دراسات قانونية
محكمة الاحالة من خلال عمل الغرفة الادارية (بحث قانوني)
محكمة الاحالة من خلال عمل الغرفة الادارية
من اعداد : ذ.فكير عبد العتاق
رئيس غرفة بمحكمة النقض
تعتبر محكمة النقض اعلى محكمة في الهرم القضائي للمملكة المغربية، ويتمثل دورها اساسا في مراقبة تطبيق القانون من طرف محاكم الموضوع المطعون في احكامها وقراراتها بالنقض امامها، وهذه الوظيفة الاساسية لا تجعل منها بأي حال من الاحوال درجة ثالثة في التقاضي، وقد ثار نقاش فقهي واسع حول دورها المذكور، فرتب عليه المشرع سحب حق التصدي منها، وذلك بإلغائه للفصل 368 من قانون المسطرة المدنية،
والذي ينبغي التذكير به هو ان الذي يعرض على محكمة النقض هو الحكم او القرار المطعون فيه بالنقض، وليس النزاع في حد ذاته، وقد عزى جانب مهم من الفقه سبب استبعاد الوقائع من رقابة محكمة النقض الى كون الوقائع تختلف حتما من نزاع لآخر، مما يستحيل معه توحيد الموقف منها، في حين ان الجانب القانوني للنزاعات يقبل التكرار، ويشكل عاملا مشتركا بين المتشابهة منها، مما يتيسر معه توحيد الموقف منها، وقد لخص هذا التحليل استاذنا الجليل محمد الكشبور في مقولته التالية “نشاط محكمة النقض عام ومجرد كالقانون نفسه، وليس خاصا ومجسدا كالوقائع 1.
وإذا كانت قرارات محكمة النقض تتوزع ما بين التشطيب على الطعن، او عدم قبوله، او تسجيل التنازل او الصلح، او رفض الطعن او قبوله ونقض القرار المطعون فيه مع احالة القضية او بدون احالة بحسب الاحوال، فان الذي ركزنا عليه في بحثنا هذا هو الموقف الاخير المتمثل في النقض مع احالة القضية او الاطراف على محكمة اخرى من نفس درجة المحكمة التي نقض حكمها او قرارها، او بصفة استثنائية على نفس المحكمة التي صدر عنها الحكم المنقوض وهي مشكلة تشكيلا جديدا، وذلك وفقا لمقتضيات الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية.
وارتأينا ان نجعل موضوع البحث هو محكمة الاحالة باعتبارها مرحلة مضافة الى النزاع، وفي غياب مقتضيات خاصة تنظمها، مما يستنجد معه قضاتها بالمقتضيات القانونية العامة المتعلقة بمرحلة الاستئناف كدرجة ثانية للتقاضي، والكل مع استحضار وجود قرار النقض مع الاحالة في الملف، والذي يقيد المحكمة المذكورة في تعاملها مع القضية، لا من جهة حدود نشر النزاع امامها بحسب الاحوال ولا من جهة تحديد اطرافه مقارنة بأطراف مرحلة النقض، وأخيرا من جهة تحديد نطاق سلطتها على عناصر ومجريات النزاع.
ومدا للجسور بين مجال الفقه كتنظير ومجال القضاء كممارسة عملية، ارتأينا ابراز وتحليل مواقف الغرفة الادارية بمحكمة النقض من محكمة الاحالة، وذلك من خلال قراراتها الحديثة بهدف استخلاص مبادئها القارة والثابتة من المرحلة القضائية المذكورة، باكراهاتها المسطرية والموضوعية، وبالتالي المساهمة في افادة كل معني او مهتم بالموضوع من جهة وإضافة لبنة الى صرح مشروع دشنه باحثون فضلاء قبلنا من جهة اخرى.
