دراسات قانونية
مسؤولية الطبيب الجنائية عن أخطائه المهنية (بحث قانوني)
المسؤولية الجنائية للطبيب عن أخطائه المهنية – المغرب
يوسف أديب
رسالة لنيل الماستر في قانون المنازعات
جامعة المولى أسماعيل
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية
مكناس
2011/2012
المسؤولية الجنائية للطبيب عن أخطائه المهنية
مقدمة
تعتبر المسؤولية التزاما وضرورة أخلاقية وفكرة لتصحيح الخطأ والاستجابة للواجب، حيث أنها مرتكب الخطأ. وأما في عرف القانون فإن لها وظيفتين :
– وظيفة تعويض الضرر الناتج عن خطأ أحدهم، وهو مجال المسؤولية المدنية إذا كان الضرر ناتجا عن خطأ شخصي.
– وظيفة معاقبة الجاني،وتستجيب لأهداف مختلفة:
1- المسؤولية الجنائية إذا ارتكب المعني جرما
2- المسؤولية التأديبية الإدارية، إذا ارتكب الخطأ في علاقة بالمرفق العمومي
3- المسؤولية التأديبية المهنية إذا كان الضرر يمس مصالح المهنة
ولعل ذلك يبدو جليا في الميدان الطبي، حيث أثارت مسؤولية الأطباء الجنائية منذ القدم، ولا زالت تثير الجدل والنقاش في مجال الفقه وبالخصوص الجنائي منه، وكذا على مستوى التطبيق القضائي . حيث عرفتها الحضارة الفرعونية في مصر، وعرفها البابليون، وتطورت في عهد اليهودّ، ويرجع للإغريق على يد أبقراط الفضل في تحديد أخلاق وآداب المهنة، وأشهر ما عرف عن هذا القسم أنه يمثل التزاما أدبيا أكثر مما هو قانوني، أما الرومان فقد عرفوا المسؤولية الطبية بنوعيها المدنية والجنائية، فكان الطبيب أو الجراح يسأل مدنيا وفقا لقانون “أكويليا” عن الأضرار التي يسببها للغير عن عمله أو نتيجة لخطأه أو إهماله أيا كانت درجة هذا الخطأ، كما كان يسأل جنائيا عن فعله بموجب القانون “كورنيليا” الصادر سنة 81 قبل الميلاد لكن شريطة أن يصدر الفعل عن عمد .
وفي الشريعة الاسلامية نجد نصوصا من القرآن والسنة تقرر الأحكام الجنائية الشرعية في القتل الخطأ، فيقول الله تبارك وتعالى: “وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، فإذا كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله، وكان الله عليما حكيما” النساء الآية 92.
وفي السنة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من تطبب ولم يعلم عنه الطب قبل ذلك فهو ضامن” . طبقا لقاعدة لا ضرر ولا ضرار .
وقد تحدث بعض علماء المسلمين عن منزلة الطب ومكانته، وحثوا على تعلم الطب وتعليمه، فقال الامام الشافعي -رحمه الله- “لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب”، وقال أيضا: “صنفان لا غنى للناس عنهما: العلماء لأديانهم والأطباء لأبدانهم” .
هكذا اهتمت كل الشرائع والأديان بمسؤولية الطبيب الجنائية، والتي تفاوتت فيها الجزاءات بين المفاضلة والتفرقة، التشدد والمرونة، إلى أن استقرت على المساواة والعدل في المسائلة والزجر شرعا وقانونا لدى مختلف الأنظمة المقارنة الحديثة ابتداء مع عصر النهضة حتى عصرنا الحالي. وهو ما دفع المشرع المغربي أن يحذو حذو نظرائه في التشريعات الأنجلوسكسونية وفي التشريع اللاتيني خاصة الفرنسي منه لعدة اعتبارات… وتاريخية بالأساس.
لكن لم تفطن هاته التقنينات المقارنة الأجنبية وحتى العربية، ومعها التشريع المغربي الجنائي والمهني للأطباء. على تضمين أو تحديد مفهوم مدقق للخطأ الطبي داخل منظوماتها الزجرية، مما شكل عبئا حقيقيا للاجتهاد القضائي في استخلاص واستنباط واستجلاء طبيعة الخطأ الطبي أو ماهيته، إلا توسلا بالمقتضيات العامة لقانون العقوبات (الأنظمة المقارنة) أو القانون الجنائي (التشريع المغربي) من منطلق تفسير وإعمال صور الخطأ المجرم في القانون الجنائي لأي خطأ طبي ينسب إلى الطبيب ذو طبيعة جنائية.
أهمية الموضوع:
تكمن أهمية البحث في “المسؤولية الجنائية للطبيب عن أخطائه المهنية”، في مدى حساسية الموضوع، والذي عرف نقاشا فقهيا وقضائيا على مر العصور، حيث أحدث جدلا واسعا حول الأسس القانونية التي على أساسها يمكن اثارة المسؤولية الجنائية للطبيب عن أخطائه المهنية، والتي في الغالب تعد أخطاء لجرائم –غير عمدية-، والأمر يعزى في ذلك إلى القصور التشريعي في ضبط النصوص الجنائية التي تجرم مفهوم الخطأ الطبي بشكل واضح وصريح، دونما الرجوع والركون إلى القواعد العامة قياسا على مفهوم الخطأ بشكل عام.
هذا إلى جانب مزاحمة بعض المبادئ المتعارف عليها طبيا للاجتهاد القضائي في مراقبته للعمل الطبي من أجل مساءلة الأطباء عن أخطائهم المهنية في شقها الجنائي، مثل: “مبدأ حرية الطبيب في العلاج”، ومبدأ “الاستعانة بالغير”، ومبدأ “تنازع تحقيق نتيجة وبذل غاية”…
وهو ما شكل هاجسا لدينا لمقاربة الموضوع نظريا وتطبيقيا لفك المعادلة بين مصلحتين:”حق الطبيب في الاجتهاد الطبي، وحق المريض في العلاج”.
أما عمليا، فإن الحاجة العلمية لمواكبة التحولات التقنية الطبية بالخصوص، تستلزم استنفار جميع المستويات التشريعية والقضائية والفقهية والمدنية…التجند لتخطي أزمة القصور التشريعي بشكل توافقي لمواكبة التقدم الطبي عبر ترسانة تشريعية لنصوص طبية تحدد المسؤوليات والالتزامات بدقة لجميع الفاعلين بالقطاع الصحي، وتجرم بعض الأعمال الطبية التي تتطلب المساءلة الجنائية حماية لضحايا الاخطاء الطبية من العبث واللامسؤولية المهنية للأطباء. فتكون الغاية والحصيلة في الأخير تجاوز وطي ركن –الخطأ- كحد فاصل بين ما يجوز من الأعمال الطبية وما لا يجوز، اعتمادا على هذا الأخير طبقا للمقتضيات العامة الواردة في القانون الجنائي المرتكز القانوني للخطأ غير العمدي. لا يكون ذلك إلا بالتأثيث لقواعد قانونية ملزمة تسائل الأطباء بوجه خاص، ومساعديهم على أساس الالتزامات في جميع مراحل العمل الطبي، حتى لا تتخلف دائرة العقاب الجنائي تحت ذريعة لا توافر ركن الضرر والعلاقة السببية في الجرائم الطبية.
إشكالية البحث
تنحدر اشكالية البحث من محتوى وماهية الخطأ بشكل عام، والخطأ الطبي بشكل خاص عن جرائم الأطباء المضمنة في القانون الجنائي سواء كانت عمدية أو غير عمدية، هاته الأخيرة يصعب احتواء نطاقها بين الأخطاء الفنية والأخطاء العادية. فما يمكن أن يعتبر خطأ فنيا يصلح أن يشكل خطئا عاديا، والعكس صحيح. فتتوسع بذلك متاهة القاضي الجنائي في ضبط هاته الأمور التقنية، حتى بوجود الخبرة القضائية لتكوين قناعته الشخصية، وبالتالي يصعب الترجيح في مجال الإثبات لجهة على حساب أخرى -المرضى أو الأطباء- في المنازعات الطبية الجنائية،وذلك أمام تخلف النصوص القانونية العامة والقوانين المنظمة للمهن الطبية، في تحديد سياق عام قوامه المسؤولية الجنائية للخطأ الطبي، دونما أي إسقاط -للفعل أو الامتناع- الطبي في جريمة الخطأ الطبي قياسا لصور الخطأ في القانون الجنائي المغربي.
وهي اشكالية تتمحور في سؤال عريض موجه بالخصوص إلى المشرع ومؤسسة القضاء خاصة في الوقت الحالي، باعتبار هاته الأخيرة رمزا لإحقاق الحقوق وحماية الضعفاء وتحقيق العدالة، وهو ما يؤكده الدستور الجديد للمملكة المغربية لسنة 2011في فصله 114 الذي نص:
“يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي وتطبيق القانون”.
علما أن الدستور- فاتح يوليوز2011- نفسه، نص في فصله 20 على حماية حق الحياة، وفي فصله 22 التأكيد على “عدم المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص وفي أي ظرف، ومن قبل أي جهة خاصة كانت أو عامة”.
فإلى أي حد يمكن القول بتوفق القضاء، بين معادلة حماية حقوق المرضى في العلاج والسلامة الجسدية، وبين حق الطبيب في الاجتهاد؟
تتفرع عنها مجموعة من التساؤلات نختزلها في سؤال موجه للمشرع، يتأسس حول صمت هدا الأخير عن فراغ النصوص المنظمة للمجال الطبي في ضبط العلاقة بين الطبيب والمريض، وإلى متى ؟
منهجية البحث
سنعمد إلى مقاربة هاته الرسالة، بالاعتماد على المنهج التحليلي النقدي المقارن لعلنا نتوفق في الخروج بخلاصات أو مقترحات، تسهم ولو بقليل في استكناه الغموض الذي يكتنف مفهوم الخطأ الطبي في الجرائم الغير العمدية، والذي تتأسس عليه المسؤولية الجنائية للأطباء، إلى جانب اشتراط كل من الضرر والعلاقة السببية وموقف القضاء من ذلك ، مع الاستئناس بالجرائم التي تشكل خطئا عمديا وتوجب العقوبة الجنائية المنصوص عليها في القانون الجنائي المغربي.
خطة الدراسة
بناء على ما سبق من اشكاليات وتساؤلات، سنحاول معالجة هاته الرسالة “المسؤولية الجنائية للطبيب عن أخطائه المهنية” في قسمين، وذلك على النحو التالي:
الفصل الأول: الخطأ أساس المسؤولية الجنائية للأطباء
الفصل الثاني: نطاق المسؤولية الجنائية للأطباء في ضوء العمل القضائي
الفصل الأول: الخطأ أساس المسؤولية الجنائية للأطباء
تعتبر مسألة الخطأ المهني من المواضيع التي لا تزال تشكل غموضا، باعتبار أن ركن الخطأ هو المركز الذي تدور عليه المسؤولية بصفة عامة وجودا وعدما. فالمشرع المغربي يعتبر كمبدأ عام أن المسؤولية قوامها الخطأ، ما دام وجود هذا الأخير يشعر حتما بوجود المسؤولية.
و إذا كان الخطأ من المفاهيم التي استعصت عن التحديد القانوني الدقيق على أساس الجدل الواسع بين مواقف التشريع و الفقه و القضاء إن على المستوى المدني أو المستوى الجنائي معا ، فإن ما يهمنا هو هذا الأخير في نطاقه الطبي الموجب لمسؤولية الأطباء عن أخطائهم المهنية المادية(العادية) ثم الفنية (المهنية أو التقنية).
فمفهوم الخطأ المهني كما عبر عنه رأي في الفقه هو خطأ فني، و يقصد به ما يصدر عن رجال الفن كالأطباء و الصيادلة و المهندسين و المحامين من خطأ متعلق بأعمال مهنتهم، و يتحدد هذا الخطأ بالرجوع إلى القواعد العلمية و الفنية التي تحدد أصول مباشرة هذه المهن، و قد يرجع هذا الخطأ إلى الجهل بهذه القواعد أو تطبيقا غير صحيح أو سوء التقدير فيما تخوله من مجال تقديري أو هو ذلك الخطأ الذي يتعلق بصناعة الشخص أثناء مزاولته إياها كخطأ الطبيب والمهندس و الصيدلي و ما في حكمهم…
وخطأ الطبيب المهني هو ذلك الخطأ الذي يتصل بالأصول الفنية للمهنة كخطأ الطبيب في التشخيص أو خطئه في اختيار وسيلة العلاج. فالطبيب الذي اعتاد القيام بعمليات الإجهاض في عيادته فيقوم بقتل الأجنة و تقديمها طعاما بعد طبخها إلى كلبه يكون قد ارتكب خطأ مهنيا فادحا . يفيد معه أن الخطأ المهني يتصل بقواعد مهنة الطب، فكل مخالفة لنصوص القوانين الطبية يشكل خطأ مهنيا تترتب عنه مسؤولية الطبيب، و التي تتحدد حسب جسامة الخطأ إلى خطأ مهني جنائي، مدني، تأديبي، أو كلاهم معا أو أحديهما دون الآخر.
يتضح معه أن الخطأ المهني خطأ مادي، و هو ما يجعل من الخطأ المهني يزاوج بين الأخطاء الفنية (المهنية) و الأخطاء المادية و التي يبدو أن هاته الأخيرة ترتسم بجلاء في القواعد العامة أي الجرائم المنصوص عليها في القانون الجنائي المغربي سواء وسمت بالجرم العمدي أو الجرم الغير العمدي غالبا، وهو الأعم الموجب للمسؤولية الطبية في شقها الجنائي. على أن الخطأ المهني صور متعددة المشارب بين تعدد الروافد التشريعية: القوانين المنظمة لمهنة الطب من جهة و القواعد العامة المشكلة في القانون الجنائي ثم بعض القوانين الخاصة: المخدرات، الطب العسكري، طب السجون ، الحالة المدنية، ثم طب الشغل في إطرا مدونة الشغل كما سنرى لاحقا.
لذلك و نحن بصدد دراسة “الخطأ أساس المسؤولية الجنائية للأطباء” في هذا الفصل سنعمد إلى تقسيمه إلى مبحثين:
• المبحث الأول: نبحث فيه ماهية الخطأ الطبي،صوره ووسائل إثباثه
• المبحث الثاني: نرصد فيه عنصري الضرر(النتيجة الإجرامية) والعلاقة السببية في نطاق المسؤولية الجنائية للأطباء
المبحث الأول: ماهية الخطأ الطبي، صوره ووسائل إثباته
إن أهمية دراسة الخطأ الجنائي بصفة عامة، والخطأ الطبي بصفة خاصة. يرجع بالأساس للصبغة الخاصة لطبيعة مسؤولية الطبيب الجنائية التي تختلف تماما عن المسؤولية الجنائية لأي شخص عادي، و أيضا لاتساع حجم الجرائم التي تعج في ردهات المحاكم من أجل إنصافها من الضرر الذي ألحقه الأطباء بزبنائهم لمساءلتهم عن أخطائهم الطبية المهنية جنائيا. وهو ما ينطبق على الوضع في فرنسا دون حصر ظاهرة اللجوء إلى القضاء الجنائي في المجال الجنائي بل هي شاملة للمسؤولية الطبية بوجه عام . ثم إن مشكلة الخطأ هي عسيرة يكتنفها الغموض، ويعترف كثير من الفقهاء بهاته الحقيقة، معتبرين بأنه لا يوجد في قانون العقوبات نظرية لم يزل يشوبها الغموض كنظرية الخطأ غير العمدي الذي ينطبق على الخطأ الجنائي بصورة عامة والذي يزداد دقة وتعقيدا بالنسبة للخطأ الطبي الجراحي بما ينطوي عليه هذا الأخير من اعتبارات دقيقة ومتعددة خاصة مسألة إثباته.
و حتى يتسنى فهم واستكناه هذا الغموض، سنخصص هذا المبحث للتعريف بالخطأ الطبي لبيان مختلف صوره (مطلب أول) ثم نبحث صور الخطأ الطبي ووسائا إثباته (مطلب ثاني).
المطلب الأول: ماهية الخطأ الطبي الجنائي
:
يعد الخطأ الجنائي صورة من صور الخطأ بوجه عام، و يعرف الخطأ الجنائي بأنه مخالفة واجب قانوني تكفله قوانين العقوبات بنص خاص .
و المسؤولية الجنائية كما هو ثابت لا تقوم إلا بعد إثبات الخطأ، و لا يمكن أن تقوم على افتراض الخطأ إلا في حالات نادرة نص عليها المشرع على سبيل الحصر عكس المسؤولية المدنية التي تنبني على خطأ شخصي واجب الإثبات.
فلا مكان إذن للمسؤولية في القانون الجنائي إلا بناء على خطأ، و ما دمنا بصدد الخطأ الطبي الموجب للمسؤولية الطبية في صورتها الجنائية سنقسم هذا المطلب إلى فقرتين: نخصص الأولى للتعريف بالخطأ الطبي ومعياره(الفقرة الأولى) على أن نجعل (الفقرة الثانية) محتوى لصور هذا الخطأ.
الفقرة الأولى: مفهوم الخطأ الطبي ومعيار تقديره وصوره
يعد تعريف الخطأ الطبي أمرا في غاية الدقة و الإستعصاء، و الأمر يعزى بطبيعة الحال إلى غياب تعريف تشريعي يحسم قصور محاولات فقه القضاء واجتهاد الفقه بين أنصار التشدد و أنصار المرونة، وذلك من منطلق الصعوبة والدقة التي تكتنف التفرقة بين الخطأ المادي و الخطأ المهني، و غياب سند قانوني لفكرة الخطأ الجسيم لمساءلة الأطباء عن أخطائهم المهنية. هذا إلى جانب اعتبار مهنة الطب مهنة نبيلة تتربع على هرم حماية الممارس للمهنة بدل محاسبته و الزج به في أغوار السجون، لأنه في النهاية لا يتدخل في جسد المريض إلا بحسن نية و قصد سليم.
و بناء على ذلك سنتناول هذه الفقرة، من خلال نقطتين تندرج الأولى في إطار تعريف الخطأ الطبي، بينما تتعلق الثانية في تحديد معيار تقدير الخطأ الطبي.
htmlspecialchars_decode(‘”‘) أ – تعريف الخطأ الطبي htmlspecialchars_decode(‘”‘)
كما أسلفنا أعلاه فإن تخبط الفقه والقضاء في مقاربة مفهوم دقيق للخطأ بشكل عام لما يحتويه من لبس مفاهيمي نتيجة غياب تعريف تشريعي على مستوى القانون المقارن و في ظل القانون الوطني يجعل من الصعوبة إيجاد تعريف دقيق و متكامل لخطأ الأطباء بوجه عام.
و عليه كيف يمكن استخلاص تعريف محدد للخطأ الطبي، و على أي أساس؟
من المعلوم أن المشرع المغربي لم يعرف الخطأ الطبي، لكن فرغم ذلك فإن الخطأ الطبي يمكن أن يتحدد من خلال ما تنص عليه القواعد العامة في القانون الجنائي من صور للخطأ الطبي . وبتفحصنا للقوانين الطبية المتعلقة بالمهنة فإننا لم نعثر على مدلول معين للخطأ الطبي.
ولعل حظ بعض التشريعات العربية المقارنة كان أوفرمن نظيره المغربي، حيث عرفه قانون المسؤولية الطبية والتأمينات الطبية للإمارات العربية المتحدة في الفقرة الأولى من المادة 27:
“الخطأ الطبي هو الخطأ الذي يرجع إلى الجهل بأمور فنية يفترض في كل من يمارس ذات المهنة الطبية الإلمام بها، أو كان هذا الخطأ راجعا إلى الإهمال أو عدم بذل العناية اللازمة” .
هذه المحاولات التشريعية المحتشمة لتحديد مفهوم الخطأ الطبي دفعت الفقه بوجه خاص كالعادة إلى محاولة الإحاطة بفكرة الخطأ الطبي، حيث عرفه الدكتور أحمد الخمليشي من زاوية الخطأ: “كل عمل أو امتناع إرادي لم يقصد به الفاعل قتل إنسان أو إيذائه و مع ذلك ترتب عنه الموت أو الإيذاء نتيجة عدم تبصره أو عدم احتياطه”.
ويرى Paul Monzein أنه يعد خطأ طبيا: “كل فعل يصدر عن الطبيب سواء اتخذ صورة إهمال أو عدم تبصر أو عدم احتياط بما ينم عن جهل واضح وأكيد بواجباته المهنية، معتبرا بأن – المحاكم زجرية كانت أم مدنية – لا تعاقب على صورة الخطأ هاته إلا إذا كانت غير مطابقة في حد ذاتها للمعطيات الحالية للعلوم الطبية” .
وحسب الدكتور الجواهري المرايني فإن الطبيب يصبح مخطئا ” كلما خرق الإلتزام المفروض عليه بمقتضى العقد الطبي الذي يربطه بالمريض، والذي بموجبه يلتزم إن لم يكن بشفاء المريض، فعلى الأقل ببذل عناية صادقة يقظة ومتفقة في غير الظروف الإستثنائية مع الأصول والمعطيات العلمية الثابتة في الميدان الطبي والجراحي، معتبرا بمثابة أخطاء طبية، تلك التي تنم عن قصور مهني واضح، و نقص معرفي ملحوظ و عدم التقيد بواجب مهني سابق” .
وعرفه البعض بأنه: “ذلك الخطأ الذي يصدر عن شخص يتمتع بصفة الطبيب أو بمناسبة ممارسته للأعمال الطبية لا يصدر عن طبيب يقظ وجد في نفس ظروف الطبيب المسؤول، أو إنه إخلال الطبيب بالتزاماته في مواجهة مريضه، و الذي يتمثل في مخالفة المعطيات والأصول الطبية” .
ويعرفه الدكتور أسامة عبد الله قايد: “كل مخالفة أو خروج من الطبيب في سلوكه على القواعد والأصول الطبية التي يقضي بها العلم، أو المتعارف عليها نظريا وعمليا وقت تنفيذه للعمل الطبي، أو إخلاله بواجبات الحيطة واليقظة التي يفرضها القانون متى ترتب على فعله نتائج جسيمة، في حين كان في قدرته وواجبا عليه أن يتخذ في تصرفه اليقظة والتبصر حتى لا يضر بالمريض”.
بينما عرفته الدكتورة رجاء ناجي بكونه: “السلوك غير السوي الذي لا يأتيه عادة الطبيب الحاذق الذي يوجد في نفس الظروف التي وجد فيها الطبيب مرتكب الفعل الضار”.
فالخطأ الطبي يتجلى في كونه تقصير في مسلك الطبيب، فهو سلوك لا يمكن أن يصدر من طبيب يوجد في نفس الظروف الخارجية التي أحاطت بالطبيب المسؤول، وبعبارة أخرى هو إخلال الطبيب بالقواعد والأصول المتعارف عليها في مهنة الطب .
وما يمكن التعليق عليه بخصوص هاته التعاريف:
–أولا: هي تعاريف قاصرة، لأن بعضها ربط مسؤولية الطبيب عن أخطائه المهنية بالأخطاء المادية، بينما الأخرى ركزت واعتمدت الأخطاء الفنية ذات الطابع التقني التي لها علاقة بالطبيب في ظل أصول مهنة الطب. وهو ما لا يستقيم طبعا، لأن ما يعتبر خطأ ماديا قد يصلح أن ينضم إلى عداد الأخطاء المهنية، وإن كانت غالبية الفقه والقضاء تميل إلى الفصل بين صور الأخطاء الطبية الفنية أو المهنية(التقنية) والأخطاء المادية.
–ثانيا: هي أنها تعاريف تسلم بأن التزام الطبيب اتجاه المريض هو التزام ببذل عناية لا تحقيق نتيجة، وهو ما يجعل من الخطأ الطبي خطأ أخلاقيا تطغى عليه المثالية الطبية التي تنأى كل البعد عن المساءلة القانونية للأطباء.
–ثالثا: تربط مسؤولية الطبيب بتقصيره اتجاه قواعد المهنة وما يمليه عليه الواجب المهني، وأيضا تؤسس المساءلة الطبية على أساس النقص المعرفي الملحوظ للطبيب دائما في ظل مبدأ: “الإلتزام ببذل عناية لا تحقيق نتيجة”.
مما يطرح حتما إشكالية عبء الإثبات في الخطأ الطبي، والتي لا محالة ستقع حتما على عاتق المريض هذا من جهة، و من جهة أخرى مفهوم “النقص المعرفي الملحوظ” مفهوم واسع و فضفاض ويستعصي ضبطه، فهل يعني مهنية الطبيب المنتظمة والمعتادة، أم التزامه باليقظة العلمية ومواكبة آخر المستجدات الطبية ذات الصلة المهنية ، أم يتعلق الأمر بمعادلة حصيلة الطبيب السنوية في النجاح و الفشل العملياتي.
–رابعا: كذلك لم تحط بأهم عناصر الخطأ الطبي الجنائي كما هو منظم في الفصلين 432 و 433 من ق ج المغربي في الأفعال التالية:
“عدم التبصر، عدم الإحتياط، عدم الإنتباه، الإهمال، عدم مراعاة النظم و القوانين”.
ونشير في الأخير إلى أن بعض الفقهاء يفضل استعمال تعبير خطأ الطبيب لكونه يشمل كل الأفعال الخاطئة الصادرة عن الطبيب بصفته طبيبا، وأما الخطأ الطبي فينصرف إلى الأخطاء المرتبطة بالأعمال الطبية بغض النظر عن صفة مرتكبيها . ولعل التعريف الذي أورده القضاء المغربي للخطأ الطبي أشبه ما يعزز هذا الطرح كالآتي:” الخطأ الذي يصدر عن الطبيب بمناسبة تأدية وظيفته، وهو في الغالب خطأ فني”.
وعليه فأمام تعدد الآراء الفقهية لمفهوم الخطأ الطبي، يبقى التساؤل حول معيار تقدير الخطأ الطبي للقول بمسؤولية الطبيب الجنائية عن أخطائه المهنية في النقطة الموالية.
htmlspecialchars_decode(‘”‘) ب – معيار تقدير الخطأ الطبي htmlspecialchars_decode(‘”‘)
يقوم الخطأ الطبي على أساس معيارين من صنع الفقه والقضاء، معيار شخصي يرى أنصاره أنه يتحدد في نطاق شخص الفاعل أي الطبيب وظروفه الخاصة، ومعيار موضوعي يتجسد من خلال قياس سلوك طبيب بزميل له مهنيا من حيث الدرجة والتخصص.
1 – المعيار الشخصي
هو معيار يقوم على أساس الأخذ بعين الإعتبار لما كان يجب على الطبيب المخالف فعله في الظروف التي أحاطت به سواء أكانت ظروفا خارجية أم ظروفا داخلية أي أنه تتم المقارنة بين ما صدر عن الطبيب من خطأ طبي وما اعتاد القيام به في الظروف ذاتها أي الظروف العادية للعمل. فإذا تبين أنه مخل في ما اعتاد القيام به اتجاه المرض من واجباته المهنية، فإنه يسوغ مؤاخذته في نطاق المسؤولية الطبية بوجه عام والمسؤولية الجنائية عن الخطأ الطبي الذي أحدثه بالغير بوجه خاص.
وعليه فإن الخطأ الطبي حسب هذا المعيار يجب الأخذ فيه بعين الإعتبار مركز الطبيب العلمي، ومدى تخصصه وخبرته في ممارسة المهنة لأن الخطأ الطبي الذي يكون أساسه الجراح مثلا من فعله الشخصي يمكن تعريفه بأنه: “تقصير في مسلك الجراح لا يق
ع من جراح وجد في نفس الظروف الخارجية بالجراح المسؤول”. فالأصل أن مسؤولية الجراح لا تثور إلا إذا اعتبر فعله خروجا عن القواعد الفنية، والأصول العلمية الثابتة في علم الطب، إذا اتسم مسلكه بالجهل أو الإهمال الذي لا يصدر من جراح في مستواه المهني سواء كان هذا في مرحلة الإعداد للعملية الجراحية أو أثناء إجرائها أو في العناية اللازمة بعد إجرائها .
وعلى الرغم من وضوح هذا المعيار فإنه أخذ عليه صعوبة تطبيقه، حيث يقتضي ذلك دراسة شاملة لشخصية الطبيب مرتكب الخطأ، وظروفه الخاصة، وحالته العقلية والإجتماعية والصحية وكذلك الظروف المتصلة بجنسه وسنه، كما أن تطبيقه سوف يؤدي بالمسؤولية الجنائية للطبيب إلى اعتماد مجموعة من الإعتبارات الشخصية، ومن تم عدم قيامها عن الأخطاء الطبية زد على ذلك أن مجرد الظرف النفسي قد يكفي لاعتباره دون الظروف الأخرى، فالطبيب الذي تلقى خبر موت أحد أقاربه تحت وطأة الضغط المهني وفي ظل غياب بديل عنه لا يجب اعتبار ما يلحقه من ضرر للغير في الخطأ الطبي مقياسا للمساءلة الجنائية؟
2 – المعيار الموضوعي
إذا كان المعيار الشخصي ينصب على شخص الطبيب في الحيطة والحذر التي أوقعته في غلط طبي نتج عنه ضررا بالمريض. فإن المعيار الموضوعي أقرب ما يكون إلى المعيار الشخصي. فإن كان أوجه الشبه بين المعيارين يلتقيان في الظروف الخارجية و الداخلية للمريض و ما يجب على الطبيب أن يقوم به في الوقت المناسب، فإن المعيار الموضوعي ينفرد في تقدير الخطأ الطبي بسلوك الطبيب المتوسط الحيطة والإنتباه في نفس الظروف الزمانية والمكانية وبتوافر نفس الوسائل.
أي أن مساءلة الطبيب جنائيا عن خطئه الطبي ترتكز في تقديرها بمراعاة ما أحاط بالطبيب العادي عند مباشرته لعمله الطبي من ظروف تقاس على أساس عمل طبيب من فئته متوسط الحيطة والحذر. و بذلك فإن تقدير الخطأ الطبي يعتمد على سلوك طبيب نموذجي يكون من أوسط الأطباء خبرة ومعرفة بالمجال الطبي والجراحي. فهل معنى ذلك أن الطبيب المقتدر لا يقع في الغلط الطبي؟ و إن كان كذلك فما جدوى إسناد مهنة التطبيب لأطباء احتمال الخطأ وارد في علاجهم بنسب مرتفعة؟
لئن كان الخطأ الطبي هو إخلال يقع من طبيب خلال ممارسته مهامه الطبية أو بمناسبتها يترتب عنه ضرر بالمريض، و يكون هذا الإخلال من النوع الذي لا يمكن أن يصدر من طبيب من نوع اختصاصه، عادي في درجة يقظته وعلمه وإحاطته بالأساليب الفنية للمهنة، فإن الغلط يمكن أن يرتكبه أكبر أساتذة الطب وأكثرهم حذقا ومهارة و إلماما بأصول المهنة وخوضا في أعرافها. و قد قال الفقيه جان بينو: “كثيرا ما تقع حوادث دون أن تتم مساءلة الطبيب عن سلوكه الذي لا يكتسي سوى طابع الغلط Erreur الذي يمكن أن يرتكبه أي طبيب آخر مقتدر”.
ولعل ما يمكن استنتاجه بهذا الخصوص معيار – المقايسة المهنية لنفس الظروف الداخلية والخارجية للأطباء – لا يصلح العمل به ما دام بروفيسور في الطب أو الطب المتخصص خطئه الطبي مفترض ووارد بناءا على المخاطر المحدقة والمحيطة بالمهنة، زد على ذلك إكراهات العمل المادية والبشرية والنفسية. لذلك فإن الغلط الطبي لا يجب أن يكون محل مساءلة جنائية ما دام لا يشكل خطأ مهنيا.
3- المعيار الراجح
إن معيار مقارنة “سلوك الطبيب بالطبيب” في ظل المعيارين يجب أن يتجاوز الرأي – التقليدي – الراجح فقها وقضاء الذي يأخذ بالمعيار الموضوعي والذي على أساسه لا يسأل الطبيب إلا إذا أخل بالحيطة والحذر التي تقتضيهما أصول وقواعد المهنة. فحتى المزاوجة بين المعيارين للخيوط الدقيقة تجعل من الصعوبة التمييز والتفرقة بين خصوصية كل معيار على حدة. فالأولى أن يتجه العمل القضائي بالأخص وإلى جانبه اجتهاد الفقه إلى التركيز على عنصر الضرر الذي لحق ضحية الخطأ الطبي.
الفقرة الثانية: صور الخطأ الطبي
تتوزع هاته الصور حسب الترتيب الذي نص عليه الفصلان 432 و 433 من القانون الجنائي المغربي إلى أربع و هي:
1 – عدم التبصر:
ويراد به في التشريعات العربية المقارنة اصطلاح الرعونة. و هي صورة من صورالخطأ الجنائي، تقابلها عبارة “Maladresse” الواردة في النص الفرنسي م 319 ق ج ف، و تعني في الأصل غياب الحذق أو الدراية و نقصان المهارة، بينما عبارة “عدم التبصر” تفيد في حقيقتها معنى الخفة والطيش و يراد بالرعونة سوء التقدير أو نقص المهارة أو الجهل بما يتعين العلم به أو عدم الحذق والدراية وذلك بإقدام الشخص على إتيان عمل مع عدم توافر مهارته لإتيانه ومثال ذلك أن يقدم شخص على عمل غير مقدر خطورته وغير مدرك ما يحتمل أن يترتب عليه من آثا،ر كأن يباشر الطبيب العمل الطبي وهو غير حائز للمعلومات المتطلبة لمباشرة هذا العمل، أو غير متبع الأصول والقواعد المستقرة في علم الطب. وذلك كأن يجري طبيب عملية جراحية غير مستعين بطبيب مختص بالتخدير، أو أن يخلط بين الأمعاء والحبل السري، أو أن يرتكب خطأ ينصب على المبادئ الأولية في التشريح، أو يتسبب في قطع الشرايين في عملية جراحية دون أن يربطها كما تقضي الأصول العلمية، أو أن يقدم على جراحة لمريض دون الإستعانة بالأصول المتبعة في إجراء مثل هذه الجراح فيموت المريض وتتميز الرعونة باندفاع الجاني بنشاطه بشكل يؤدي إلى نتائج مؤثمة، فإذا كان تصرف الإنسان إزاء موقف معين يتطلب منه من الروية والفكر والحذر بتقدير نتائج ذلك التصرف، نجد الجاني في حالة الرعونة عند أول خطر يجول بذهنه دون إعمال ذلك التقدير. و من أمثلة ذلك أن يخطئ طبيب عظام في قراءة صور أشعة فيظن الإصابة كسرا مع تباعد في الأجزاء ويعالجها على هذا الأساس. ق بضحية الخطأ الطبي.
2-عدم الإحتياط
ويقابله اصطلاح عدم الإحترار في بعض التشريعات العربية المقارنة ، ويعد صورة قريبة ومتداخلة مع “عدم التبصر”. ويراد به حالة ما إذا أقدم الطبيب على عمل طبي خطير مدركا خطورته ومتوقعا ما يحتمل أن يترتب عليه من آثار، ولكن غير متخذ الإحتياطات التي من شأنها الحيلولة دون تحقق هذه الآثار، كما يراد به أنه خطأ ينطوي عليه نشاط إيجابي من الفاعل ويدل على عدم التبصر بالعواقب، حيث يعلم الفاعل طبيعة العمل الذي يأتيه وما يمكن أن يترتب عليه من خطر ورغم ذلك يمضي في فعله كما ينصرف إلى عدم التحفظ أو قلته مما يسبب مسؤولية الجاني عن نتيجة سلوكه لأنه كان في استطاعته أن يحول دون وقوع الحادث لو تصرف بحذر وتعقل، وهذه-عدم الإحتياط- تقابل صورة قلة الإحتراز في القانون الأردني إذ أن المخطئ يعلم الطبيعة الخطرة لفعله دون أن يتخذ الإحتياطات لمنع وقوع الخطأ .
أو هو إقدام شخصي على أمر كان يجب عليه الإمتناع عنه، فهو الصورة التي يتخذ فيها الخطأ مظهره في نشاط إيجابي، يتسم بعدم الحذر و تدبر الوقائع .
وعليه فإن عدم الإحتياط كأحد صور الخطأ بشكل عام، والخطأ الطبي بوجه خاص تدور في كنف ضابطين: العلم بطبيعة الفعل الذي سيحدث، ثم عدم تحريك أي ساكن لتوقي حدوث ذلك. فكأنما نحن أمام قصد جنائي عام وخاص، مقترن بإمساك غير عمدي نتيجة عدم الحذر، ترتب عنه فعل جرمي يستوجب المتابعة الجنائية.
وأمثلة عدم الإحتياط تكاد تكون نفسها صور الخطأ في عدم التبصر، وفي هذا الإتجاه مواقف القضاء تتقارب بين القضاء المقارن ونظيره المغربي. ومن بين التطبيقات القضائية الفرنسية لهذه الصورة ما قضت به محكمة النقض الفرنسية “بإدانة طبيب لعدم احتياطه بعد إشرافه على ولادة متعثرة أحاطت بها مخاطر كبيرة فلم يترك للقابلة التي كلفت متابعة هاته الحالة تعليمات مكتوبة و توجيهات محددة إلى حقن المريضة بدواء معين، و تحديد مدة هذا الحقن مما أدى إلى تصرف القابلة منفردة بإيقافها الحقن، فتسبب ذلك في نزيف داخلي للمريضة أسفر عن وفاتها، و بذلك تمت إدانة الطبيب والقابلة معا” و بهذا الخصوص أيضا أدان القضاء الفرنسي – في عديد من أحكامه – الطبيب الجراح والطبيب المخدر لعدم اتخاذهما الإحتياطات اللازمة التي تستدعيها حالة المريض خلال المرحلة السابقة للتدخل الجراحي وأثناءه، مخالفين بذلك ما تقضي به القواعد و المعطيات العلمية في هذا الخصوص، مما أدى إلى وفاة المريض المبضوع، كما اعتبر في – أكثر من مناسبة – مسؤولا جنائيا لعدم احتياطه، الطبيب الجراح الذي لا يتحقق من خلو معدة المريض من الطعام قبل تخديره.
