانين التي تنظم المرافق العامة هي قواعد قانونية للقانون العام، وإنها قاعدة من قواعد الإسناد والتي يجب أن تحدد نطاقها من خلال التكييف، إذ أن القانون العام الذي ينظم مرفقاً عاماً –القضاء- فأنه يرتبط بالقانون الخاص في العلاقات القانونية الخاصة، حتى تلك التي تحوي عنصراً أجنبياً، ولهذا فأن هذه القاعدة تشبه باقي قواعد الإسناد الأخرى، من حيث أنها تقوم بوظيفة توزيع الأختصاص التشريعي في المجال الإجرائي والذي يخضع جزء كبير منه للقانون الخاص. ومن ثم يمكن أن يكون محلاً لتنازع القوانين، وأن هذا الجانب من الفقه قد أكد تعلق قواعد المرافعات بالقانون العام والذي يبرر تطبيقها إقليميا، ولكنه أشار في الوقت نفسه إلى تعلق إجراءات الدعوى بحقوق المتقاضين ومصالحهم، ومن ثم أتصالها بالقانون الخاص(33).

_______________________

1- نصت المادة (22) من القانون المدني المصري (يسري على قواعد الأختصاص وجميع المسائل الخاصة بالأجراءات قانون البلد الذي تقام فيه الدعوى أو تباشر فيه الإجراءات)). ونصت المادة (23) من القانون المدني السوري (يسري على قواعد الأختصاص وجميع المسائل الخاصة بأجراءات المحاكمة، قانون البلد الذي تقام فيه الدعوى أو تباشر فيه الإجراءات)).

2-Yvon Loussouarn and Pierre Bouel، op. cit، p. 461.

3- د. هشام علي صادق، تنازع الأختصاص …، مصدر سبق ذكره، ص197.

وفي هذا السياق، قيل أنه (لما ظهر تقسيم الأحوال إلى عينية وشخصية على يد الفقيه دار جتريه، أدخل البعض القاعدة في طائفة الأحوال الشخصية بسبب أستمرار القانون المحلي الأعتراف بصحة التصرف خارج مكان أبرامه، ومنهم من أدخلها في الأحوال العينية تأسياً على أن القانون المحلي يسري على شكل العقد بأعتباره واقعة وقعت داخل الأقليم، ولما قامت المدرسة الهولندية بتقسيم الأحوال إلى عينية وشخصية ومختلفة ووجدوا من الملائم أدراج القواعد الخاصة بالشكل في طائفة الأحوال المختلفة التي ألحقوها بالأحوال العينية في إذ كونها أقليمية التطبيق)). د. فؤاد عبد المنعم رياض ود. سامية راشد، مصدر سبق ذكره، ص343

4- د. عز الدين عبد الله، مصدر سبق ذكره، ص623. وكذلك:

Jean Derruppe، droit international prive، dixieme edition، dalloz، 1993، p. 14.

5- د. فؤاد عبد المنعم رياض و د. خالد الترجمان، مصدر سبق ذكره، ص135.

6-المصدر نفسه، ص136

7- د. هشام علي صادق، المصدر السابق، ص298

8- د. عنايت عبد الحميد ثابت، بعض الدروس في تنازع القوانين …، مصدر سبق ذكره، ص23. وفي هذا ذكر الأستاذ د. حسن الهداوي، (لقد جرت العادة الدولية منذ قديم الزمان على إخضاع شكل التصرف القانوني، بصفة عامة إلى قانون الجهة التي تم فيها. وإذا ما تم التصرف في مكان وعلى وفق لقانون ذلك المكان فأنه يكون صحيحاً بما يتعلق بالشكل)، د. حسن الهداوي، القانون الدولي الخاص وأحكامه في القانون الكويتي، الكويت، 1983، ص219.

9- نصت المادة (26) لقانون المدني العراقي (تخضع العقود في شكلها لقانون الدولة التي تمت فيها)، والمادة (20) من القانون المدني المصري (العقود ما بين الأحياء تخضع في شكلها لقانون البلد الذي تمت فيه ويجوز أيضاً أن تخضع للقانون الذي يسري على أحكامها الموضوعية كما يجوز أن تخضع لقانون موطن المتعاقدين أو قانونهما الوطني المشترك) ونصت المادة (21) من القانون المدني السوري (العقود ما بين الأحياء تضع في شكلها لقانون البلد الذي تمت فيه، ويجوز أيضاً أن تخضع للقانون الذي يسري على أحكامها الموضوعية، كما يجوز أن تخضع لقانون موطن المتعاقدين أو قانونهما الوطني المشترك).

10- د. محمد عبد المنعم رياض بك، مبادئ القانون الدولي الخاص، القاهرة، مكتبة النهضة العربية، الطبعة الثانية، ص507.

11- أبو العلا علي أبو العلا النمر، مصدر سبق ذكره، ص200.

12- المصدر نفسه، ص201، وكذلك د. محمد عبد المنعم رياض بك، مصدر سبق ذكره، ص509.

13- د. عبد المنعم البدراوي، مصدر سبق ذكره، ص108.