محكمة الاحالة :
بداية نشير الى انه اذا كان الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية هو الاطار القانوني المنظم لعملية الاحالة بعد النقض، فان الفقه لاحظ عليه اولا كونه اشترط فقط ان تكون المحكمة الاخرى المحالة عليها القضية من نفس درجة المحكمة التي نقض قرارها، لكن دون التنصيص على ان تكون من نفس نوعها وطبيعتها، واعتبر هذا الجانب من الفقه بان مرد ذلك هو كون المغرب لم يكن يعرف تنوع اختصاص المحاكم حين وضع قانون المسطرة المدنية
2 .
ونعتقد بان هذا التنبيه كاف للعمل على تغيير الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية لملاءمته مع التنظيم القضائي الحالي، ولجعل مقتضياته اكثر دقة، وان كان العمل القضائي لمحكمة النقض يتدارك هذا الاغفال اللاحق بالنص القانوني المذكور.كما ان جانبا اخر من الفقه عاين كون الممارسة العملية لمحكمة النقض تكشف بان الاحالة بعد النقض تكون دائما او غالبا، على نفس المحكمة المصدرة للقرار المنقوض وهي مشكلة تشكل جديدا، رغم ان هذه الامكانية تبقى استثنائية مادام الاصل هو الاحالة على محكمة اخرى من درجة المحكمة التي نقض حكمها، كما لاحظ بان هذا المنحى يكون بدون تعليل 3 غير اننا نخالف هذا الرأي من جهة انعدام تعليل التوجه المنتقد،
اذ درجت محكمة النقض على تعليل قراراتها القاضية بالنقض مع الاحالة على نفس المحكمة مصدرة القرار المنقوض بتعليل عام وموحد هو “ضمان حسن سير العدالة ومصلحة الطرفين”، وهو تعليل يبرر في نظرنا تطبيق الاستثناء دون الاصل، غير اننا ومع الاعتراف بوجاهة اسانيد الرأي المعارض لهذا التوجه القضائي المساند للتطبيق الحرفي للنص عند الاحالة،اي اعمال الاصل قبل الاستثناء، مادامت غاية هذا الرأي هي ضمان الحياد الكامل للمنظومة القضائية التي ستشارك في اصدار القرار بعد النقض، فإننا نقر ايضا بواقعية ونجاعة اسانيد الرأي الاخر الذي يغلب الاستثناء على الاصل بخصوص محكمة الاحالة، على اعتبار ان في تطبيق الاستثناء تفعيل لتقريب القضاء من المتقاضين، ولو جغرافيا، وعدم اثقال كاهلهم بمصاريف وأعباء اضافية ناتجة عن مرحلة ما بعد النقض، غير اننا نغتنم الفرضة، او كما يقول الفقهاء المناسبة شرط لنضيف الى ما سبق اقتراحا يرجح الرأي الاول ولو نسبيا اذ نعتبر بان الاحالة بعد
النقض على محكمة اخرى قد تتخد شكل نوع من اعادة التوزيع الفوقي المتكافئ للقضايا بين المحاكم الاستئنافية، وخاصة في اطار القضاء المتخصص الذي يعرف تفاوتا كبيرا في عدد القضايا الرائجة امام كل محكمة استئنافية بحسب موقعها، وتكفي هنا الاشارة الى الفرق الشاسع في عدد القضايا المعروضة على محكمة الاستئناف الادارية بالرباط مقارنة بمثيلتها محكمة الاستئناف الادارية بمراكش للدلالة على الواقع المذكور والذي لن تغيره على اي حال القضايا المحالة بعد النقض، وان كانت ستساهم في التخفيف منه نسبيا.
وبعد هذا المدخل الضروري لاستقراء اولى الاشكاليات التي يطرحها الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية بالنسبة لمحكمة الاحالة، ارتأينا ابراز وتحليل جانب من عمل محكمة النقض بخصوص محكمة الاحالة، وذلك من خلال القرارات الحديثة الصادرة عن الغرفة الادارية بهدف استخلاص مبادئها القارة والثابتة المرتبطة بالموضوع.