3-الإهمال وعدم الإنتباه
يقصد بالإهمال أو عدم الإنتباه أن يقف الفاعل موقفا سلبيا فلا يتخذ واجبات الحذر التي من شأنها الحيلولة دون وقوع النتيجة الإجرامية، والإهمال قد يقع بفعل الترك أو الإمتناع. كما أنه قد يتحقق عندما يدرك الجاني الأخطار التي تترتب على مسلكه ورغم ذلك لا يتخذ الإحتياطات اللازم لتجنبها. و مثال ذلك الطبيب الذي أشرف على علاج سيدة بعد الوضع وبالرغم من أن حالتها كانت خطيرة، إلا أنه لم يتخذ أي إجراء منتج لإنقاذها… مما سبب وفاتها عقب إصابتها بحمى النفاس.
عموما يمكن القول أن الإهمال كما يرى الدكتور أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح أعلى من الصورتين السابقتين – عدم التبصر، و عدم الإحتياط – فيقال أن “الشخص لم يحتط لأنه لم يتبصر، و لو تبصر فلم يحتط فهو مهمل”.
فإذا كانت صور الإهمال متعددة كالجراح التي يترك في اللحم بعض فتات من العظم، أو يترك في جوف المريض رباطا، أو يهمل في اتخاذ الإحتياطات اللازمة لإجراء التخدير، أو يهمل عند إجراء الفحص، أو يتسبب في نقل العدوى إلى مريض بعدم عنايته وإهماله في تعقيم الجراحة، أو يستعمل علاجا واحدا خطرا في جميع الأمراض بغير فحص دقيق للمرضى، أو حالة الطبيب الذي يكلف شخصا محله بالعناية بمريض فيموت أو تزداد حالته الصحية تدهورا خطيرا سبب له شللا أو ما شابهه فإننا نجد لزاما الوقوف على بعض المواقف القضائية بهذا الشأن حتى تتعزز المعرفة والوضوح.
4-عدم مراعاة النظم والقوانين
تعتبر مخالفة القوانين و الأنظمة صورة مستقلة من صور الخطأ، يغني تحققها في توافر إحدى صور الخطأ الأخرى، ولذلك يكفي ثبوتها لقيام المسؤولية الجنائية – غير العمدية – في حق الفاعل و يتحقق ذلك بمجرد قيام الجاني على خلاف السلوك الذي يستلزمه المشرع في القوانين أو اللوائح أو القرارات أو الأنظمة الموضوعية بهدف حماية الأرواح وتقليل حدوث الأفعال الخطرة التي ينتج عنها ضرر للغير كما يكون بعدم تنفيذ القوانين واللوائح والقرارات على الوجه المطلوب وبالتالي يقتضي مسؤولية المخالف عما يقع بسبب مخالفته ولو لم ينطو الأمر على إهمال أو رعونة أو احتراز.
فالتعاريف متعددة و تصب في نطاق واحد و محدد، وهو مخالفة ما أوجبه القانون. و في هذا المعنى يشير الدكتور أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح:
“والفرض في هذه الصورة من صور الخطأ: أن الجاني خالف التزاما قانونيا يقع عليه، و يستوي في هذه الصورة أن تكون هذه القواعد القانونية صادرة من السلطة التشريعية، أو كانت مجرد قرارات ولوائح أصدرتها السلطة التنفيذية، كما يمكن أن تكون قواعد عرفية في المجال الذي وقع فيه الخطأ”.
يثيرنا لنتساءل عن أهم الإلزامات القانونية لهاته الحالة؟ وهل للطبيب من سبيل للإحتجاج بعدم العلم أو الغلط للنظم والقوانين في الخطأ الطبي؟ وفي الأخير أساس المتابعة الجنائية سيقوم على الخطأ العام أم الخطأ الخاص أو كلاهما معا؟
لعل أهم ملاحظة يمكن استخلاصها في هاته النقطة، أن ما سطره المشرع المغربي من التزامات وواجبات مهنية على الأطباء في القوانين المنظمة للمهنة وبعض القوانين الأخرى كقانون المخدرات، والقانون المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، ثم مدونة الشغل. كلها تدور في فلك إلزامية احترام النظم والقوانين.
ومن خلال وقوفنا على هاته القوانين، نجد الفصول صارمة وتحث الأطباء على الإمتثال للتعليمات والتوجيهات المهنية سواء تعلق الأمر بقانون المهنة وبطبيعة الحال الصادر عن السلطة التشريعية، أوالقرارات واللوائح والمناشير الصادرة عن السلطة التنفيذية منها ما يتعلق بالنظام الصحي العام، و ما يصدر عن وزارة الصحة لمرافقها التابعة لها في القطاعين معا العام والخاص. فمثلا في قانون رقم 10.94 المتعلق بمزاولة الطب نجد على سبيل المثال لا الحصر الفصل 20 ينص:
“لا يسمح لأي طبيب أن يزاول مهنته إلا بعيادة واحدة تقع بالجماعة الحضرية أو القروية أو المجموعة الحضرية التي اختارها وفقا للمادتين 16 و 17 على أنه يمكن أن يؤذن للطبيب في تقديم علاجات بصورة دورية داخل جماعة أخرى أو داخل المجموعة الحضرية غير التي أقام فيها عيادته…”
وهو ما يعني أن مخالفة الطبيب لشرط مزاولة المهنة، أو ممارسة العمل بدون توفر شرط الإذن يعرض هذا الأخير لجزاءات مهنية تأديبية هذا من جهة، ثم إن أي خطأ طبي قد يلحقه الطبيب بالمريض داخل نفس المعنى يعرضه لمساءلة مدنية أو جنائية حسب جسامة الفعل المرتكب على جسم الضحية. فنقول الطبيب لم يراع النظم و القوانين المهنية.
أو ما جاء في المادة 29 من نفس القانون: “لا يجوز لأي طبيب أن يعين للنيابة عنه مؤقتا في عيادته إلا زميلا من زملائه حاصلا على رخصة للنيابة صالحة لمدة سنة تسلم إلى الطالب المتوفرة فيه الشروط المقررة في المواد الواردة بعده…”
ما يفيد أن أي خطأ يصيب زبون العيادة جراء النيابة المؤقتة من زميل المهنة الغير المتوفرة فيه شروط ذلك، كأن يعين طبيب اختصاصي في طب العيون أو أمراض الرأس والحلق والحنجرة طبيبا عاما للنيابة عنه… يعد خطأ مهنيا نتيجة مخالفة النظم والقوانين، و يشكل جريمة مستقلة تستوجب المساءلة للطبيبين معا في إطار قواعد المهنة تأديبيا، ثم جنائيا في ظل قواعد وأحكام القانون الجنائي المغربي عن الجريمة الطبية طبقا لصور الخطأ الطبي: الفصلين 432 و433.
وأيضا ما ورد في المادة 54:
“لا يجوز لأحد أن يكون طبيبا معالجا و طبيبا مراقبا، أو طبيبا معالجا وطبيبا خبيرا بالنسبة إلى مريض واحد”
وهو ما يعني بمفهوم المخالفة أنه يجوز للطبيب أن يجمع بين الصفتين لأكثر من مريض، غير أن العلاج الطبي و المراقبة أو المعالجة و ممارسة أعمال الخبرة لا تمتثلان في ظل هذا النص إلا لأكثر من مريض. مما يستنتج معه أن مخالفة ذلك يجعل العمل المهني للطبيب في مواجهة جريمة مخالفة النظم والقوانين كجريمة تندرج في إطار الخطأ الخاص، والتي تؤول بالطبيب الذي أحدث ضررا بالغير يكون محل متابعة عن جريمته المهنية – مخالفة النظم و القوانين – أمام أعلى هيئة رقابة مهنية في المجال الصحي: المجلس الوطني لهيئة الأطباء.
هذه بعض صور مخالفة النظم في القانون المتعلق بمزاولة الطب وغيرها كثير في باقي القوانين الطبية و القوانين الخاصة.
المطلب الثاني: الصعوبات التي تكتنف إثبات الخطأ الطبي
القاعدة العامة في علم الإثبات أن ” إثبات الالتزام يقع على مدعيه” حسب منطوق الفصل 399 ق.ل.ع المغربي كأصل عام. والذي يندرج في حقل قواعد وأحكام المسؤولية المدنية وينطبق أيضا على مطارحات وسائل الإثبات في المسؤولية الجنائية.
وما دمنا بصدد إثبات الخطأ الطبي لإثارة المسؤولية الجنائية للطبيب عن أخطائه المهنية، فلا مندوحة من التأكيد أن التطور القانوني في المجال الطبي أفرز لنا بعض الالتزامات القانونية، بعضها من ابتداع الفقه والقضاء، والأخرى مصدرها القانون. فالقضاء من خلال تطبيقه للقانون على القضايا التي عرضت عليه بخصوص المسؤولية، والتي تجد أساسها في الشأن الطبي في أن ” لا مسؤولية بدون خطأ”. حيث كانت المحاكم تستعمل صيغا يستفاد منها اشتراط الخطأ الجسيم لتقرير مسؤولية الأطباء من مثل ” خطأ ناتج عن جهل تام في الميدان الطبي أو عن إهمال خطير من جانبه”، “تواطؤ تدليس”، بل كانت تستعمل صيغة “الخطأ الجسيم”. وبعد هجرها للخطأ الجسيم، أخذت تستعمل صيغة أخرى وهي أن “الطبيب إنما يلتزم ببذل جهود صادقة يقظة متفقة في غير الظروف الاستثنائية مع المعطيات الحالية (أو الثابتة) في علم الطب”، وبالتالي تعتبر الطبيب مخطئا كلما أخل بهذا الالتزام، بالنظر إلى كون هذا الالتزام بصفة عامة، هو إخلال بالتزام سابق، مكتفية فقط بالخطأ من غير نعت، بشرط أن يكون هذا الخطأ ثابتا ثبوتا كافيا لديها، وهو الاتجاه الذي أخذته المسؤولية الطبية بعد إقرارها طبيعتها التعاقدية.
على أن تنامي ثقافة المسؤولية الجنائية للأطباء بوجه عام، أفرزت لنا التزامات حديثة تتقرر على إثرها المساءلة لأي طبيب لم يقم بها اتجاه مريض. خاصة قبل مراحل العمل الطبي لكي تنتفي مسؤوليته الطبية في مواجهة ضحية الخطأ الطبي، إما بصفة مباشرة أوبطريقة غير مباشرة من طرف خلفه العام في حالة وفاة هذا الأخير. وإلا أصبحنا أمام قرينة قانونية لإثبات مسؤولية الطبيب المدنية والجنائية معا. وهي: التزام الطبيب بالتبصير، التزامه بالحصول على رضى المريض، ثم التزامه بالسلامة (الفقرة الأولى) على أنه -هذه الالتزامات- تعترضها صعوبات ذات طبيعة مهنية: هيمنة السرية على الأعمال الطبية، تضامن أصحاب المهن الطبية أو كما عبر عنها الأستاذ الدكتور أحمد ادريوش:
” الأطباء لا يقبلون أبدا فكرة الالتزام، وإنما يتحدثون بلغة الواجب، فالطبيب لا يحتمل بالتزامات وإنما بواجبات يمليها عليه ضميره ويقتضيها تحقيق الهدف الذي يسعى إليه كل طبيب وهو ” تحقيق أكبر قدر ممكن من الخير للمريض” وهي واجبات ترتبط بالصفة الإنسانية ذاتها، جسدا وروحا بحيث أن الطبيب في علاجه للجسد عليه أن يقدر ويحترم روح المريض” .
،عدم مسك الملف الطبي الخاص بالمريض، ثم محدودية طبيعية التزام الطبيب بين شد وجذب التزام “بذل عناية أو غاية”، ورسو القاعدة الطبية أحيانا على إقرار مبدأ “تحقيق نتيجة” (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: إثبات الخطأ الطبي والصعوبات الواردة عليه
بالإضافة إلى اشتراط القانون بعض الشروط والالتزامات الأساسية لممارسة العمل الطبي: الإذن القانوني بمزاولة المهنة ، قصد العلاج أو الشفاء للمريض، الامتثال لقواعد وأحكام المهن الطبية. والتي لا تعد في الغالب سوى تطبيقا لشرط – حسن النية- الواجب توافره في الطبيب عند مباشرته لعمليات التطبيب البسيط (الطب العادي) أو التطبيب المعقد (الطب الفني والتقني) على جسم المريض، فإن المشرع تداركا منه للنقص الذي كان يعتري نصوص المهنة- القوانين الطبية- فقد أوجد بعض الالتزامات تتحقق على إثرها مسؤولية الطبيب الجزائية متى ثبت عدم القيام بها قبل أي تدخل جراحي خاصة، وهي: الالتزام بتبصير المريض، الالتزام بالحصول على رضاه، ثم الالتزام بضمان سلامته الجسدية والنف
htmlspecialchars_decode(‘”‘) أ- التزام الطبيب بالتبصير htmlspecialchars_decode(‘”‘)
الإعلام لغة هو: الإخبار والإخطار بواقع معين حتى يكون الطرف الآخر على بنية من أمره، وقد ارتبط ظهور هذا المصطلح في المجال القانوني بنمط التعاقدات التي تحصل بين أطراف غير متوازنة من حيث المراكز القانونية التقليدية لنظرية العقد، كمبدأ “سلطان الإرادة”، ومبدأ “العقد شريعة المتعاقدين”، لإخضاع الطرف الآخر لإرادته، وذلك كله دون أن يخرق المنظومة التقليدية لعيوب الإرادة وفي حقيقة الأمر إن التزام الطبيب بتبصير المريض والحصول على رضاه المستنير قد تأسس عن طريق القضاء الفرنسي، حتى قبل أن يعترف بوجود علاقة تعاقدية بين المتعاقدين، وهو ما يعني أن التزام الطبيب باحترام إرادة المريض يكون عقديا في حالة وجود اتفاق بين الطرفين، بيد أن غياب العقد لا ينفي وجود هذا الالتزام الذي يجد أساسه في مبادئ قانونية تتجاوز حدود العقد، وتجعل منه التزاما عاما يرتبط بمباشرة الأعمال الطبية وهو ما يجعلنا نستشف أن الأساس القانوني لهذا الالتزام تتنازعه مسألتان: العقد الطبي ثم نصوص القانون.
أما من الناحية العملية يثير موضوع الإعلام مسألة تحديد المعلومات التي يجب إيصالها إلى المريض، وعلى أي أساس سيتأسس إثبات الالتزام بالتبصير أو الالتزام بالإخبار أو الالتزام بالإعلام؟
عنصر الإعلام عمليا تعترضه صعوبات، بعضها له علاقة باللغة الطبية وبالتقنية الجراحية الطبية، التي يتعذر على المريض في معظم الأحوال أن يكون عارضا لها وملما بها، والتي لا يملك التعامل معها وتسخيرها للعلاج سوى الطبيب الجراح ذي الكفاءة والاختصاص. ومثل هذه الحقيقة يتعين على الطبيب الجراح أن يعيها ويأخذها بعين الاعتبار لأنه يتعامل – في اغلب الأحوال- مع مريض لا دراية له بالعلوم الطبية والجراحية وبتقنياتها المعقدة والدقيقة وبعضها الآخر له صلة بنفسية المريض المقبل على العملية الجراحية، خصوصا وأن هذا الأخير يبدو في معظم الأحوال- قلقا ومنشغلا بصحته قبل كل شيء، حتى ولو لم تكن حالته تستدعي كل هذا التطور والاضطراب النفسي، كما أن قدرته على المقاومة تكون أقل مما تكون عليه في الأحوال العادية، وفي الحالة التي يتم فيها إعلامه بكل الحقيقة ربما رفض التدخل الجراحي على الرغم من أهميته ولزوميته لمثل حالته… لذلك أجازت المادة 31 من قانون السلوك الطبي المغربي الصادر بتاريخ 8/6/1953 إخفاء الإنذار الخطير على المريض وعدم الكشف عن الإنذار المشؤوم إلا بحذر واحتراز كبيرين، مع إعلام عائلة المريض وأقربائه بذلك بصفة عامة .
فالمرجعية القانونية للالتزام التبصيري بين الطبيب والمريض، تجد مستندها في القوانين المنظمة للمهنة، كما هو الشأن لقانون مزاولة المهنة المغربي 10.94 أو مدونة السلوك الطبي كما أومأنا أعلاه، أو ما يتعلق بقانون التبرع بالأعضاء البشرية أو القانون الداخلي للمستشفيات. وهي في مجملها نصوص متفرقة تتأرجح بين إلزامية الإعلام والإخبار للمريض عن مرضه وما يتوقع حصوله بعد العمل الطبي، وبين شبه الإعفاء من هذا الموجب القانوني الطبي. فهل معنى ذلك أن الطبيب يكون ملزما قانونيا بإعلام المريض بكافة المخاطر المتوقعة؟ وهل هي مخاطر عادية أم لا؟
لقد ذهب القضاء الفرنسي إلى أن المخاطر التي يتعين على الطبيب الإعلام بها هي المخاطر العادية المتوقعة وأما المخاطر الاستثنائية غير المتوقعة فإنه غير ملزم بالإخبار بها، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى قيام بعض المشاكل والصعوبات المادية والمعنوية التي تضر بسلامة عمل الطبيب. فقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأن الطبيب ليس ملزما ” بإعلام المريض مسبقا بمخاطر الشلل النهائي للعصب الفكي الأعلى خلال عملية لعلاج التهاب الجيب بالفم، حيث إن هذه المخاطر لم تكن متوقعة” .
إلا أنه في بعض الحالات يلتزم الطبيب بإعلام المريض، إعلاما كاملا ويبصره بكل المخاطر ولو كانت استثنائية، ويشمل ذلك عمليات التجميل واستئصال الأعضاء والإجهاض الإرادي وهو ما يجد له عدة تطبيقات في القضاء الفرنسي، فقد قضت محكمة النقض بأن: ” لا يكون الطبيب مخطئا إذا لم يخطر المريض باحتمال الإصابة بشلل الوجه عند العلاج من الصمم لأن هذا الاحتمال كان ضعيفا والعملية كانت ضرورية ” وفي حكم آخر قررت بأن “الطبيب الجراح لا يلتزم بإخبار المريض بمخاطر العمل الطبي عندما لا تبدو من المريض أية باذرة تكشف عن عدم تسامحه، ولذلك فإن الجراح الذي اجرى للمريض أشعة بالصبغة لا يعد مخطئا لأنه لم يخبر المريض بمخاطر الفحص الطبي بهذه الطريقة حيث إن احتمال وقوع أضرار مماثلة كانت نادرة وتعد على اصابع اليد” وهو ما يلزمنا للإجابة عن تبعة عبء الإثبات في الخطأ الطبي؟ ووفق أي أساس؟
لقد أسالت هذه المسألة الكثير من الحبر في الفقه المقارن، خلافا للقانون المغربي. وأهم ما سنقف عنده هو التغيير المفاجئ لموقف محكمة النقض الفرنسية بنقلها عبء الإثبات من المريض إلى الطبيب في قرار صادر بتاريخ 25/5/1997 وتتلخص وقائع الدعوى في لجوء السيد Hedruel إلى طبيبه بسبب أوجاع حادة في المعدة فأعلمه هذا الأخير بأن حالته تتطلب تدخل جراحي لاستئصال بعض الأورام الموجودة بمعدته غير أنه أثناء العملية أصيب المريض بثقب في أمعائه فرفع دعوى تعويض ضد طبيبه مستند إلى أنه لم يبصره بالمخاطر المحتملة للعملية الجراحية. وقد عرض النزاع أول مرة على محكمة Rennes التي فرضت على المريض إثبات ما يدعيه لكن محكمة النقض الفرنسية نقضت الحكم وقررت مبدأ جديدا مفاده أن عبء الإثبات يقع على عاتق الطبيب وليس المريض واستندت المحكمة على المادة 1315 ق.م الفرنسي جاء في قرار المحكمة:
” لما كان على عاتق الطبيب التزام خاص بالتبصير في مواجهة مريضه وأنه ملزم بإثبات تنفيذه هذا النظام فإنه يتعين معه القول أن محكمة الاستئناف قد خالفت النص المشار إليه ” ومن بين القرارات الصادرة عن محكمة النقض الفرنسية بعد دخول قانون 4/3/2002 حيز التطبيق قرارها الصادر في 2/10/2002 والذي أكدت فيه أنه: ” يجب أن تكون الأخطار معروفة لدى الطبيب عند مباشرته العمل الطبي” .
وفي مجال الجراحة التحسينية قضت محكمة ليون في حكم لها بأن: “الجراح يلتزم بإعلام المريض الراغب في الجراحة بكافة المخاطر المتوقعة وغير المتوقعة التي قد تنتج عن التدخل الجراحي، وإلا كان الجراح مخطئا لأنه لم يقم بتنفيذ التزامه بإعلام المريض بالمخاطر الاستثنائية تماما والتي يمكن أن تحدث من جراحة التحميل” .
وفيما يتعلق بمرحلة تبصير الطبيب للمريض في العلاج فقد ذهبت محكمة الاستئناف بليون في أحد قراراتها على أنه: ” يجب على الطبيب أن يحيط زبونه علما بمخاطر العلاج والامتناع عنه، حتى يستطيع ان يقارن بينهما” . غير أن هناك حالات أخرى يضيق فيها التزام الطبيب بتبصير المريض ويتعلق الأمر بحالة الضرورة والاستعجال، حيث يقوم الاستعجال على العنصر الزمني، ومن تم يكون التدخل الطبي بشكل استعجالي لا يسمح بتبصير المريض. وهذا ما قضت به محكمة النقض الفرنسية في قرار لها جاء فيه ” المريض الذي جاء إلى الطبيب وهو يعاني من ثقبين غائرين بعظام الفخد يسيل منهما النخاع الشوكي مدعيا أنه لم يبصر بالجراحة التي أدت إلى وجود شلل تام له، فحالة الضرورة والاستعجال لا تستوجبان هذا التبصير، وذلك إعمالا للمادة 32 من قانون آداب ممارسة مهنة الطب” .
وعليه فإن الالتزام التبصيري في- العقد الطبي- يخضع لسلطة الطبيب التقديرية في الإفصاح عن المخاطر التي تعترض العملي، وتتأسس على حالة المريض النفسية ومدى قابليته لتحمل مصيره المحتوم. خاصة في بعض العمليات التي لا تتسم بطابع الخطورة، حيث يصبح إخبار المريض وإعلامه بمثابة واجب يقع على عاتق الطبيب اتجاه المريض، في حين العمليات ذات الطبيعة الفنية كالجراحة التجميلية، الإجهاض الإرادي، ثم نقل وزرع الأعضاء البشرية، فقد ألزم القانون الطبيب في عملية النقل على تبصير المعطي بالمخاطر الطبية التي يواجهها وبكل المخاطر بتفصيل وتدقيق ممل، حتى تكون العملية مشروعة وتنفي وصف الجريمة الطبية عن الطبيب.
وهو ما أكده المشرع في القانون رقم 98-16 المتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة وأخذها وزرعها بمقتضى المادة 8 أن يقوم الأطباء المسؤولون عن عملية أخذ الأعضاء بإحاطة المتبرع علما بجميع الأخطار المتصلة بأخذ العضو البشري، وبالنتائج التي قد تترتب على ذلك. وأن يطلعه بجميع النتائج المتوقع أن تترتب على عملية التبرع من الناحية الجسدية والنفسية، وعلى جميع الانعكاسات المحتملة لأخذ العضو البشري على الحياة الشخصية والأسرية والمهنية للمتبرع، وعلى النتائج المرجوة من زرع العضو في جسم المتبرع له .
فهل في ذلك تلميح إلى اشتراط الكتابة في الالتزام بالإعلام أو ما يصطلح بالالتزام التبصيري خاصة في العقد الطبي؟
لقد ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى أن إثبات الإعلام لا يشترط الكتابة، وإنما يمكن للطبيب الاعتماد على طرق الإثبات وهذا ما أكده قرار محكمة النقض بتاريخ 14/10/1998، حيث أن وقائع القضية تظهر أن طبيبا مختصا في أمراض النساء قام بعملية جراحية استكشافية للتأكد من عدم إصابة الضحية بخلل في الرحم، و الكشف عن أسباب العقم إلا أنه أثناء العملية تعرضت الضحية لانسداد غازي للأوعية وانتقال الغاز المستعمل إلى اوعية الدماغ مما أدى إلى وفاتها، وقد استند ورثة الضحية إلى أن الطبيب لم يعلم الضحية بخطر الانسداد الغازي للأوعية ذو الطبيعة الاستثنائية. فأجابت محكمة النقض وأكدت بأن: “الطبيب وإن كان ملزما بإثبات تنفيذه لواجب إعلام الضحية بمخاطر الكشف والعلاج، إلا أن كيفية إثباته مسألة موضوعية تخضع لتقدير القاضي، ويمكن الاعتماد على القرائن في غياب الدليل الكتابي وقد توصل قضاة محكمة الاستئناف إلى أن المريضة كانت على علم بمخاطر التدخل الجراحي، بل إنها اتخذت قرارها بعد تفكير طويل، كما أنها تعمل بمختبر التحاليل التابع للمصلحة التي أجريت فيها العملية” .
ونشير في الأخير أن الالتزام بالإعلام يكون محلا لمتابعة مدنية وجنائية معا، فمتى ترتب عن عدم إجرائه من طرف الطبيب خاصة في العمليات ذات الطبيعة الفنية والمستعصية، فإنه يعد بمثابة ثبوتي يسائل على إثره الطبيب المخل بهذا النوع من الالتزامات الحديثة والوليدة الاجتهادات والقوانين المهنية الطبية مع الأنظمة المقارنة خاصة مع التشريعات الأنجلوسكسونية (كندا- أمريكا) والتشريع الفرنسي.
والالتزام التبصيري للمريض في القضاء المغربي يبرز بوضوح في قرار صادر حدثيا عن محكمة الاستئناف بالرباط ورد فيه:
” على الطبيب قبل إجراء أية عملية أو صرف أي دواء للمريض القيام بفحص المريض فحصا شاملا وتبصير المريض وإفادته بمجموعة من المعلومات المتعلقة بصحته وبمخاطر المرض والعلاج المقترح وكذلك فوائد هذا العلاج” .
وعليه، فإن القضاء المقارن قد أسس الصرح القانوني لتلطيف نوع العلاقة التي تربط بين الطبيب ومريضه، بموجب واجب الالتزام بالإعلام في القضايا التي عرضت عليه. والتي تأسست وبنت أحكامها من خلال التعديلات القانونية المنظمة للمهنة حفاظا على النظام العام الجسدي للمرضى، في شتى انواع العمليات التي قد يتعرضون لها على يد الأطباء. فالواقع الطبي مليء بملابسات يصعب معها تقدير الخطأ الطبي على الضحية من منظور أصحاب المهنة، فبالأحرى قناعة القاضي للجزم بذلك.
لذلك يتعين على القاضي – الوطني- تشديد رقابته على مثل هكذا التزام – الالتزام بالإخبار- خاصة في كل عملية يتطلب فيها القانون هذا الفرض –الواجب- الدي يتخطى نطاق الدفع بأعراف المهنة، أو الاحتجاج بإكراهات العمل. فالمنازعات الطبية ذات الطابع الجنائي على وجه الخصوص، أسمى من توجه القضاء إلى غض الطرف عن واجبات وأصول المهنة، أو الأدق عدم مطارحة ما يوجبه القانون من واجبات التحذير والتبصير والسلامة في عمليات يطبعها التعقيد والخصوصية.
هذا إجمالا ما يطبع التزام الطبيب بالتبصير، فماذا يمكن أن يتحدد بشأن التزام آخر لا يخلو أهمية من الأول ويتعلق الأمر ب: التزام الطبيب بالحصول على رضى المريض موضوع النقطة الموالية؟
htmlspecialchars_decode(‘”‘) ب- التزام الطبيب بالحصول على رضى المريض. htmlspecialchars_decode(‘”‘)
المبدأ العام أن للمريض الحرية في اختيار طبيبه، ويلزم لقيام الطبيب بالتدخل لعلاجه الحصول على رضاه، وعند انعدام الرضى وتدخل الطبيب فإنه يعتبر مخطئا، غير أن الطبيب يمكن أن يتدخل في بعض الأحوال دون توفر إذن المريض من غير أن يتحمل أية مسؤولية لمجرد تدخله دون رضى المريض – الفصل 431 من القانون الجنائي المغربي-، وفي الحالات التي تقتضي فيها حالة المريض التدخل السريع وعدم انتظار أخذ رأيه أو رأي أوليائه إن كان قاصرا. وإذا كانت للمريض حرية اختيار الطبيب المعالج بالرغم من أن هذه الحرية لا توجد إلا من الناحية النظرية، فمن باب أولى أن يكون له الحق في أن لا يمس الطبيب بجسده إلا بإذن منه بمناسبة مباشرة أي علاج أو عمل طبي. وقد كانت الصعوبات التي يثيرها إثباته-رضى المريض- سببا رئيسيا دفع بعض التشريعات إلى تنظيم إثبات الرضى ببعض الأعمال الطبية بأحكام خاصة. ولا يكتفي بوجود رضا المريض، بل يجب أن يكون هذا الرضى حرا وسليما من أي عيب من عيوب الإرادة وأن يكون صادرا عن تنوير من الطبيب .
ولا يوجد نمط معين لإبداء الرضى، فقد يكون القبول خطيا أو على الشكل المعتاد به شفويا، وإذا كان سابقا رأي المريض ليس موضع نقاش، فإنه أصبح كدلك مع توالي المنازعات وتعددها في هذا المجال،مما جعل المشرع يبحث عن صيغ إلزامية متجددة لتجاوز هذا الإشكال، فقد حرصت المادة الرابعة من قانون 4 مارس 2002 الفرنسي على تأكيد هذا المبدأ بأنه: ” لا يمكن إجراء أي عمل طبي أو علاجي دون الرضى الحر والواضح للمريض، ويمكن للمريض سحب هذا الرضى في أي وقت يشاء”.
أما في المغرب فإن الشروط الإلزامية للطبيب، نجدها في المادة 5 من مدونة الأخلاقيات الطبية التي خرجت إلى حيز الوجود سنة 1953 إلا أن هاته المادة ليست ملزمة بما يكفي، وكذلك من خلال قانون 10-94 المتعلق بمزاولة مهنة الطب في المادة 50 التي تؤكد على حق المريض في اختيار مريضه .
أمام هذا الإلزام التشريعي من خلال المواد المومأ إليها، تظل مسألة الإثبات عائقا في النزاع الطبي الذي يشترط كمبدأ توافر ركن ” الخطأ الطبي” في الجريمة الطبية المقرونة بتخلف رضى المريض Défont du contentment du malade?
قد يجب الطبيب نفسه أمام فاقد للوعي تتطلب حالته علاجا مستعجلا، وبديهي ان المريض في مثل هذه الحالة غير قادر على إعطاء الإذن، كما أن حالة الاستعجال تدعو الطبيب للقيام بعمله دون تأخير؟ الشيء الذي يحول دون الحصول على إذن العائلة، ففي هذه الحالة لا يسأل الطبيب عن عدم الحصول على إذن المريض فالإثبات يقع على عاتق الطبيب وذلك بتقديم الدليل الكتابي بالموافقة أو بواسطة القرائن وشهادة الشهود، وعندما يتم إعفاؤه قانونا من هذا الالتزام في حالة التطعيم الإجباري ضد بعض الأمراض وكذلك ضد الأوبئة أو علاج العمال المصابين في حوادث العمل وكما في الفحوص العسكرية . والأحكام والقرارات القضائية في هذا الشأن متعددة على مستوى القضاء المقارن والقضاء الوطني. تتفاوت فيها وسائل الإثبات بين المرونة والتشدد في مواجهة الأطباء بالمنسوب لهم من منطلق حدود الطبيب العلمية والفنية والقانونية والواقعية في التدخل لإنقاذ مريض أو معالجته حسب الضرورة والظروف القائمة، كذلك بموجب الإذن الذي يتعذر إما لحالة صحية غير قادرة عن التعبير الحر والمستنير بالرضى، أو نتيجة إخفاء مقصود من الطبيب يرتكز على مبدأ “حسن النية” في وقائع غير مرجوة وتعد استثنائية ونادرة الحدوث حفاظا على نفسية المريض – المبضوع- لضمان سلامة ونجاح العملية…
وعند حدوث صعوبة في إقامة الدليل تكون لمحكمة الموضوع سلطة استخلاصه من وقائع وظروف النازلة مع إمكانية الاستعانة بخبير على ظرف التدخل الطبي أو الجراحي، وهو ما سنستنتجه من خلال الأحكام الآتية:
ففي قرار صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط نصت:
” من الالتزامات التي تقع على الطبيب الجراح قبل إجراء العملية الجراحية للمريض أخذ موافقته على ذلك، ويجب أن تصدر هذه الموافقة بعد معرفته بحقيقة العملية والنتائج المحتملة عنها، وأنه لا يجوز إجراء العملية دون رضى المريض، وتزداد أهمية هذا الإجراء في الأحوال التي يتعرض فيها المريض للخطورة عند إجراء العملية حيث يجب موافقة ممثله القانوني أو أقرب أقربائه، وإذا قام الطبيبين بالعملية دون تبصير يعتبر الطبيب مخطئا، وحتى في حالة الاستعجال القصوى لا يعفى الطبيب من هذا الإجراء إلا إذا كانت حالة المريض لا تحتمل التأخير وأن يكون فاقد الوعي وغير قادر على التعبير عن إرادته”
فكلما توفرت حالة الاستعجال ودعت الضرورة واقتضت ذلك مصلحة المريض، إلا وكان على الطبيب أن يتخذ قراره بالاستمرار في العملية دون تردد، كما لو شق بطن المريض لعلاج قرحة في المعدة، ففوجئ بوجود ورم سرطاني، فإنه يمكنه أن يتخذ ما في مصلحة المريض وتقتضيه علم الطب، ولو رأى الأمر إلى استئصال جزء من المعدة وقد قالت بذلك محكمة باريس بتاريخ 20/02/1946. وهو الأمر الذي جعل القضاء ينقسم في اتخاذ قرار حاسم في الموضوع، حيث رأى الاتجاه الأول أن الطبيب ملزم بإنهاء العملية دون أن يقوم بالعملية الثانية إلى حين الحصول على رضى المريض، رغم ما تعرفه العملية الثانية من مضاعفات صحية ونفسية وتبعات التخذير، الشيء الذي دفع الاتجاه الثاني إلى إباحة القيام بعملية دون إذن المريض إذا كان بطبيعة الحال في صالح المريض مع شرط توفر كل الاحتياطات اللازمة التي تستوجب على الطبيب عدم المغامرة بحياة المريض إن هناك خطورة .
وقد كان للقضاء المغربي رأي في الموضوع حيث صرحت الغرفة المدنية لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء 20/04/2000: ” أن الطبيب المعالج لم يحصل على ترخيص أو إذن من المريضة ومن زوجها لإزالة الرحم، وأن الأطباء الخبراء الذين فحصوها بعد استئصال رحمها أكدوا أنها لم تكن تشكو من سرطان يبرر التدخل السريع من طرف الدكتور” .
وفي ذلك ذهب القضاء الاسباني من خلال المجلس الأعلى الذي حمل المسؤولية للمعهد الوطني للصحة والطبيب “الذي قرر ربط قنوات الرحم بموافقة الزوج دون المعنية بالأمر ألا وهي الزوجة، علما أن ربط قنوات الرحم كانت مطلوبة ولكن بمعزل عن نوعية العملية وبشرط إخبار المريضة” .
لكن ما موقف القضاء في حالة رفض المريض للعلاج واستجابة الطبيب لهذا المعطى الواقعي؟
الجواب يجد له تطبيقا في القضاء المقارن سواء الفرنسي أو العربي ويظهر جليا من خلال الأحكام الآتية:
فقد ذهبت محكمة التمييز الفرنسية بقرار لها ” بأن الطبيب الذي يحترم قرار مريضة برفض العلاج أو بإتباع طريقة معينة للعلاج لا يرتكب اي خطأ، بما أن الأصل هو الحرية في التعاقد، إلا أنه في حالة الوضعية الصحية للمريض التي تكون في حالة خطر فما على الطبيب إلا إقناعه بتتبع العلاج المناسب ” وفي قرار آخر تم التأكيد على أن ” الطبيب غير ملزم بإقناع المريض بخطر العمل الطبي الذي يطلبه” .
وهذا ما أكدته محكمة الاستئناف بيروت في قرار لها حيث ” رفضت تحميل المسؤولية للطبيب تبعة قرار المريض برفضه إجراء عملية فحص بالمنظار تحت البنج الموضعي، ما أسهم إلى حد معين في تفويت فرصة التأكد من حالته وتقرير العلاج المناسب له” .
غير أنه في قضية أخرى حاول الطبيب فيها تجاوز رفض العائلة للعلاج لاعتبارات دينية، نظرا للحالة الخطيرة والمستعجلة التي كانت عليها فتاة في سن 19 سنة والتي تعرضت لحادثة سير أدت إلى كسور متعددة تمت معالجتها بمجموعة من العمليات الجراحية إضافة إلى أربع حصص لتحاقن الدم، إلا أنه عند محاولة إضافة الحصة الخامسة لتحاقن الدم، رفضت العائلة بشدة لاعتبارات دينية confession Téhovah وحتى المريضة في صبيحة اليوم الموالي عندما كانت على وعي رفضت حقنها بالدم إلا أن الطبيب نظرا للحالة الخطيرة للمريضة التجأ إلى قاضي الدرجة الأولى (المادة 700 من المسطرة المدنية) “التي تسمح بالقيام بتحاقن الدم وبكل العمليات الطبية الممكنة والناجعة”.
إن محكمة الدرجة الأولى أيدت قرار القاضي وموقف الطبيب نظرا لأن المريضة تعتبر راشدة، وبالتالي يعتبر قرار الأبوين غير مقبول كما أن رفضها غير مقبول، لأن حرية قرارها كان يجب أن يكون بكل حرية واستقلال وليس في وضعية تجعل كل مداركها العقلية والفكرية ضعيفة نظرا لخطورة الحالة، مما يمنعها بأن تعطي موافقة بشكل واعي، كما أن حالتها خطيرة، إضافة إلى ذلك أن الدستور يجد حدوده في القيمة الدستورية لاحترام الإنسان خصوصا في ضرورة الحق في الصحة .