14- د. حسن الهداوي، مصدر سبق ذكره، ص233

-15Yvon Loussouarn and Pierre Bourel، op. cit.، p. 684

-16Ibid.، p. 685

وقد ذكر الأستاذ الدكتور أحمد مسلم (القانون الذي ينظم سلطة عامة من سلطات الدولة هي سلطة القضاء والذي يقوم بدوره بخدمة عامة، شأنه شأن سائر المرافق العامة والتي يعتبر تنظيمها ونشاطها من القانون العام إذ تكون المرافعات –للنظام القضائي فقط- في القانون العام)، د. أحمد مسلم، مصدر سبق ذكره، ص159

-17 Pierre Mayer-Droit international prive، 6th edition، p. 368.

18- ظهرت عدة نظريات لوضع الأساس القانوني لتطبيق القانون الأجنبي أولها نادى بها الفقه الأنكلوأمريكي والتي وضعت أساس ذلك على نظرية الحقوق المكتسبة –تقوم هذه النظرية على أساس أن القاضي الوطني يلتزم بتطبيق القانون الأجنبي أستناداً لفكرة الحقوق المكتسبة، ويعد ذلك أن القاضي لا يمكن تحديد نطاق لحق مكتسب على وفق لقانون أجنبي بدون الرجوع إلى القانون الذي أكتسب الحق في ظله، مما يستلزم رجوع القاضي إلى هذا القانون. والنظرية الأيطالية والتي تقوم على فكرة أستقبال القانون الأجنبي من قبل القانون الوطني، ويرى هذا الفقه أن النظام القانوني مزدوج فيوجد النظام القانوني الداخلي كما توجد الأنظمة القانونية الأجنبية وأن النظام القانوني الوطني هو بطبيعته نظام حصري بمعنى أن القاضي الوطني يقتصر على تطبيق القاعدة القانونية الواردة في قانون دولته على أنه مراعاة للحاجة العلاقات الخاصة الدولية فأن ذلك يقتضي تطبيق القاضي الوطني للقانون الأجنبي ويفسر هذا بأن القانون الأجنبي يندمج في القانون الوطني ذاته من خلال فكرة أستقبال القانون الوطني للقانون الأجنبي. أما النظرية الفرنسية والتي تقدم على أساس تطبيق القاضي الوطني للقانون الأجنبي لا يعد مسألة قانون وإنما مسألة واقعة، فلا التزام على القاضي بتطبيق القانون الأجنبي الذي تشير إليه قاعدة الإسناد إلا عندما يشير الخصوم على القاضي بذلك والذين يجب أن يزودوا القاضي بمحتوى القانون الأجنبي، وإذا لم يطلب الخصوم ذلك فللقاضي الفرنسي أن يطبق قانونه الوطني بدلاً من القانون الأجنبي، وطالما أن الأمر لا يتعلق بمسألة قانون وإنما بمسألة واقعة، فأن محكمة النقض الفرنسية لا تملك حق رقابة تطبيق القاضي الفرنسي للقانون الأجنبي.

د. أشرف وفا محمد، المبادئ العامة لتنازع القوانين في القانون المقارن، القاهرة، الطبعة الأولى، ج1، لسنة 2003، ص165.

19- نصت المادة (13) من قانون الإثبات العراقي النافذ (أولاً يسري في شأن أدلة الإثبات قانون الدولة التي تم فيها التصرف القانوني، ومع ذلك يجوز للمحكمة أن تطبق القانون العراقي إذا كان دليل الإثبات فيه أيسر من الدليل الذي يشترطه القانون الأجنبي. ثانياً: يسري في شأن إجراءات الإثبات قانون الدولة التي تقام فيها الدعوى).

20- د. عز الدين عبد الله، المصدر السابق، ص35.

21- د. أحمد مسلم، مصدر سبق ذكره، ص343 ، وآدم وهيب النداوي، شرح المرافعات …، ص17

22- نصت المادة (10) مدني مصري (القانون المصري هو المرجع في تكييف العلاقات عندما يطلب تحديد نوع هذه العلاقات في قضية تتنازع فيها القوانين، لمعرفة القانون الواجب تطبيقه من بينها)، والمادة (11) مدني سوري (القانون السوري هو المرجع في تكييف العلاقات عندما يطلب تحديد نوع هذه العلاقات في قضية تتنازع فيها القوانين لمعرفة القانون الواجب التطبيق من بينها).

23- د. أحمد عبد الكريم سلامة، مسائل الإجراءات …، مصدر سبق ذكره، ص124

24- د. حسن الهداوي، المصدر السابق، ص63

25- الدكتور أحمد عبد الكريم سلامة مسائل الأجراءات…، مصدر سبق ذكره، ص125

Jean Derruppe، op، cit; p. 15.

-26Hute، op.، cit. p. 358.

27- د. أحمد عبد الكريم سلامة، الدفوع الأجرائية …، مصدر سبق ذكره، ص12.

-28Pierre Mayer. Op. cit.، p. 369.

29- د. أحمد أبو الوفا، مصدر سبق ذكره، ص471.

30- د. فؤاد عبد المنعم رياض و د. خالد الترجمان، مصدر سبق ذكره، ص216.

31- د. عز الدين عبد الله، مصدر سبق ذكره، ص630

32- د. هشام علي صادق، مصدر سبق ذكره، ص202.

-33Bertrand Ancel and Yveslequette، op، cit; p. 554.

 

(محاماة نت)

إغلاق