عمل الغرفة الادارية :
من المعلوم ان الغرفة الادارية بمحكمة النقض حاليا – المجلس الاعلى سابقا- كانت وابتداء من شهر مارس 1994، الذي دخل فيه القانون رقم 90-41 المحدث للمحاكم الادارية حيز التطبيق، تعتبر مرجعا استئنافيا لمحكمة موضوع بالنسبة للاحكام الصادرة عن المحاكم المذكورة، الى جانب اختصاصها بالبت ابتدائيا وانتهائيا في طلبات الالغاء بسبب تجاوز السلطة في الاحوال المنصوص عليها في الفصل 9 من القانون المشار اليه اعلاه، وذلك لغاية احداث محاكم الاستئناف الادارية بمقتضى القانون رقم 03-08 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1/06/07 بتاريخ 15 من محرم 1427 (14 فبراير 2006) والذي دخل حيز التطبيق بتاريخ 14/09/2006 طبقا للمرسوم رقم 2/06/187 بتحديد عدد محاكم الاستئناف الادارية ومقارها ودوائر اختصاصها، لتتحول – اي الغرفة الادارية – بعد الاحداث المذكور الى ممارسة دورها الطبيعي كمحكمة قانون تبت في طلبات النقض المقدمة امامها ضد القرارات النهائية الصادرة عن محاكم الاستئناف المذكورة -الا ما استثني منها بمقتضى القانون- او ضد الاحكام النهائية الصادرة عن المحاكم الابتدائية في الاحوال التي ينص عليها القانون.
حالات استبعاد تطبيق الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية :
وقد استبعدت الغرفة الادارية تطبيق مقتضيات الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية في الحالة التي يكون فيها القرار قد صدر عنها كجهة استئنافية، وفي هذا الاطار اعتبرت بان التقدم بمقال اصلاحي وإدخال اطراف جديدة في الدعوى بعد الاحالة على المحكمة الادارية يكون مقبولا، مادام قرار المجلس الاعلى سابقا قد صدر عنه كجهة استئنافية، اذ قضى بإرجاع الملف الى المحكمة الادارية لتبت فيه من جديد بعد ان الغى الحكم المستأنف، فأصبح الامر يتعلق بدعوى مبتدئة ولم يرتب قراره اي مركز قانوني لأي طرف، وبالتالي اكدت محكمة النقض كون مقتضيات الفصل 369 لا تنطبق على الدعوى، وذلك بمقتضى قرارها عدد 353/3 الصادر بتاريخ 06/06/2013 في الملف الاداري رقم 605/4/1/2011* قرار غير منشور*.
وفي نازلة اخرى ايدت توجه المحكمة التي اوردت في قضائها كون الفصل 369 المتمسك بخرقه يخاطب المجلس الاعلى –سابقا- كمحكمة نقض خلافا لنازلة الحال التي بت فيها كدرجة استئنافية- القرار عدد 222/2 الصادر بتاريخ 04/04/2013 في الملف الاداري رقم 1609/4/2/2011 *قرار غير منشور*وفي نزاع اخر الغى المجلس الاعلى سابقا – محكمة النقض حاليا – حكما صادرا عن المحكمة الادارية بسبب التناقض بين الاخذ بالخبرة والحكم بتعويض اعلى من الوارد فيها، وذلك بناء على استئناف الطرفين، واعتبر بان المحكمة المذكورة بعد ارجاع الملف اليها لم تكن مقيدة بأي توجيه من المجلس الاعلى، وانه يمكن لها القيام بجميع اجراءات التحقيق التي تراها مناسبة لاستجلاء النزاع ولتحديد التعويض المستحق، وان الدفع بخرق مقتضيات الفصل 369 المذكور غير مؤسس .