ويستفاد منه أن إدراك الطبيب لعمله وإتقانه له، وتأكده من نتائج العمل الطبي الذي يجريه على المريض يخول له سلطة الرقابة والتوجيه والإشراف وحتى حق -الحجر الجسدي المؤقت- إلى حين تعافيه وإجراء ما يلزم عليه، نظرا لأن إرادته المعيبة في وضعه الصحي يعيب بدوره إرادة العائلة ويشل التفكير المنطقي المعقلن لاتخاذ القرار السليم بتسليم الأمر إلى يد الطبيب العارف بأصول المهنة. فالطبيب النزيه الشريف والغيور صاحب الصحوة والضمير المهني الحي على سلامة مرضاه، قد يلجأ إلى القضاء لوضع اليد في اليد،ودلك من أجل الإطباق على إرادة المريض المشوبة بعيوب واقعية يمثلها الخوف والارتباك وعدم الثقة… في مآل العملية، نرى بأنها تنطبق في إطار عيوب الإرادة من منطلق الفصل 54 ق.ل.ع المغربي الدي نص:
” أسباب الإبطال المبنية على حالة المرض والحالات الأخرى المشابهة متروكة لتقدير القضاة”.
فالقاضي هنا سلطته التقديرية ستعكس الأمر لصالح المريض نفسه في حدود حقوقه على جسده المقيدة في مثل هكذا أمور- الامتناع عن العلاج مثلا – وهو لا يعلم مدى توابع ذلك وعواقبه المستقبلية على صحته، وبالتالي تمتد الوسيلة لفائدة الطبيب المعالج. وهو فعلا يجد مستنده القانوني، في القانون الجنائي المغربي للتدخل العلاجي الطبي في الفصلين 124-125، هذا إلى جانب الفصل 431 الذي قد يكيف هنا- امتناع عن تقديم مساعدة- لشخص في خطر، مادام الطبيب قد رضخ لإرادة مريضه “المشوبة” بعيوب الرضى في حالة إصابة أو مضاعفات ذات طابع إيجابي ألحقها به -الفعل السلبي- للطبيب في طرق باب -القضاء الاستعجالي- إن لزم الأمر أو -النيابة العامة- لإرغام مريض- مخبول- نفسيا في مثل هذه الحالة الرضوح لأوامر الطبيب.
وعليه، ينتابنا تساؤل مهم حول شكل الرضى للمريض كضرورة أخلاقية وقانونية لدحض وسائل الإثبات الطبي من جانب الطبيب خاصة، والمريض عامة في المنازعات المحتملة؟
حماية للمريض من المخاطر المحتملة لبعض الأعمال الطبية الحديثة، دفع بكثير من التشريعات إلى اشتراط شكل خاص لرضا المريض أو غيرهم من الأشخاص الذين تجري عليهم هذه الأعمال، كما هو حال الشخص المانح لأحد أعضائه بقصد الرضا، في حين أخضعته تشريعات أخرى لمراقبة القضاء فضلا عن المراقبة الطبية أيضا، وكذلك الأمر بالنسبة للأشخاص الذي يخضعون لإجراء التجارب البيوطبية، أو لأعمال التحكم في تقنيات الإنجاب في الدول التي نظمتها بنص خاص. ففي مجال التجريب يشير مشروع قانون السلوك الطبي المغربي في مادته 11 على أن: ” إرادة المريض يجب أن تحترم – دائما- قدر الإمكان” وهذا النص اقتبس حرفيا من قانون السلوك الطبي الفرنسي 1979 (م 7)، وقد انتقدت صياغة هذا النص الفرنسي على اعتبار أنه يترك تقدير الحالات التي يجب أن تحترم فيها إرادة المريض، وهو ما تنبه إليه واضعو قانون السلوك الطبي الفرنسي الجديد الصادر بتاريخ 6/9/1995 والذي نص في مادته: 36/ فقرة 1 على أن: ” رضا المريض يجب أن يكون محل اعتبار في جميع الحالات” بينما ظلت صياغة النص المغربي على حالها إلى اليوم .
وشكلية الكتابة تجد سندها في نصوص قانون 16.98 المتعلق بالتبرع بالأعضاء البشرية في نصوص متفرقة حيث نجد المادة 10 تنص: ” يجب أن يعبر المتبرع عن موافقته على أخذ عضو منه أمام رئيس المحكمة الابتدائية التابع لها مقر المتبرع أو أمام قاضي من المحكمة المذكورة يعينه الرئيس خصيصا لذلك الغرض، ويساعد القاضي طبيبان يعينهما وزير الصحة باقتراح من رئيس المجلس الوطني لهيأة الأطباء الوطنية يعهد إليهما بأن يشرحا للمتبرع بالعضو بأبعاد عملية التبرع وللقاضي الفائدة العلاجية المرجوة من عملية الأخذ”.
وفي إطار احترام إرادة (القاصر أو الراشد الخاضع للحماية القانونية) نصت المادة 20 على أنه : ” إذا كان الشخص المتوفى قاصرا أو كان راشدا، خاضعا لإجراء من إجراءات الحماية القانونية، فلا يجوز أخذ عضو من أعضائه إلا بموافقة ممثله القانوني، التي تضمن في السجل الخاص من طرف الطبيب المدير أو ممثله، شريطة ألا يكون المتوفى قد عبر وهو على قيد الحياة عن رفضه التبرع بأعضائه”
وتعتبر هذه الطريقة من أقوى طرق الإثبات، لأن الوثيقة المتعلقة بالرضا يتم تحريرها بمعرفة جهة رسمية، يتمكن القاضي من التأكد من صحة موافقة المتبرع البالغ وتمتعه بكامل قواه العقلية وصدور الموافقة من صاحبها بإرادة حرة ومدركة وفقا للشروط التي حددها القانون. هذا بالإضافة إلى أن تطلب الإذن الكتابي من شأنه إنقاص عدد الذين يرغبون في التبرع العبثي باستئصال أعضائهم متاجرة أو لضرورة ملحة. فالمريض يكون -مرغما لا بطلا – تحت وطأة المعاناة وبالتالي قابليته لشهوة المغامرة الغير المحمودة تمتد فيما لا فائدة.
لذلك فكر البعض الأخذ بنظام بطاقة المعطي” la carte de donneur على غرار بطاقة الهوية أو بطاقة رخصة القيادة يدون فيها الشخص موقفه من التبرع من جثته أو عدمه هذا إلى جانب أن القانون قد جعل هذه الأعمال حكرا على المستشفيات العمومية .
وتحسبا لما قد يثيره عنصر الرضا من مشاكل عملية، فإن الأطباء الجراحين كثيرا ما يعمدون في العمل إلى مطالبة المرضى، قبل مباشرة أي تدخل جراحي “ le permis d’opérer” ويرى د Roger.Nerson بأن هذا الأسلوب الأمريكي الأصل، لا يشكل في حقيقته حجة قاطعة على وجود رضا صحيح وحر من قبل المريض، ويرى د. “عمر دومو” بأن القيمة الحقيقية لهاته الحجة الكتابية تنحصر بالأساس في إثبات حصول الطبيب على رضا المريض بالعلاج، غير أن هذا الرضاء الذي يوقع عليه المريض، ليس من شأنه أن يعفي الطبيب الجراح من المسؤولية مدنية كانت أم جنائية في حال صدور خطأ في العلاج .
وهو ما أخذت به محكمة النقض الفرنسية في أحد قراراتها: ” رضا المريض ضروري لإبرام العقد، بالإضافة إلى تنفيذ محل العقد الطبي، ومن تم يجب على الطبيب ألا يكتم على زبونه، وأن يزوده بكافة المعلومات للحصول على الرضا المستنير” .
ولعل مجرد مخالفة نصوص القانون في شكلية شرط الكتابة، يعد جريمة توجب المسؤولية الطبية جنائيا، متى نتج عن ذلك فعل يشكل جنحة أو جناية. ومدنيا للمطالبة بالتعويض. كما أن اشتراط الكتابة وتوافر رضى المريض، لا يجب أن يخرق النظام العام. وفي هذا سارت محكمة النقض الفرنسية في قرارها المؤرخ في 9 نونبر 1962 بقولها: “الرضى عديم الفعالية طالما أن العملية الجراحية تفتقد للمشروعية وأن الجراحة التي تهم الأعضاء التناسلية تعد غير مشروعة ولو اقترنت برضا الشخص الواقعة عليه، باعتبار الرضى لا يسمح للجراح بخرق النظام العام” كما اعتبر القضاء الألماني “الرضا سبب تبرير بالنسبة للعمليات الجراحية التي تهدف لا لمعالجة الشخص الواقعة عليه وإنما لمعالجة شخص آخر، كالتنازل الحر والمتبصر عن الدم أو عن أجزاء أخرى كالجلد لفائدة مريض” .
وكذا لم يبردد القضاء المصري في قضايا زرع الأعضاء” من نزع الفعالية عن الرضى متى كان الفعل المأتى به، يتجاوز النصيب الفردي في جسم الإنسان ويلحق أذى بليغا بالمجني عليه” .
فالحصول على رضا المريض، واقعة ينفرد بسبرغموضها ركن وشرط مكمل للالتزامين السابقين – الالتزام بالإعلام، والإلتزام بالحصول على رضى المريض- وهو التزام الطبيب بضمان سلامة المريض مادام هذا العنصر- السلامة- غير قابل للتحقق بنسب عالية ومتفاوتة إذا ما تخلف التزام التبصير ورضى المريض؟ وهو ما سنبرزه من خلال القراءة المبينة أسفله.
htmlspecialchars_decode(‘”‘) ج) الإتزام بالسلامة بين التدخل التشريعي وإقرار القضاء htmlspecialchars_decode(‘”‘)
يذهب بعض الفقه إلى أن المقصود بضمان سلامة المريض ليس الالتزام بشفائه، ولكن بأن لا يتعرض المريض لأي أذى من جراء ما يستعمله من أدوات أو أجهزة وما يعطيه من أدوية، وألا يتسبب في نقل مرض آخر إليه بسبب العدوى لعدم تعقيم الأدوات أو المكان أو عن طريق ما ينقل إليه من دم أو محاليل أخرى( ). ويعد القضاء الفرنسي مصدر الالتزام بالسلامة، وبذلك يكون قد أقر مبدأ مهما في إقامة التوازن العقدي ما بين أطرافه، باعتبار المريض طرفا ضعيفا تجاه المهني نظرا لغياب نص قانوني يكفل حماية وسلامة المريض، وتبعا لذلك تم إقرار مبدأ الالتزام بالسلامة في العقد الطبي في أول مرحلة باعتباره التزاما ببذل عناية وهو ما أكدته محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 6 مارس 1945 في أحد قراراتها حيث اعتبرت أن: “الطبيب الذي يقدم الدواء، لا يلتزم تجاه المريض إلا بأن يقدم له العناية والرعاية”( ).
وإقرار الالتزام بضمان السلامة كالتزام عام يقع على الأطباء والمصحات والمستشفيات، ويتمثل في عدم تحميل المريض أعباء إضافية وهوالتزام بتحقيق نتيجة، وعلى المريض فقط إثبات ما أصابه من ضرر، ويبقى على الطبيب لدفع المسؤولية عنه أن يثبت أن ما لحقه من ضرر كان من فعل سبب أجنبي لا يد له فيه وهذه أهم حيثياته :
“وحيث إنه إذا كان التزام الطبيب بعلاج ما يعانيه المريض من مرض تم تشخيصه وهو عادة التزام بعناية لكون الطبيب غير ملزم بشفائه من هذا المرض، بل عليه فقط بذل جهود صادقة ومتفقة مع المقتضيات العلمية المستقر عليها في علم الطب، فإنه في نفس الوقت ملزم بضمان سلامة هذا المريض بعدم تحميله أعباء إضافية، لاسيما أن المدعية أخضعت للعمليتين الجراحيتين على ثدييها لعلاجها من الآلام التي تعاني منها على مستوى عمودها الفقري بعد موافقتها ودون علمها بانعكاسات ذلك على ثدييها، ويكون بذلك المدعى عليه قد ساهم في تحملها أعباء جديدة لم تكن بحسبانها، مما يعتبر إخلالا منه بالتزام بضمان سلامة مرضاه، الذي هو التزام بتحقيق نتيجة، وعلى المريض فقط إثبات ما أصابه من ضرر ويبقى على الطبيب لدفع المسؤولية عنه أن يثبت أن ما لحقه من ضرر كان بفعل سبب أجنبي لا يد له فيه، وهو لا وجود له بالملف”( ).
فالالتزام بضمان السلامة ذو طبيعة تقصيرية يتحدد مضمونه في الأضرار غير المتوقعة الناتجة عن استخدام الأجهزة الطبية. وهنا نتحدث عن مسؤولية الطبيب في إطار نظرية حارس الأشياء كما هي مؤطرة في القانون المدني( ). وبطبيعة الحال لا يتحقق ذلك نظريا إلا بتوافر العقد الطبي الذي ينشأ التزاما بين الطبيب والمريض. وبذلك تتحقق مسؤولية الطبيب حتى ولو لم يرتكب أي خطأ في الحراسة وإن كان المشرع تحاشى استعمال كلمة خطأ في الحراسة.
وصدرت قرارات عديدة عن المجلس الأعلى تحمل الحارس المسؤولية بالرغم من عدم ارتكابه لأي خطأ وبالرغم من الحكم ببراءته جنائيا( ). كما جاء في قرار آخر : “عند إثبات الحارس أنه كان يستحيل عليه القيام بأية محاولة وأن خطأ خصمه كان غير متوقع، ولا يمكن تجنبه، فإن ذلك كاف للقول بأنه قد فعل كل ما في استطاعته لتجنب الضرر”( ).
إن منطوق الأحكام السالفة يجعل من تنفيذ العقد الطبي، وحتى الالتزام التقصيري بين الطبيب والمريض، يقتضي ضمان سلامة المريض طبعا بمراعاة واجبات الحيطة والحذر في العلاج، وهو ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف بباريس في أقد قراراتها التي ورد فيه : “التزام المصحة يتمثل في تزويد المريض بسائل يستجيب بحسب طبيعته ونوعيته للهدف المقصود من العلاج، وبأن سائلا أزرق مسبب لضرر يشكل إخلالا بهذا الالتزام، دون حاجة إلى البحث فيما إذا كان سبب الحادث يكمن في الخلط الذي وقعت فيه الممرضة بين مجموعة من القوارير، أو غلط المبنج لقواعد المسؤولية العقدية عن الجوامد التي سبقت الإشارة إليها”( ).
فمسؤولية الطبيب بسلامة المريض في العلاج تتجسد في العلاقات الناشئة عن الأدوية، إذ أن القانون يفرض على الصانع التزام التحذير وتقديم معلومات حقيقية عند حصوله على رخصة التصنيع وهو ما يجد له تطبيقا أيضا في القضاء الفرنسي يلتزم بموجبه صانع الدواء بضمان سلامة المريض وتتلخص وقائعه في أن “طبيب وصف لمريضه مجموعة من الحقن تسمى “Big Bill” لتؤخذ بالوريد، غير أنه عند تعاطي هذه الحقن (أخذت بالعضل) نتج عن ذلك التهابات وثلاث قرحات خطيرة لدى المريضة مما استتبع تدخل جراحي وعملية ترقيع جمالي وإقامة بالمستشفى، وكان يستوي حسب النشرة المرفقة بعلبة الحقن أخذها بالوريد أو بالعضل، وقد أثبت الخبراء الذين انتدبتهم المحكمة لهذه الدعوى أنه لا يوجد خطأ يمكن نسبته إلى صانع الدواء وأن الإصابات والأضرار التي لحقت المريضة ترجع إما إلى غياب التعقيم الكامل للحقنة أو إلى وجود عناصر مرضية في جسم المريضة، وقد سبق لمحكمة أول درجة أن قضت في هذه الدعوى بمسؤولية صانع الدواء العقدية لإخلاله بواجب التحذير وذلك على أساس أن الصانع وإن كان لا يلتزم بتحقيق نتيجة وهي شفاء المريض فإنه ملتزم على الأقل بضمان سلامة المريض وألا يلحق به الدواء ضرر جديد لا علاقة له بالمرض الذي يعالج منه” وعند نظر محكمة الاستئناف للطعن، لم تكتف بإلغائه بل قررت أن مسؤولية صانع الدواء نحو المضرور من استعماله لا تكون إلا تقصيرية وقد عبرت المحكمة عن ذلك صراحة بالعبارة التالية( ) :
« Le seul terrain sur lequel peut être recherchée la responsabilité éventuel des laboratoires est celui des articles 1382 et 1383 du code civil ».
ولعل إثارة مسؤولية الطبيب لن تتحقق جنائيا، إلا إذا اقترنت العملية بضرر يستلزم المتابعة الجنائية أمام القضاء المغربي الزجري. خاصة إذا لحق الوصف في الخطأ الطبي أحد صور الخطأ. ولذا وجب أن يكون القصد لدى الطبيب أو الجراح مشروعا وشريفا موجها بالأساس نحو مصلحة المريض ـ ضمان السلامة ـ أما إذا اتجهت إرادته إلى غرض آخر غير العلاج، فإنه يصبح متعسفا في استعمال الحق. وبالتالي يفقد الحصانة الطبية ويتعرض للمسؤولية الجنائية العمدية وفقا للقواعد القانونية العامة، ولا يشفع له في ذلك حصوله على رضاء المريض أو نزوله عند رغبته ورجائه، وقد حكم في فرنسا بهذا الخصوص “بأن الطبيب الذي يقوم بإجراء عملية جراحية لامرأة بقصد استئصال المبيض التناسلي بناء على طلبها، يكون مستحقا للعقاب عن جريمة عمدية، إذا لم تكن هناك ضرورة تستلزم هذه العملية”( ).
فالأساس هو ضمان سلامة المريض، والطبيب هو الذي يمتلك ـ سلطة الملاءمة ـ في جميع مراحل العمل الطبي وكذا في اختيار وسيلة العلاج، فإما ينأى بنفسه في مأمن عن الملاحقة القانونية متى كان قراره حكيما ـ صائبا طبيا ـ أو يزج بمستقبله المهني في حافة القضاء المدني والزجري معا للبحث في ثبوت المسؤولية الطبية من عدمها.
ولإيجاد سند قانوني، وذلك من أجل إضفاء نوع من الحماية على سلامة المريض، حاول بعض الفقه اللجوء إلى قرينة الخطأ لتحقيق الحماية القانونية للطرف الضعيف، وذلك بإعفائه من عبء إثبات الخطأ الطبي، وهي وسيلة قضائية لنقل العبء على عاتق الطبيب، مما يلزم القول بضرورة الاعتراف بالتمييز بين التزام ببذل عناية والالتزام بالسلامة ومضمونة تحقيق غاية، دون أن يستبعد أحدهما عن الآخر.
وهذا ما خلصت إليه محكمة النقض الفرنسية حيث أكدت في أحد قراراتها أن : “الضرر الذي حدث للمريض قد وقع بفعل الجراح فتنعقد بذلك مسؤوليته بقطع النظر عن ثبوت خطأ في جانبه من عدمه”( ). لكنها عدلت عن موقفها بقرار آخر حيث اعتبرت فيه أن : “التزام الجراح ببذل عناية، وأن لجوء الجراح لوضع أداة في جسم المريض لإجراء العمل الطبي اللازم لا يرفع عن التزامه هذا الوصف”( ).
إن الضرر الذي يصيب المريض أثناء التدخل الجراحي، يستحق عنه التعويض حتى في غياب أي خطأ ينسب للطبيب، وذلك من منطلق أن مضمون الالتزام بالسلامة، يعد من مستلزمات العقد الطبي وفي هذا السياق صدر قرار محكمة الاستئناف بباريس وهو جد لافت للانتباه ورد فيه :
“… الطبيب الجراح يقع عليه التزام السلامة، مما يلزم بإصلاح الضرر اللاحق بالمريض الناتج عن العقد الطبي، حتى في غياب خطأ من جانب الطبيب، خاصة عندما يكون الضرر ليس له علاقة بالحالة الداخلية للمريض، أو التطور المتوقع لحالته الصحية”( ).
وهو ما يفهم معه أن الطبيب لن يتحلل مدنيا من التعويض لضحية الخطأ الطبي إلا إذا ثبت طبيا ـ عن طريق الخبرة ـ أن تدهور وضعه الصحي يعزى إلى مضاعفات داخلية لا علاقة للدواء ـ العلاج ـ بها، وإما لأمور غير متوقعة أي المخاطر الاستثنائية التي لا علاقة للطبيب بها. على أن تحلله الجنائي لن يتم إلا باتخاذه سبل السلامة والتبصير والرضا المستنير الواضح المتطلبة قانونا لدفع ما يواجه به من مريض الخطأ الطبي، هذا الأخير لا يسعه في الإثبات غير ثبوت الإهمال وعدم التبصر وعدم الاحتياط الغير منضبطة للأصول العلمية والفنية المهنية مع توافر القصد الجنائي الغير عمدي في الغالب حتى تتحقق مسؤولية المعالج ـ الطبيب ـ الذي أخل بواجب التزام سلامة المريض، مع شرط إثبات الطبيب دلك لانتفاء مسؤوليته التقصيرية ـ الفصل 88 ق.ل.ع المغربي ـ وكذا مسؤوليته الجنائية ـ الفصلين 432 ـ 433 القانون الجنائي المغربي ـ ما دام القضاء قد ألقى عبء الإثبات على عاتق-الطبيب-. وقد أتيح للقضاء المغربي الفرصة للنظر في نازلة بشأن الإثبات في العقد الطبي، حيث أكدت بمراكش على أن :
“… منازعة المدعي في علاقة سببية ليست ذات اعتبار، باعتبار أن هذه العلاقة ثابتة بشكل لا يرقى إلى الشك. هذا فضلا على أن القضاء الفرنسي ومن مدة بعيدة تحول عن مبدأ إثبات الضرر من طرق المتضرر، وهو المبدأ الذي اعتبرته المحكمة في النازلة وقلب عبء الإثبات. بحيث أصبح الطبيب هو المكلف بإثبات عدم مسؤوليته ولا يعفيه منها إلا القوة القاهرة والحادث الفجائي للحادثة”( ).
فالتزامات الطبيب : الالتزام بالتبصير، الالتزام بالحصول على رضى المريض، الالتزام بضمان السلامة كلها التزامات تتوجب أن يقوم الطبيب بداية بالاحتساب لها دون مغالاة أو سوء نية، حتى لا يكون محطة شحن لوقود قابل للاشتعال بين يديه تضيع حقوق مرضى جسدية ونفسية لا يكون حتى في مقدور القضاء جبر ضررها مهما كلف الثمن.
فإذا كان الالتزام بالسلامة من ابتكار القضاء، من خلال تفسيراته لمواد وفصول القانون المدني، وبعد تراكم اجتهاداته المتكررة، فإن ذلك جعل التشريع يتدخل لإسباغ الشرعية على هذا النوع من الالتزامات في نصوص متفرقة يمكن استنباطها من خلال الآتي :
ـ المادة 4 من قانون 10.94 التي توجب حصول الشخص على الدرجة العلمية لممارسة النشاط الطبي، مما يجسد أن المشرع حريص على سلامة المريض.
ـ المادة 7 من مرسوم 21 نونبر 1994 المتعلق باختصاصات وتنظيم وزارة الصحة العمومية التي جاء فيها على أنه : “تتولى وزارة الصحة العمومية إعداد وتنفيذ سياسة الحكومة المتعلقة بصحة المواطنين. وتعمل باتصال مع الوزارات المعنية على سلامة السكان البدنية والعقلية والاجتماعية”( ).
ـ المادة 3 من قانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدبير حماية المستهلك التي نصت : “يجب على كل مورد أن يمكن المستهلك بأي وسيلة ملائمة من معرفة المميزات الأساسية للمنتوج أو السلعة أو الخدمة وكذا مصدر المنتوج أو السلعة وتاريخ الصلاحية إن اقتضى الحال وأن يقدم إليه المعلومات التي من شأنها مساعدته على القيام باختيار معقول باعتبار حاجياته وإمكانياته …”. وكذا الفقرة 3 من المادة 18 ـ نفس القانون ـ في شأن حماية المستهلك من الشروط التعسفية أقرت تقدير المحاكم للشرط التعسفي في الحالات المحددة على سبيل المثال لا الحصر التي يكون الغرض منها أو يترتب عليها ما يلي :
“3. إعفاء المورد من المسؤولية القانونية أو الحد منها في حالة وفاة المستهلك أو إصابته بأضرار جسمانية نتيجة تصرف أو إغفال من المورد”.
في حين أقرت قبل ذلك المادة ـ قانون 31.08 ـ في المادة الأولى من القسم الأول (نطاق التطبيق) الأساس العام لمبدأ الالتزام بالسلامة من خلال تأكيدها( ) : “يهدف هذا القانون إلى تحقيق ما يلي :
ـ إعلام المستهلك إعلاما ملائما وواضحا بالمنتوجات أو السلع أو الخدمات التي يقتنيها أو يستعملها وكذا الشروط المتعلقة بالإشهار والبيع عن بعد والبيع خارج المحلات التجارية.
ـ تحديد الضمانات القانونية والتعاقدية لعيوب الشيء المبيع والخدمة بعد البيع وتحديد الشروط والإجراءات المتعلقة بالتعويض عن الضرر الذي قد يلحق بالمستهلك …” ( ).
فمن هذه النصوص المتاحة، يتضح أن هناك مبدأ عاما بالسلامة مفاده أن المهني يلتزم بضمان سلامة المستهلك. غير أن جرأة الفقرة 3 من المادة 18 أعلاه، تعد سندا قانونيا لإثارة المسؤولية الجنائية للطبيب أو صناع الدواء ـ شركات التسويق ـ وللصيادلة، متى نتج عن الخطأ المرتكب الذي يواجه به ضحية التدخل الطبي هؤلاء في إطار المسؤولية الشخصية أو المسؤولية المرفقية أو المسؤولية الإدارية، وفاة الشخص ـ المبضوع ـ في إطار ما أوجبه العقد أو القانون.
وخلاصة القول، إن الالتزام بالسلامة الذي اقره الاجتهاد الفرنسي، ذو طبيعة تعاقدية، يجد أساسه في العقد، في حين الالتزام بالسلامة الذي نص عليه القانون سواء في ظل التقنين الفرنسي أو قانون الاستهلاك المغربي 31.08 مصدره القانون.
لكن بالرغم من الاختلاف الموجود بين الإلتزامين الإلتزام -بالسلامة العقدي والإلتزام بالسلامة القانوني ـ من حيث المصدر، فالمضمون والغاية مشتركة، ألا وهي تحقيق سلامة المريض سواء قبل إبرام العقد أو بعده، وفي جميع مراحل التدخل الطبي خاصة مرحلة العلاج، فهما يشكلان معا نظاما عاما للوقاية والتعويض والعقوبة الجنائية وحتى التدبير الاحترازي، لمؤسسة صحية مشبوهة عمليا لدى السلطات العمومية ما دام المرجع الأم ـ الدستور ـ يترجم بكيفية واضحة سلامة المواطن في شخصه وأقربائه وممتلكاته في فصوله الصريحة التي نصت :
الفصل 20 : “الحق في الحياة أول الحقوق لكل إنسان. ويحمي القانون هذا الحق”.
الفصل 21 : “لكل فرد الحق في سلامة شخصه وأقربائه وحماية ممتلكاته.
تضمن السلطات العمومية سلامة السكان، وسلامة التراب الوطني، في إطار احترام الحريات والحقوق الأساسية المكفولة للجميع”.
الفصل 22 : “لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص من أي طرف ومن قبل أي جهة كانت خاصة أو عامة”( ).
وعموما، تبقى المشتملات القانونية والقضائية للالتزامات الموجبة للطبيب لإثبات مسؤوليته الجنائية، مجردة من فاعليتها ما دام تعترضها صعوبات مهنية، تجعل من تخطي هاته –العقبة- عبءا في المسؤولية الطبية، ما لم يراهن المشرع على ضبط بعض الإكراهات والممارسات اللاأخلاقية ” المهنية” لدحض ما قد ينسب لهم-الأطباء- من إخلال طبي، خاصة مع تنامي ثقافة التضامن بين الأطباء للتستر عن أخطائهم الواحدة تلو الأخرى، إلى جانب عنصر السرية الذي يعد عقبة في الأعمال الطبية الجراحية، ثم عدم مسك الملف الطبي الخاص بالمريض، وهو ما يكرس -لتقويض- رقابة القاضي لتدارك مشروعية العمل الطبي حماية للأفراد.
وهو ما سنحاول استجلاءه في الفقرة الثانية.
الفقرة الثانية : الصعوبات التي تكتنف إثبات الخطأ الطبي
تكتنف الخطأ الطبي إجمالا مجموعة من الصعوبات، والتي تتمثل في محدودية طبيعة التزامات الطبيب خاصة من زاوية الصبغة التقنية للعمل الطبي من الناحية الموضوعية ـ مقياس الظروف الداخلية والخارجية للطبيب في نفس الوسط ـ أو من الناحية الشخصية ـ التضامن المهني- ، وإذا كانت الحالة الجسمانية تعد مؤشرا على أن المريض ـ ضحية الخطأ الطبي ـ تعرض لضرر من جراء خطأ صادر عن الطبيب، فيصعب عمليا إثبات ذلك لما ينطوي عليه الواقع المهني من خروقات تنحو بالأدلة والقرائن في حكم العدم، والفضل يرجع إلى ممارسات أضحت بمثابة وسيلة دفع قانونية للتسويف والمماطلة لدحض وسائل الإثبات الطبي، فيستنكف الأطباء عن احترام ـ القانون ـ وخدمة العدالة خصوصا مع هيمنة السرية على الأعمال الطبية الجراحية، ثم عدم مسك الملف الطبي تهربا من المساءلة أمام أجهزة القضاء.
وهو ما سنورده كل على حدة بشيء من التفصيلhtmlspecialchars_decode(‘”‘)
أ) تضامن أصحاب المهن الطبية htmlspecialchars_decode(‘”‘)
بعدما أشرنا سالفا إلى طبيعة محدودية التزامات الطبيب في طور تصارع التزام تحقيق نتيجة ومبدأ بذل عناية على ضوء وسائل العلاج التي ما زال يعتريها القصور في أطوار كثيرة أمام أجسام تتفاوت مناعتها وحالاتها وظروفها الزمانية والمكانية والنفسية، إلى جانب الوسائل المادية المتاحة. فإن الصعوبة التي تلازم إثبات الخطأ الطبي تجد أساساها في تضامن أصحاب المهن الطبية إزاء المشاكل المرتبطة بالمسؤولية. والذي يحصل أن أهل الخبرة من الأطباء عند انتدابهم من قبل المحكمة وبدافع من الزمالة والتضامن المهني، كثيرا ما يميلون إلى جانب زميلهم المتابع ويسعون إلى تخليصه من المسؤولية. وهي صعوبات موضوعية وأخرى شخصية تتمثل في( ) :
ـ الصعوبات الموضوعية : المعروف عن مهمة الخبير مهمة خطيرة وقواعد العلم المجردة تفرض احترامها باعتبار أنه لا يوجد خطر ما، متى قام الخبير بالتحقيق العلمي المحايد من أجل البحث عن سبب الواقعة. غير أن هذا الخطر قد يقوم في المجال الطبي فيما يتعلق بالناحية الفنية للخبرة فليس مؤكدا بصفة مطلقة أن الخبير الذي يقوم بمهمته بالكامل في وسط نظري وفي المراكز العلمية الطبية يستطيع في هذه الظروف أن يقدر بدقة الموقف الذي وجد فيه الطبيب محل المساءلة والذي كان يمارس عمله في ظروف واقعة مختلفة، فالخبير لكي يقدم تقريرا صحيحا يجب أن يكون في مقدرته معرفة الظروف الواقعية، فالصعوبة هنا تتمثل إذن في الاختلاف الكبير بين المعطيات المجردة والحقيقة الواقعية الملموسة.
ـ الصعوبات الشخصية : تعاني قيمة الخبرة من احتمال اهتزاز الثقة في الخبراء بسبب وجود تضامن مهني، يمكن أن يترتب عليه من التسامح مع الزملاء من الأطباء محل المساءلة. وفي هذا السياق نجد أحيانا أنه لا يوجد استعداد لدى أي طبيب للاستجابة إلى أي دعوة أو طلب للخبرة، فهم إما أن يعتذروا بمبررات أغلبها غير صحيح يخفي تهربا من الخبرة، أو أن يسوفوا ويماطلوا في تلبية أمر المحكمة طالبة الخبرة إلى حد قد يصل إلى ضياع فرصة إثبات ما يطلب إثباته، وضياع الهدف من الخبرة المطلوبة أو الخروج عن النقط المحددة من قبل المحكمة. وكل ذلك ليست إلا تهربا من الخبرة بحد ذاتها، وكأنه يوجد عهد سري أو ضمني بين الأطباء على ذلك، بأن لا يقف أي منهم ضد من يخطئ منهم، وإذا ما جرى ورضي بعضهم وقبل بإعطاء خبرته، فإن التقرير الذي يقدمونه نتيجة ما وقعت عليه الخبرة، غالبا ما يأتي إما عاما دون تفصيلات وتعليلات أو مبهما في كثير من الأحيان. فلا يفيد في إظهار الحقيقة.
وهو مما يجعل من الصعب العثور على طبيب خبير نزيه موضوعي، فالخبير يكمل القاضي فيجب عليه أن يؤدي مهمته بكل نزاهة وإخلاص وموضوعية وأن يحكم العقل عوضا عن العواطف والاعتبارات الشخصية( ).
وقد سبق لمحكمة Aix الفرنسية أن قضت في حكم صادر بتاريخ 10 نونبر 1953 بأن : “التقدير الإنساني اللين الذي اعتمده الخبراء في تقديرهم، حينما نفوا عن زميلهم أي خطأ لا يمكن قبوله من وجهة النظر القانونية”( ).
وعليه يجب على القاضي أن يضع نصب عينيه هذا التضامن المهني المحتمل بين الخبير وزميله الطبيب المدعى عليه، وأن يكون له بالمرصاد كما يقول الفقيه Savatier “الخبرة معهود بها من شخص عادي وهو القاضي إلى طبيب خبير تفرض على هذا القاضي أن يظل مستيقظا”. وهو ما يجد له صدى في حكم صادر عن ابتدائية مراكش : “أن النتيجة التي استخلصها الخبير تفتقر إلى الحد الأدنى من الموضوعية لعدة اعتبارات يمكن إيجازها في النقط التالية : فحيث إن المحكمة لاحظت وبالعين المجردة أن المدعية فقدت البصر بالعين اليمنى بصفة نهائية وهي شبه مغمضة ويعلوها لوم يميل إلى البياض وهو ما أدى إلى تشويه الخلقة لدى المدعية الضحية وهذه الملاحظات تبدو أيضا من خلال مقاربة بسيطة بين الصورة الفوتوغرافية للضحية قبل الحادث وصورتها بعده، وهما معا مدرجان في الملف. وكان الخبير قد خلص في مستنتجاته “إلى أن الضحية لم تعد تشكو من أي آلام وأنها شفيت بدون عجز دائم بعد العملية التي أجريت لها ..” ( ). وفي هذا الإطار ذهب أيضا المجلس الأعلى في أحد قراراته إلى أن : “الخبرة ليست الوسيلة الوحيدة لإثبات الخطأ الطبي وأن القاضي بإمكانه استبعاد تقرير الخبير إذا لم يقتنع به”( ). وفي ذلك قول الفاعل الحقوقي عثمان حلحول، أنه من خلال جسامة الضرر الناتج عن الخطأ والإهمال الطبيين، تتضح فداحة الفراغ القانوني المتعلق بإجراء الخبرة الطبية التي تجرى بناء على قانون حوادث السير، وهذه الثغرات تفسح المجال للانحياز إلى زميل المهنة على حساب ذوي الحقوق من الضحايا. وفي الوقت الذي وضعت فيه الدول الأوروبية قوانين تحدد نوع الأخطاء الطبية الناتجة عن التقصير والإهمال والمسؤولية. كما أضاف أنه يجب على القضاء المغربي أن يأخذ بعين الاعتبار التطورات العلمية الدولية في الحقل الإنساني وأن يحاول تعزيز آليات الدفاع التي من الضروري أن يكون فيها المحامي مرفقا بطبيب مختص بالدفاع عن الضحايا بخبرة علمية قانونية( ).
هذا التضامن المهني لا يظل حكرا لدى الأطباء، بل يمتد لتغطية كذلك هيأة الأطباء التي أنشئت بالأساس كمنبر للدفاع عن مصالح الأطباء المنتمين إليها لخدمة الصالح العام، ولكن هل هي مصلحة عامة لحماية الهيأة ذاتها، أم لحماية الطبيب، أم الادعاء بصون كرامة المريض بحمل الأطباء على التصرف وفق السبل التي تخدم المصلحة الجماعية، وفي هذا المقام ـ تكريم الجسم البشري ـ بالذود عن أية مجازفات وتجاوزات تقابل بالردع والجزاء التأديبي والمدني والجنائي إن اقتضى الحال ذلك ؟
حتى في حال تقديم شكاية بهذا الخصوص أمام مجلس الهيأة، فإن هذا الأخير، قلما يبت في هاته الشكاية ويقرر عقوبات بشأنها، ويبقى عدد الشكاوى التي يتم قبولها من قبل مجالس الهيئة ببلادنا ضئيلا مقارنة مع حجم الشكاوى المعروضة أمامه، وهو ما أكدته الجهات المسؤولة نفسها. فقد عرضت على الهيئة خلال سنتي (1986 ـ 1987) حوالي المائة شكاية، نصفها لم يتم قبوله كما أن 20 % إلى 25 % من الشكاوي المتبقية، شكلت جنحا ثانوية لم تقرر بشأنها عقوبات تأديبية والتي أحيلت بالفعل على مجلس الهيئة وقررت عقوبات بشأنها( ).