غير ان الغرفة الادارية عادت لتؤكد انه وبصرف النظر عن ان حالة الغائها لأحكام المحاكم الادارية بصفتها مرجعا استئنافيا، وإرجاع الملفات اليها للبت فيها من جديد، لا يخضع لمقتضيات الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية المتعلقة بالإحالة بعد النقض، فان ذلك لا يعني بان المحكمة التي اعيد اليها الملف بعد الغاء حكمها المستأنف، لا تكون ملزمة بما فصل فيه المجلس الاعلى –سابقا- فصلا حاسما – القرار عدد 683/2 المؤرخ في 21/11/2013 في الملف الاداري رقم 2485/4/2/2012 *غير منشور*.
تشكيل هيئة محكمة الاحالة :
ان مؤدى الفقرة الاولى من الفصل 369 المذكور في حالة ركون محكمة النقض الى الحالة الاستثنائية، بإحالة الدعوى بعد النقض على نفس المحكمة المنقوض حكمها او قرارها، هو ان تتشكل الهيئة القضائية التي ستنظر في القضية المحالة، والمعبر عنها في الفصل اعلاه بالمحكمة، من قضاة لم يشاركوا بأي وجه من الوجوه او بحكم وظيف ما في الحكم او القرار الذي هو موضوع النقض، كما اذا كان القاضي قد ترافع عن احد اطراف الدعوى، او سبق له ابداء رأيه في الدعوى بصفته خبيرا او محكما، او كان قد ادى شهادة فيها، وذلك قبل التحاقه بسلك القضاء4، فالمنع يتعلق بالقضاة الذين شاركوا في اصدار الحكم موضوع النقض، وليس غيره من الاحكام المطعون فيها بطريق
اخر من طرف الطعن، ولو كانت امام محكمة النقض، وهذا هو الموقف القار لمحكمة النقض جسده القرار عدد 500 الصادر عنها بتاريخ 11/10/2012 في الملف الاداري رقم 1388/4/2/2011 *قرار غير منشور*. إلا ان رأيا فقهيا مخالفا لهذا التوجه اعتبر بان الفصل 369 يتحدث عن الاحالة من طرف المجلس الاعلى –سابقا- بصفة مطلقة، وان نظره في الاحكام كجهة استئنافية مثلا لا ينزع عنه صبغة محكمة قانون، وحجته في ذلك كون قراراته لم تكن تقبل اي طعن، باستثناء الطعن بإعادة النظر الذي يمارس في اطار مقتضيات الفصل 379 من قانون المسطرة المدنية، وليس في اطار الفصل 402 من نفس القانون، وكون الغاية من الفصل 369 المذكور، حسب الرأي المذكور، بإلزام المحكمة المحال عليها الملف من جديد بعد الغاء الحكم بتشكيل هيئة اخرى غير تلك التي اصدرت الحكم الاول هي اعادة المناقشة والبحث الدقيق في الملف من طرف قضاة لم يسبق ان ناقشوه من قبل ضمانا للموضوعية ولحماية الاطراف، غير اننا نخالف التأويل المذكور بالنظر لنص الفصل 369 المذكور صراحة على حالة النقض دون غيره من طرق الطعن.
وتفعيلا للمقتضى القانوني المذكور فان محكمة النقض وقفت في قضية معينة على كون احد القضاة كان ضمن تشكيلة الهيئتين القضائيتين الصادر عنهما القرار المنقوض ثم القرار الصادر بعد الاحالة، فترتبت على ذلك كون
القرار الثاني قد صدر خرقا لمقتضيات الفصل 369 وقضت بنقضه من جديد “القرار 1109/1 المؤرخ في 09/10/2014 الصادر في الملف الاداري رقم
2193/4/1/2012 *قرار غير منشور*. وبما ان تشكيل المحكمة من النظام العام فان محكمة النقض تثير الخرق المذكور تلقائيا ولو لم يتمسك به طالب النقض ضمن وسائل طعنه.