والغريب في الأمر هو أن تحريك الدعوى العمومية في مواجهة أحد الأطباء بسبب ارتكابه جريمة أثناء قيامه بعمله الطبي من طرف النيابة العامة، فإن هده الأخيرة تكون -ملزمة- أولا بالعمل مقدما على ربط الاتصال بالهيئة الإقليمية المسجل لديها الطبيب المذكور أو المعنية بالأمر، بقصد اطلاعها على وقائع الجريمة، وللاستئناس بإفادتها الفنية والمهنية بهذا الصدد، فالاتصال بالمجالس الإقليمية للهيئة فور وقوع جرائم كما يؤكد على ذلك منشور وزير العدل رقم : 985 الذي يتيح لممثل الحق العام ـ النيابة العامة ـ فرصة الاستهداء بالأصول الفنية للمهنة وأعرافها وتيسر لها بالتالي الوقوف على طبيعة الأخطاء ودرجة جسامتها( ).
فكأنما المشرع نظم اشتراط تحريك الدعوى العمومية على شاكلة جريمة الخيانة الزوجية( )، والتي لا يجوز متابعة مرتكب الجريمة إلا بعد تقديم شكوى من زوج أو زوجة المجني عليه، فإذا لم تقدم الشكوى من المجني عليه امتنع على النيابة العامة تحريك المتابعة ضد الجاني، حسب منطوق الفصل 491 ق.الجنائي المغربي. وبالتالي فأساس متابعة الطبيب سيكون بناء على شرط ربط الاتصال والتنسيق أولا بالهيئة الإقليمية لدائرة النفوذ الطبي التي وقعت فيه الجريمة الطبية بمعنى ضرورة احترام الاختصاص المحلي لهيأة الأطباء على صعيد الإقليم، وهذه الأخيرة تكون صاحبة الكلمة الفصل ولها الحق المطلق في أن تتابع أولا تتابع الطبيب في المنسوب له، وهو ما يعني أن هاته الهيأة في ظل الأرقام التي عرضناها سابقا لا محالة ستتستر على الخطأ الطبي لعدة اعتبارات، في حين أنه متى قررت قرار المتابعة فدور النيابة العامة لن يعرف انكماشا في تحريك الدعوى العمومية( ) وهو ما سجلناه مؤخرا في القضايا المعروضة أمام المحاكم ليس فقط للمطالبة بالتعويض وإنما لمساءلة الأطباء جنائية عن الجرائم الطبية المقترفة على الضحايا الأبرياء.
وفي معتقدنا إذا تم تحريك الدعوى العمومية في هذا النطاق سيتسع أكثر ويشكل ضغطا أكبر ما دام منطوق المادة 7 من ق.م.ج يخول “للجمعيات المعلن أنها ذات منفعة عامة أن تنتصب طرفا مدنيا، إذا كانت قد تأسست بصفة قانونية منذ أربع سنوات على الأقل قبل ارتكاب الفعل الجرمي وذلك في حالة إقامة الدعوى العمومية من قبل النيابة العامة أو الطرف المدني بشأن جريمة تمس مجال اهتمامها المنصوص عليه في قانونها الأساسي”.
ولعل ميلاد “الجمعية المغربية لضحايا الأخطاء الطبية “، ستشكل بارقة أمل لرد الاعتبار للضحايا ـ جزئيا ـ والتي رأت النور يوم 30 يناير 2011 كاستجابة لرغبة المواطنين ممن لحق بهم الضرر جراء أخطاء طبية قاتلة، أو من ينوب عنهم، ويندرج تأسيس هذه الجمعية في إطار الجيل الجديد من الحقوق التي يعرفها المغرب، وذلك بالانتقال من المطالبة بالحقوق ذات الطابع السياسي كحرية التعبير وحرية الصحافة إلى حقوق ذات طابع ثقافي واقتصادي واجتماعي، ورغبة في تمكين المتضررين من إسماع صوتهم بشكل جماعي ومنظم، وتتجلى أهداف الجمعية يضيف السيد محمد حمضي “رئيس الجمعية” لوكالة المغرب العربي للأنباء في دعم المتضررين نفسيا ومعنويا والانتصاب كطرف مدني إزاء الأخطاء الطبية وتبعاتها أمام القضاء، وخلق مرصد وطني ومركز للاستماع لفائدة الضحايا، مبرزا أن الجمعية تعتزم عقد لقاءات وندوات وطنيا ودوليا مع جمعيات أخرى لتبادل الأفكار والتجارب … ( ).
فإلى حين أن يمنح بقوة القانون صفة النفع العام ـ لهاته الجمعية ذات المساعي والأهداف النبيلة، بحكم أنها مولود جديد لم يستوفي أجل 4 سنوات سابقة عن الفعل الذي يشكل جريمة طبية، فإننا نأمل وبإسهاب أن ترى بريقها دون تعثر حتى تسهم ولو بقليل في الضغط على أصحاب المهن الطبية للتراخي والذوذ عن مبدأ “التضامن المهني” الذي أصبح يشكل سرية اعتقال طبي إلى حين.
وطبقا للقواعد العامة في الإثبات في المادة الجنائية، فإن عبء إثبات الخطأ الجنائي يقع على عاتق سلطة الاتهام الجنائي، أي النيابة العامة، حيث تبقى هاته الأخيرة مكلفة بإثبات توافر عناصر الجريمة أي الخطأ الجنائي، وبهذا الخصوص جاء في حكم جنحي صادر عن استئنافية الرباط بتاريخ 31/3/1989 ما يلي : “إن عبء إثبات خطأ الطبيب يقع على عاتق النيابة العامة التي أسندت النظر بمجرد اطلاعها على تقرير الخبراء المفصل والواضح، وعلى المطالبين بالحق المدني الذين لم يطعنوا بالخبرة المجراة لا ابتدائيا ولا استئنافيا”( ).
فحتى المادة 194 ق.م.الجنائية التي تقرر حماية للأفراد ككل، تفيد أن ضحايا الأخطاء الطبية في المسؤولية تظل محل اعتبار في إجراءات التحقيق الجنائي للكشف عن الحقيقة في قضية معينة. ما دام سبيل وغاية الادعاء العمومي هو تقرير مسؤولية الجاني ـ الطبيب- عما ارتكبته من أفعال عبر إغناء ملف الدعوى بما يكفي من الحجج، حيث تحدثت المادة عن إمكانية إجراء خبرة بالتنصيص: “يمكن لكل هيئة من هيئات التحقيق أو الحكم كلما عرضت عليها مسألة تقنية أن تأمر بإجراء خبرة إما تلقائيا وإما بطلب من النيابة أو من الأطراف …”.
وفي هذا ذهب البعض إلى أن “الخبرة في قضايا المسؤولية الطبية ليست ككل خبرة، إنها خبرة تهم الطبيب الزميل وتهم المهنة الطبية ككل”( ).
ففي ظل هذا المعطى السلبي من جانب ـ التضامن المهني ـ للأطباء ككل ينضاف معطى آخر لا يقل جسامة عن الأول، يقعد من وسائل الإثبات لالتزامات الطبيب تجاه -المريض ـ ويكاد يكون اجترارا لمخزون مهني يومي يتكرر الدفع به نظريا وعمليا للإفلات من انتداب الخبراء ـ زملاء التضامن المهني ـ ونخص بالذكر إكراه السرية على الأعمال الطبية الجراحية في النقطة الموالية.
htmlspecialchars_decode(‘”‘) ب) هيمنة السرية على الأعمال الطبية الجراحية : htmlspecialchars_decode(‘”‘)
بقراءة متمعنة لبعض فصول القانون الداخلي للمستشفيات استطعنا اقتباس بعض السمات والخصوصية لهاته ـ السمة والوصف ـ الملازم للخطأ الطبي بحيث نجد المادة 68 تنص( ) :
“يجب إعلام المرضى الذين أدخلوا المستشفى بأسماء وصفات الأشخاص الذين سيساهمون في تشخيص حالتهم الصحية، وتقديم العلاج والسهر على النظام والمحافظة على النظافة.
يتم إعلام المرضى بصفة مسبقة بطبيعة الأخطار والتداعيات التي يمكن أن تنجم عن الأعمال الطبية والجراحية. تعطى هذه المعلومات بواسطة الأطباء المعالجين، إذا رأوا ذلك ذا فائدة، إلى عائلة المريض شريطة موافقة المريض إذا كان قادرا على التعبير عليها.
يشارك الممرضون في هذا الإعلام في مجال تخصصهم ويمتنعون على وجه الخصوص عن إعطاء المعلومات حول التشخيص والتفسير وكذا عن تطور الحالة الصحية”.
فباستقراء هذا الفصل، نجد أنه إلى جانب الالتزام بالتبصير والإعلام، ألزم المشرع الأطباء المعالجين ارتباطا بسلطتهم الطبية إخبار المرضى ببعض المعلومات الأولية المتعلقة بوسائل الاستقبال التي سيتلقاها المريض وبجميع المخاطر إذا ما ارتأى الطبيب ذلك مع شرط وفرض رضى المريض بطبيعة الحال. وما يهمنا هو عنصر السرية الذي يستنتج بصريح الفقرة الأخيرة من المادة أعلاه التي ورد فيها :
“… يمتنعون على وجه الخصوص عن إعطاء المعلومات حول التشخيص والتفسير وكذا عن تطور الحالة الصحية”.
مما يجسد صرامة وتشدد المشرع في باب ـ السر المهني ـ الوثيق الصلة بعنصر ـ السرية ـ لحاجة في نفس يعقوب قضاها، والحاجة في هذا المقام ذات أبعاد ودلالات تتقاذفها عدة اعتبارات : المصلحة العامة، المصلحة الخاصة للطبيب، مصلحة المريض في العلاج فأي كفة في الأوجه الثلاث سترجح ؟
إن هذا الإلزام بالمنع الصريح عن الاستفهام حول مرحلة التشخيص وعن تطور الحالة الصحية للمريض من عدمها، يقوض وبلا شك من مساءلة الطبيب عن خطئه الطبي، ويؤخر ويحول دون الضبط الآني لعناصر الجريمة من طرف سلطات التحقيق الجنائي … فلربما يريد المشرع الاكتفاء بالمساءلة الإدارية للطبيب تأديبيا مما يفسح المجال لأي باحث في هذا الشأن ـ الطبي ـ لأكثر من سؤال وأوسع تأويل؟
في حين صراحة المادة 92 الذي تمثلت لهذا المعطى بصريح العبارة
“السر والسرية المهنية
باستثناء المقتضيات القانونية المخالفة، يجب على العاملين بالمستشفى حفظ السر والالتزام بالسرية المهنية المطلقة، بشأن كل الوقائع والمعلومات المتعلقة بشخص مقيم بالمستشفى، والتي يمكن أن يكون على علم بها خلال ممارسته لمهامه أو بمناسبة ذلك.
يحرر الطبيب من الالتزام بالسر الطبي إذا لاحظ خلال مزاولة نشاطه المهني أعمالا أو مخالفات جنائية، ويلزم بإخبار فورا مدير المستشفى الذي يقوم بدوره بإخبار السلطات القضائية أو الإدارية المختصة.
كل خرق تم ارتكابه، في الحدود المشروعة للسر المهني تطبق عليه العقوبات التأديبية المنصوص عليها طبقا للتنظيم الجاري به العمل، دون الإخلال بالمتابعات الجنائية التي يمكن أن يتعرض لها الموظف المعني”.
تكرس نفس المعنى، فالوسيلة حماية حقوق المرضى وحياتهم الخاصة بشكل مطلق من أي عبث بخصوصياتهم أثناء الإقامة الطبية. فالعاملين بالمستشفى لم يتوانى المشرع في تحديد مسؤوليتهم الجنائية بصريح المادة في حالة أي تمرد وعصيان على طبيب عاق “للقسم الطبي”. حيث لم يكتف المشرع بتمكين الطبيب من الإخبار عن المخالفات الجنائية بل خول لمدير المستشفى حق إخبار السلطات القضائية أو الإدارية المختصة. فيا لسعة صدر المشرع ! ويا لغيرته على حقوق المرضى؟ !
وحتى لا نبخس من نصوص ومقتضيات القانون الداخلي للمستشفيات نجد لزاما الوقوف على المادة 76 في نفس الإطار دائما لإستخلاص مفارقة إخلاء مسؤولية الطبيب، بإلقاء عبء الإثبات في النزاع مع المريض حول رفض الانضباط لفحوصات الطبيب وعلاجاته على عاتق الطبيب بمحضر الشهود كوسيلة إثبات قانونية وقضائية لدحض ما قد ينسب له لاحقا من ضرر طبي من طرف المريض. حيث ورد في المادة :
“الخروج ضد الرأي الطبي contre avis médical عندما يرفض المريض الفحوصات والعلاجات والعمليات الجراحية التي تقترح عليه، يتم إنجاز محضر مضاد يوقع عليه كل من ممثل الإدارة والمريض، وفي حالة رفض هذا الأخير تتم المناداة على شهود، ويتم اتخاذ القرار بالخروج من طرف الطبيب رئيس القسم والمصلحة المعنية بناء على تقرير للطبيب المعالج، ما عدا إذا كانت حالة المريض تتطلب علاجات مستعجلة”.
أولا نحن أمام اعتقال تحكمي طبي بقوة القانون، ولا سبيل لمواجهة العائلة أو المريض أو الطرف المدني المعني في حالة ادعاء الطبيب وزمرته -زملاء المهنة ـ حالة الضرورة والاستعجال، فيعمد رئيس المصلحة إلى منع المريض ولو بالإكراه والقوة بواسطة حراس المستشفى وحتى العاملين والممرضين لمد يد المساعدة لطبيب يريد الإجهاز بحماية القانون على مريض بمساهمة ومشاركة أبرياء أو ضحايا يغنينا الخوض في مسؤوليتهم، إلا بانتفاء قصدهم الجنائي العام والخاص أمام القضاء.
ثانيا : السرية الطبية سلطة ممنوحة غير خاضعة للرقابة لا من جهة مندوبية الصحة، ولا من جهة الهيأة الإقليمية للأطباء، ولا حتى من مفتشية وزارة الصحة. فالأحرى في مثل هذا الظرف أن يؤكد المشرع على توقيع رئيس المستشفى إلى جانب مندوب العمالة أو الإقليم بالعمالة الطبية، وإن كان المسلك الآمن هو تضمين الواقعة بمحضر ضباط الشرطة القضائية باحترام شكليات المحضر كما هي محددة في المادة 24 ق.م.ج.
ثالثا : عبارة “تتم المناداة على شهود” التي جاءت فضفاضة ومبهمة، مما يفهم معه أن المشرع لم ينص على شهود زوار للمستشفى عاينوا واقعة رفض المريض الامتثال للعلاج، أو حتى مرضى إلى جانب الشخص المعني بالحالة، فهؤلاء ـ المرضى ـ إرادتهم معيبة فهل يصح الأخذ بشهادة مرضى ذوي إرادة معيبة ؟
ومن جهة أخرى قرار الخروج من طرف الطبيب المعالج رئيس القسم أو المصلحة المعنية بناء على تقرير للطبيب المعالج، فتحدث المشرع عن رقابة “قرابة مهنية” فأي ضمانة للمرضى في مثل هكذا حالات ؟
ثم إن الفقرة الأخيرة من المادة 76 دائما الذي نصت “وعلاوة على ذلك، تسلم في هذه الحالة بطاقة الخروج إلى المريض والتي يجب أن تحمل عبارة “خروج ضد رأي طبي”.
فالتدليس والتحايل الطبي واقع لا محالة وليس تحصيل حاصل، فكم يسهل تسليم المرضى بطاقة الخروج ـ باللغة الفرنسية ـ والتي تحوي شروطا وادعاءات لا أساس لها من الصحة ونحن نعلم مدى تعسف الأطباء في الزج بالضعفاء ـ المرضى الأميين ـ خارج أبواب المستشفيات المعطوبة-المصدر الصحافة ووسائل الإعلام- أصلا لمصير مجهول. فكأنما يقول الطبيب : “دعني أجري لك عملية وأتفنن في جسدك كيفما أشاء واذهب إلى الجحيم”.
فليس هناك أكثر سرية( ) وكتمانا من “كتمان القانون”. لذلك يستلزم تعديل مسؤول لمقتضيات القوانين الطبية لتفادي مفعول المرهم الطبي ـ القانون الجنائي ـ الأساس والسند القانوني لفصول المتابعة الطبية جنائيا للطبيب في الخطأ الطبي. وهو ما يتجسد بموجب صمت التشريع عن “التزام” مسك الملف الطبي للمريض. وهو ما سنتناوله بالتدقيق في الاستفهام الموالي.
في الأخير نود أن نقوم تصورنا بملاحظة مفادها أن المادة 3 من القانون رقم 10/94 المتعلق بمزاولة الطب والتي نصت في المادة الثالثة: “تزاول مهنة الطب في القطاع الخاص طبقا لأحكام هذا القانون وإما في القطاع العام وفق القوانين والأنظمة الخاصة به” تجعل من التفرقة والتمييز والتميز السافر بين القطاعين –الخاص والعام-، فالطبيب في القطاع الخاص محمي إلى حد ما من الالتزامات والواجبات المحددة في نطاق القانون الداخلي للمستشفيات يظهر معه أنه ملزم فقط بالإمتثال لخطاب القنون رقم 10/94 فيتجرد من أية مسؤوبية طبية. هذه الحصانة لا تقتصر فقط على اخضاع طبيب القطاع العام إلى التشريعات الطبية بل تفاضل حتى في المساءلة الطبية المنسوبة للطبيب أمام المجلس الوطني لهيئة الأطباء بموجب الفصل 60، حيث أنه عندما يرفع إليه طلب الإستئناف في منازعة طبية منسوبة إلى طبيب ما يستمع إلى إيضاحات الطبيب المعني بالأمر، وإذا كان الطبيب يزاول بالقطاع العام فإلى إيضاحات الممثل الذي تعينه لهذا الغرض الجهة المشار إليها في الفصل 38 دائما في إطار ظهير 21 مارس 1981 بمثابة قانون يتعلق بهيئة الأطباء الوطنية أو من تفوض إليه ذلك. وذلك بعد اشتراط تقديم شكوى إلى الجهة المنوط بها السلطة التأديبية .
ج) htmlspecialchars_decode(‘”‘) عدم htmlspecialchars_decode(‘”‘)مسك الملف الطبي الخاص بالمريض :
الملف الطبي هو عبارة عن كراسة أو دفتر يكون مرقما من وزارة الصحة، حيث يبين الحالة الصحية لأي شخص يتوفر عليه منذ ولادته، ويعد هذا الملف وسيلة من وسائل الإثبات في ميدان المسؤولية الطبية، بحيث يمكن للقاضي أن يكون قناعته انطلاقا منه، خاصة عندما يكون هذا الملف ممسوكا بانتظام. وهو ما ذهب إليه المجلس في أحد قراراته على أن : “الملف الطبي يجب أن يكون ممسوكا بنظام وانتظام لتتبع حالة المريض، والوقوف على المرحلة التي تثبت خطأ الطبيب في العلاج، ولا يمكن الاعتراض على هذه الوسيلة بدعوى التزام الطبيب بالسر المهني”( ).
وهناك نوعان من الملفات الطبية يجب التمييز بينها، فهناك ملف يهيئه الطبيب المعالج لأول مرة، وملف آخر يكون بحوزة المريض محتويا على شواهد طبية ووثائق تثبت سوابقه المرضية وغيرها( ):
فبالنسبة للملف الأول : فهو نظريا ذلك الملف الذي يفتحه الطبيب لكل مريض عادة لأول مرة، يدون فيه كل ما باشره على المريض من إسعافات أولية وفحوص مختلفة وتشخيص لحالته المرضية، والعلاج الذي وصفه له، كما يضمن فيه جميع الوثائق والتقارير الطبية المتعلقة بالحالة الصحية للمريض كالورقة التي تدون فيها درجات حرارة المريض، وورقة الإنعاش وغيرها … ومن ثم تبرز أهمية الملف الطبي وفائدته القصوى في الإثبات إذ من شأنه أن ينير الطريق للقضاء من أجل الوصول إلى الحقيقة، لكن مع الأسف لا وجود لهذا الملف من الناحية العملية، إذ أن الأطباء نادرا ما يمسكون الملفات الطبية لمرضاهم.
أما بالنسبة للملف الثاني : فهو الملف الذي يكون بحوزة المريض والذي يتضمن الوثائق المثبتة لسوابقه المرضية، أو لنتائج التحليلات المخبرية، كتحليل الدم، أو الصور الإشعاعية، وكذلك وصفات العلاج الذي كان يتبعها، وتقارير الأطباء الذين سبق لهم فحص حالته وغيرها من الأوراق التي تثبت الحالة الصحية السابقة للمريض.
ويرى العديد من المهتمين بموضوع المسؤولية الطبية ـ بمن فيهم الأطباء أنفسهم ـ أن تكوين الملف الطبي للمريض، الذي يتوفر على مختلف الوثائق الطبية الأساسية يكتسي أهمية وفائدة قصوى، فهاته الوثائق هي التي تنير الطريق أمام العدالة في سبيل الوصول إلى الحقيقة، كما أنه وعلى أساسها يتصرف الخبراء ويكونون قناعاتهم ومن أهم الوثائق التي يجب أن تكون بحوزة المريض يرى الدكتور “وجيه المعزوزي “التقرير الجراحي الدقيق المفصل compte rendu opératoire détaillé et précis والورقة التي تثبت درجة حرارة المريض Feuille de température وكذا الوصفات الطبية وورقة الإنعاش. كما يرى الدكتور “أحمد الخمليشي” بأنه : “كان يتعين مقابل إعفاء الطبيب أو الجراح من المسؤولية إلى أن يثبت خطأ طبي في حقه أن يلقي عليه عبء تسجيل وتوثيق ما يقوم به من عمل إزاء زبونه، ومضيفا بأن غياب الملف الطبي يجعله من المستحيل على المريض إثبات خطأ ضده، ولذلك لا يبدو مقبولا، إلقاء عبء الإثبات على المريض مع إعفاء الطبيب من كل التزام يتعلق بتسجيل ما يجري بينه وبين المريض وأنواع الخدمات التي يقدمها له”( ).
ومما لا شك فيه أن مثل هذا الملف لا يخلو من الأهمية في الإثبات ويمكن أن تعتمد عليه المحكمة في الوصول إلى الكشف عن الأخطاء الطبية وهذا ما فعلته محكمة الاستئناف بتاريخ 09/01/1989 والذي جاء فيه أن : “الطبيب المولد قد ارتكب خطأ فني حينما أقدم على توليد امرأة بطريقة عادية دون مراعاة ملفها الطبي الذي وضعه زوجها بين يديه حين دخولها المصحة والذي يتجلى منه أنه لا يمكن توليدها إلا بإجراء عملية قيصرية نظرا لكونها كانت مصابة بانكماش في الحوض كان قد حدث لها في حادثة سير، فرفع زوجها دعوى يطالب فيها الطبيب بالتعويض عن الأضرار التي أصابت الطفلة والمتمثلة في عاهة الرأس وانحراف في عمودها الفقري، وقضت محكمة الاستئناف بأن يؤدي الطبيب للضحية بالتضامن مع عيادة فال ـ أنفا ـ تعويضا قدره 300.000 درهم مع إحلال شركة التأمين محل المؤمن لديها في الأداء … “وقد أيده المجلس الأعلى بقرار صادر في القسم الثاني من الغرفة المدنية بتاريخ 26/2/1992″( ).
ومما يزيد أهمية الملف الطبي هو أنه كثير من التصرفات الطبية الخاطئة التي قد تصدر من الطبيب لا تترك لها أثر مادي يستدل الخبير على إثره، وهو ما أكده الحكم الصادر عن ابتدائية الرباط بتاريخ 8/8/1988 الذي ورد فيه: “الأساتذة الأطباء سواء في تصريحاتهم الشفوية أو تقاريرهم المكتوبة أجزموا على أنه لا يمكن لهم إعطاء أي نظر فيما يخص طريقة تخدير الهالكة لغياب تقرير مكتوب للنظام التخديري، أو ما يدعى بسجل البنج، الذي شمل فحص المريضة ونتيجة هذا الفحص، ونوع المخدر وكيفية تحضيره وكيفية إجراء التخدير الأولي، وتحديد كمية البنج المعطى للمريضة، والمدة التي يستغرقها لانتهاء مفعوله …” ( ).
وهو ما يقود إلى استخلاص أن القضاء له إمكانية استبعاد الخبرة القضائية، والاكتفاء بالقرائن المستخلصة من الملف الطبي، واعتبارها حجة في الإثبات كافية لقيام مسؤولية الطبيب، وهذا ما أكده المجلس الأعلى في أحد قراراته : “… المحكمة أبرزت بكيفية واضحة مستندها في تقدير التعويض، وهو الملف الطبي للضحية والأضرار المادية التي لحقت بها … وأن تعليل المحكمة جاء كافيا لتبرير ما قضت به، مما يجعل الوسيلة بدون أساس”( ) وهو ما يتماشى ويوافق ايضا ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في أحد قراراتها : “… الفقرة الأخيرة من الفصل 66 ق.م.م لا تلزم القاضي بالأخذ براي الخبير، وأن الخبراء لم يقوموا بمهامهم بطريقة كاملة، لذلك يتعين الاكتفاء بما يتوفر عليه الملف من قرائن وشهادات تقنية تبين صدق ما يدعيه المدعي، وحيث إن الأم الحامل كانت تتوفر قبل عرضها على الدكتور (…) على ملف طبي …” ( ).
فامتداد رقابة القضاء تتخطى دائرة الخبرة القضائية الطبية، لتمنح القاضي سلطة تقديرية من ظروف الحال والوقائع. ولعل حجية عدم مسك الملف الطبي من طرف الطبيب، سيعد قرينة ضده على اساس اعتبار ـ سوء النية ـ فهل يعقل أن يمسك طبيب ويضبط بيانات ومستندات ضد مصلحته. فكيف للمريض أن يثبت ما يدعيه في غياب الملف الطبي ؟
بالرجوع إلى القانون الداخلي للمستشفيات نجد تنصيص المشرع على ضبط هذا الملف دون أية إشارة إلى عنصر الإلزام فيما يتعلق للطبيب تسليم المريض أو عائلته أو أية جهة خول لها القانون ـ الجمعيات ذات النفع العام في المجال مثلا ـ أو دفاع المريض أو موكله بمقتضى وكالة عامة أو خاصة للغرض، الملف الطبي بحكم القانون، أضف إلى ذلك فإن القراءة للشق المفاهيمي كما سنبين أدناه لا تتضمن أي جزاء قانوني لمخالفة عدم مسك الملف الطبي ـ حيث نجد :
المادة 60 : “تكوين وتدبير ملف الاستشفاء.
ـ يحدث لكل مريض أدخل المستشفى ملف استشفاء، ويعتبر هذا الملف ملكا للمستشفى والذي يتولى حفظه.
ـ يبعث ملف الاستشفاء بمجرد خروج المريض إلى المصلحة المكلفة بالأرشيفات الطبية بالمستشفى.
ـ يجب على العاملين بالمستشفى اتخاذ جميع التدابير اللازمة من أجل المحافظة على الطابع السري للمعلومات الموجودة في ملف الاستشفاء”.
المادة جعلت ملكية الملف تعود للمستشفى دون المريض، مما يفيد على أن المستشفى حريص على جسد المريض الذي خولته مواثيق العالم ودساتيرها الحق في الحياة والحق في السلامة، ورفعته إلى مصاف التكريم والقدسية التي كرم الله عز وجل بها بني آدم على حد سواء. وهو ما يجعل الفصل 22 من الدستور الذي يمنع المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص وفي أي ظرف ومن قبل أي جهة كانت خاصة أو عامة ينحدر إلى مصاف قاعدة دنيا، تربعت فوقها قاعدة أسمى ـ القانون الداخلي للمستشفيات ـ الذي له الحق المطلق دون منازعة من طرف أي كان امتلاك الملف الطبي ـ جسد المريض ـ بقوة القانون.
المادة 61 : “الاطلاع على ملف الاستشفاء وتسليمه.
يمكن الاطلاع على ملف الاستشفاء من طرف المريض أو ممثله القانوني أو ذوي الحقوق في حالة وفاته عن طريق الطبيب المعالج غير المنتمي للمستشفى.
ـ يحق للمريض أو الطبيب الذي يمثله الاطلاع على ملف الاستشفاء في عين المكان بحضور الطبيب الاستشفائي المعالج.
يمكن للمريض الحصول بواسطة طبيبه الاستشفائي المعالج على نسخة من ملف استشفائه أو تقرير مفصل حول التكفل الطبي بناء على طلب مقدم من طرف المريض إلى مدير المستشفى.
في حالة ترحيل المريض إلى مؤسسة استشفائية أخرى، يرسل التقرير المفصل وكذا نسخة من الملف، الذي يجب أن تحدد لائحة محتوياته بواسطة لائحة إرسال إلى المؤسسة المستقبلة التي تشعر باستلامه بالتوقيع على نسخة من ورقة الإرسال
يمكن تسليم ملف الاستشفاء لغرض علمي لكل عضو من الهيأة الطبية قصد الاطلاع عليه في عين المكان بترخيص من مدير المستشفى”.
أمام هذه الترسانة الوقائية من الزجر لمؤسسة الطب ككل، يمكننا أن نستنتج ما يلي من خلال استقراء فقرات المادة واحدة تلو الأخرى :
الفقرة الأولى تمثلت بصياغة ـ يمكن ـ فعنصر الإلزام مغيب عمدا، مما يمنح سلطة للمركز الاستشفائي في الاستجابة لطلب الاطلاع على الملف الاستشفائي أو العكس. ثم إن كيفية الاطلاع لن تتم إلا عن طريق الطبيب المعالج غير المنتمي للمستشفى، فالعقبة الأولى صرامة النص القانوني في حرمان المريض وممثله القانوني وذوي حقوقه في حالة وفاته من حق الاطلاع على ملفه طبي ما لم يتحدد ذلك على يد طبيب معالج خارج المستشفى قبل ووافق بإلحاح أو لقرابة أو نسب ـ في الغالب ـ التصدي لإدارة المستشفى المعالجة في خطأ طبي ألغى اعتبار الواجب والتضامن السري للأطباء تحت وطأة الغيرة والواجب والتضامن الأسري أو تضامن الصداقة والقرابة والنسب أو العقيدة أواللغة أو….
الفقرة الثانية : تمثل القبول الضمني التراتبي في حالة وجود هذا النوع من ـ طب المغامرة أو الطبيب المشاكس ـ في مواجهة زملاء المهنة في حالة الشك اليقيني بتوافر خطأ طبي على ضحية ما، بأن يطلع على ملف الاستشفاء ولكن في عين المكان بحضور الطبيب الاستشفائي المعالج، فما جدوى التنصيص على حضور هذا الأخير ؟ هل يتعلق الأمر بحرص مهني على توضيح ومناقشة الطبيبين بعضهما البعض ملف العلاج، أم يهدف الحضور بمعية الطبيب المعالج غير المنتمي للمستشفى إحراج من نوع ما أو ماذا … وما أثارنا في هذه الفقرة أن المريض يحق له أيضا حق الاطلاع على ملفه، فما الغاية وهو بصحبة أهل الاختصاص ؟
الفقرة الثالثة : تحدد إمكانية حصول المريض بواسطة طبيبه الاستشفائي المعالج، وليس الطبيب الغير المنتمي للمستشفى على نسخة من ملفه الاستشفائي السابق، أو مجرد تقرير مفصل حول التكفل الطبي بناء على طلب مقدم من طرف المريض إلى مدير المستشفى. فالأمر جلي وواضح، كأنما المستشفى تواجهه بالرد: “تريد ملفا طبيا انتظر الرد إلى ما لا نهاية”.
فالنية المبيتة لواضعي التشريع الصحي ـ سهوا أو عمدا ـ ونحن لسنا بصدد الإدانة أو التبرئة، تستشري تفاقم الخروقات اللامهنية خصوصا وأن هذا التعديل المصاحب للقانون الداخلي للمستشفيات يرجع إلى تاريخ ليس بالبعيد ـ 2011 ـ بما يكفل حماية نظام وقطاع صحي بأكمله، وليس فقط طبيب منفرد أو جهة استشفائية عامة أو خاصة.
الفقرة الرابعة : تتحدث عن ترحيل المريض إلى مؤسسة استشفائية أخرى والتي يجعل ملفه الطبي يرحل بدوره. فالمؤسسة الاستشفائية قد تكون تنتمي إلى القطاع العمومي، وقد تنتمي إلى القطاع الخاص كما هو الشأن للمصحات. ما يعني بمفهوم المطابقة أن نفس المقتضيات ستسري على هذه الأخيرة قياسا على النصوص المنظمة للقانون الداخلي للمستشفيات. فالطبيب يظل محل حماية سواء كان طبيبا عاما أو طبيبا خاصة وهو بصدد ممارسته للعلاج الطبي على المريض.
الفقرة الأخيرة : تخول مكنة تسليم ملف الاستشفاء لغرض علمي لكل عضو من الهيأة الطبية قصد الاطلاع عليه في عين المكان بترخيص من مدير المستشفى، ما يمنح للمدير سلطة في تقدير الطلب إما بالقبول أو الرفض من جهة، ثم إن الغرض العلمي سيفسح المجال مستقبلا لمكنة التجارب البيوطبية على الإنسان،أو الحجر الصحي بدواعي الصحة العامة، أوالاحتجاج بعلم الوراثة وهو ما ينبغي على المشرع أن يحدد سبله.
وبناء عليه، فإن الفراغ القانوني الذي يعتري المقتضيات التشريعية المنظمة للمهن الطبية، والقصور المصاحب للتعديلات الحديثة ـ القانون الداخلي للمستشفيات ـ يتطلب جرأة مهنية لفئة الأطباء هيئات ونقابات وأفراد، التشديد والتأكيد على ضرورة مسك الملف الطبي بصياغة مفاهيم وألفاظ تحدد عنصر الإلزام للمهنيين في المجال الطبي على أوسع نطاق من قبيل :” يتعين، يجب، يلزم …”
كقاعدة قانونية يترتب عن مخالفتها الجزاء التأديبي، المدني ثم الجنائي، وحتى يعتبر ذلك بمثابة ـ سيف ذو حدين ـ لأطراف النزاع في الخطأ الطبي ـ المريض ثم الطبيب ـ يغني عن متاهة القضاء في البحث والتتبع. ولعل مقولة لا يلزم شخص أن يقدم دليلا ضد نفسه، ولا يلزم لأي شخص أن يصنع دليلا لنفسه، تجد سندها وأساسها في القواعد العامة للإثبات، لكن تطبيقها في المجال الطبي يجب أن ينظر إليه بنوع من المرونة وذلك من منطلق حماية الطرف الضعيف في مادة الإثبات، مما يتعين القول إن كل الوثائق الصادرة من الطبيب يمكن الاعتماد عليها كحجة لصالح المستهلك ـ ضحية الخطأ الطبي ـ( ).
وهو ما تجسد قولا برأي الدكتور أحمد الخمليشي : “أن أخطاء الأطباء أصبحت متفاقمة في الحياة العملية، مخلفة وراءها عشرات الضحايا، ولكن هؤلاء لا يثيرون دعاوي المسؤولية الطبية، وحتى لو أثاروها فغالبيتها ترد وترفض وذلك لعجزهم عن إثبات خطأ الطبيب أو الجراح … ولذلك يجب أن يولي اهتمام من جانب القضاء الذي يمكنه أن يعتبر عدم مسك الملف الطبي للمريض بمثابة إهمال أو عدم احتياط من طرف الطبيب أو الجراح يترتب عنه مسؤوليته القانونية، ولذلك يسعى الأطباء والجراحون إلى مسكه وضبط الخدمات الطبية والجراحية التي يقدمها للمرضى سواء في القطاع الخاص أو العام”( ).
وعموما، فإن الملف الطبي وما يتميز به من خصائص في العلاقة التي تنشأ بين الطبيب والمريض سواء في إطار العقد الطبي أو ما يهم القانون، فإن عبء الإثبات الذي يشكله مسك هذا الملف سينتقل لفائدة ـ ضحية الخطأ الطبي ـ ما دام الأمر سيعتبر دليلا كتابيا يجوز حجيته القانونية في مواجهة الأطراف في النزاع ذو الطبيعة الطبية ـ الخطأ الطبي ـ بحكم أن المشرع يأخذ في النظرية العامة للالتزامات بحرية الإثبات في المادة المدنية خصوصا إذا تعلق الأمر بعقد طبي، هذا الأخير الذي لم يفرد له المشرع المغربي اسما معينا، مما يعني أن القانون لا يقر أي شكل لإثباته، على أن الدليل الجنائي سيقترن بمدلول الخطأ الطبي في منطلق الفصلين 432 و433 ق. الجنائي، مما يقودنا للاستشراف عن الملف الطبي المحوسب وموقف التشريع ؟
إن مسألة الولوج للملف الطبي المحوسب le dossier médical informatisé يكتسي أهمية كبيرة في مجال المحافظة على أسرار المرضى فيما يتعلق بالولوج والاطلاع على محتويات هذا الملف من طرف الفنيين والإداريين والمعلوماتيين غير الأطباء على أسرار المريض. ولعل تشديد القانون الداخلي للمستشفيات على مبدأ “السر المهني” يبقى أمرا ضروريا من أجل الحماية الخاصة للمرضى.
إذن فما هي أسلم وسيلة للحفاظ على أسرار المرضى ؟
إن تحقيق مثل هذه الحماية من الصعب تصورها بمعزل عن الاستعانة بوسائل تقنية ذات طبيعة معلوماتية من قبيل البرامج المعلوماتية Logiciel والرموز السرية code secretوالبطائق الممغنطة carte magnétique ، فالمراكز الاستشفائية الأوروبية والأمريكية تستعين بهذه الوسائل لحماية أسرار المرضى مع اختلاف بينها في طرق تطبيق هذه الوسائل الحمائية والبرامج المعتمدة في منح حق الولوج للملف الطبي المحوسب والمدى الذي يمكن أن يصل إليه هذا الحق( ). هذه الوسائل المحسوب لها تشكل وبحق نظاما كافيا لتخزين المعلومات الكافية لكل حالة مرضية غايتها مصلحة المريض، وفي نفس الوقت تحوي لائحة من المعطيات الدقيقة ـ المادية والفنية ـ مبرمجة وتترجم محتويات الملف الطبي الورقي إلى تشخيصات رقمية تنذر على وجه السرعة والاستعجال الاطلاع أثناء البحث الموكول لجهة معينة الولوج للمعلومة الطبية المبحوث عنها.
إن عنصر الجزاء لمسألة المخالفات للملف الطبي ـ المحوسب ـ خاصة ما يشكل جريمة جنائية، يستدعي أن يعتبر فعل الطبيب ـ وهو المطلوب ـ خطأ مهنيا يندرج في صور الخطأ المضمنة في القواعد العامة للقانون الجنائي المغربي، على أن بعض الجرائم التي تدخل في هذا النطاق ـ إفشاء السر المهني، التزوير في الملف الطبي، الإجهاض ..- كلها مشتملات لجرائم قانونية يجب أن تضمن بدقة مجريات العمليات وأنواع العلاج منذ استقبال المؤسسة ـ المستشفى أو المصحة- للمريض وحتى مرحلة فتح ملف طبي يمكن الاستئناس والركون إليه في أي نزاع بمثابة حجة على الطبيب ـ غير قابلة لإثبات العكس ـ متى ارتأى القاضي أن محددات الخبرة تتنافى مع ما يظهر على المريض من الخطأ الطبي الجسيم أو اليسير طالما مسألة الخطأ ثابتة في حقه.
وعموما فإن موقف التشريع من مسألة الجزاء لعدم مسك الملف الطبي، يعتريه قصور واضح وصريح طالما أن النصوص التي توجب على المستشفيات ضبط هذه المسألة تخلو من الجزاء القانوني في حالة عدم القيام بذلك، لذا نناشد المشرع بإلحاح أن يتدخل لسد هذا الفراغ، ليس بإيجاد قوانين خاصة تكون كفيلة بحماية الأفراد، ولكن بالترنح عن أزمة النصوص التي تفتح مجالا شاسعا للتأويل والتعسف في استعمال الحق لإثراء جهات على حساب أخرى. والاسترشاد بالتجارب المقارنة على الأقل لترسنة حق الولوج لجميع ـ الملفات الطبية ـ إلى حين تهيئ السبل وتوحد الإرادات لمقارعة الالتزامات المفروضة على الأطباء.
ولكن تبقى مسألة الإثبات عنصرا مهما حتى يلحق الوصف المتعلق بجرائم الطبيب تجاه المرضى، غاية في الأهمية لا يكفي فقط ثبوت الخطأ الطبي من جانبه، بل يتطلب توافر عنصري الضرر والعلاقة السببية في المسؤولية الطبية حتى تتحدد آثار ذلك في مسؤولية الطبيب عن فعله الشخصي، وأيضا في مسؤوليته عن فعل الغير في الأخطاء الطبية. وهو ما سيشكل لنا دراسة لأركان الجريمة الطبية والشروط المتطلبة حتى يؤاخذ الطبيب بالمنسوب له في إطار المرفق الطبي العام والخاص معا، وفي علاقته بالفريق الطبي والصيادلة وكذا في الروابط العقدية، وأيضا في إطار ممارسته العمل الطبي شخصيا، أو في حالة الاستعانة بالغير .. ومدى ثأثير ذلك على مسؤوليته الجنائية في المبحث الثاني من هذا الفصل.
الفرع الثالث:
الاستشفاء
المادة 136: “يجب أن يودع المعتقلون بأقرب مستشفى كلما ارتأى طبيب المؤسسة أن العلاجات الضرورية لا يمكن اعطاؤها بعين المكان، أو في حالة إصابتهم بأمراض وبائية.
يتعين على الطبيب رئيس المصلحة، تحت مسؤوليته، أن يفحص المعتقل من أجل التأكد من ضرورة بقائه بالمستشفى. ويصدر أمرا بإرجاعه إلى السجن في أي وقت تبين فيه أن المعتقل يمكن معالجته داخل السجن.
لا يمكن إيداع المعتقلين بمصحات خصوصية ولو على نفقتهم إلا بموافقة وزير العدل. تسري نفس المقتضيات المنصوص عليها في الفقرة الثانية أعلاه على الطبيب مدير المصحة الخصوصية.
المادة 137: “لا يتم الاستشفاء، إلا بناء على تعليمات طبية، وتشعر بذلك إدارة السجون، قبل نقل المعتقل المريض. وإذا تعلق الأمر بمعتقل احتياطي، تعين كذلك إشعار السلطة القضائية المختصة.
في حالة الاستعجال، يتم الإشعار بعد إنجاز الاستشفاء.
يجب على مدير المؤسسة، إعطاء المعلومات الكافية للسلطة المعنية، قصد تمكينها من اتخاذ الاجراءات اللازمة لخفر وحراسة المعتقل نزيل المستشفى، بواسطة مصالح المستشفى أو الدرك، وبصفة عامة، من تحديد التدابير الكفيلة بمنع أي حادث، مع أخذ شخصية المعتقل بعين الاعتبار.
يعتبر المعتقلون المودعون بالمستشفى مواصلين لتنفيذ عقوبتهم أو اعتقالهم الاحتياطي، ويطبق في حقهم في هذه الحالة نظام الاعتقال بالمؤسسات السجنية.
ترفع حالة الاعتقال، إذا انتهت مدة العقوبة أثناء استشفاء المعتقل”.
فحتى الاستشفاء خارج السجن يبقى رهين برأي طبيب السجن، فقد يتعسف هذا الأخير في المبادرة المستعجلة لنزيل محدد فتنعدم معه ضمانة الحياة، فيبقى عبء الإثبات مجردا من فاعليته ما لم يتحرى ذلك وبنزاهة مفتشي السجون –الأطباء- لإثارة المسؤولية الجنائية لزميل المهنة، لدلك نرى أنه يتوجب مباشرة بعد أي وفاة أو عاهة خطيرة تنسب أو يشك أن لطبيب السجن علاقة بها أن تتخذ النيابة العامة الإجراءات الكفيلة عبر اعتماد خبرة قضائية خارجية لإثارة والكشف عن أي تستر مهني.
عموما يبقى ولو –القانون المنظم للسجون- في نصوصه الشكلية قانونا بامتياز لأنه فعلا تضمن جرأة وضمانة حقيقية لإثارة المسؤولية الطبية بوجه عام والجنائية بوجه خاص، لكن ماهي الوسيلة القانونية الجريئة لتفعيل ذلك؟
المبحث الثاني : عنصري الضرر ( النتيجة الاجرامية) والعلاقة السببية في نطاق المسؤولية الجنائية للأطباء
إن قوام المسؤولية الجنائية هو الالتزام بتحمل النتائج القانونية المترتبة على فعل يخطره القانون الجنائي ويعاقب عليه ، وعلى هذا الأساس فان هذه المسؤولية تمثل رد الفعل الاجتماعي تجاه المخالفات التي تنتهك حرمة العلاقات الاجتماعية فهي بذلك – وكما ذهب الى ذلك بعض الفقه – تحمل معنى المؤاخذة أو تحمل التبعة ،والجاني بمقتضى هذه المسؤولية يتحمل الجزاء الذي ترتبه القواعد القانونية كأثر للفعل الذي يرتكبه هذا الاخير خروجا على أحكامها . ولقد كان مصطلح “الجريمة” يستعمل في الماضي في المجال المدني والجنائي معا ، وذلك للدلالة على كل فعل يحدث ضررا للغير أو للمجتمع بصفة عامة.
،وللتفريق بين المجالين “كان من اللازم” اضافة عبارة أخرى لتحديد نوع الجريمة المتركبة ومثال ذلك ” الجريمة المدنية” أو “الجريمة الجنائية”، ولكن مع استقلال القانون الجنائي عن القانون المدني ،أصبح مصطلح الجريمة محدود الاستعمال في المجال الجنائي وحده ، بينما أدخل مصطلح”الخطأ” في المجال المدني ولا يكفي لقيام الضمان أن يرتكب الانسان فعلا غير مشروع أو تعديا ، بل لابد أن ينتج عن هذا الفعل ضررا للغير سواء في ماله أو عرضه . فالجريمة وان كانت غالبا تصيب المجني عليه بضرر ، فانه في بعض الاحيان يتعدى ضررها المجني عليه ليلحق بأفراد أسرته كما هو الشأن في جريمة القتل ،حيث يأخذ كل من أفراد أسرته صفة المضرور . وعنصر الضرر هذا كمحدد للمسؤولية الجنائية هو الذي يضفي الوصف الاجرامي عن الفعل أو الامتناع نظرا للأهمية التي يكتسيها بمجرد حدوث ضرر يصيب ضحية في جريمة ما.
ومفهوم الجريمة لا يتحقق أبدا إلا بوجود نص قانوني يجرم الفعل او الامتناع عن الفعل. وهذه الخاصية تعتبر أساسية للتمييز بين مفهوم الجريمة في القانون، ومفهوم الجريمة في ق.ل.ع المغربي : فالجريمة في مفهوم قانون ل.ع كما نص عليها الفصل 77 هي :”كل فعل ارتكبه الانسان عن بينة واختيار ،ومن غير أن يسمح له به القانون فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير …”
أما الجريمة في مفهوم القانون الجنائي المغربي (الفصل 110 ) فتعتبره ” كل عمل أو امتناع مخالف للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه”.والجريمة تختلف عن شبه الجريمة التي تجد أساسها في مفهوم الخطأ ” فالفصل 78 ق.ل.ع ينص على أن ” كل شخص مسؤول عن الضرر المادي أو المعنوي الذي أحدثه لا بفعله فقط ولكن بخطئه أيضا ،وذلك عندما يثبت ان هذا هو الخطأ هو السبب المباشر في الضرر”
فإذا كان ركن الضرر يعد الصورة المشتركة بين اركان الجريمة في نطاق القانون الجنائي ،وكذا في كنف قواعد القانون المدني، علما أن محددات التعويض عن الضرر، لا تقوم إلا اذا توافرت ابتداء جميع أركان الجريمة وعناصرها في المادة المدنية ، وهو ما ينطبق عن الفعل أو الامتناع الذي يعتبر جريمة في مفهوم القانون الجنائي، والذي بدوره يتطلب أن تتوفر فيه ثلاثة أركان أساسية، وعند غياب واحد منها، فانه لا يمكن اضفاء صبغة الجريمة على ذلك الفعل أو الامتناع. ويتعلق الامر بالركن القانوني والركن المادي ثم الركن المعنوي.
فالضرر هو الأساس الذي تنبني عليه المسؤولية المدنية والجنائية، وهو ما يعبر عنه في اطار الركن المادي للجريمة عندما يوجد نشاط اجرامي في شكل ايجابي أو سلبي بالنتيجة الاجرامية. وهذه الاخيرة لا تكون عنصرا من عناصر الركن المادي في الجريمة ، الا بالنسبة لجرائم النتيجة أو ما يسمى بجرائم الضرر أو الجرائم المادية التي يتوقف وجودها على حدوث نتيجة معينة بسبب وجود اعتداء على حق تمت حمايته من طرف القانون وجرائم الضرر أو جرائم النتيجة الاجرامية يمكن أن يرتكبها شخص لا يحمل أي صفة، ويمكن أن يوقعها أشخاص ذوو صفه ينتمون لقطاع معين يترتب عند ارتكابهم فعل أو امتناع يجرمه القانون الجنائي ويقرر له عقوبة خاصة ، سواء في صلب المجموعة الجنائية أو ثنايا القواعد الخاصة الأخرى. وكما هو الأمر لسلوكات الأطباء اتجاه المرضى – ضحايا الأخطاء الطبية- والذي يشترط لتحقيق المسؤولية الجنائية للطبيب أو الجراح في جرائم القتل و الجرح الخطأ تحقيق نتيجة معينة ، وهي وفاة المريض في القتل الخطأ واصابته أو جرحه أو ايذائه في سلامة جسمه أو صحته في الجرح الخطأ. ولعل اختلاف الروابط القانونية التي ينظمها القانون العام قد سمحت بقيام فكرة الضرر وتطلبت شروطا لقيامه خاصة مع اتجاه بعض الفقه ومعه القضاء الى التركيز على ركن الضرر كشرط كافي لقيام المسؤولية عامة والمسؤولية الطبية خاصة، بمجرد ثبوت العلاقة السببية بين الضرر – النتيجة الاجرامية – والخطأ الطبي (المطلب الأول)
فتترتب بذلك آثار تختلف أحكامها عن الفعل والامتناع الذي أحدث ضررا طبيا في جريمة طبية على ضحية “خطأ طبي” صادر عن طبيب عن فعله الشخصي، أو قد أسهم في احداثه الغير، وتنشأ على اثر ذلك علاقات تعاقدية وروابط قانونية، تتولد عنها المسؤولية الطبية وبالأخص الجنائية في الحالة التي يتمثل فيها الضرر عن صورة قتل خطأ (ف 432 ق الجنائي المغربي) أو جرح أو اصابة خطأ (ف 433) ( المطلب الثاني).
المطلب الأول : تحقق الضرر الطبي وثبوت العلاقة السببية في جريمة الخطأ الطبي
اذا كان الجزاء في الجرائم العمدية لا يتوقف بالضرورة على تحقيق الضرر، لان القصد الجنائي في هذا النوع هو الركن الاساسي لتوقيع العقوبة فانه وعلى العكس من ذلك، في الجرائم الغير العمدية او الخطيئة ، لا محل للعقاب مهما يكن خطأ الطبيب الجراح او الخطر الذي يمكن ان يترتب عن هذا الخطأ، إلا اذا أفضى الى نتيجة ضارة ولا عقاب على الشروع بالنسبة لهذه الجرائم التي العبرة فيها أساسا بتحقيق النتيجة الضارة . بل ان هناك من يرى بأن لا داعي لتطلب حتى شرط الضرر في بعض الحالات، لان كثيرا من الصور التي تقتضي المحافظة فيها على مصلحة الخواص ضحايا الجرائم حمايتهم حتى ولو لم يصابوا بضرر مثال ذلك حالة المجني عليه في الجريمة المستحيلة او جرائم الخطر التي لا ينشئ عنها ضرر خاص، بل يكفي نظرا لطبيعة الخصومة الجنائية الادعاء بوجود الضرر او وجود ضرر احتمالي، اذ لا معنى لبقاء المجني عليه المحتمل المكتوف الايدي حتى يتأكد له الضرر . والمجني عليه او المتضرر من ضرر طبي حتى يكون بمقدوره استفاء حقوقه من الاضرار المادية والمعنوية يشترط القانون ثبوت المسؤولية الطبية حسب شروط معينة(الفقرة الاولى)، على ان الرابطة السبية هي التي تجعل الخطأ علة الضرر وسبب ووقوعه، اذ لابد ان تكون النتيجة الاجرامية – الجريمة غير العمدية في نطاق صور الخطأ في الفصلين 432_433 من القانون الجنائي المغربي- متصلة بالنشاط الصادر عن الجاني اتجاه المجني عليه – ضحية الخطأ الطبي- اتصال السبب بالمسبب او المعلول بعلته على قول الاصوليين. الفقرة الثانية
الفقرة الاولى : صور الضرر الطبي وشروطه
htmlspecialchars_decode(‘”‘) أولا: صور الضرر الطبي htmlspecialchars_decode(‘”‘)
الضرر هو الركن الثاني من أركان المسؤولية المدنية بشقيها العقدي والتقصيري، ولا يتصور قيام المسؤولية بلا ضرر، فإذا انتفى الضرر لا تقبل دعوى المسؤولية وتعتبر النتيجة الاجرامية ايضا الركن الثاني من أركان المسؤولية الجنائية وهي لا تنم إلا عن ضرر، فالضرر مرادف للنتيجة الاجرامية يتقابلان في الاثر القانوني لصالح المجني عليه والمضرور من خطأ طبيب في جريمة طبية، وإلا لما استطاع –ضحية الخطأ الطبي- المطالبة بالتعويض لغياب مصلحته في الادعاء، أو مساءلة الاطباء جنائيا لانتفاء صفته في الخصومة الجنائية. فالضرر لم يعد مجرد حدث فردي حاضر، ولكنه ظاهرة من ظواهر الواقع الاجتماعي السلبية- على وجه العموم- وتختلف المسؤولية في الضرر الذي يصيب الانسان بين نوعيه المادي والمعنوي ( أولا) وهو ما تتحدد عقوبته ومقداره في عهدة شروط مستلزمة قانونا (ثانيا)
أ- الضرر المادي
الضرر عموما هو المساس بمصلحة المضرور، وقد عرف الفقهاء بكونه ” الاذى الذي يصيب الانسان في جسمه أو ماله أو شرفه وعواطفه” كما يعرفه البعض بأنه “الاذى الذي يلحق بالمضرور نتيجة خطأ الغير ،وقد يلحق هذا الأذى بالشخص في جسمه أو ماله فيكون ضررا ماديا ،وقد يلحق بالشخص في سمعته أو شعوره أو شرفه فيكون ضررا أدبيـا” أو هو” المساس بحق او مصلحة مشروعة لشخص مساسا يترتب عليه جعل مركزه أسوأ مما كان عليه قبل ذلك لأنه انتقص من المزايا أو السلطات التي يخولها هذا الحق أو تلك المصلحة لصاحبه” وهنا يتعين أخذ مصطلح الضرر المادي في معناه الواسع فهو لا يقتصر على الاضرار الاقتصادية التي تصيب الناحية المالية للشخص المضرور- الضحية-،واذا كان الفقه التقليدي قد درج على دراسة موضوع الضرر الجسدي ضمن حالات الاضرار المادية ،الا أن الواقع يؤكد أن هذا النوع من الضرر dommager coporels ينطبق عليه وصف الضررين المادي والمعنوي معا، لأنه بالإضافة للتكاليف المالية التي يستلزمها علاج هذا النوع من الضرر فانه غالبا ما يتسبب في وقوع بعض التشوهات والعيوب التي تؤثر على الناحية الجمالية للشخص المضرور ،الشئ الذي يخلفه لديه ألما نفسيا لا يقل خطورة عن الألم الجسدي الذي لحقه من جراء الضرر و لا يخرج الضرر الطبي عن هذه التعريفات حيث يعرفه البعض بأنه ” حالة ناتجة عن فعل طبي أدى للمساس بجسم الشخص بتعريضه للأذى” فالطبيب عادة يلتزم ببذل عناية لفائدة المريض من أجل شفائه ومقاومة مرضه فإذا أخفق في مسعاه نتيجة لخطأ، فانه يسأل عما أصاب المريض من خسارة مالية كمصادر في العلاج وتكاليف الدواء وأتعاب الأطباء وأجر المستشفى. و “يسأل الطبيب عن عدم شفاء المريض لأنه لا يلتزم بتحقيق نتيجة ،ولكن اذا تسبب الخطأ في تفاقم حالة المريض وتدهور صحته فانه يسأل عن ذلك وهو ما اكدته الغرفة المدنية الاولى لمحكمة النقض الفرنسية بكل وضوح في قرار لها صدر بتاريخ 25/10/1961 جاء فيه :”ورغم التسليم بأن الطبيب قد ارتكب خطأ، فلا شئ يفيد أن هذا الخطأ قد احدث ضررا ،ولا حتى جعل الحالة المرضية للمريض تتفاقم أو كان بالنسبة اليها مصدرا لأي ضرر”
وقد قضت محكمة النقض المصرية بأن :”الضرر المادي الذي يجوز التعويض عنه وفقا لأحكام المسؤولية التقصيرية يتحقق اما لإخلال بحق ثابت للمضرور يكفله القانون، أو الاخلال بمصلحة مالية ما، ولا ريب في ان حق الانسان في سلامة جسده يعد من الحقوق التي كفلها له القانون وجرم التعدي عليه، فإتلاف عضو أو احداث جرح أو اصابة الجسم بأي اذى اخر من شأنه الاخلال بهذا الحق ويتحقق بمجرد الضرر المادي، فإذا ما ترتب على الاعتداء عجز للمضرور عن القيام بعمل، أو تأثير على قدرته في أداء ما يكتسب منه رزقه، أو تحميله نفقات علاج، فذلك كله يعتبر اخلالا بمصلحة مالية للمضرور يتحقق به كذلك قيام الضرر المادي،
وإذا كان من المقرر في قضاء هذه المحكمة أنه متى بينت محكمة الموضوع في حكمها عناصر الضرر وهو مما تستقل به مادام لا يوجد في القانون نص يلزم بإتباع معايير معينة في خصوصه ، ولا تثريب عليها اذا قضت بتعويض اجمالي عن أضرار متعددة ما دامت ناقشت كل عنصر على حدة وبينت وجه أحقية طالب التعويض فيه أو عدم أحقيته”
ويمكن تلخيص اهم الأضرار التي تنتج عن الخطأ الطبي كما يلي :
1- مصارف ونفقات طبية في شراء الأدوية والعلاج والإقامة بالمستشفى
2- عجز مؤقت يتجلى في فقدان الدخل من جراء التوقف عن العمل
3- عجز دائم يترك ضررا نفسيا من جراء التوقف عن العمل
4- نفقات تدفع من أجل الاستعانة بشخص اذا كان ذلك ضروريا
5- ضرر يتمثل في الآلام
6- ضرر يتمثل في تشوه الخلقة أو ضرر جمالي
لذا يطلق على هذه الجرائم بجرائم النتيجة، والتي يتوقف قيامها على حدوث نتيجة ضارة بالمريض، فالمحاولة تنتفي ما لم تتحقق النتيجة في الجرائم الطبية وهي الضرر الجسماني الذي لحق –الضحية- إلا في حالات ناذرة حيث يعد الشروع أو المحاولة نتيجة جنائية توقفت لسبب خارجي كالطبيب الذي يحاول دس السم في انبوب الانعاش الطبي لمريض ما،فيفاجأ بزيارة مفاجئة للضابطة القضائية بمعية طبيب أو مدير المستشفى، وهو على اثر اتيان فعله الجنائي مثلا. فالنتيجة الاجرامية قد لا تعتبر شرطا ضروريا بحدوث ضرر في كافة الجرائم الطبية ،لأن مشكل الضرر في المجال الطبي والجراحي عموما لا يطرح بنفس الحدة، كما الشأن بالنسبة لجريمة الامتناع عن تقديم مساعدة لشخص في خطر (ف431 ق.ج) المغربي والتي تقابلها المادة 63 من القانون الجنائي الفرنسي وهي بمثابة قاعدة مسطرة أيضا في مدونة أخلاقيات الصيدلة 17/04 التي نصت المادة 103 على أنه يتعين وجوب قيام الصيدلي ولكن في إطار حدود معارفه بإسعاف مريض في حالة خطر وشيك إذا تعذر تقديم علاجات طبية له .اذ أن مساءلة الطبيب الجراح الممتنع جنائيا- يمكن أن تترتب ولو في غياب وقوع ضرر فعلي للمريض أو الشخص المصاب الذي لم تتم إغاثته أو اسعافه في الوقت المناسب ،فما هو معاقب عنه بالأساس ،ليس النتيجة المترتبة عن الامتناع ، وإنما الامتناع أو الامساك عن تقديم مساعدة في حد ذاته ،بصرف النظر عما أدى اليه ذلك من نتائج, وهذا ينطبق أيضا لجنحة الاجهاض غير المشروع فالواقعة المثبتة للفعل أو الامتناع كافية لتحقيق المصلحة في طرق باب القضاء. وهو ما يجد له تطبيقا لدى القضاء الفرنسي لأول مرة بمناسبة محاولة قتل بواسطة عيارين ناريين نجا فيهما المعتدى عليه، فتنصب طرفا ضد المتهم فأصدرت محكمة الجنايات (بلايس) حكمها بقبول دعوى المجني عليه، وبنائها على أساس صحيح وقضت له بتعويض معللة حكمها بما يلي :” انه ليس هناك أي مقتضى تشريعي يحدد نوعية الضرر أو المصلحة التي على المشتكي أن يدعيها وأن الواقعة وحدها التي تفيد انه كان عرضة لمحاولة القتل ، كافية لتحقيق المصلحة في التدخل كطرف مدني ” وهو ما أقره الاجتهاد القضائي المصري سار في هذا الاتجاه في حكم لمحكمة النقض المصرية بتاريخ 07/05/1952 وأقرت المبدأ التالي :”أنه اذا قررت المحكمة حادثة شروع في قتل قد تسبب عنه ضرر أدبي للمجني عليه فإنها لا تكون قد اخطات لما تحدثه هذه الجريمة من ازعاج وترويع للمجني عليه”
فالنتيجة الاجرامية أي الضرر اللاحق بالمجني عليه تطبعه المرونة في سلك المطالب المدنية، في حين يعوقه اشتراط توافر النتيجة في الركن المادي للجريمة كيفما كانت –فعل أو امتناع طبي- للمساءلة الجنائية عن الفعل الضار الذي لحقه -ضحية خطأ طبي- ينال بطبيعة الحال من سلامة هذا الاخير الجسدية- اصابة ظاهرية او باطنية – ويلحق به أذى في غياب أية ضرورة علاجية. وهو ما تزكيه المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية المغربية الذي ورد فيها :”يرجع الحق في اقامة الدعوى المدنية للتعويض عن الضرر الناتج عن جناية أو جنحة أو مخالفة ،لكل من تعرض شخصيا لضرر جسماني أو مادي أو معنوي تسببت فيه الجريمة المباشرة ، فالضرر المادي لا يقف حائلا دون حق المتضرر من الخطأ الطبي المطالبة بالتعويض طبقا للمسؤولية المدنية، بل تمكين المشرع لضحيته هذه الاخطاء ضررا معنويا بصريح عبارة المادة تلزم الفاعل –الطبيب- المنتج للضرر –النتيجة الاجرامية- التعويض للمدعي بالحقوق المدنية.
حيث جاء في هذا المعنى لحكم ابتدائي صادر عن ابتدائية سلا في 8/8/1988 والمشار اليه سابقا انه :”… يجوز لكل من حصل له ضرر من جريمة أن يقدم شكواه بهذا الشأن ويقيم نفسه مدعيا بحقوق مدنية تلتزم الفاعل بتعويض الضرر الذي لحقه كان ماديا أو معنويا”
ان المسؤولية المدنية القائمة على التعويض لم تعد كافية لتحقيق الحماية اللازمة –لضحايا الأخطاء الطبية –، مما يبرر توقيع جزاء جنائي في حال ارتكاب الطبيب خطأ تسبب في حصول ضرر ولو كان يسيرا، حيث اعتبر بعض الفقه والقضاء بأن ذوي الاختصاص المهني والفني
كالأطباء، لا تقوم مسؤوليتهم الجنائية إلا اذا كان الخطأ الصادر عنهم جسيما، ويكون الخطأ جسيما متى كان عن جهل بالقواعد الأساسية والأصول الفنية المقررة في المجال الطبي والجراحي، فالطبيب أو الجراح يكون مسئولا جنائيا-مثل أي شخص آخر-عن كافة أخطائه كيفما كانت درجتها –جسيمة أو يسيرة- كلما تبت في حقه خطأ في أي صورة من صور الخطأ الجنائي غير العمدي (عدم التبصر ،عدم الاحتياط ،الاهمال …) ،تسبب في حدوث نتيجة ضارة بالمريض ، كالإصابة الخطأ ( ف 433 ق.ج) أو القتل الخطأ (ف 432 ق.ج) .
ب- الضرر الأدبي – المعنوي –
اذا كان الضرر المادي يصيب الشخص في حق أو مصلحة مالية ،فان الضرر الأدبي أو الضرر المعنوي هو كل تعد على الغير في شرفه أو حريته أو ناحية غير مالية او الحاق مفسدة غير حسية بالآخرين ،أو الضرر الذي يصيب الانسان في عواطفه وأحاسيسه ومشاعره ، أو الضرر الذي يسبب للإنسان ألما نفسيا وجسديا . ولقد كان الضرر الأدبي محل خلاف لدى الفقه التقليدي الفرنسي حول امكانية تعويضه ، وكان جانب آخر يرى بأن تعويض الضرر المعنوي لا يمكن السماح به إلا في بعض الحالات ،وجانب ثالث كان يدعو الى تعويضه مثل الضرر المادي ،إلا أن الفقه الحديث قد استقر على تعويضه .
ففي القانون الفرنسي مثلا وردت كلمة “ضرر” دون وصف مما جعل المحاكم تقصرها على الضرر المادي فحسب الى عهد قريب ،والقضاء الاداري الفرنسي( مجلس الدولة) لم يسمح بالتعويض عن الضرر الأدبي إلا في حكمه الصادر في 24/11/1961 ،وأغلب القوانين العربية تنص على مبدأ التعويض عن الضرر الأدبي ولكن في حدود متفاوتة ،وقانون الالتزامات والعقود المغربي نص على التعويض عن الضرر الادبي في المادتين 77 و78 . وإذا كان المشرع قد نص صراحة على التعويض عن الضرر الادبي في المجال التقصيري ،فانه تغافل عن ذلك في المجال التعاقدي ،إلا أن ذلك لا يعني استبعاده من حلقة الأضرار القابلة للتعويض حتى ولو كانت حالة هذا الضرر ناذرة جدا ومثاله أن يذيع الطبيب سرا متعلقا بالمريض أضر بسمعته
ويذهب البعض الى أن التعويض عن الضرر الأدبي هو نوع من العقوبة الخاصة استنادا الى أن الضرر الأدبي ضرر مفترض لا يقبل التقييم النقدي، وأنه لا يقبل الاصلاح. وقد قضت محكمة النقض بأنه :” لا يقصد بالتعويض الادبي وهو لا يمثل خسارة مالية محو هذا الضرر وإزالته من الوجود اذ هو نوع من الضرر لا يحمى ولا يزول بتعويض مادي ،وكان يقصد بالتعويض أن يستحدث المضرور لنفسه بديلا عما أصابه من الضرر الأدبي فالخسارة لا تزول ولكي يقوم إلى جانبها كسب يعوض عنها ، وليس هناك معيار لحصر أحوال التعويض الأدبي إذ أن كل ضرر يؤذي الإنسان فيمس شرفه وإعتباره أو يصيب عاطفته وإحساسه ومشاعره يصلح أن يكون محلا للتعويض فيندرج في ذالك العدوان على حق ثابث للمضرور
والأصل في التعويض عن الضرر الأدبي أنه شخصي مقصور على المضرور نفسه ولا ينتقل إلى غيره بالميراث أو العقد أو بغير ذالك من أسباب الإنتقال إلا إذا أصبحت مطالبة المضرور به محققة ، ولا يعطي القاضي تعويض لكل الورثة ولكن يقتصر تعويضه لمن أصابه ألم حقيقي بموت المصاب “
يثبت الضرر اللاحق به ، وتطبيقا لهذا المبدأ ورد في حيثيات قرار صادر عن المجلس الأعلى :” بأن تقدير وجود الضرر أو عدم وجوده يرجع أساسا إلى محكمة الموضوع تبعا لسلطتها التقديرية التي لاتخضع لرقابة المجلس الأعلى “
والفقه والقضاء ومعظم التقنينات المعاصرة تتفق على جواز التعويض عن الضرر المعنوي ، لأن هذا الضرر وإن كان لا يجبر بالتعويض فإنه على الأقل يساعد على تخفيف الألم عن المصاب ، وهذا ما ذهب إليه المشرع المغربي في الفصل 77 ق ل ع : ” كل فعل إرتكبه إنسان … فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير ألزم مرتكبه بتعوض هذا الضرر “.
وجاء في قرار المجلس الأعلى : ” لكن حيث إن التعويض عن الضرر المعنوي على غرار التعويض عن التعويض المادي يجب أن يكون كاملا لا رمزيا ، وحيث أن قضاة الاستئناف عندما اقتصروا على منح درهم رمزي للطاعن على أساس ان التعويض عن الضرر المعنوي ليس الغاية منه النفع المادي يكونون قد خرقوا مقتضيات الفصل 77 ق.ل .ع وعرضوا قضاءهم للنقض ” وقد قضت محكمة النقض المصرية بأنه :” يجب على محكمة ٍ الموضوع أن تبين عناصر الضرر،وأن تناقش كل عنصر فيها على حدة حال قيامها بتبيان أوجه أحقية طالب التعويض به أو عدم أحقيته ،وعليه فان اغفال الحكم بيان ذلك،يؤذي الى اعتبار هذا الحكم معيبا ويعرضه للقصور ويتعين نقضه”
وعمليا فان الاجتهاد القضائي في المغرب يضيق من دائرة الأشخاص الذين يحق لهم المطالبة بالتعويض عن الضرر الأدبي ،ولقد نصت المادة 4 من الظهير الشريف رقم 1.84.177 الصادر في محرم 1405(2 اكتوبر 1984) المعتبر بمثابة قانون يتعلق بتعويض المصابين في حوادث تسببت فيها عربات ذات محرك في فقرتها الأولى على أنه :” اذا نتج عن الاصابة وفاة المصاب استحق من كانت تجب عليه نفقتهم وفقا لنظام مدونة الأسرة كذا كل شخص اخر كان يعوله تعويضا عما فقدوه من موارد عيشهم بسبب وفاته …
ولزوج المصاب المتوفى وأصوله وفروعه من الدرجة الأولى وحدهم الحق في التعويض عما أصابهم من ألم من جراء وفاته …”
على أن العبرة في تحقق الضرر المادي للشخص الذي يدعييه نتيجة لوفاة شخص أخر –أو عجزه عن الكسب – هو أن يثبت أن الضحية كان يعوله قبل وفاته ،فيقدر القاضي ما ضاع على المضرور من فرصة بفقد عائله، ويقضي له بتعويض مناسب على هذا الأساس . والقضاء مستقر على أن من يرتبط بالمصاب بعلاقة قرابة يحق له المطالبة بالتعويض عن الضرر المعنوي اذا كان المتوفى ينفق عليه بشرط أن يثبت درجة القرابة بمقتضى شهادة تحمل عائلي، أو وثيقة عدلية أن المتوفى كان ينفق عليه، وأن الاستمرار في الانفاق كان أكيدا لولا واقعة الوفاة
فالطبيب محاصر فقها وقانونا وقضاء بالتعويض عن الضرر للمريض، ولا يقف عند هذا الحد. فهو مطلوب وملاحق أيضا عن كل جريمة طبية على – ضحية خطأ طبي- يعتبر فيها عنصر الضرر، كافيا لتحقق المسؤولية الطبية في مواجهة المجني عليه أو المتضرر من “الفعل أو الامتناع” الصادر عن طبيب في منازعة ما.
وحيث أن ركن الضرر يخول للعارض أو المدعي اللجوء الى القضاء لإنصافه من أخطاء الطبيب، حسب منطوق المادة 2 قانون المسطرة الجنائية والتي نصت :”يترتب عن كل جريمة الحق في اقامة دعوى عمومية لتطبيق العقوبات والحق في اقامة دعوى مدنية للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي تسببت فيه”، فانه يجب الأخذ بعين الاعتبار قرينة البراءة التي نص عليها دستور فاتح يوليوز 2011 في الفصل 119 والذي جاء فيه :
“يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا ، الى أن تثبت ادانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشئ المقضي به”
هذا الفصل الذي واكب تنصيص المادة 1 من قانون المسطرة الجنائية 22.01 لسنة 2003 كأحد الحقوق المخولة للأفراد – الأطباء – في باب الضرر الذي تخلفت عنه نتيجة اجرامية اتجاه أشخاص دفعهم المرض الى طلب المساعدة من أطباء يلازمهم هاجس معادلة انجاد المريض واستشكال الخوف من المساءلة أمام القانون.
وعليه، فمقاضاة الطبيب عن جرائمه يتطلب شروطا محددة لقيامه، نرى مطارحتها في النقطة اللاحقة .
htmlspecialchars_decode(‘”‘) ثانيا : شروط الضرر الطبي وتقديره htmlspecialchars_decode(‘”‘)
لا يعتد بالضرر كسبب للتعويض المدني والعقوبة الجنائية الا اذا كان محققا، شخصيا ومباشرا.
أ- أن يكون الضرر محققا وحالا
مقتضى هذا الشرط أن الضرر يجب أن يكون قد وقع فعلا وهو ما يسمى بالضرر الحال dommage actuel ، وإذا كان الوضع المألوف في ميدان المسؤولية التقصيرية هو وقوع الضرر دفعة واحدة، إلا أن هناك بعض الحالات الأخرى التي يحصل فيها الضرر على مراحل متباعدة فيما بينها إلا ان سببها الحقيقي يكون قد نشأ مند البداية فلا تجوز المطالبة بالتعويض إلا إذا كان الضرر محقق الوقوع ، ولا يكون كذ لك إلا إذا كان قد وقع فعلا ، أو محقق الوقوع في المستقبل ،فإصابة شخص بعاهة أدت إلى قطع أحد أعضاء جسمه يحقق الضررين معا، ضرر حال واقع يتمثل في الألم وفقد العضو ، وضرر مستقبلي وهو العجز عن الكسب .
فيجب أن يكون الضرر حاصلا ومحسوما حصوله في المستقبل، فالضرر الحاصل هو” ضرر متيقين من وقوعه في الحال وفي المستقبل، كما أن تحققه يعتبر حتميا في حصوله حاضرا أو مستقبلا ومثال ذالك : موت مريض أو إصابته بعاهة دائمة وعجز كلي أو جزئي في جسمه ” بينما الضرر المحسوم حصوله مستقبلا، يتحقق سببه وتتداخل اثاره او جزء منها في المستقبل، الا أن وقوعه حتمي وتكون نتائجه معروفة، فيعوض المضرور عنه أو مضاعفاته غير معروفة فيعطى تعويض أولي للمريض، وتراقب حالته الصحية التي لا تعرف الاستقرار، وإنما تعرف تحولات تبعا لمؤثرات معينة .
وهو ما يستنتج معه أن الضرر الذي يلحق شخصا ما. منه ما يعتبر حكرا للمساءلة المدنية فقط، ومنه ما يكون محلا للمساءلة الجنائية متى إتخد ركن – النتيجة الإجرامية – عنصر عمل أو إمتناع – طبي – قابل لذالك أمام القضاء الزجري الجنحي أو الجنائي حسب جسامة – الضرر الطبي – في الجرائم الغير عمديا غالبا ، وكذا في الجرائم العمدية. وحيث أن الضرر المحقق لا يوجد خلاف في صحة وجوده أو فيمن وقع عليه مما يعني أنه – الضرر – لا يقبل الإفتراض، بل لا بد ان يكون حقيقة واقعة . كما يستفاد من نص الفصل 108 من القانون الجنائي المغربي والفصل 98 ق ل ع ، فإنه يخول – لضحية الخطأ الطبي – أن ينتصب طرفا مدعيا للمطالبة أمام القضاء بإنصافه مدنيا وجنائيا في نطاق دعوى التعويض عن المسؤولية المدنية، أو الدعوى العمومية أمام المحاكم الجنائية. فالأساس الذي يصلح لادعائه هو عدم افتراض الضرر بل حدوثه فعلا حتى يصلح للتقدير القضائي الموجب للمسؤولية الطبية، ما دام التوجه القضائي قد بدأ ينحو في اتجاه الاكتفاء بعنصر الضرر كشرط تتحدد على اثره المسؤولية.