وقد اثير نقاش اخر في نفس السياق حول مؤسسة المفوض الملكي للدفاع عن القانون والحق، فمشاركة احد القضاة في اصدار قرار كمقرر او عضو او رئيس هيئة ثم مشاركته بعد النقض ضمن تشكيلة محكمة الاحالة كمفوض ملكي لا يعد خرقا لمقتضيات الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية. “القرار عدد 137 الصادر بتاريخ 08/03/2012 في الملف الاداري رقم 1071/4/1/2010- وكذلك القرار عدد 443/1 الصادر بتاريخ 12/03/2015 في الملف الاداري رقم 619/4/1/2013 *قرار غير منشور* والسند القانوني المعتمد في هذا الموقف القار هو كون المفوض الملكي لا يعتبر مشاركا في اصدار الحكم بصريح الفقرة الاخيرة من المادة 5 من القانون 90/41 المحدث للمحاكم الادارية، والتي زادتها توضيحا ورفعا لكل لبس محتمل قد تخلقه عبارة “اصدار الحكم” المادة الثالثة من القانون رقم 03-80 المتعلق بإحداث محاكم الاستئناف الادارية التي نصت على انه ” لايشارك المفوض الملكي للدفاع عن القانون والحق في المداولات” اذ تبقى الغاية من احداث نظام المفوض الملكى بالمحاكم الادارية هي الدفاع عن القانون والحق في المنازعات الادارية المعروضة على هيئة الحكم ولا يمكن اعتباره بأي حال من الاحوال مشاركا في اصدار الحكم او القرار .
ومن ضمن القرارات غير المنشورة التي اعتمدت فيها محكمة النقض نفس الموقف “القرار عدد 137 الصادر عنها بتاريخ 08/03/2012 في الملف الاداري رقم 1071/4/1/2010، وكذلك القرار عدد 926 الصادر بتاريخ 08/12/2014 في الملف الاداري رقم 717/4/1/2011”.
التقييد القانوني لمحكمة الاحالة :
اذا كانت الفقرة الثانية من الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية تنص على انه اذا بت المجلس الاعلى سابقا – محكمة النقض حاليا – في قراره في نقطة قانونية تعين على المحكمة التي احيل عليها الملف ان تتقيد بقراره في هذه النقطة، فان هذا التوجيه او التقييد بالقانوني تتولد عنه عدة اشكاليات نابعة من تحديد طبيعته وحدوده ومداه، ومن ذلك التساؤل حول ما اذا كان قرار النقض مع الاحالة يرجع الاطراف الى الحالة التي كانوا عليها قبل النقض، وبالتالي يعطي لمحكمة الاحالة حرية وسلطة بسط رقابتها على النزاع من كافة جوانبه الشكلية والموضوعية دون اي تقييد، وكذلك التساؤل عن موقفها في حالة النقض الجزئي للقرار، او نقضه كليا ارتكازا على وسيلة واحدة دون مناقشة باقي وسائل الطعن، كما درجت على ذلك محكمة النقض، فهل يحق لمحكمة الاحالة في مثل الاحوال المذكورة البحث عن عناصر الارتباط بين كافة جوانب النزاع، وعن مدى قابليتها للتجزئة من عدمها حتى تتمكن من اختراق التقييد اعلاه، وبالتالي بسط رقابتها على النزاع بأكمله، ام انه وعكس ذلك فقرار النقض مع الاحالة لا يسعفها في ذلك، ويضيق مجال نشاطها.
لقد حاول الفقه الجواب عن التساؤلات المثارة، وكان لكل رأي اسانيده، غير انه باستقراء القرارات الصادرة عن الغرفة الادارية يستنتج منها كون قرار النقض مع الاحالة في حد ذاته هو الحاسم في تحديد الصلاحيات المخولة لمحكمة الاحالة، ونعني بالقرار هنا التعليل والمنطوق مع مراعاة معطيات كل نزاع تفاديا للخروج عن ما تم حسمه قانونيا، وهكذا اعتبرت محكمة النقض بان التقييد المذكور يعني امتناع محكمة الاحالة عن اعادة النظر في النقطة القانونية التي بتت فيها دون ان يتعدى ذلك الى منعها من ان تبني حكمها على فهم جديد لواقع الدعوى تقوم بتحصيله بكل حرية من سائر عناصرها ” القرار عدد 294/2 الصادر بتاريخ 20/03/2014 في الملف الاداري رقم 2743/4/2/2012 *قرار غير منشور* وفي نزاع اخر نقضت محكمة النقض قرارا استئنافيا قضى برفض الطلب وإحالته على نفس المحكمة التي اصدرته استنادا على كون جوهر النزاع هو معرفة ما اذا كانت الاشغال التي تطالب بها الشركة طالبة النقض قد تمت بالفعل ام لا، وان هذه الاخيرة ادلت بمجموعة “من الوثائق الصادرة عن جهات محايدة في النزاع،
والتي لم تنازع فيها الادارة مكتفية بالدفع بكون تصريح المهندس لا يلزمها، ولان المحكمة لم تبحث في الوثائق المذكورة، وبعد الاحالة اصدرت محكمة الاستئناف قرارا قضى لفائدة الشركة المدعية بمستحقاتها عن تلك الاشغال، غير ان الادارة طعنت مرة ثانية بالنقض في القرار الاستئنافي بعلة خرق القواعد المنظمة للصفقات العمومية ولقواعد المحاسبة العمومية ايضا، غير ان موقف محكمة النقض كان واضحا وحاسما، ويتمثل في كون محكمة الاحالة قد تقيدت بالنقطة القانونية التي بتت فيها محكمة النقض، وذلك بإجراء بحث بين الطرفين اكد خلاله ممثل الادارة كون الاشغال موضوع النزاع كانت ضرورية للمرفق، فضلا عن تأكدها من مديونية الادارة من خلال الكشف الحسابي المستند بدوره على التسليم المؤقت ثم النهائي للبضاعة موضوعه”.”القرار عدد 1164/1 الصادر بتاريخ 12/12/2013 في الملف الاداري رقم 2382/4/1/2012 *غير منشور*
وفي نزاع مماثل حسمت محكمة النقض في قرارها في وجوب توفر شروط اربعة للاستفادة من الاعفاء من الضريبة على الارباح العقارية، وهو ما تقيدت به محكمة الاحالة عند بتها في النزاع، واعتبرته بالتالي محكمة النقض تعليلا سليما للقرار الاستئنافي المطعون فيه “القرار عدد 907/2 الصادر بتاريخ 18/09/2014 في الملف الاداري رقم 761/4/2/2013″*غير منشور*.
لكن حيث ان محكمة الاحالة لئن كانت مقيدة بالنقطة القانونية التي تم من اجلها نقض القرار، فان ذلك رهين بان تكون محكمة النقض قد حسمت في تلك النقطة بان وجهت محكمة الاحالة الى تطبيق ما تضمنته، اي ان يظهر الرأي القضائي البات لمحكمة النقض، اما اذا كانت المحكمة الاخيرة لم تتوفر لديها العناصر التي تمكنها من بسط رقابتها على ما انتهت اليه المحكمة المطعون في قرارها امامها اما لعدم بيان السند المعتمد، او لعدم كفاية الوثائق المدلى بها امامها،
وارتأت لذلك نقض القرار المطعون فيه وإحالة الملف على محكمة الاحالة، فان المجال يكون بذلك مفتوحا امام هذه الاخيرة لإعادة تقييم ما عرض عليها من اقوال ووثائق في اطار تحقيقها للدعوى، وبالترتيب على ذلك لا يعتبر ما عللت به محكمة النقض قرارها المذكور من قبيل النقطة القانونية التي تم الحسم فيها والتي توجب على محكمة الاحالة التقيد بها. وفي هذا السياق قضت محكمة النقض برفض الطلب على اساس ان القرار الاستئنافي المطعون فيه لما اجرى البحث بعد الاحالة واستخلص من ذلك النتيجة التي رتبها من التحقيق المذكور فانه يكون معللا تعليلا سليما ومسايرا لأحكام الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية “القرار عدد 1074 الصادر بتاريخ 27/12/2012 في الملف الاداري رقم 662/4/1/2012″*غير منشور*.