ب- أن يكون الضرر شخصيا ومباشرا
هذان الشرطان تطلبهما التشريع الجنائي المغربي ،حيث نص الفصل 7 من ق م ج على أن الشخص الذي يرجع له الحق في المطالبة بالتعويض الناتج عن الجريمة هو “كل ما لحقه شخصيا ضرر ذاتي أو مادي أو معنوي تسببت فيه الجريمة مباشرة ”
كما نص الفصل 108 من القانون الجنائي المغربي على أن “التعويضات المدنية المحكوم بها يجب أن تحقق للمتضرر تعويضا كاملا عن الضرر الشخصي الحال المحقق الذي أصابه مباشرة من الجريمة” وتتمثل أهمية الضرر في أن حدوثه هو الشرارة الأولى الذي ينبعث منها التفكير في مساءلة من يتسبب فيه سواء كانت تلك المساءلة وفقا لقواعد المسؤولية الشخصية، أو وفقا لقواعد المسؤولية الموضوعية ،فالضرر بهذا المعنى هو الصورة الملموسة التي تظهر فيه نتائج كل من الخطأ العقدي والخطأ التقصيري ، وهذا يعني أن الخطأ اذا لم يترتب عنه ضرر فانه لا مجال لإعمال قواعد المسؤولية المدنية بنوعيها العقدية والتقصيرية – وهذا ما جعل بعض الفقهاء المعاصرين يعتبرونه الركن الأساسي والوحيد لقيام المسؤولية المدنية .
وسواء كان الضرر ماديا أو معنويا فانه يتعين فيه أن يكون شخصيا ، وهذا يعني أن المطالبة بالتعويض حق للمضرور وحده لارتباط ذلك بمصلحته ،اذ كما هو معلوم فان المصلحة هي مناط الدعوى، ولا يشترط في المضرور أن يكون شخصا طبيعيا، فهو قد يكون شخصا اعتباريا مع اشتراط المصلحة المشروعة. فالاتجاه الغالب في الفقه والقضاء، يذهب الى عدم منح الخليلة تعويضا عن فقدنها لخليلها، وذلك لأن مصلحتها غير مشروعة، وبالتالي فهي غير محمية قانونيا.واذا كانت الخليلة لا تستحق أي تعويض في التشريع المغربي، فان الأمر ليس كذلك بالنسبة للولد الطبيعي والابن المتبنى، حيث يحق لهما الاستفادة من الايراد المستحق للمصاب في اطار قانون الشغل (الفصلان 104و105) من ظهير (6/2/1963) المتعلق بحوادث الشغل .
ففي الضرر الناتج عن الخطأ التقصيري ،ينحصر التعويض في الشخص الذي أصابه مباشرة من جراء الفعل أو الخطأ المحدث للضرر، وهذا ما أشار اليه الفصل 98 ق ل ع بقوله :” الضرر في الجرائم وأشباه الجرائم هو الخسارة التي لحقت المدعى فعلا “،غير أنه ليس هناك ما يمنع من تمديد نطاق التعويض، ليشمل أشخاصا آخرين يرتبطون بالمصاب المباشر بمقتضى علاقة قانونية ،كالقرابة أو المصاهرة أو الالتزام بالنفقة على شخص معين ،وتمديد التعويض الى هؤلاء الأشخاص يندرج ضمن ما اصطلح عليه في مجال المسؤولية التقصيرية بالأضرار المرتدة .
وسواء كان الضرر ناتجا عن خطأ عقدي أو عن خطأ تقصيري وهذا ما يشير اليه الفصلان 77و264 ق ل ع المغربي ،فان الشخص المرتكب له يسأل عنه ما دام عنصر المباشرة سواء في المجال التعاقدي أو العمل غير المشروع – الضرر التقصيري – يعتبر شخصيا، اذا كان خطأ الفاعل – محدث الضرر- هو السبب الرئيسي والكافي لوقوعه ، حتى ولو تداخلت أسباب أخرى وساهمت في تحققه.
فالضرر الذي يلحق الضحية في الخطأ الطبي ماديا كان أو معنويا، متى اقترن بالنتيجة المباشرة في الضرر المباشر الذي يلحق شخصيا بالمضرور أو المجني عليه ، يكون محلا لمساءلة مدنية وجنائية لزجر مرتكبه. فالقضاء المقارن والوطني – المغربي- لا يعتد بالضرر كأساس للمطالبة بالحقوق المدنية والجنائية، إلا اذا كان شخصيا ومباشرا ومؤكدا. وفي هذا الشأن طرحت في فرنسا قضية مثيرة حيث “ادعت امرأة حامل أن الطبيب أخطأ عندما لم ينجح في عملية الاجهاض التي أجراها لها ، مما سبب لها ولادة غير مرغوب فيها معتبرة أن هذه الولادة شكلت ضررا لها، رد مجلس الدولة طلب السيدة لأن ولادة الطفل لا تشكل ضررا من الناحية المعنوية، لأن بإمكان المرأة أن تسلمه لمصلحة الخدمات الاجتماعية ولا يستثني من ذلك الا اذا كان ثمرة اغتصاب “
ومما يبدوا من القرار الأنف، أن الأمر يتعلق بإجهاض قانوني مشروع أحدث ضررا تخلفت نتيجته في سقوط الولد، واعتبر القضاء عدم قابليته –الضرر- للتعويض من الناحية الأدبية ما دامت الدولة قادرة على ضم واحتواء بعض الاعمال الغير المشروعة.
ويتضح جليا أن الضرر الذي يستحق التعويض عنه معنويا في القضاء المغربي، ومن ذلك ما جاء مثلا في قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء بتاريخ 10 فبراير 1986 والذي ورد في حيثياته أن :” الأم أصبحت مضطرة بصفة مستمرة ملازمة طفلها والإشراف على جميع ضروريات حياته نتيجة عجزه الدائم على القيام بها بنفسه بسبب الأضرار الفادحة التي تعرض لها في حادثة سير وتراه يتعذب من جرائها وخابت منها الامال التي كانت تعلقها عليه خاصة وانها أرملة ،تستحق أن تعوض عن أضرارها المادية والمعنوية التي تعتبر نتيجة مباشرة للحادثة التي تعرض لها ابنها “
فالضرر المباشر الشخصي، يجعل الحق المطالب به أمام القضاء قائما وموجودا ومحققا وغير مفترضا، ويساءل بذلك الطبيب المحدث لضرر على جسم مريض نتيجة اهمال أو عدم تبصر أو عدم احتياط أو مخالفة للنظم والقواعد والقوانين، تتحدد فيه النتيجة الاجرامية في النطاق الجنائي للحسم بتوافر ركن الخطأ كشرط لقيام المسؤولية الجنائية للطبيب أمام المحاكم الجنائية، حتى تحكم هده الأخيرة بالاختصاص وقبول الدعوى لمجرد تواجد شرط الضرر الشخصي والمباشر، فالأضرار غير المباشرة بإجماع حاصل من الفقه والقضاء، لا يجوز التعويض عنها.
ثم ان القضاء المغربي اعتبر “أن المجني عليه هو الذي وقعت عليه أحداث الجريمة اما على شخصه أو حقوقه المعنوية أو ماله وهو وحده الذي يعتبر متضررا من الجريمة ،أما غير المجني عليه فلا يعتبر كذلك ،ولو لحقه ضرر مباشر منها.
واعتبر أن المعنية بالأمر التي تعرضت لجريمة الاغتصاب لها دون سواها الحق في طلب الحصول على تعويض، في حين أن زوجها لا صفة له في ذلك ،ولو كان الضرر الذي يدعيه مباشرا ” كما أن المجلس الاعلى قرر عدم قبول تدخل والد الضحية في جناية الاغتصاب، كما أنه نقض عدة قرارات لقبولها زوج الضحية في جريمة الاغتصاب طرفا مدنيا ،واعتبر بأن الزوجة التي تعرضت للاغتصاب هي وحدها التي لها الحق في المطالبة بالتعويض عن الضرر المترتب لها من الجريمة، وأن يرفع طلبه الى المحكمة الزجرية للمطالبة الذي يدعيه مباشرا أو غير مباشر في أن يرفع طلبه الى المحكمة الزجرية للمطالبة بالتعويض في حين نجد المجلس الأعلى في قرار آخر أقر قاعدة مفادها “أن للأبوين الحق في التعويض عن الضرر المعنوي الذي لحقها من جراء اغتصاب ابنتهما ” .
بل في قرار آخر القضاء المغربي (قضاء الموضوع) ” اعتبر أن سقوط الضحية تلقائيا بعد تخلصها من المتهم الذي حاول ارغامها على مرافقته وإصابتها بكسر في ساقها يجعل الضرر الحاصل لها غير ناتج مباشرة عن الجريمة ولا يبرر منحها تعويض عن الضرر ” .
وإعمالا لهاته الأحكام – سواء ما يتعلق بقضاء الموضوع أو محكمة القانون – وقياسا لتبريراتها، فلا يسوغ لأي متضرر أو مجني عليه المطالبة بالتعويض عن الضرر المدني – المادي والأدبي – الا اذا كان موضوعا لذلك بصفته وشخصه، أما ما عدا هذا الشرط القضائي فلا يعتد به . وهو ما تفنده اجتهادات المجلس الأعلى ما دام منطوق النصوص التشريعية يلزم القضاء العمل بما أوجبه القانون في نطاق المساطر الشكلية والموضوعية الموجبة لادعاء المطالب بالحق المدني على وجه التحديد في الضرر الطبي، والوسيلة أساس المادة 2 ق م ج التي نصت :” يترتب على كل جريمة الحق في اقامة دعوى عمومية لتطبيق العقوبات ودعوى مدنية للمطالبة بالتعويض عن الضرر “.
وهو ما تزكيه القضايا المرفوعة لمحاكم المملكة في هذا الشأن إن على الصعيد المدني طبقا لأحكام المسؤولية المدنية، او خضوعا لنصوص المسؤولية الجنائية في الخطأ الطبي عن الاعمال الطبية غير المشروعة.
وعموما ،فرغم كون الضرر محققا وحالا ،شخصيا ومباشرا ،فان تقديره يثير عدة صعوبات في المجال الطبي فكيف ذلك؟
ج- تقدير الضرر الطبي قضائيا
يثير تقدير الضرر في الشأن الطبي عدة إشكالات في العمل القضائي ، إذ يتعين اخذ حالة المريض السابقة بعين الإعتبار لتقدير الضرر الحقيقي الذي يستحق عنه وحده التعويض و الأمر ينحصر هنا في ” تحديد الضرر الحقيقي أو الموضوعي ،بالنظر إلى العجز الذي كان متوقعا منذ البداية وليس تقرير مدى الحدود التي ساهم فيها ذلك العجز السابق أو تهيء المريض في وقوع الضرر النهائي” و يراعى في تقدير التعويض ما لحق الدائن من خسارة و مافاته من كسب سواء وقع الضرر على المال أو على الجسم ، فقد قضت محكمة النقض المصرية بأن : ” المادة 221 /1 من القانون المدني قد نصت على أنه ويشمل التعويض ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب …ويدخل في الكسب الفائت ما يأمل المضرور في الحصول عليه من كسب متى كان لهذا الأمل أسباب مقبولة ، ذلك أن فرصة تحقيق الكسب أمر محتمل إلا أن فواتها أمر محقق شريطة أن يكون لهذا الأمل أسباب مقبولة ، وكان أمل الأبوين فيرعاية الولد لهما وانتفاعا بإحسانه إليهما أمرا قد جبلت عليه النفس البشرية منذ ولادته حيا دون إنتظار بلوغه سنا معينا ، كما أضافت المحكمة : ان القانون لم يشترط سنا معينا لإبن المتوفى في حادث للحكم للوالدين بتعويض مادي عن فوات فرص أملهما في رعايته لهما في شيخوختهما شريطة أن يكون لهذا الأمل أسباب مقبولة ” .
فالأمر يتعلق بتفويت فرصة لحقت المضرور في خطأ الطبي نتيجة لفعل التعدي الذي لحقه، إذ يتعين هنا على المضرور أن يقدم الدليل على ضياع الفرصة ، فتفويت الفرص قد يكون بمثابة ضرر حال، وقد يكون مجرد أمل في الحصول أو الإستفادة من أمر مستقبلي ، وهذا الأخير لا يكون محلا للإدعاء المدني أو الإدعاء الجنائي إلا إذا كان هنا ما يؤكد حصول هذا الضرر في المستقبل، وثبت أن له إرتباطا وثيقا ومباشرا بالفعل، و ان يكون الأمل في الإستفادة ما يبرره. وقد قضت محكمة النقص المصرية أيضا : ” مناط التعويض عن الضرر المادي الناشئ عن تفويت الفرصة أن تكون هذه الفرصة قائمة و أن يكون الأمل في الإفادة منها له ما يبرره ”
و القضاء الفرنسي قضى بالتعويض من أجل تفويت فرصة البقاء على قيد الحياة، في قضية معروفة باسم ألبيرتين سارزان ،وأكد قضاؤه لاحقا بتاريخ 27 يناير 1970 حيث صرحت محكمة النقض ” بتحقق الضرر لمجرد ضياع فرصة كانت موجودة”.
فضياع الفرصة في حد ذاته يشكل ضررا يلزم التعويض عنه ، ومن ثم يمكن القول بأن الإجتهاد القضائي الفرنسي في فرنسا مضى نحو إقرار التعويض عن فوات فرصة في نطاق المسؤولية الطبية . ويتم التعويض عن الضرر بقيمته وقت الحكم، وليس وقت حدوث الضرر. فالعبرة في تقدير قيمة الضرر، هو قيمته وقت الحكم بالتعويض وليس بقيمتة وقت وقوعه. و السند في ذلك أن المسؤول عن الخطأ يلتزم بجبره وقت الحكم ، فحق المضرور في التعويض عن الضرر الذي لحقه حسبما يتطور ويتفاقم ، أما إذا كان مبلغ التعويض متففا عليه في العقد بين الطبيب والمريض ، فقد قضت محكمة النقض المصرية أيضا ” من المقرر عملا بنص المادة 225 من القانون المدني أنه إذا جاوز الضرر قيمة التعويض الإتفاقي فلايجوز لدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة، إلا إذا أثبت أن المدين قد إرتكب غشا أو خطأ جسيما كما قضت أيضا :” الأصل يجب أن يكون التعويض مساويا قيمة الضرر المباشر فلا ينقص لاعنه ولا يزيد .كما أن القاضي يلجأ إلى التعويض بطريقة شاملة جزافية بحيث تعوض كل الأضرار و الإمكانيات التي فقدها المضرور ، لا فرق بين الضرر الأدبي و الضرر المادي ” وفي طعن أخر قضت : ” مفاذ نصوص المواد 163 و170و 221 من القانون المدني ان الضرر ركن من أركان المسؤولية وثبوته شرط لازم لقيامها و القضاء تبعا لذلك ، يستوجب في إيجاب التعويض عن الضرر أن يكون هذا الضرر ماديا أو أدبيا ، ولايقصد بالتعويض عن الضرر الأدبي – وهو لا يمثل خسارة مالية – محو هذا الضرر من الوجود إذ هو نوع من الضرر لايمحى ولايزول بتعويض مادي ، ولكن يقصد بالتعويض ان يستحدث المضرور لنفسه بديلا عما أصابه من الضرر الأدبي ، فالخسارة لاتزول لكن يقوم على جانبها كسب يعوض عنها ، وليس هناك من معيار لحصر أحوال التعويض عن الضرر الأدبي ، إذ كل ضرر يؤدي الإنسان في شرفه و اعتباره أو يصيب عاطفته وإحساسه و مشاعره يصلح أن يكون محلا لتعويض فيندرج في ذلك العدوان على حق ثابت للمضرور … مادام من شأنه أن يحدث لصاحب هذا الحق حزنا وغما و اسى وهذا هو الضرر الأدبي الذي يسوغ التعويض عنه “
فحتى في مجال صناعة الدواء ، ففي حالة تحقق الضرر من إستعمال هذا الأخير، وصعوبة إثباث الخطأ المحدث في جانب الصانع من قبل المضرور، يميل القضاء إلى إعفاء الصانع من المسؤولية ، بحجة أن الصانع لايلتزم بعدم الضرر المطلق للداوء في كل حالات الإستعمال ، والقانون لا يفرض عليه التزاما بمنع أضرار الدواء في كل حالة الإستعمال ، فقد ذهبت محكمة إستئناف باريس في قرارها الصادر تاريخ 15 دجنبر 1983 و الذي أيدته محكمة النقض الدائرة المدنية في 8 أبريل 1986 إلى عدم مساءلة صانعي الدوائين ( cordaron – paxid ) المستعملين في علاج المريض ، وذلك على اساس عدم نسبة خطأ محدد في جانب صانعي الدوائين ،وقد قرر القرار أن مصدر الضرر يرجع إلى الجمع بين المنتجين معا و مضاعفة الجرعة اليومية ، كما أن إستعمال كل من الدوائين منفردا يعطي نتائج علاجية ممتازة كما أتبث ذلك خبراء الدعوى أيضا ، وقد جاء في هذا القرار مايأتي :
S’il put sinsi etre tenu pour acqis que c’est l’emploi conjoint de ces deux produits ..qui a’l’origine des dits troubles,cette association qui a eu notamment pour effet de doubler les dosses quotidiennes,n est rien imputable à la société des laboratoires labaz ou à la société marelle-taroude qui ne peut sauraient en porter la resonsabilité puisqu elle entre dans le cadre de la thérapeuthique et résulte des perscriptions faites par les docteurs »
والضرر مسألة موضوع يختص بتقديره القضاء و يجب على المضرور إثباته سواء كان ماديا أو أدبيا ، و تكيف الأفعال بكونها تشكل ضررا أو لا، يخضع للشروط التي إستلزمها القانون من حيث كونها ضررا حالا أو مجرد ضرر محتمل ومن حيث وقوعه على حق أومصلحة مشروعة للمضرور ، ولذلك فإن تكييف قاضي الموضوع بشأنها خاضع لرقابة المجلس الأعلى، و يتوجب عليه أن يبين في حكمه عناصر الضرر .
ويبدو من هذا الإتجاه القضائي ميله إلى إعفاء الصانع من المسؤولية في حالة نسبة الضرر إلى إستعمال الأدوية في العلاج ، وذلك عند عدم إثبات الخطأ المحدد لكل دواء أستعمل في العلاج ، ومن ثم يطالب المضرور بإثبات الخطأ المحدد في جانب كل دواء إستعمل في العلاج ، ويبدو لنا أن هذا المطلب يستحيل على المضرور إثباته في أمور الدواء كما تبقى مسألة أخرى غاية في الأهمية تثير العديد من المشاكل القانونية خصوصا عندما تتزاحم أسباب متسلسلة من الأضرار المباشرة وغير المباشرة ، الأمر الذي يفرض علينا نوعية الأضرار القابلة للتعويض و العقوبة الجنائية من منظور القضاء للعلاقة السببية كركن آخر في المسؤولية الطبية، يلزم توافره بين العنصرين السابقين “الخطأ و الضرر”(الفقرة الثانية)
الفقرة الثانية: العلاقة السببية بين الخطأ والضرر في المجال الطبي
لم يتعرض المشرع المغربي شأنه شأن أغلب التشريعات لمسألة العلاقة السببية، إلا أن الرأي الغالب في الفقه درج على بحثها ضمن عناصر الركن المادي للجريمة باعتبارها الرابطة التي تجمع بين طرفيه، النشاط والنتيجة، حيث تشكل عنصرا ذا كيان مستقل في جرائم النتيجة بدليل أنه يتعين على حكم الإدانة إقامة الدليل عليها تحت طائلة النقض . فلايمكن القول بمسائلة الطبيب جنائيا إلا إذا توفرت علاقة سببية بين خطأ الطبيب والضرر، فعلاقة السببية هي الرابطة التي تربط بين الفعل والنتيجة، والتي من شأنها إثبات أن ارتكاب الفعل هو الذي أدى إلى حدوث النتيجة، وعليه فإن انتفاء العلاقة السببية يؤدي إلى انتفاء المسؤولية عنها .
فالرابطة السببية هي التي تجعل “الخطأ علة الضرر وسبب وقوعه” كما أنها تعد عنصرا في الركن المادي من اللازم توافرها في كل الجرائم، إلا أنها تثير من المشكلات في جرائم الإعتداء على الحياة وسلامة الجسم ما لا تثيره في غيرها من الجرائم، ذلك أن نتيجة السلوك في هذه الجرائم يمكن أن تتداخل عوامل أخرى في إحداثها، بحيث يثور الشك في مدى نسبة النتيجة إلى السلوك، فيثور البحث حول توافر رابطة السببية بين فعل الجاني والنتيجة الإجرامية، ويختلف الفقهاء وتتعدد النظريات ويرتبك القضاء ويقصر التشريع، عن توضيح معنى وجود علاقة السببية بين الخطأ والضرر في الجريمة.
لذلك يتعين علينا أن نعرض لمفهوم العلاقة السببية ومعاييرها حسب النظرياة التي تناولتها (النقطة الأولى) على أن نبين خصائص هذا الركن الأساسي في الجريمة –العلاقة السببية- بين ضرورة عنصر المباشرة والثبوت المحقق، حتى يجوز إسناد المسؤولية للمسؤول عن الضرر حسب موقف التشريع والقضاء (النقطة الثانية).
htmlspecialchars_decode(‘”‘) أولا: مفهوم ومعايير العلاقة السببية في الجريمة الطبية htmlspecialchars_decode(‘”‘)
أ- مفهوم العلاقة السببية
يرى جانب من الفقه أن تحديد معنى علاقة السببية من أدق المسائل التي تثيرها دراسة المسؤولية، وترجع دقة هذا الموضوع إلى أمرين:
– أنه ينذر أن ينفرد الخطأ بإحداث الضرر، بل الغالب أن يكون الخطأ أحد العوامل المتعددة التي ساهمت في وقوع هذا الضرر.
– إن الخطأ قد يؤدي إلى سلسلة من الأضرار يتعاقب واحد بعد الآخر فهل السببية لكل ضرر منها، أم تتحقق المسؤولية عنها جميعا مهما بعدت صلتها بالضرر.
وبالرغم من أن الإجماع حاصل على أن تحديد معنى علاقة السببية يصطدم بصعوبات وعراقيل، فإن بعض الفقه حاول تحديد مفهوم العلاقة السببية، فنجد المرحوم عبد الرزاق السنهوري يرى أن علاقة السببية معناها أن توجد علاقة مباشرة ما بين الخطأ الذي ارتكبه المسؤول والضرر الذي أصاب المضرور . فعلاقة السببية هي التي تسمح بإسناد النتيجة الإجرامية إلى الفعل الصادر عن الجاني، فتقوم بذلك مسؤوليته الجنائية، فهي بذلك عنصر لازم لتمام الركن المادي من جهة، وشرط أساسي من شروط المسؤولية الجنائية من ناحية .
ولعل السبب في تحديد معنى ومدلول للعلاقة السببية يرجع إلى تداخل الأسباب في إحداث الضرر، وبالتالي يصعب تحديد مسؤولية الجاني عن أفعاله في هذه الحالات،هل يتابع بالنتيجة ككل؟ أم يؤاخذ بالجرح الخفيف الذي أحدثه وتوزع المسؤولية. وبالتالي يتعذر تعيين ما يعتبر سببا حقيقيا لهذا الضرر؟
قد توسع الفقهاء المسلمون في دراسة المسائل الفقهية التي تتعلق بالرابطة السببية بين الخطأ والضرر، وقالوا بأن الضرر إما أن يحصل بالمباشرة أو عن طريق التسبب، وقد مثلوا للوضع الأول بالأضرار التي تتولد مباشرة عن فعل التعدي كالإتلاف والضرب والإحراق، بينما مثلوا للوضع الثاني بمن قطع حبل قنديل معلق فتكسر بسبب سقوطه أو كمن كسر قفصا به طير فتسبب في هروبه، وبالتالي إتلاف كل من الحبل وكسر القفص تم عن طريق المباشرة، أما بانكسار القفص وهروب الطير فقد تم عن طريق التسبب، ولا خلاف بين فقهاء المسلمين في وجوب ضمان الأضرار التي تحصل عن طريق المباشرة لا فرق في ذلك بين العمد والخطأ ويجمع الفقه على أن العبرة بالسبب المباشر، بمعنى أنه لا يكفي لقيام المسؤولية المدنية حصول ضرر لشخص ووقوع خطأ من شخص آخر، بل لابد من أن يكون هذا الخطأ هو السبب المباشر في حدوث الضرر، وإلا انعدمت المسؤولية المدنية ومثال ذلك، المثل الشهير الذي ساقه الفقيه بوتيه pothier لتوضيح علاقة السببية، وللتمييز بين ما يعتبر ضررا مباشرا وما لا يعتبر كذلك، والمتعلق بالفلاح الذي اشترى مواش مصابة بمرض معدي أدى إلى إصابة باقي المواشي، مما منعه من القيام بحرث أرضه، وبالتالي من القيام بوفاء ديونه، حيث اضطر الدائن للقيام بحجز أراضيه وبيعها بتمن تافه لسداد ما عليه من ديون، فهل يسأل البائع صاحب البقرة عن جميع هذه الأضرار المتعاقبة .
وفي هذا الإطار قضت محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 9 دجنبر 1979 بأن: ” موت الجنين في مرحلة الولادة بسبب تهتك الرحم وليس بسبب الألم المخاض، لا يدين الطبيب ولا القابلة، لأن إهمالهما لم يكن السبب في حصول هذا التّهتك” .
كما جاء في قرار المجلس الأعلى عدد 1167 بتاريخ 4 ماي 1977: ” إذا اقتصر الحكم في حيثياته المتعلقة بالدعوى العمومية على تعليل وجه إقتناع المحكمة بحضور المحكوم عليه واقعة المضاربة والمشاركة فيها، دون أن يبرز ثبوت العلاقة السببية التي هي عنصر من عناصر الضرب والجرح المؤديين إلى الموت، وأن الضرب الواقع على المجني عليه كان هو السبب المباشر في موته، يكون القرار ناقص التعليل ومنعدم الاساس القانوني ويتعين نقضه”.
وحتى نستبين بوضوح الاشكالات القانونية المترتبة عن العلاقة السببية مع تزاحم الاسباب المؤدية الى حصول النتيجة في الجريمة بوجه عام – الجريمة الطبية بوجه خاص- نرى الوقوف على النظريات التي حاولت خلق معيار محدد لحل هاته الاشكالية في النقطة الثانية.
ب- معايير العلاقة السببية في الجريمة الطبية
يمكن تصنيف الاتجاهات الفقهية السائدة التي قامت بدراسة السببية في حال تعددها الى ثلاث اتجاهات رئيسية: اتجاه السبيية المباشرة، واتجاه السببية الملائمة ثم اتجاه تعدد الأسباب.
1- اتجاه السببية الملائمة
ومؤدى هذه النظرية أن الشخص الجاني لا يكون مسؤولا عن النتيجة إلا إذا كان نشاطه هو السبب القوي أو الأساسي الذي أدى إلى حصول النتيجة ويتصل بها اتصالا مباشرا . وإذا حصل وتداخلت عوامل أخرى كخطأ الطبيب المعالج، أو مرض سابق أو اصطدام سيارة الإسعاف التي تنقل المصاب الى المستشفى، فلا يسـأل الفاعل عن النتيجة النهائية – الوفاة مثلا- وإنما يسأل فقط عن النتيجة المترتبة عن فعله مباشرة، كالجرح البسيط أو العاهة الدائمة . وما قيل عن هذه النظرية (السببية المباشرة أو نظرية السبب الأقوى أو المهيمن) ينطبق كذلك على الميدان المدني، إذ الأخذ بها سيجعل المدعى عليه مدنيا في وضعية مريحة، لأن أي سبب مهما تفه دوره – في احداث النتيجة – فإنه لابد رافع عنه المسؤولية المدنية ولو جزئيا ، فنستخلص من هذه النظرية أنه إذا حصلت عدة عوامل بين الفعل الاجرامي والنتيجة وأثرت في حدوثها، فإن الجاني لن يكون مسؤولا عنها لإنقطاع رابطة السببية بين نشاطه والنتيجة التي حصلت، وإنطلاقا من هذا المنظور نلاحظ أن النظرية تتميز بخاصة وهي المحافظة على مصالح المتهم الذي يبقى مسؤولا في حدود الفعل الذي قام به .
وهذا الاتجاه كما يتضح يؤدي اعماله إلى التضييق من نطاق المسؤولية الجنائية، فهو يراعي أكثر مصلحة المتهم، مما قد يؤدي إلى إفلات الجاني من المسؤولية كلما تداخلت الى جانب الفعل الصادر عنه أفعال أو ” عوامل” أخرى أجنبية ولو بصورة مألوفة، أو ساهمت بقسط يسير في احداث النتيجة .
هذا وإذا كانت المحاكم تتأرجح بين الأخذ بالنظرية أحيانا وتجاهلها أحيانا أخرى، حيث جاء في قرار المجلس الأعلى بأنه عندما صرحت المحكمة: ” بأن الظنين صدم الضحية وأصابها بجروح بليغة ماتت من جراء الصدمة في نفس اليوم بالمستشفى إثر عملية جراحية أجريت لها بدون جدوى، وأن الضحية ماتت من جراء الصدمة بسبب عدم تبصر المتهم أو عدم احتياطه ومخالفته للنظم والقوانين، وأن هذا الفعل الثابت في حقه يكون جريمة القتل بغير عمد، لم يكن عليها مع اقتناعها الصميم بأن السبب المباشر لوفاة الضحية هو الصدمة التي أصيبت بها، أن تأمر بتعيين خبير لتحديد السبب المباشر للوفاة” .
فإن الفقه يرى بحق أن رابطة السببية التي ينبغي لقيام الركن المادي للجريمة عموما لا يلزم فيها أن تكون مباشرة .
2- اتجاه السببية الملائمة أو السببية المنتجة
حسب هذه النظرية لا يعتبر سببا إلا العامل الذي من شأنه أن يؤدي عادة الى حصول النتيجة، أما الاسباب العارضة، فإنها لا تعتبر سببا من الناحية القانونية، ومن تم فإن مرض المجني عليه السابق على النشاط المجرم سبب عارض لا ينفي رابطة السببية بين النشاط الاجرامي والنتيجة ، أي يعد نشاط الجاني سببا للنتيجة إذا كان من المحتمل أن يؤدي إليها تبعا للمألوف من تسلسل الحوادث في الحياة العامة، وتطبيقا لذلك يعد فعل الجاني سببا ملائما للوفاة بالقتل مثلا، كلما توفرت فيه – وفقا للمجرى العادي والمألوف للأمور- الامكانيات الموضوعية أو القدرة الذاتية لتحقيق هذه النتيجة، أما إذا تدخل في مجرى الحوادث عامل شاذ غير مألوف ولا متوقع في حصول النتيجة، فإنه يقطع علاقة السببية بينه وبين الفعل الصادر عن الفاعل، كما لو كان موت المصاب بجروح مثلا نتيجة احتراق المستشفى الذي نقل إليه ، أو إذا تداخلت عوامل وأسباب ليست عادية – أي شاذة- في حصول النتيجة – كتدخل خاطئ من الطبيب بلغ حدا من الجسامة جعله بمثابة تدخل من شخص غير طبيب، أو خطأ في وضع الكمية من المخذر، أو عملية في نقل الدم … وهو ما نجد له تطبيقا في القضاء الفرنسي، حيث قضت محكمة باريس في 26 أبريل 1945 بما يلي : ” إذا ما توفي المجروح نتيجة اصابته بمرض التّيتانوس، فإن عدم ملاحظة الطبيب المعالج لأوامر جراح المستشفى الى جميع الموظفين الذين يعملون بها، والتي تقضي بوجوب اعطاء حقنة مصل التيتانوس لجميع الجرحى لا يكفي لقبول دعوى المسؤولية ضده، إلا إذا أثبت أن عدم إعطاء حقنة المصل في تلك الحالة كان مخالفا للقواعد الفنية الطبية والأصول العلمية المتفق عليها، كما أن عدم اعطاء الحقنة كان سببا في وفاة المصاب. وبناء عليه إذا ما اتضح لتقرير الخبراء أن هذه الحالة لم تكن خاصة بجرح كبير عميق متسخ، لكنها كانت حالة جرح سطحي بسيط، وبطبيعته إذا ما برر إعطاء حقنة المصل فإنه لا يفرضها بصورة وجوبية حتمية، كما أنه لا يمكن إثبات أن الحقنة الوقائية كان من شأنها منع تطور المرض بسبب خطورة التيتانوس الذي أصيب به المريض وأدى الى وفاته، لأن الدليل على توافر علاقة السببية بين عدم إعطاء الحقنة والوفاة يكون غير قائم”، فما لم تتحقق العلاقة السببية بين النشاط الإجرامي والنتيجة لا يمكن أن ينسب لمرتكب الفعل المحظور – الطبيب – أي تهمة.
وللإشارة فالقانون المغربي لم يتعرض للحل الواجب اتباعه عندما تتضافر عدة عوامل في احداث النتيجة الإجرامية ليبقى القول للقضاء، وكلمة الفصل في تحديد العلاقة السببية بين نشاط الجاني والنتيجة على ضوء ملابسات كل قضية على حدة.
3- اتجاه تعادل أو تكافئ الأسباب
لقد قال بها لأول مرة الفقيه الألماني von buri في نهاية القرن 19، وهذه النظرية بكونها تعطي نفس الأهمية من الناحية القانونية لكل العوامل أو الأسباب التي ساهمت في احداث النتيجة . بمعنى أن كل من يأتي نشاطا يكون من جملة الأسباب والعوامل التي أسهمت في حدوث النتيجة، إلا ويكون مسؤولا مسؤولية جنائية كاملة عن النتيجة . فيكون بحسب هذه النظرية إذن أن الذي يأتي نشاطا أيا كان، مسؤول من الناحية المدنية والجنائية على السواء إذا كان هذا النشاط فقط أحد الأسباب التي أدت الى حصول النتيجة، حتى ولو ساهمت معه أسباب أو -عوامل- شاذة أجنبية عنه، ولها دور قوي ومؤكد في إحداث تلك النتيجة، كأن يصرع شخص آخر فيلقيه أرضا، فيأتي ثالث ويذبحه، حيث يكون الذي صرع الضحية حسب هذه النظرية، ارتكب بدوره القتل، لأنه لو لم يصرعه ويلقيه أرضا لما عجز عن الدفاع عن نفسه، ولما تمكن القاتل من قتله بالذبح، فقد قضى القضاء بخصوص هذه النظرية في حادثة قضائية أقام عليها الفقه نظريته، تتلخص وقائعها في أن : ” شخصا دخل الى مسرح، وقام بتسليم معطفه الذي يحتوي على مسدسه الى الحارس المكلف بحراسة الملابس، وحدث أثناء تعليقه على المشجب أن وقع المعطف على الأرض، فسقط منه المسدس الذي انقض عليه أحد الخدم وقتل به خادما آخر لعداوة سابقة بينهما، ولما أحيل صاحب المسدس على القضاء اعتبره شريكا في الجريمة بحجة أن هناك اهمالا منه في التحرز على مسك السلاح وحراسته له، الشئ الذي سهل على الخادم ارتكاب الجريمة، ولذلك فإن هذا الإهمال من صاحب السلاح والفعل الذي قام به الغير(الخادم) يعتبران سببان متكافئان، إذ بدون أحدهما لن يقع الآخر، لولا المسدس الذي نفذ به القتل لما وقع هذا الأخير”.
وتعتبر هذه النظرية أساس كل النظريات الأخرى التي جاءت بعدها ، وقد أخذ القضاء – في مصر وفرنسا والمغرب- بنظرية تعدد الأسباب، فالى عهد قريب اعتبر القضاء الفرنسي أسباب جميع العوامل التي أدى اشتراكها الى وقوع الضرر، وتعد كلها متعادلة من حيث التسبب من حيث وقوعه، ويتبنى القضاء المغربي بدوره في بعض الأحيان حلولا مستوحاة مما توصل إليه أنصار نظرية تعدد الأسباب .
ج- خصائص العلاقة السببية حسب التشريع والقضاء الجنائي
1- ضرورة أن تكون علاقة السببية مباشرة
يقصد بعلاقة السببية المباشرة، أن يكون الضرر الذي وقع بالضحية نتيجة مباشرة لخطأ المسؤول عن الضرر، والضرر المباشر هو ما كان باستطاعة المضرور أن يتوخاه ببذل جهد معقول .
فالمشرع المغربي من خلال الفصلين 77 و78 من ق.ل.ع المغربي، والمادتين 97، 98 من قانون الالتزامات والعقود الموريتاني، تعلق مسؤولية المخطئ بتعويض الضرر على كون الخطأ هو السبب المباشر في الضرر ، ونفس الشيء أكدته المادة 1151 من القانون المدني الفرنسي، أن تكون الأضرار والفوائد نتيجة فورية أو مباشرة لعدم تنفيذ الاتفاق المبرم بين المتعاقدين، وهذا ما أكده المشرع المصري من خلال المادة 221 من القانون المدني ، أما القانون الإيطالي، ينص في المادة 41 منه على أنه: ” إذا تعاونت في إحداث الجريمة أسباب سابقة أو معاصرة أو لاحقة ولو كانت مستقلة عن سلوك المجرم، فإن هذا لا يمنع من قيام صلة السببية بين فعله أو امتناعه، وبين الحادث الإجرامي، ولكن الاسباب اللاحقة تمنع هذه الصلة إذا كانت كافية بذاتها لاحداث هذا الحدث. وعند ذلك لا يعاقب المجرم عن فلعه أو امتناعه إذا كون في ذاته جريمة، ومما يبدوا في الفقرة الأولى من النص أنه يستبعد نظرية السببية المباشرة. وفي الفقرة الثانية أنه يميل الى الأخذ بالسببية الكافية أو الملائمة، وفي نفس الاتجاه ذهب موقف القانون السوري في المادة 203 من قانون الجزاء، في حين المشرع الكويتي لم يأخذ بنظرية واحدة من هذه النظريات، وإنما أورد المادة 157 من قانون الجزاء عدة حالات، وفي كل حالة أخذ بمعيار مختلف .