كما اوردت في قرار اخر بان نقض القرار الاستئنافي السابق يرجع الاطراف والنزاع الى نفس الوضعية التي كانوا عليها قبله، ولا يلغي الاثر الناشر للاستئناف، لان ما يمنعه الفصل 369 المستدل به انما هو مخالفة محكمة الاحالة لما سبق ان حسمت فيه محكمة النقض، وفي اطار نفس النزاع بشان نقطة قانونية بتت فيها، وليس حصر نظر محكمة الاستئناف، المحالة عليها القضية بعد النقض، في النقطة المذكورة دون غيرها من اسباب الطعن التي قد يكون لها تأثير على وجه الحكم “القرار رقم 610/1 الصادر بتاريخ 09/04/2015 في الملف الاداري رقم 1244/4/1/2013*قرار غير منشور*.
لكن الملاحظ هو انه مقابل هذا الامتثال للتوجيه القانوني لمحكمة النقض، هنالك قضايا، وهي قليلة نسبيا، تقف فيها محكمة النقض على الخرق الصريح لمقتضيات الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية، فترتب على ذلك النقض للمرة الثانية ! ومن ذلك ان المجلس الاعلى سابقا –محكمة النقض حاليا- اصدر قرارا حسم فيه بعدم انطباق المادة 29 من الميثاق الجماعي على النازلة المعروضة، لكونها تتعلق بثبوت عدم ممارسة الرئيس لمهام الرئاسة، وانه لا يكفي القول بان المنتخب يقطن بالخارج لإلغاء العملية الانتخابية، فيكون المجلس الاعلى سابقا بذلك قد فسر النص القانوني المذكور معتبرا بان ما ذهبت اليه المحكمة المنقوض قرارها من اعتماد شهادة الاقامة الايطالية ينطوي على فساد في التعليل، إلا ان محكمة الاحالة “تمردت” عللى ذلك الحسم القانوني، وأعطت للمادة 29 المشار اليها اعلاه تفسيرا خاصا بها ومخالفا لتفسير المجلس الاعلى سابقا الذي اكتسب قراره قوة الشئ المقضي به “القرار عدد 135 الصادر بتاريخ 08/03/2012 في الملف الاداري رقم 563/4/1/2011*قرار غير منشور*،
وفي قضية اخرى حسمت محكمة النقض في كون القرار الاداري المطلوب الغاؤه قد صدر عن جهة غير مختصة بإصداره، وذلك بعلة “ان قرار التفويض نص على كونه يخول الامضاء لكل مسؤول نيابة عن وزير المالية على جميع الوثائق المتعلقة بالمهام المنوطة به، أي ان المفوض له في النازلة بالتوقيع هو المسؤول المكلف بمراقبة وسطاء التامين بنفس المديرية، في حين ان الموقع على القرار الاداري المطعون فيه هو المكلف بمهام التامين و الاحتياط، وبعد النقض والإحالة عمدت محكمة الاحالة الى اعادة مناقشة مشروعية القرار الاداري المذكور من جديد،
لتلخص الى نتيجة مغايرة لما انتهى اليه قرار محكمة النقض، معتبرة انه صدر عن جهة مختصة ! وهو ما اعتبرته محكمة النقض مسا بحجية الشئ المقضى به ما دام قرار النقض والإحالة يعتبر قرينة قانونية قاطعة على كون القرار الاداري المطعون فيه قد صدر متسما بعيب الاختصاص، وهو عيب جسيم ينحدر به الى درجة الانعدام، ورتبت على ذلك نقض القرار الاستئنافي مع اعمالها لمقتضيات المادة 17 من القانون رقم 03-08 المحدثة بموجبه محاكم استئناف ادارية “والتي تعطي لمحكمة النقض، عند التصريح بنقض قرار صادر في دعوى الإلغاء ان تتصدى للبت اذا كانت القضية جاهزة” لتقضي تصديا بإلغاء القرار الاداري المذكور “القرار رقم 233/1 الصادر بتاريخ 05/02/2015 في الملف الاداري رقم 1963/4/1/2013*قرار غير منشور*
وهو ما يبين كون محكمة النقض تبقى امامها عدة خيارات في مثل النوازل المذكورة تتوزع ما بين النقض مع الاحالة على محكمة اخرى من نفس الدرجة، او على نفس المحكمة مصدرة القرار المنقوض،وهي مشكلة تشكيلا جديدا، او النقض مع التصدي اذا كانت القضية جاهزة، وهو امر لا يتصور خلافه ما دامت- أي القضية- قد قطعت مراحل عديدة من التقاضي، لكن هذه الامكانية الاخيرة تبقى محصورة في دعاوي الالغاء دون غيرها، مما يستدعي تدخلا تشريعيا لتوسيع نطاقها، ولو في حدود الحالات التي يتم فيها خرق الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية بشكل صريح مع ملاحظة كون المادة 17 المذكورة تشكل تراجعا محدودا عن سحب حق التصدي من محكمة النقض، وان تم تقرير هذا التراجع لفائدة الغرفة الادارية دون باقي غرف محكمة النقض، ما دامت امكانية تطبيقه قاصرة على دعاوي الالغاء وحدها.
وقد سبق لمحكمة النقض في قرار صدر بجميع الغرف ان اكدت القاعدة التالية “ليس لمحكمة الاحالة المساس بالنقطة القانونية التي سبق للمجلس الاعلى ان بت فيها، واكتسبت بذلك قوة الشئ المقضي به، وإذا كان لها ان تقيم قرارها بعد الاحالة على عناصر جديدة تستخلصها من اوراق الملف فان ذلك مشروط بان لا يكون لاستخلاصها مساس بتلك النقطة القانونية”6
ونشير اخيرا الى انه اضافة الى ما ورد في الفقرة الاخيرة من الفصل 369 موضوع البحث من انه اذا رأى المجلس الاعلى سابقا – محكمة النقض حاليا- بعد نقض القرار المحال عليه انه لم يبق هناك يستوجب الحكم، فانه يقرر النقض بدون احالة. فهناك مساطر خاصة ترتب ايضا عدم الاحالة، كحالة التناقض بين احكام او قرارات غير قابلة للطعن صادرة عن محاكم او محاكم استئناف مختلفة، والتي تقرر فيها محكمة النقض ابطال احد الاحكام المقدمة اليه عند الاقتضاء دون احالة – الفصل 390 من قانون المسطرة المدنية- وحالة النقض لمصلحة القانون، والتي تتحقق في حالة علم الوكيل العام لدى محكمة النقض انه صدر حكم انتهائي على وجه مخالف للقانون او لقواعد المسطرة، وانه لم يتقدم احد من الاطراف بطلب نقضه في الاجل المقرر، فانه يحيله على المحكمة، والتي اذا صدر عنها حكم بالنقض فلا يمكن للأطراف الاستفادة منه ليتخلصوا من مقتضيات الحكم المنقوض، فهنا ايضا لا تقع الاحالة – الفصل 381 من قانون المسطرة المدنية – وكذلك حالة النقض لتجاوز القضاة لسلطاتهم – 382 من نفس القانون.
(محاماه نت)