فإذا عدّ هذا موقف التشريع المتذبذب بين إعمال السببية تارة وتجاوزها أخرى، فإن الموقف القضائي يميل إلى تبني نفس الرأي، وهو ما ينطبق على القضاء المقارن، والقضاء المغربي على حد سواء، ما دام كلا القضاءين- المغربي والمقارن- لم يتبنيا معيارا واحدا للعلاقة السببية، ولكن سنركز على الاحكام التي تطلبت عنصر السببية المباشرة في نطاق الاعمال الطبية الجنائية على وجه الخصوص، دون أن يمنعنا ذلك من الاستئناس بالمادة المدنية، وحتى القضايا الوثيقة الصلة بهذا الموضوع، وهي كالآتي:
حيث جاء في قرار المحكمة الادارية بمكناس أنه: ” حيث إن المحكمة تبعا بما لها من سلطة تقديرية في تقييم الحجج الطبية المدلى بها، واستنادا الى تقرير الخبرة المذكورة، فإن السببية تثبت أيضا أن الضرر الذي أصاب المدعي والخطأ المصلحي المتمثل في عدم الاحتياط باعطاء أدوية بصورة متوالية بواسطة القشرانية دون إجراء الفحوص الضرورية والتأكد من البنية الجسمية للمعني بالأمر، وتأثير الدواء عليها. أي أن الخطأ المرفقي هو السبب المباشر للضرر، مما يتعين معه القول بأن الدولة مسؤولة عن الاصابات اللاحقة بالمدعي مسؤولية إدارية كاملة عملا بمقتضيات الفصل 79 من ق.ل.ع في شقه الثاني” .
وفي قرار آخر صادر عن محكمة الاستئناف جاء فيه أنه: ” يجب على المحكمة أن تبرز العلاقة السببية بين الفعل المادي والنتيجة التي هي الوفاة، ومن تم فإن معرفة سببها في حالة الشك هي من الأمور التقنية التي يعود لذوي الاختصاص أمر البث فيها” .
وفي قرار صادر عن المجلس الأعلى ( ملف إداري)، بتاريخ 13 يوليوز 1973، والذي جاء فيه: ” … وحيث إن الحكم المطعون فيه، طبقا لما جاء في الوسيلة المحتج بها، لم يبين العلاقة السببية بين الخطأ المدعى إرتكابه من طرف موظفي الصحة، وبين الموت المدعى ترتبه على إثر الحقن الذي عولج به الطفل، وأن الاستناد إلى مجرد شهادة د.ك … المشتبه لكون الانتفاخ الذي أصيب به الطفل كان نتيجة الحقن التي عولج بها ،لا يمكن أن يبرر العلاقة السببية الواجب توافرها بين الخطأ المدعى ارتكابه والموت الناتج عنه ،مما يجعل الحكم غير مرتكز على أساس قانوني …”
وكما جاء في الحكم المدني الصادر عن استئنافية مراكش القاضي بتأييد الحكم الابتدائي القاضي برفض التعويض لانعدام العلاقة السببية بين فعل الطبيب والضرر الحاصل للمدعية معللا ذلك بما يلي :” حيث أنه في النازلة فان المدعية تمسكت بأن الدواء الذي أعطاه لها الطبيب والحقنة التي حقنها بها هما السبب المباشر الذي أدى الى فقدان عينها اليمنى ، لكن حيث أفادت الخبرة المأمور بها من طرف قضاة الدرجة الأولى أنه لا يمكن للحقنة و لا للدواء المستعمل أن يؤديا الى ضياع العين اليمنى ، وإنما المرض هو من كان وراء ضياع العين ،وحيث انه بناء عليه فانه لا يوجد بين وثائق الملف ما يثبت وجود خطأ ما من جانب المستأنف عليه – الظنين – خاصة أنه فعل ما كان في وسعه لمعالجتها ،ولما استعصى عليه الامر بعتها الى طبيب أخصائي أخر وهو استاذ جامعي مختص في أمراض العيون، وهذا ما يثبث انه قام بواجبه على أحسن وجه ، ولذا وجب تأييد الحكم الابتدائي “.
كما جاء في الحكم المدني الصادر عن استئنافية فاس بتاريخ 2/2/1981 ما يلي :” وحيث أنه بانتفاء عنصر الخطأ عن المستأنف عليه- وهو طبيب مولد- وبالتالي انتفاء العلاقة السببية بين هذا الخطأ ووفاة الضحية، تكون طلبات المستأنف غير مؤسسة على سند من القانون، الشئ الذي يكون معه الحكم المستأنف القاضي برفضها في محله ويتعين تأييده” .
وفي قرار محكمة الاستئناف بمراكش تظهر العلاقة السببية واضحة، حيث ورد فيه: ” وحيث تبعا لذلك وفي هذه الحالة بالذات فإنه لا يمكن إقامة الدليل على أن الاهمال الاحتمالي المنسوب للمتهم كان هو السبب الأساسي والمباشر في الوفاة لانعدام السببية بين هذا السلوك ( الخطأ الإحتمالي) والنتيجة التي حصلت يوم 24/ 04/ 1988 التي هي الوفاة، وأن الفقه والاجتهاد القضائي قد جعل من هذا العنصر النقطة الحاسمة لمعاقبة الطبيب على أساس القتل غير العمد ” .
وفي الحكم الجنحي الصادر عن استئنافية البيضاء في 22 مارس 1984، أنه: ” وحيث أن المتهم – طبيب جراح- أنكر جميع التهم المنسوبة إليه، ولم يثبت من المناقشة الموضوعية ولا من الحجج المدلى بها من الطرفين تواجد العلاقة السببية بين وفاة المريضة وبين ما قام به المتهم بوصفه طبيبا جراحا من أعمال، سواء قبل إجراء العملية أو أثناءها أو بعدها… وحيث أن المحكمة إذا رأت أن الإثبات غير قائم، وأن الفعل المنسوب الى المتهم لا تترتب عليه مخالفة القانون، فإنه تقرر عدم الادانة. وتقضي بالبراءة وعدم الاختصاص في المطالب المدنية، عملا بالفصلين 388 و 418 من ق.م.ج” .
وفي حكم جنحي حديث صدر عن استئنافية مراكش بتاريخ 12/ 11/ 1990 أنه: ” وحيث إن المحكمة بعد مراجعتها لوثائق الملف ثبت لديها واقتنعت ببراءة المتهم من هذه الجريمة، بعدم توافر العلاقة السببية بين الافعال المنسوبة إليها، والمتمثلة في عدم تقديم المساعدة لشخص في خطر، والنتيجة التي حصلت للهالكة بصفة يقينية لا جدال فيها” .
أما بالنسبة للقضاء الفرنسي نجد حكم صادر عن محكمة الاستئناف بباريس بتاريخ 24 فبراير 1973، جاء فيه: ” الاهمال والقصور في تنظيم المصحة، وإن تم ثبوته في حق الطبيب، إلا أنه لا يشكل في حد ذاته السبب الحقيقي والأكيد فيما حصل من ضرر، وبالتالي لا يكفي لتبرير الحكم بالادانة” .
وفي القضاء المصري نجد محكمة النقض المصرية ترفض الطعن الذي قدمته إحدى المصحات في مواجهة القرار الذي صدر بأداء تعويضات عن ضياع حق الطفل في الازدياد سليما من العواقب التي بقي يشكوا منها، بسبب ما قامت به المولدة أثناء ساعة الولادة، وذلك استنادا على أن غياب الطبيب كانت له علاقة مباشرة مع فقدان الحظ في الازدياد” .
وفي حكم آخر لها مؤرخ بـ 12 / 03/ 78 قضت بأنه: ” لما كان الطاعن لا ينازع في أن ما أورده الحكم نقلا عن تقرير الصفة التشريحية له معينه الصحيح من هذا التقرير، وكان مؤداه أن إصابة المجني عليها على بساطتها وما صاحبها أثناء الشجار من إنفعال نفساوي ومجهود جسماني، كل ذلك قد أدى الى تنبيه العصب السماوي، مما ألقى عبئا جسيما على حالة القلب والدورة الدموية، والتي كانت متأثرة أصلا بحالة مرضية متقدمة بالقلب، مما مهد وعجل بظهور نوبة هبوط القلب السريع التي إنتهت بالوفاة.
وحيث أن الشجار وما صاحبه من الاصابة على بساطتها لا يمكن إخلاء مسؤولية المتهم من المساهمة في التعجيل بحدوث النوبة القلبية التي انتهت بالوفاة، فإن في ذلك ما يقطع بتوافر رابطة السببية بين الفعل المسند إلى الطاعن وبين الوفاة… ومن أن مرض المجني عليه إنما هو من الأمور التي لا تقطع هذه الرابطة، وبالتالي فإن النعي على الحكم بالفساد في الاستدلال يكون غير سديد” .
ومن خلال القراءة للأحكام والقرارات المومأ إليها أعلاه، عموما يتضح أن موقف القضاء يميل الى إعطاء تعويض للضحية بأي شكل من الأشكال، لكن أحيانا يعفي الطبيب من المسؤولية لغياب الرابطة السببية بين الخطأ والضرر في العمل المنسوب للطبيب في الادعاء المدني والقول بعدم الاختصاص في الادعاء المدني التبعي أمام المحاكم الزجرية. وحتى في الخطأ المرفقي في إطار مسؤولية الدولة عن الأضرار عملا بمقتضيات الفصل 79 من ق.ل.ع. على أن المساءلة الجنائية لا محيد عنها متى تبث صور الخطأ الطبي المؤسسة في الفصلين 432- 433 من القانون الجنائي المغربي. لذلك يتعين على – الطبيب- وعلى – المريض- في المنازعات الطبية الركون والتوسل بالخبرة القضائية، لتبرز في هذا الصدد توافر العلاقة السببية بين النشاط الاجرامي والنتيجة في الجريمة الطبية، حتى تثار المسؤولية الشخصية للطبيب- الجاني- في الضرر الذي ألحقه بالضحية – المريض الذي يخضع للعلاج- سواء أثناء أو قبل أو بعد العمل الطبي أمام القضاء الجنائي، على أن المطالبة بالتعويض عن الأضرار لن يتحقق في حالة إنتفاء الرابطة السببية بين الخطأ والضرر في المسؤولية المدنية.
وبناء عليه، حيث أن عنصر المباشرة في العلاقة السببية خاصية نجد سندها في النصوص القانونية التي اشارت إلى هذه ” الرابطة ” بشكل مباشر أو غير مباشر، والتي عمل القضاء على فبركتها وصنعها تطبيقا في النزاعات المعروضة أمامه حول القضايا الطبية وغيرها، فإنه وجب لتكتمل الصفة القضائية اشتراط هذا الأخير خاصية أخرى مكملة للأولى – العلاقة السببية المباشرة- أن تكون العلاقة السببية -ثابتة- اختلفت فيها مواقف القضاء، حسب ما إذا كان مرتكب الفعل المجرم معروفا أو مجهولا، وهو ما سنعمد إلى التدقيق حوله في النقطة الموالية.
2- وجوب أن تكون العلاقة السببية ثابتة
وتتنازعها فرضيتان تباينت فيها مواقف القضاء وهي:
• فرضية كون مرتكب الخطأ معروفا
في فرنسا، وتطبيقا للقواعد العامة التي تقضي بمساءلة المدين من عدم تنفيذه للإلتزام التعاقدي إذا لم يثبت أن ذلك يعود إلى سبب أجنبي عنه ( الفصل 1147 القانون المدني)، فإن المضرور وباعتباره المدعى الدائن هو من يقع عليه عبء إثبات العلاقة السببية، فيما أصابه من ضرر، والخطأ الذي كان سببا في ذلك، على أنه إذا ثبت أن هذا الخطأ لم يكن السبب في تحقيق النتيجة، فإن علاقة السببية تعد منتفية بينهما .
وتطبيقا لذلك قضت محكمة الاستئناف بروان بأن: ” سائق السيارة الذي مر بسيارته قرب عربة يجرها حصان، فاضطرب الحصان وانقلبت العربة وأصيب الراكب بجراح، هذا السائق غير مسؤول عن هذه الإصابة، لأن علاقة السببية غير متوافرة بين قيادته سيارته على هذا النحو والجروح التي أصابت المضرور، لأنه لم يثبت أن السيارة كانت تسير بسرعة كبيرة أو أنها كانت تحدث ضوضاء غير عادية، وأنه لا يمكن بناء على ذلك القول بأن مرور السيارة هو سبب اضطراب الحصان” .
وقد ذهب القضاء الفرنسي الى أبعد من ذلك، فإعتبر أنه إذا بقيت مسألة إثبات علاقة السببية بين الفعل والنتيجة موضوع شك، فإنها لا تعد متوافرة بينهم، حيث قضى بأنه : ” إذا أحدث فعل المتهم جروحا بالمجني عليه الذي مات بعد ذلك ولكن الخبير قرر إستحالة تحديد سبب الموت والقول باسهام الفعل في احداثه، فإن علاقة السببية لا تعد متوافرة بينهما”.
ويستلزم القضاء المصري – كما هو الشأن بالنسبة للقضاء الفرنسي- ثبوت علاقة السببية بين الخطأ والضرر لامكانية مساءلة المدعى عليه، وقد قضت محكمة النقض المصرية في شأن وجوب إثبات توافر العلاقة السببية أنه : ” يجب أن يثبت بالحكم الصادر بعقوبة في جريمة الضرب أفضى إلى موت إرتباط الوفاة بالضرب المسبب بالسبب والعلة بالمعلول” كما قضت أيضا: ” إذا كان الحكم قد أغفل بيان توافر رابطة السببية، تعين نقضه لقصوره”.
ويتبنى القضاء المغربي اتجاها خاصا يتمثل في أن اثبات العلاقة السببية يكون على عاتق المدعي بناء على مقتضيات الفصل 399 من ق.ل.ع، الذي يقضي بأن: ” إثبات الالتزام على مدعيه”، حيث قضت محكمة الاستئناف بمراكش: ” حيث أن المحكمة بعد مراجعتها لوثائق الملف ثبت لديها واقتنعت ببراءة المتهم من هذه الجريمة لعدم توفر العلاقة السببية بين الافعال المنسوبة إليه…” والنتيجة التي حصلت للهالكة بصفة يقينية لا جدال فيها” .
هذا ما قرره القضاء المغربي في مجال المسؤولية القائمة على خطأ واجب الاثبات، أما مجال المسؤولية المفترضة فقد اعتمد معيارا قرر بواسطته أن مسؤولية المدعي تعتبر قائمة بمجرد تدخل الشئ، أو بسبب فعل الحيوان الذي يوجد تحت حراسته في تحقيق الضرر، حيث يعتبر أنه هو السبب الأساسي في تحقق هذه النتيجة، وهكذا قررت الغرفة المدنية بالمجلس الأعلى أنه: ” في اثبات علاقة سببية في اثبات الضرر الحاصل للضحية والأشياء المستعملة من طرف الادارة، لاعتبار هذه الأخيرة مسؤولة” .
كما اعتبرت في قرار آخر أن: ” ما علل به قرار قضاءه من أن المكتب يعد مرفقا من مرافق الدولة مسؤوليته تنتج ولو بدون خطأ، ويكفي معه وجود علاقة سببية بين الضرر والأشياء الخطيرة التي يستعملها المكتب في نطاق تسيير مصالحه ولا سبيل لاعفاءه من المسؤولية إلا باثبات خطأ الضحية، هذا الخطأ الذي لم يثبت من بين أوراق الملف يجعله قد أجاب ضمنيا عن دفع الطالب، وجاء معللا تعليلا كافيا وسليما لتبرير ما قضى به، مما يجعل الوسيلة بدون أساس” .
والأمر محسوم عندنا في القانون المغربي بموجب ظهير 22 فبراير 1955، والذي يقضي من خلال فصله الخامس ما يلي: ” إذا كان مرتكب الحادثة مجهولا فإن الطلب الذي يقدمه المصابون بالحادثة أو ذوي حقوقهم للحصول على تعويض، في مقابل ما لحقهم من ضرر يجب أن يوجه الى صندوق أموال الضمان في طرف ستة أشهر تبتدئ من يوم وقوع الحادثة ” .
وإعمالا للقضايا الآنفة، فإن مسؤولية الطبيب الجزائية في الجرائم الطبية قياسا على شرط وجوب كون الرابطة السببية ثابتة بين الخطأ والنتيجة الاجرامية – الضرر- يلاحظ معه أن رغبة المحاكم في إحقاق الحقوق لأصحابها لا تضيع معه الدعاوي المرفوعة ضد الأطباء مدنيا وجنائيا، بما أن الفاعل- الطبيب الجاني- معروفا وثابتا في مقره المهني، باثبات العلاقة السببية بين نشاط المدعى عليه ( خطأ، فعل الأشياء، فعل الغير)، والضرر الحاصل – الضرر المدني- والنتيجة الاجرامية ” الضرر الجنائي” مسألة في غاية الأهمية، لا يستطيع الكشف عنها وعن خصوصياتها إلا وجدان القاضي وقناعته. وإن كان فرض الفاعل المجهول في هذه الجرائم – الجرائم الطبية- يترجم غالبا عجز القانون والقضاء –معا- تحقيق العدالة.
• فرضية كون مرتكب الخطأ مجهولا
ما عدا الحماية التي أقرها ظهير 22 ماي 1955 بشأن حماية ضحايا حوادث السير من مرتكبي الحادثة المجهولين وكذا المعسرين ماديا، فإنه ما عدا حوادث السير فإنه لا مجال لتطبيق هذه الحماية.
وبمعنى أوضح أن ضحايا الحوادث الأخرى سوف يكونون مجبرين على تحمل الأضرار التي لحقتهم ما لم يستطيعوا التعرف على المتسبب فيها .
وفي رأينا في – ضحايا الأخطاء الطبية- نطاق ضمانهم ينأى عن الخضوع لهذا الظهير، لأن مرتكب الجريمة هو طبيب معروف يمارس مهامه داخل مستشفى عمومي أو مصحة خاصة أو مركز استشفائي في اطار فريق طبي أو عمل انفرادي داخل مجال التخصص المهني، ففي حال انتفاء المسؤولية الشخصية لهذا الأخير، فإن المسؤولية المرفقية تظل قائمة بناء على الفصلين 79 و 80 من ق.ل.ع المغربي، سواء بناء على نظرية المخاطر أو بناء على نظرية الأضرار. ولا مجال لإخراج أعمال وسلوكات الطبيب عن أحكام وقواعد القوانين الطبية، إذ يظل الضمان الوحيد في التعويض المدني عن الأضرار هو إثارة مسؤولية الدولة في الخطأ الطبي أو المرفق الصحي الذي ينتمي له الطبيب، مهما كانت الرابطة العقدية أو التقصيرية الذي تربطه بالمستشفى ( عقد الاستشفاء…).
فأخطاء الأطباء، وإن كان هذا الأخير مجهولا أو منتحلا للصفة، تلحق المرفق الذي ينتمي له الطبيب، وتتحمل الدولة آثار ذلك. والدليل منطوق الفصل 122 من دستور فاتح يوليوز 2011، الذي نص بصريح العبارة: ” يحق لكل متضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة”.
وعليه فالقضاء سيحرص كل الحرص، على أن لا يقصد المتضرر من خطأ طبي مقارعة صندوق الدولة بسببه نتيجة تعليل ناقص في المنازعات الطبية التي ينظر فيها.
وفي الأخير يستخلص أن أركان الجريمة الطبية متى توافرت فإنها تخلف آثارا ذات درجات متفاوتة في المسؤولية الجنائية للطبيب عن الفعل الشخصي، وعن فعل الغير، وحتى في نطاق الروابط العقدية أحيانا وفي تعامله مع الصيادلة، وهو ما يدق الناقوس لعالم الجريمة الطبية، إستشكالا في المطلب الثاني.
المطلب الثاني: دور الخبرة في المسؤولية الجنائية للطبيب
إن القاضي مهما اتسع نطاق ثقافته ومعارفه، لا يمكنه أن يبلغ مبلغ الأخصائيين الفنيين في مجال تخصصهم وهو أحوج ما يكون إلى تقنية الخبرة في قضايا المسؤولية الطبية والجراحية بالذات، والتي يتطلب تقديرها إلماما دقيقا بأصول وقواد الفن الطبي والجراحي وخصوصياته التقنية الدقيقة والمعقدة . فكيف تتحدد علاقة الطبيب بالسلطة القضائية (الفقرة الأولى) وماهي آثار وحجية الخبرة في المنازعات الطبية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: علاقة الطبيب بالقاضي أو السلطة المكلفة بالتحقيق
سوف نعمد إلى الاختصار الشديد من خلال استنطاق بعض الأحكام القضائية لاستجلاء العلاقة بين الطبيب والسلطة القضائية في الخبرة التي تعهد له من طرف هذه الأخيرة، فمثلا ورد في قرار للمجلس الأعلى سنة 2002:
“حيث تبين من أوراق الملف الطبي للمستأنف عليها وكذا الخبرة، أن استئصال غدتها الدرقية خطأ تسبب لها في ألم مهم وكان له أثر نفسي عليها وعلى حياتها المستقبلية، وبذلك فإن ملف النازلة يتوفر على جميع العناصر اللازمة للبث في التعويض، مما يجعل ما أثير غير جدي وبالتالي يكون الحكم المستأنف مصادفا للصواب”.
كما كرس المجلس الأعلى نظرية الخطأ من خلال قرار صادر عنه بتاريخ 28-3-2007 جاء فيه: “لكن حيث يتبين من تقرير الخبرة أن الخبيرة الوزاني خلصت فيه إلى أن المرض الذي تم إجراء العملية بسببه قد يؤدي بذاته إلى تطورات ينتج عنها العمى كيفما كانت الطريقة المتبعة في العلاج طالما أن المستأنف عليه مصاب بمرض السكري غير المستقر.
وحيث إن هذه الحالة تستلزم إجراء تحليلات قبل إقدامها على إجراء العملية على عين المستأنف عليه، لمعرفة مدى ملاءمة هذه العملية مع وضعه الصحي، وهو ما يشكل تقصيرا من طرف الطبيبة المعالجة، مما تكون معه العلاقة السببية ثابة بين الخطأ المذكور والضرر الحاصل للمستأنف عليه المتمثل في عمى عينه اليمنى مما يكون ما أثير بدون أساس” .
يتبين ويستنتج معه أن الخبرة ملازمة للعمل القضائي في الخطأ الطبي كيفما كان ولأيما نسب.
الفقرة الثانية: آثار الخبرة وحجيتها في المسؤولية الطبية
إن الاستعانة بالخبير تكون فقط بقصد المساعدة على فهمها وتقديرها على وجه يتفق مع المبادئ العلمية والفنية، فالخبرة ليست وسيلة إثبات لتقدير الدليل. لأنه يتنافى مع قواعد المنطق السليم، القول بأن هناك وسيلة إثبات غرضها اثبات أو تقدير وسيلة إثبات أقوى، فإنما أن يتعلق الأمر بوسيلة إثبات، أي وسيلة اكتشاف لعناصر غير قائمة أصلا في الدعوى، وإما إن بتجاوز الغرض منها هذا الحد فنكون أما وصف آخر. وعلى ذلك ولما كانت الخبرة وسيلة لتقدير أو فهم أو تفسير ميألة ما ثابتة في مجال الدعوى، فأقرب إلى الصفة القول: أن الأمر يتعلق بإجراء مساعد للقاضي، لأنه يختص أصلا يتقدير تلك الوسائل والعناصر المختلفة .
غير أنه في حالة امتناع أحد الخصوم من تقديم مستند من المستندات الى الخبير أو عدم السماح له بفحصه، والحال أن هذا المستند ضروري لإنجاز الخبرة، فإن القانون أعطى للقاضي فور إعلامه بذلك صلاحية إصدار أمر قضائي بالترخيص بهذا الفحص أو التسليم تحت طائلة عرامة تهديدية عند الاقتضاء، أو الاذن للخبير بتجاوز ذلك المستند وإعداد تقريره على الحالة .
وتبقى في نهاية المطاف سلطة القاضي التقديرية في تقدير الخبرة الطبية حتى تحوز حجيتها في مواجهة أطراف النزاع الطبي حسب منطوق المادة 66 من قانون المسطرة المدنية. كما أنه لا يسوغ للمحكمة أن تعتمد على نتيجة الخبرة في إدانة المتهم دون مناقشة مكونات الجريمة وما يتعلق بها، فالخبرة لا تعفيها من وجوب أن يكون التعليل كاملا، والجانب القانوني لا يعتمد على مجرد الخبرة، فلا يرتكز على أساس قانوني الحكم الذي قضى بالإدانة بمجرد الاعتماد على تقرير الخبير دون بيان الأفعال المكونة للجريمة ، والنصوص المطبقة عليها، ودون التصريح بأن اقتناع القاضي كان مبنيا على دراسة الملف، وهكذا يمكن للمجلس الأعلى نقض الحكم بخصوص ما يتعلق بإجراء الخبرة في إطار عدم كفاية التعليل ، وفي المغرب ومن واقع إستقراء مجموع من القرارات التي تواترت عن المجلس الأعلى، في مادة الخبرة العقلية. يتبين أن القضاء المغربي يحاول الترسيخ لاجتهاد قانوني هام وهو إلزامية استشارة من الخبراء النفسانيين كلما أثيرت أثناء سريان الدعوى العمومية مسألة التثبت من القدرات العقلية في الأشخاص المتابعين والمتهمين بارتكاب أفعال إجرامية، وكان ملف القضية يتوفر على بعض الحجج الأولية التي قد تؤسس لفرضية وجود مثل هذا الخلل كشواهد والوصفات الطبية أو اللفيفات العدلية المتعلقة بالإختلالات العقلية ونسوق على سبيل الإستدلال للتأكيد التوجه الجديد للمجلس الاعلى الذي جاء في حيثياته المعتمدة للقول بالنقض والإبطال:
” حيث أن المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه، لما تقدم لها دفاع العارضة بملتمس إجراء خبرة طبية عليها، للتأكد من سلامة قواه العقلية، ورفضت الملتمس المذكور بعلة عدم تقديمه إلا أثناء المحاكمة، وعدم إدلاء بأي إشهاد طبي يؤكد واقعة الخلل العقلي المدعى به، وأن اللفيف العدلي المدلى به المتعلق بإثبات الخلل العقلي لا يمكن أن ينهض دليل لإثباته تدعيمه بأي ملف طبي، وأن الوصفة الطبية المدلى بها من طرف دفاعها لا يمكن الركون إليها، لعدم ترقيمها وإدراجها بسجلات المستشفى الحسني بالناظور، وتحرير من طرف طبيب عام عير مختص، ولا تشير إلى نوع المرض، ولم يتم الإدلاء بملف الطبي من المؤسسة السجنية، تكون قد بثت في مسألة فنية بحثة، لا تستطيع بنفسها إبداء الرأي فيها، مما كان معه عليها الاستعانة بأهل الخبرة إلى غاية الأمر فيها للتأكد من القوى العقلية للمتهمة لتحديد مسؤوليتها، التي من شأنها أن تثبت وجودا أو عدما أو نقصنا أن تغير مجرى العقوبة والإجراء الذي يمكن أن يصدر في حقها خاصة وأنها إلتزمت الصمت التام أثناء جلسات المحاكمة، ولم تتفوه بأي كلمة رغم إلحاح المحكمة عليها بالجواب، وإشعارها بأن من مصلحتها الدفاع عن نفسها…وأن عدم استجابت المحكمة للملتمس يتعلق بمسألة فنية من اختصاص الأطباء النفسانيين يعتبر خرق لحقوق الدفاع، أدى إلى فساد التعليل والتناقض الموازي لانعدامه مما يعرض قرارها للنقض والإبطال”
المطلب الثالث: آثار المسؤولية الطبية الجنائية على الطبيب
يترتب على توافر عناصر المسؤولية عن العمل الشخصي التزام المسؤول عن الضرر بتعويض الطرف المتضرر عما لحقه من ضرر، وإذا لم يقم هذا الشخص المسؤول بدفع التعويض رضاء، حق للمتضرر أن يراجع السلطة القضائية بحقوقه ، كما يترتب أيضا إثارة الدعوى العمومية متى تحققت عناصر الدعوى الشخصية في الفعل المجرم الذي يعاقب عليه القانون ، وإذا كان المبدأ أن العمل الطبي يمارس من قبل الطبيب الذي فحص المريض واطلع على حالته الصحية، وأشرف عليه شخصيا في جميع مراحل العمل الطبي، سواء قبل العملية، أو أثناءها، أو بعدها، على النحو الذي رأيناه سابقا، فإنه تنعقد مسؤوليته الشخصية في مواجهة- ضحية الخطأ الطبي- علما أنه لقيام هذه المسؤولية، فإن يلزم أركان المسؤولية المدنية والجنائية ذات المصادر المختلفة -القانون، العقد-
فقد ترتكب الجريمة من قبل شخص واحد ينفرد بتنفيذ مادياتها، فتكون ثمرة لنشاطه الإجرامي ووليدة إرادته، وهنا لا تقوم صعوبة تذكر في تحديد المسؤولية جنائيا عن هذه الجريمة، وقد تقترف الجريمة من قبل عدة أشخاص لكل واحد منهم دور يؤديه، وهذه الأدوار تتفاوت من حيث الأهلية ومقدار مساهمة كل منهم في تحقيق عناصر الجريمة، وهو ما يفسر اختلاف أحكام القانون الجنائي بشأن تحديد المركز القانون لكل صنف من أصناف المجرمين الذي يجمع بينهم اتفاق أو اشتراك جنائي ، والعمل الطبي لا يخرج عن الإطار العام الذي سطره المشرع في المجموع الجنائية (الفصول 128 إلى 131 في الباب الأول في المساهمة في الجريمة والمشاركة فيها)
وعليه، فمتى أقر القضاء في إطار العمل الشخصي الذي يلحق الطبيب في الجريمة الطبية مسؤوليته الشخصية، نكون إزاء المسؤولية عن الفعل الشخصي (الفقرة الأولى) في حين أن لو أدين الطبيب باعتباره مسؤولا في إطار الفريق الطبي على وجه الخصوص فإنه تثار المسؤولية عن فعل الغير ( الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى: مسؤولية الطبيب عن الفعل الشخصي في الجريمة الطبية الجنائية
العقوبة جزاء يوقع باسم المجتمع تنفيذا لحكم قضائي من ارتكب فعلا يشكل جريمة في القانون، ومن أهم خصائصها صفة الشخصية . والتي تعني أن جميع العقوبات يشترط فيها أن توقع وتنفذ على مرتكب الجريمة أو المشارك فيها وحدهم دون غيرهم تطبيقا لمبدأ شخصية العقوبة في القانون، وطبقا للآية الكريمة ” ولا تزر وزارة وزر أخرى” ، فالمسؤولية الجزائية محددة لموارد قانونية واضحة المعالم، يحاسب على إثرها الطبيب جنائيا ومدنيا عن أفعاله الشخصية، وبالمناسبة يمكن التذكير بأنه ليس بإمكان الطبيب قانونيا أن يتفق مع مريضه على إعفائه من مسؤوليته عن الأخطاء التي يقع فيها أثناء العملية الجراحية أو أخطاء التشخيص، على اعتبار أن كل اتفاق تعارض مع سلامة الإنسان يكون باطلا ، لذلك نتساءل عن طبيعة مسؤولية الطبيب الشخصية ووفق أي أسس (أولا) وكيفية الإثبات في دعوى المسؤولية عن العمل الشخصي للطبيب (ثانيا).
أولا: طبيعة مسؤولية الطبيب الشخصية
إذا كان القانون يعاقب الطبيب أو الجراح عن خطئه أثناء أو بمناسبة ممارسته لمهنة الطب، فإن هذا يؤسس لمبدأ أساسي، هو أن الطبيب عليه أن يمارس عمله الطبي بنفسه، خصوصا في بعض الحالات التي تقتضي الوقوف الشخصي على حالة المريض انطلاقا من فحصه والحوار معه، إلى درجة اعتبره بعض الفقه أن الطبيب هو قاضي التحقيق عليه أن يتفحص كل أقوال وإشارات المريض حتى يتمكن من الكشف عن الداء بشكل دقيق ، هذا ومسؤولية الجراح عن خطئه الشخصي إما أن يكون مصدرها العقد المبرم بين المريض والجراح، حيث يتولى هذا الأخير إجراء الجراحة بناءا على طلب مريضه وبموجب اتفاق صريح أو ضمني بينهما، فهنا تكون مسؤوليته عقدية، أما إذا كان تدخل الجراح بسبب ظروف اضطرارية واستوجب تدخل الجراح الفوري لإنقاذ المريض الذي أصيب في حادث مثلا دون أن يحصل منه على إذن مسبق، أو من وليه أو أحد أقاربه، فإن مسؤولية الجراح هنا تكون مسؤولية تقصيرية، نظرا لعدم وجود العلاقة التعاقدية بينه وبين المريض،
حيث يعتبر عمل الجراح هنا من قبيل الفضالة، وتعتبر مسؤوليته تقصيرية أيضا، ولو كان تدخله بناءا على دعوة من الجمهور ، ثم إن ارتكاب الطبيب لخطأ شخصي، يجعله مسؤولا شخصيا عن الضرر الناشئ عنه، إذا كان الخطأ جسيما أو ارتكبه الطبيب عن سوء نية، أي كل هفوة لا تغتفر ، كما يمكن أن يساءل في الأخطاء المنفصلة عن الوظيفة، فإذا كان الخطأ جسيما كالخطأ الذي يرتكبه الطبيب داخل واجباته المهنية فإنه يسأل على قدر من الجسامة كنسيان جسم غريب في جسد المريض، وإهمال تنظيف البطن بعد إخراج الجسم الغريب من جسد المريض، ونؤيد هنا الأمر ما قضت به المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء في حكمها المدني عدد 4333 الصادر بتاريخ 23/09/1975 ملف عدد 248/27، وحكم محكمة الاستئناف بتازة، والجهل بأصول الصنعة كأن يكون الطبيب متطببا دعيا على صنعة الطب وإنما غرر المريض وخدعه بادعاء المعرفة، أو ان تكون له معرفة بسيطة لكنها لا تؤهله لممارسة هذا الفن ( كطالب الطب مثلا) ، وبكل الأحوال يمكن حصر محاسبة الطبيب جزائيا في ثلاث حالات هي:
1- حالة الجرائم العادية التي يرتكبها الطبيب كأي إنسان ليس طبيبا
2- حالة الجرائم المرتكبة أثناء ممارسة الطبيب لمهنته كطبيب
3- حالات استثنائية
فالضمانات القانونية لحماية المريض الشخصية في سلامة جسده وشخصه مقررة بموجب القواعد العامة في القانون، وأيضا بموجب القوانين المهنية الطبية، وهي إشارة صريحة على أن المشرع المغربي يقر المسؤولية الشخصية جنائيا، خاصة إذا انحدر عمله -الطبيب- إلى مصاف فعل أو امتناع يستوجب المساءلة الجنائية ، وفي هذا الإطار عمد القضاء إلى استصدار رزمة من الأحكام تسائل الأطباء عن أخطائهم الطبية طبقا للفصلين 432-433 من القانون الجنائي المغربي، فالمادتين 30 و 11 من مدونة السلوك الطبي المشار إليهما في سابق هذه الدراسة، دليل ضمني على أن الطبيب مسؤول شخصيا في نطاق التشخيص (-المادة 30 – وفي الوصفات الطبية – المادة 11-). وإلا يكون في مواجهة صور الخطأ الطبي كما هي مضمنة في القانون الجنائي المغربي.
والطبيب يسأل شخصيا عن الإهمال في اختيار الشخص الذي يرافقه، فممارسته للمهنة يجب أن تتم بصفة شخصية كقاعدة. وفي حالة مخالفته هذه الأخيرة وإسناد القيام بمهمته لشخص مكانه، بدون موجب شرعي فإنه يجب محاسبته، ونظرا لوجود نصوص قانونية تحدد اختصاص ومجال عمل كل موظف أو مستخدم تابع للمرفق الصحي، فإن المشرع نفسه حدد الأعمال التي لا يمكن أن تقوم بها إلا طبيب أو جراح، والأعمال التي يمكن أن يقوم بها المعاونون إما تحت إشرافه ومراقبة الطبيب أو الجراح أو بأمر من أحدهما ودون حضوره ، والأحكام الواردة في هذا الباب لا يستهان بها وقد أشرنا إليها سلفا ولا داعي للتكرار.
وفي هذا الإطار فإننا نشبه عمل الطبيب بهيأة الحكم (القضاء الجالس)، فإذا كان القانون يفرض ألا يتم تعويض أي عضو في القضاء الجالس، وإلا أعيد النظر في القضية من بدايتها، وكذلك مهنة الطب، فلا يمكن للطبيب أن يصف الدواء لشخص بناء على فحص قام به طبيب آخر، ولا يمكن للطبيب الجراح أن يجري عملية جراحية لمريض، ما لم يضطلع على طبيعة المرض ومكانه في جسم المريض، والقضاء أفرد لنا مجموعة من الشروط والأسس الواقعية، والقانونية، والمهنية، لاستخلاص خطأ الطبيب أو الجراح في العمل الطبي لإثارة مسؤوليته الشخصية ومساءلته عن المنسوب له في مواجهة – الضحية – المجني عليه، في الجراحة أو العلاج أو الوصفة الطبية.
و يمكننا استخلاص بعضها على سبيل المثال لا الحصر، لأن الأمر يتطلب تفريد كل حكم على حدة، واستنباط كل- قاعدة- قرار قضائي طبي، طبقا لملابسات كل نازلة في منازعة تتعلق بالجريمة الطبية، والتي تستتبع الجزاء بكافة أشكاله وهي كالآتي:
– خروج الطبيب عن القواعد الفنية والقواعد العادية، والتي يجب عليه اتباعها مهنيا ترتب عنها خطأ جسيم .
– أن يعهد الطبيب لشخص لا يتوفر على المؤهلات والكفاءة والخبرة المهنية لمواجهة أي حادث طارئ أو مضاعفات لاحقة، إذ يعتبر الطبيب مخلا بالرقابة الشخصية لنتائج العملية.
– استخدام الطبيب لأدوات طبية … أو غير معمقة أو قيامه بإجراء عمل جراحي وهو في حالة سكر.
– الإمتناع عن الاستمرار في معالجة المريض
– إهمال الطبيب في توخي الحيطة والحذر والتزام السلامة والتبصير بالمخاطر المتوقعة وغير المتوقعة، ما لم تكن استثنائية .
– تعنت الطبيب في عدم اتباع ما أوجبه القانون من ضرورة الحصول على إذن المريض وعائلته وممثليه الشرعيين، ما لم تستوجب ذلك حالة الضرورة.
– ارتكاب الطبيب خطأ عن سوء نية أو عن طريق التدليس وغير ذلك من وسائل الاحتيال المهنية لحث المريض الامتثال لأهواء الطبيب في العلاج وغير ذلك، أحدث ضررا جنائيا…
ولكن يدفعنا الفضول العلمي لإثارة مسؤولية الطبيب عن الوصفة الطبية في علاقته بالصيدلي، وما مدى التزام هذا الأخير في تنفيذ الوصفة العلاجية بكل دقة، وهل يحضر عليه تغيير أو تبديل أو تعديل الأدوية الموصوفة المدونة بالوصفة الطبية دون الرجوع إلى الطبيب الذي حررها؟
في ظل الصمت التشريعي المنظم لمزاولة مهنتي الطب والصيدلة، فإن القضاء اعتبر أن الصيدلي ملزم بضمان مطابقة الأدوية المنصرفة للأدوية الموصوفة بالوصفة الطبية، وتحميله المسؤولية عن كل إضافة أو تغيير أو تعديل في الوصفة الطبية، وهو ما ذهبت إليه محكمة الجنح عندما أدانت صيدلانية قامت بصرف دواء يسمى sunoxol بنسبة 33% بينما الدواء الموصوف في الوصفة كانت بنسبة 4 % وكان الطبيب قد وضع تحت النسبة ثلاث سطور ، كما قضى أيضا بمسؤولية صيدلانية أخرى لصرفها دواء يسمى 1000 Aspégic بدلا من الدواء الموصوف بالوصفة الطبية لطفل عمره ثلاث سنوات وهو 100 Aspégic وما قضت به محكمة كليرمون من ارتكاب الصيدلي لخطأ جسيم عندما لم يتأكد من أن الدواء الذي يقوم بصرفه مطابق تماما للدواء الموصوف بالوصفة الطبية، وكان الدواء الموصوف soluté istonique de chruire de sodium 8% فقام الصيدلي بصرف دواء آخر يسمى soluté hypertonique à 20% .
فالصيدلي يجب عليه الخنوع والخضوع للوصفة الطبية دونما أي اجتهاد لأي فعل من شأنه أن يثير مسؤوليته الشخصية في مواجهة حامل الوصفة الطبية، خصوصا إذا تخلف عن ذلك ضررا طبيا، يصلح أن يكون محلا للمسائلة الجنائية والمدنية معا، فمتى قام بمخالفة المكتوب الحرفي للوصفة الطبية، فإنه سيعتبر أنه قام بصرف أدوية بدون وصفة طبي، وكدا ممارسا للطب بطريقة غير مشروعة، وإلا انقلب التكييف القضائي للجريمة من مجرد جنحة القتل أو الجرح الخطأ إلى جريمة القتل أو الجرح العمد، فالاستعانة بالوصفة الطبية دليل براءة للطبيب وسند قانوني لإدانة الصيدلي، فكأنما يمكن اعتبارها – الوصفة الطبية بمثابة -أمرعسكري طبي موجه إليه – الصيدلي – وفي حالة عدم الامتثال له، فإن الجزاء القانوني سيقع حسب جسامته المخالفة. هل تتطلب فقط الغرامة والتعويض المدني، أم تتطلب العقوبة الجنائية في الخطأ قياسا على جرائم العصيان والفرار العسكري .
ثانيا: الإثبات في دعوى المسؤولية عن العمل الشخصي الطبي
إن الجرائم التي تقع بمناسبة المهنة الطبية ذات نطاق واسع ولعل أهمها:
– جرائم النصب والاحتيال الطبي كالتهويل بأمراض غير موجودة لدى المريض بقصد ابتزازه.
– جرائم العرض وأكثر ما ترتكب من قبل أطباء الأسنان وأطباء الأمراض التناسلية، حيث يستغل الطبيب مهنته وظروف مريضته، ويأتي معها أفعالا لا يرتضيها الخلق الرفيع وآداب المهنة، خاصة عندما تكون تحت تأثير التخدير أو وسائل التقويم المغناطيسي لدى الأطباء النفسانيين.
– جريمة نسبة المواليد إلى غير ذويهم وأكثر ما ترتكب هذه الجريمة من قبل الدايات والقابلات وأطباء التوليد، من ذلك مثلا الذكر بالأنثى أو العكس أو سرقة الأطفال مقابل مبالغ المال إلخ…. وهذه الجرائم نادرة عندنا والحمد لله.
– جريمة انتهاك حرمة الموتى وأكثر من يرتكبها طلاب كليات الطب تحت ستار البحث العلمي، حيث يقومون أحيانا بتقطيع جثث الموتى بأشكال غير إنسانية.
– جريمة إعطاء الخبرات غير الصحيحة، أو امتناع عن إعطاء الخبرات الطبية أمام القضاء. والخبرة الطبية تعد من جملة أعمال الطبيب الإنسانية، التي تساهم في إحقاق الحق ونصرة العدالة ولا يجوز الامتناع عن إعطائها وبصدق علمي خالص…
ولكن صمت التشريع لم يتوافى في تحديد قواعد الإثبات بشكل عام سواء في الالتزامات والروابط العقدية، أو في نطاق المسؤولية التقصيرية، وفي المادة الجنائية، لذا يثور التساؤل حول الإثبات في دعوى المسؤولية عن العمل الشخصي في الجريمة الطبية؟
إن المبدأ العام في المجال الجنائي هو أن الشخص لا يمكن مساءلته إلا عن الأفعال الإجرامية التي يرتكبها بنفسه، وهذا المبدأ يصطلح على تسميته ب “شخصية المسؤولية الجنائية” وهذا ما ينص عليه الفصل 132 من القانون الجنائي المغربي في فقرته الأولى والذي يقابله الفصل 1.121 من القانون الجنائي الفرنسي
والمشرع المغربي لم يعرف الإثبات لا في القانون المدني ولا في القانون الجنائي لكن يمكن تعريفه بأنه ” إقامة الدليل على أن المتهم ارتكب الفعل المنسوب إليه”. وهكذا ففي الميدان المدني فإن وسائل الإثبات تهيأ قبل إثارة الدعوى، عكس ما عليه الحال في الميدان الزجري، فقد توسع المشرع المغربي في إثبات الأفعال المجرمة ” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ” وأجاز إثباتها بجميع وسائل الإثبات وهي طريقتان :
1- الطريقة القانونية: وهي الطريقة التي حددها القانون وألزم القاضي باتباعها ولا دخل للسلطة التقديرية للقاضي في هذه الطريقة، فمثلا دعوى الدين التي تفوق قيمته 250 درهم لا تثبت إلا بحجة رسمية أو عرفية ( الفصل 443 ق ل ع)، ودعوى بيع العقار لا يمكن إثباتها إلا بمحرر ثابت التاريخ الفصل 489 ق ل ع.
2- الطريقة الوجدانية: وتعتمد على قناعة القاضي بكون المتهم ارتكب المنسوب إليه أم لم يرتكبه.
ويقع عبء الإثبات في الميدان الزجري على عاتق النيابة العامة، والتي تمثل المجتمع وتملك سلطة الإتهام (الفصول 3-39 – 40 من قانون المسطرة الجنائية ) ووسائل الإثبات هي :
– الاعتراف
– المعاينة
– الخبرة
– شهادة الشهود
– الأوراق والمحررات الكتابية
وعبء الإثبات في موضوع الجريمة الطبية التي تستوجب المساءلة الجنائية، يقع على عاتق المدعي عموما – المريض أو ضحية الخطأ الطبي – وبما أن المسؤولية عن العمل الشخصي تتطلب لقيامها حصول خطأ وضرر وعلاقة سببية بين الخطأ والضرر، فإنه على المدعي أن يثبت هذه المسائل جميعها، فالملف الطبي الغير الممسوك أصلا من الأجهزة الطبية، والموسوم بالتعسف في استعمال الحق بصدده كما بينا سابقا في نطاق القانون الداخلي للمستشفيات، يعد حلقة الوصل الضائعة في ميدان الإثبات التي يبنى عليها الدليل بالجزم واليقين لا الشك واللبس، فهل يعقل أن ينهض طبيبا دليلا على نفسه أمام العدالة وماهي احتمالات حدوث ذلك؟
وهل من التصور أن يقدم المدعى عليه – الطبيب – حجية كتابية – الشهادة الطبية- وهي تتضمن خطأ قاتلا يدينه مدنيا و جنائيا بالواقعة الإجرامية الطبية؟
إن الوقائع المكونة للإدعاء الجنائي، من منظور الفقه والقضاء والعموم ” غاية لاتدرك”، مادام عبء الإثبات يصطدم بفراغ النصوص وعدم جاهزيتها حتى تستقل أجهزة التحقيق الجنائي- البحث التمهيدي و التحقيق الإعدادي – بأخد الإرتسامات الدقيقة لمعالم الجريمة في أغوار الواقع الصحي لبلادنا.
فالاعتراف القضائي/ غير القضائي، المعاينة، الخبرة، شهادة الشهود، الحجة الكتابية، كلها أدوات تفقد عذريتها في ضبط الجريمة الطبية الجنائية، مالم تكتمل النصوص المهنية المنظمة للمجال الطبي، والتأثيث لسياسة جنائية هادفة تقتضي أثر الإلزام لجزاء يخدم جهاز الإدعاء الأول- النيابة العامة- في تحرك المتابعة الجنائية، باعتبارها خصم شريف يدور مع الحق أينما كان ومع المسؤولية طالما وجدت.
وتجدر الإشارة أن المسؤولية الشخصية أو ما يصطلح عليه “بالمسؤولية الشخصية الجنائية”، قد تلحق مساعدي الطبيب ومن يدخل في حكمهم في منازعة جنائية إما كأطراف مشاركة، مساهمة أو فاعلة معنويا، والأمر في دلك موكول للقضاء في الإثبات و المؤاخذة وحتى النطق بالحكم النهائي . فكيف يمكن استخلاص هذا النوع من العلاقة بين الأطباء في نطاق الفريق الطبي، أو ما يمكن أن يصطلح عليه بالمسؤولية عن فعل الغير (الفقرة الثانية).
الفقرة الثانية: مسؤولية الطبيب عن فعل الغير في الجريمة الطبية الجنائية
تعتبر المسؤولية عن فعل الغير، استثناءا من القاعدة الأصلية القائلة بأن الإنسان لايسأل إلا عن فعله الشخصي، ومن تم لاينبغي التوسع في تفسير أي استثناء يقضي بمسؤولية الإنسان عن فعل غيره، بل يتعين التقيد بالأصل العام ، وباعتبار أن المسؤولية عن فعل الغير ما هي في الواقع إلا حالات استثنائية لذلك، فإنه يلزم أن يكون هناك سبب جدي ومعقول لتحمل الفرد لنتائج أفعال هذا الغير، كأن يتولى رقابته أو تعليمه بمقتضى نص في القانون، أو بناء على اتفاق مسبق يؤكد هذا الإرتباط بين الشخص المسؤول ومن صدر عنه الفعل الضار. وتقوم المسؤولية عن فعل الغير في حالتين :
أ- إذا كانت لهذا الشخص سلطة الرقابة على هذا الغير وذلك إما بسبب قصره أي أنه لم يبلغ سن الرشد بعد، وإما بسبب حالته العقلية أو الجسمية أي أن يكون مجنونا أو معتوها أو مصاب بعاهة كما لو كان أعمى أو مقعدا وذلك ولو كان راشدا.
ب- إذا كان مرتكب الخطا يقوم بعمل لحساب شخص آخر وهو الشخص المسؤول وكان خاضعا لذلك في إشراف وإدارة هذا الأخير، أي أن تكون هناك علاقة تبعية قائمة بين هذين الشخصين، سواء كان مصدر هذا الالتزام بالرقابة مقررا بمقتضى نص قانوني أو بمجرد الاتفاق.
ويشترط لتحقيق هذه المسؤولية أن يرتكب المشمول بالرقابة عملا غير مشروع أو خطأ يسبب ضررا للغير، فإذا تحقق هذا الشرط فإن المكلف بالرقابة يكون مسؤولا عن الأضرار التي تسببت في هذا الفعل، ففي المجال المدني يتبنى المشرع المسؤولية عن فعل الغير في العديد من الحالات ، ليتدخل بدوره القانون الجنائي، بصورة استثنائية ليقرر المسؤولية الجنائية عن فعل الغير، ومثال ذلك تقرير المسؤولية الجنائية للأطباء عن أفعال مساعديهم، أو مسؤوليتهم عن فعل الفريق الطبي، أو في إطارالعلاقة والموجبات القانونية في الرقابة والتنظيم وتتبع العمل الجراحي، والوقوف على التفاصيل المتعلقة بالمحيط الطبي في علاج مريض ما، أو عملية جراحية أو تخدير موضعي أو جانبي أو كلي…لذا سنعرض لمسؤولية الطبيب عن فعل الغير في حالة وجود عقد طبي بينه وبين المريض، ثم في الحالة التي لا يكون فيها هذا العقد موجودا، وهي الحالة التي يطلق عليها مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه، علما بأن عنصر الخطأ يصاحب أعمال الطبيب وتابعيه ويتبوأ فيها – الخطأ- مظاهر مختلفة:
– المسؤولية عن فعل الغير التي تستلزم إثبات الخطأ.
– المسؤولية عن فعل الغير القائمة على افتراض الخطأ القابل لإثبات العكس.
– المسؤولية عن فعل الغير الذي يعد غير قابلا لإثبات العكس.
فالخطأ الطبي الجنائي يتضارب فيه عنصر الإثبات بين موجب الوصول إلى نتيجة واعتبار بذل غاية، يقع عبء الإثبات تارة على المريض وأخرى على الطبيب، لايعنينا نحن في هذا الإطار، سوى استخلاص مسؤولية الطبيب في إطار علاقته بالمرفق الصحي العام- المستشفى- والمرفق الصحي- الخاص-، عن فعل الغير- الفريق الطبي- (أولا) ثم هل يمكن أن يعاقب الطبيب بسبب جريمة ارتكبت من طرف غيره ولو في نطاق الروابط العقدية( متعهدي جمع القمامة والنفايات الطبية مثلا) (ثانيا) وأي دور للتأمين الطبي في تحمله للمسؤولية القانونية نيابة عن المرفق الذي ينتمي له الطبيب، أو نيابة عن الطبيب نفسه (ثالثا).
أولا: مسؤولية الطبيب عن أخطاء الفريق الطبي
إن العلاقة بين الطبيب الجراح في المستشفى العام وأعضاء الفريق الطبي العاملين معه علاقة لا تبعية، ولذلك فإن الطبيب لايسأل جنائيا عن فعل يقوم به أحد مساعديه من الفريق الطبي إلا إذا أمكن أن ينسب إلى الطبيب نفسه خطأ وحده دون أي منهم، وإذا لم يكن أي من هؤلاء إلا منفذا لأوامر الطبيب، ولم يقع من أحدهم نفسه خطأ ما . ولا يتعلق الأمر بالمستشفيات التابعة لوزارة الصحة العمومية والخاضعة للتنظيم الإستشفائي الذي جاء به مرسوم 2007، بل يشمل جميع مرافق الصحة العمومية أيا كانت وضعيتها القانونية، ولايكون المرفق الصحي العمومي مسؤولا بذاته إلا إذا كان معتبرا مؤسسة عامة متمتعة بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري، كما هو الشأن للمراكز الاستشفائية المستقلة- قانون رقم 80-37 الصادر 15 يناير 1983، فإذا لم تكن له شخصية معنوية مستقلة، فإن المسؤول في هذه هو الشخص المعنوي العام المالك للمرفق الصحي حتى لو كان هدا الأخير يدار بصورة مستقلة. كما هو الشأن بالنسبة للمصالح والمراكز الاستشفائية التابعة لوزارة الصحة العمومية، وكذلك الشأن بالنسبة للمصحات المملوكة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ، فقد يجد المريض نفسه، وقد دخل إلى المستشفى من المستشفيات العامة أمام طبيب لم يختره، هو الذي يتولى علاجه، بل إنه عندما يتعامل مع هذا الطبيب، لا يتعامل معه بصفته الشخصية، بل بصفته موظف يعمل في مرفق عام هو المرفق الصحي، ومن هذا المنطلق فإن العلاقة القائمة بين المريض والطبيب لا يمكن نعتها بالتعاقدية، مادام أن حقوق والتزامات كل منهما، لا تتحدد بمقتضى العقد، وإنما من خلال اللوائح المنظمة لنشاط المرفق الصحي العام الذي تديره المستشفى، ويتجه القضاء إلى تطبيق قواعد المسؤولية التقصيرية عند تحديد مسؤولية المستشفى العام عن الضرر الذي يصيب المريض، وعلى ذلك فقد قضت محكمة باريس” المسؤولية التي يتعرض لها أطباء المستشفيات بصفة عامة، ذات طابع تقصيري، ذلك أن تكوين العقد الطبي، يتطلب حرية المريض في اختيار طبيعة، وقبول الطبيب، فإن مثل هذا العقد لا وجود له بين الأطباء العاملين في المستشفيات، وبين المرضى الذين يدخلون المستشفى عن طريق مصالح الرعاية العامة، وبذلك فإنه للمطالبة بالتعويض الذي تسبب فيه الطبيب في هذه الحالة لا بد من التمسك بالمسؤولية التقصيرية”
ففيما يتعلق بطبيعة العلاقة بين الطبيب والمستشفى، فقد ذهب اتجاه إلى أن استقلال الطبيب في أداء عمله من الناحية الفنية، يمنع كونه تابعا لشخص آخر إن لم يكن طبيبا مثله، يمكنه مراقبته في مثل هذا العمل. وعلى ذلك قضت محكمة مصر الأهلية بخصوص مسؤولية إدارة المستشفى الخاص “أن الطبيب لا يعتبر على العموم تابعا للمستشفى أو الجهة التي يعمل بها، إلا إذ أن كان مدير تلك الجهة طبيبا مثله حتى يمكنه رقابة عمله” وقد قضت محكمة الاستئناف مصر الوطنية بأن:
” المتبوع يكون مسؤولا عن عماله الأصغرين الثانويين، ولو كان تعيينهم بمعرفة الموظفين من الاختصاصات، فإذا حوكم ممرض لتسببه بإهماله في وفاة المريض وحكم عليه نهائيا بالعقوبة، فالمتبوع يسأل عن الإهمال، سواء أكان هو الذي أقام الطبيب في المستشفى في وظيفته، وهذا الأخير هو الذي عين الممرض ومن في حكمه، أم كان المتبوع هو الذي عين الجميع مباشرة” .
فالطبيب الذي يكلف شخصا غير حائز على المؤهلات الطبية بإجراء عمل طبي يكون مسؤول عنه، إذا ما ارتكب خطأ في عملية الجراحة، حيث تنص على ذلك المادة 85 ق.ل.ع عند تقريرها مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعية، لم تميز بين طبيب وغيره. كما قضت بذلك محكمة النقض المصرية في حكمها الصادر بتاريخ 03/07/1969 . ويعد مسؤولا كذلك الطبيب الذي يترك للممرض أن يقوم بعمل هو من صميم اختصاصه، ويسأل كذلك عن الأضرار التي تترتب على عدم قيامه بما يقتضي عليه الواجب من البقاء مقربة من مريض إلى أن يعود هذا المريض إلى وعيه، دون أن يباشر الجراح بنفسه في هذه الفترة كل ما يجب عليه من علاج نحو المريض شخصيا، أو دون مراقبة لمساعديه بما أمرهم من إجرائه، ويسأل الطبيب كذلك في حالة إهماله التأكد من مطابقة تركيب الدواء للأصول المقررة إذا كان هذا الدواء ساما وقد ترك تحضيره للممرض، فترتب على خطأ في التحضير فيصاب المريض بأضرار أو يتوفى نتيجة تناوله ذلك ، وفي هذا السياق أدانت محكمة باريس ” الطبيب الذي يعهد إلى ممرضة، بمزاولة العلاج بالاشعة، فقامت هذه الأخيرة بدون علم إدارة المستشفى باستخدام الالآت التقنية التي لا يجب ألا يستخذمها إلا أخصائي الأشعة، وهو عمل خارج عن اختصاصها العادي فأحدثت بالمريض حروقا جسيمة بسبب علاجات بالموجات القصيرة، وبالتالي اعتبرت المحكمة الطبيب مسؤول عن خطأ الممرض، حيث إذا كانت العادة تقتضي أن الأطباء يسندون إلى المساعدين مباشرة العلاج بواسطة الموجاة القصيرة فإن ذلك يكون تحت مسؤوليتهم، وبالتالي فمسؤولية الطبيب الجنائية مبنية على أساس الخطأ المفترض الذي يتمثل في عدم القيام بواجب الرقابة والأشراف” .
والمسؤولية الجنائية للطبيب عن مساعدية لا تقتصر على المساعد الذي لا يكون غير كفؤ، أو بسبب التقصير والإشراف، وإنما يثور في إطار المسؤولية المشتركة ولو كان المساعد مختص بالعمل المسند إليه، كما هو الشأن بالنسبة للمخدر، خصوصا إذا وجدت مشاركة في بعض القرارات، حتى بالنسبة للمسائل التي تخص بصفة أساسية اختصاص طبيب التخدير مثلا: وسيلة التخديراو تحديد ساعة العملية الجراحية… وفي هذا الاتجاه قررت الدائرة الجنائية المشتركة لكل من الجراح وأخصائي التخدير، “حيث أنه في ظل الفريق الجراحي المشكل من الجراح وأخصائي التخدير، فإن عدم وجود جهاز الإنعاش قبل مباشرة العملية الجراحية على مريضة تشكل إهمالا يسند لكل من عضوي هذا الفريق”
فالسند الواقعي لإضفاء الشخصية على الفريق الطبي، هو صعوبة تقدير أو تحديد مرتكب الخطأ، في الحالة التي يبقى فيها غير معروف، في حين أنه لا يمكن تصور قيام مسؤولية المصحة أو الفريق الطبي أو الطبيب الجراح دون وجود ركن الخطأ الدي يعتبر أساسيا وجوهريا، ففي الحالة التي يتعذر معرفة مرتكب الخطأ، لا يمكن نسبة الفعل إلى أي أحد من أعضاء الفريق الطبي سواء كان جراحا أو طبيب تخدير أو ممرضا مساعدا، الشيء الذي يؤدي إلى ضرورة التسليم بخطأ الفريق الطبي، وهو فرض لا يمكن تصوره إلا بمنحه الشخصية المعنوية.
بالإضافة إلى ذلك لايمكن تسمية مسؤولية الطبيب (بالمسؤولية عن فعل الغير ( لأن الطبيب لايسأل دائما عن فعل يصدر من المساعد، فهناك الكثير من الحالات يسأل فيها المساعد دون الطبيب، ومن ذلك هناك قضيتان هما قضية (هليار) وقضية (كولد)، إذ نلاحظ في هاتين القضيتين أن المسؤولية قد أقيمت على المساعد وتمت تبرئة مدير المستشفى في الحالة الأولى والمجلس المحلي في الحالة الثانية، ويرى القاضي (salvaire) أن القضاء الجزائي بدأ يتقبل إحدى نظريات القانون العام، وهي التفريق في التنفيذ والخطأ في الخدمة، فإذا نشأت الجريمة عن الخطأ في التنفيذ ارتكبه العامل أو من في حكمه يتحمل وحده المسؤولية الجزائية، أما إذا نشأت الجريمة عن خطأ في الخدمة فإن الرئيس يسأل جزائيا، كما يسأل العامل بوصفه فاعلا أصليا إذا أمكن الخطأ إليه، أما موقف القضاء فهو لايتمسك بهذه الاعتبارات النظرية (كونها مسؤولية شخصية عن فعل الغير) وإنما يسلك مسلك عمليا بتقرير مسؤولية الطبيب عن الأخطاء التي تصدر عنه، وإن اشترك في إحداث النتيجة الضارة عدة أخطاء (خطأ الطبيب وخطأ المساعد)، أو كان الخطأ صادر من الطبيب وحدة دون المساعد، وإن كان الضرر ناتجا بالفعل المادي الصادر من المساعد فتقوم مسؤولية الطبيب دون المساعد، وبذلك ذهب الفقه والقضاء الجنائي، إلى أن الطبيب لايسأل جنائيا عن فعل يقوم به مساعده إلا إذا أمكن إثبات خطأ في حقهم وفق القواعد العامة، أما مسؤولية المساعد فقد ذهبت بعض الأحكام إلى أن المساعد إذا كان منفذا لأوامر الطبيب ولم يقع منه خطأ غير أنه يجب علينا أن تفرق بين العمل الطبيب الرئيسي والعمل الطبي المرتبط ، فعندما يتوجه المريض إلى المستشفى فإنه يضع ثقته فيها بإعتبارها مركزا طبيا قادرا على أن يوفر له تلك العناية ، وذلك على عكس التوجه إلى طبيب اختصاصي في عيادته، ففي هذه الحالة يكون قد اعتمد على قيام المستشفى بذلك، فإنها تكون مسؤولة عن أفعال الطبيب الاختصاصي أو الجراح .
وعموما فإن مسؤولية الطبيب عن فعل الغير ، تكاد أشبه بمعادلة رياضية متشابكة ومعقدة ، فالروابط القانونية التي قد تنشأ بين الأطباء ومساعديهم ، أو بين الأطباء في إطار العمل الجماعي -الفريق الطبي- أو في علاقة الطبيب بالمستشفى العمومي ، أو في إطار الرابطة العقدية الطبية مع المستشفى الخاص في ( العقد الطبي ، عقد الإستشفاء ) تكون إما مسؤولية شخصية يتحمل وزرها الطبيب فقط في الخطأ الذي يعزى له نتيجة أوامره لمرؤوسيه – المساعدين والممرضين – أو مسؤولية مشتركة إذا كان القانون يفرض التزامات محددة منذ إجراء العملية حتى النهاية، كما هو الشأن للمسؤولية الواجبة على الطبيب الجراح وطبيب التخدير في التزام السلامة الذي أشرنا إليه في سابق هذه الدراسة ، أو مسؤولية يتحملها المرفق الصحي الذي يضم الطبيب مع إمكانية رجوع هذا الأخير عليه – الطبيب – في إطار المسؤولية الشخصية – غالبا المسؤولية المدنية – وهي مساعي قانونية، لا تنفي استقلال مسؤولية الطبيب عن الفريق الذي ينتمي له في القطاعين معا (القطاع الصحي والقطاع الخاص)، مما يبرهن وبوضوح تام أن مسؤولية الطبيب في الجريمة الطبية عن فعل الغير، قائمة وثابتة ومؤكدة على شرط أن ينسب للطبيب وبشكل قطعي خطأ شخصي من خلال عمله الطبي، وبطبيعة الحال لا نرى تحقق ذلك إلا في الأخطاء الفنية غالبا، والتي تحدد الطريق لقيام مسؤولية الطبيب الجنائية. فالطبيب – المشار إليه بأصابع الإتهام – لن يسلم من المساءلة أينما حل وارتحل، ومهما اختلفت وضعيته القانونية، إلا في حالة واحدة يتحفظ فيها القضاء بالنسبة للطبيب الأجير الذي تربطه بالمستشفى أو العيادة أو المصحة علاقة عمل، ويقرر مسؤولية المستشفى عن خطأ الطبيب، نظر الوجود عقد طبي بين المريض والمستشفى أو العيادة التي يعمل فيها الطبيب، حيث يعتبر المستشفى بنوعيه-العام والخاص- مسؤولا عن كل خطأ يصدر من العاملين فيه، هذا في جانبه العقدي والتقصيري للمطالبة بالتعويض، على أن الجانب الزجري العقابي في المادة الجناية لن يرحم الطبيب شيء إلا وسيلته في نفي المنسوب له ” والبينة على من ادعى”.
ويمكن القول كقاعدة عامة بأنه” المسؤولية عن فعل الغير” استثناء فتحه المشرع المغربي على مصراعيه انطلاقا من مبدأ “شخصية المسؤولية الجنائية” في الفقرة الأولى من الفصل 132 من القانون الجنائي انطلاقا من الفقرة الأخيرة من نفس الفصل ، فالطبيب ليس مسؤولا فقط عن أخطاء الفريق الطبي تحت إمرته أو الأخطاء المتبادلة، بل تقع على مسؤوليته حتى الأدوات الطبية وقت وقوع السبب من فعل الغيرالذي يوجد تحت رقابته وتوجيهه إما بنفسه أو بواسطة أحد الأشخاص، ولامجال للخوض فيها، يدفعنا الأمر إلى استخلاص واستبيان مسؤولية الطبيب في إطار “رابطة عقدية من نوع خاص”- حسب تعبيرنا- ويتعلق الأمر بمسؤولية الطبيب عن فعل متعهدي جمع القمامة والنفايات الطبية طبقا للقانون رقم 00-28 والمرسوم التطبيقي له على ضوء دراسة مقارنة (ثانيا).
ثانيا: مسؤولية الطبيب عن أخطاء متعهدي جمع القمامة والنفايات الطبية
المسؤولية القانونية عن النفايات الطبية قد تثار في ظل القواعد الخاصة التي تنظم تداول وإدارة هذا المصدر الخطر للعدوى والمرض، ولكنها قد تثار أيضا في ظل القواعد العامة في المسؤولية، فالتنظيم القانوني في قوانين البيئة يعتمد في كل الأحيان على حماية ” الاشخاص” من خطر هذه النفايات، ويرتب المسؤولية الجنائية للمتسبب ” عمدا” في النتيجة ، ويعد القانون رقم 28.00 الخاص بتدبير النفايات والتخلص منها، أول نص قانوني يواجه بشكل مباشر معضلة النفايات، حيث يتضمن مبادئ وقواعد وإجراءات تشريعية وتنظيمية ومالية تشكل مرجعية أساسية لتدبير عقلاني عصري وفاعل لظاهرة النفايات، ويعرف القانون 28.00 في مادته الثالثة النفايات بأنها ، ” كل المخلفات الناتجة عن عمليات استخلاص أو استغلال او تحويل أو إنتاج أو استهلاك او استعمال أو مراقبة أو تصفية وبصفة عامة، كل الاشياء والمواد المتخلى عنها او التي يلزم صاحبها بالتخلص منها بهدف عدم الإضرار بالصحة والنظافة العمومية والبيئة”.
وتصنف النفايات الطبية والصيدلية بحسب خاصيتها وطبيعتها على النحو الآتين كما نصت المادة 3 :
“الصنف 1:
أ- نفايات تحتوي على خطر العدوى لاحتوائها على كائنات دقيقة أو سميات قادرة على أن تسبب المرض للإنسان أو لكائنات حية أخرى، وكذا الأعضاء والأنسجة البشرية أو الحيوانية غير قابلة للتعرف.
ب- أدوات حادة أو قاطعة متخلى عنها كانت في تماس مع مادة بيولوجية أو لم تكن في تماس معها.
ج- منتوجات ومشتقات الدم المخصصة للعلاج غير مستعملة أو فاسدة أو انتهت مدة صلاحيتها
الصنف2:
أ- أدوية ومواد كيماوية وبيولوجية غير مستعملة أو فاسدة أو انتهت مدة صلاحيتها.
ب- نفايات الأدوية أو المواد المانعة لانقسام الخلايا والمانعة التسمم غير أنه يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند تدبير النفايات الناجمة عن استعمال المواد السامة السامة التشريع المطبق على هذه المواد
الصنف 3
أ- أعضاء وأنسجة بشرية أو حيوانية سهلة التعرف عليها من طرف شخص
غير متخصص
الصنف 4:
نفايات مماثلة للنفايات المنزلية”
أما المادة 4 من نفس المرسوم فتشير:
“يتعين على منتجي النفايات الطبية والصيدلية وضع نظام داخلي للتدبير يتضمن على الخصوص:
– تعيين وحدة مسؤولة عن تدبير هذه النفايات
– التوفر على طاقم من الأشخاص المؤهلين والمكونين لممارسة الأنشطة المتعلقة بتدبير هذه النفايات.
– مسك سجل تدون فيه كميات وصنف ومصدر النفايات المنتجة والمجمعة والمخزونة والمتخلص منها.
غير أنه يمكن للمنتجين لكمية من النفايات الطبية والصيدلية من الصنفين 1 و 2 تقل عن 10 كيلوغرام في اليوم الاقتصار على تعيين مسؤول مؤهل مكلف بتدبير هذه النفايات ومسك السجل.
أما فيما يتعلق بكيفيات الفرز والتلفيف والتخزين فإن المادة 6 حددت الطريقة للتعامل مع كل نوع من هذه النفايات، حيث نصت على ما يلي:
” تفرز النفايات الطبية والصيدلية حسب إنتاجها حسب أصنافها وتوضع في أكياس بلاستيكية أو في أوعية ذات ألوان مختلفة وذات استعمال وحيد تستجيب للمواصفات الجاري بها العمل، وذلك وفق الكيفيات التالية
– أكياس من البلاستيك المقوى وغير مسربة للسوائل ذات لون أحمر
توضع فيها من الصنف (1-أ) و (1-ج)
– أوعية صلبة تغلف بأحكام ذات لون أصفر توضع فيها النفايات من الصنف (1-ب)
– أكياس من البلاستيك المقوى غير مسربة للسوائل ذات لون توضع فيها النفايات من الصنف 2
– أوعية أو أكياس من البلاستيك ذات لون أبيض غير شفاف توضع فيها الأعضاء والأنسجة البشرية أو الحيوانية (الصنف 3)
– أكياس من البلاستيك المقوى وغير مسربة للسوائل ذات لون أسود توضع فيها النفايات من الصنف 4″
وما دمنا في نطاق المسؤولية الجنائية للطبيب عن أخطائه المهنية ينتابنا شعور للتساؤل حول مجال إخضاع الطبيب للمساءلة الجنائية عن الضرر الذي يلحق المصاب بوباء أو عدوى هاته النفايات داخل المستشفيات والمصحات، وهل مسؤولية الطبيب تعد مسؤولية شخصية في ذلك؟ وما هي المسؤولية القانونية للمستشفى أو المصلحة؟
بتفحصنا لقانون 00-28 ، ومرسوم 21 ماي 2009 المتعلق بتدبير النفايات والتخلص منها من خلال المواد المذكورة سابقا، والتي صنفت النفايات الطبية والصيدلية، والتي أوجبت وضع نظام داخلي يحدد مجموعة من الموجبات القانونية التي تستلزم التوفر على وحدات مسؤولة عن تدبير النفايات، إضافة إلى مجموعة من الإجراءات الشكلية لضبط السجلات، نخلص بصيغة صريحة من خلال استقرائنا للمواد المومأ إليها إلى الآتي:
– ما تشير إليه المادة 4 من المرسوم، تجعل قراءة النص القانوني بمفهوم المخالفة يعني أن عدم تعيين وحدة مسؤولة عن تدبير هذه النفايات من طرف مدير المستشفى أو المصلحة سبب كافي لإثارة مسؤوليته الشخصية في مواجهة المتضرر من النفايات الطبية، طبعا بعد ثبوت ذلك عن طريق الخبرة الطبية المتخصصة في هذا المجال، فلا يكفي مجرد التعويض المدني بل احتمال المساءلة الجنائية وارد خاصة إذا امتنع هذا الأخير، كما يلزمه القانون من ضرورة التوفر على وحدات مسؤولة عن هذه النفايات أو على طاقم مؤهل للتعامل السليم مع التدبير المؤذي والضار للنفايات الطبية والصيدلية.
– لننتقل إلى الافتراض جدلا أن الضرر والتلفيف والتخزين المشار إليه في المادة 6 من نفس المرسوم لم يحترم ضوابط المواصفات الجاري بها العمل المتعلقة بالأكياس المصنفة لكل نوع من النفايات الطبية والصيدلية على حدة، مثلا تم تلفيف النفايات ذات لون اصفر المحتوية للصنف أو ب المشار إليه في المادة 3 المرسوم دائما مكان النفايات ذات اللون الأحمر المتضمنة للنفايات من الصنف (1-أ) و(51-ج) فنشأت حادثة معينة لسبب رئيسي أو خارجي ألحق ضررا بضحية ما، من يتحمل المسؤولية؟ هل يمكن مساءلة الطبيب أو مدير المستشفى أو متعهدي جمع القمامة والنفايات الطبية والصيدلية؟
إن أي تحريك لهذه النفايات بهدف الجمع أو النقل أو التخزين أو المعالجة أو الاستخدام يجب أن يكون مرخص للقائم على التداول بهذا العمل، وطبيعي أنه لن يحصل على الترخيص إلا بعد استيفاء الاشتراطات اللازمة في اللائحة التنظيمية، فإذا كان “المتعهد” حاصلا على الترخيص فإن التعاقد معه سيكون جائزا، ولا شأن للطبيب أو المستشفى –بعد ذلك- في التزام “المتعهد” بشروط الترخيص من عدمه أو بعملية طرق النقل أو التخزين أو المعالجة أو الاستخدام من عدمه فهذا شأن الجهات الإدارية المختصة مانحة الترخيص .
والعقوبات التي جاء بها القانون الذي لم يفعل بعد –في هذه النقطة نعترض على التعليق الصحفي- ما دام القانون قد نشر بالجريدة الرسمية- تبدأ من دفع 200 درهم لتصل إلى 20 ألف درهم، أما العقوبة الحبسية فتراوح بين شهرين وسنتين سجنا، في المقابل ينفي غالبية الفاعلين في قطاع الصحة من أطباء وصيادلة ارتكابهم لأية مخالفات في مجال التخلص من النفايات الطبية وبالتالي التزامهم بالتخلص منها عبر التعاقد مع شركات مخصصة لهذا الغرض .
ونثمن ما جاءت به المادة 74 في الباب الثاني: “المخالفات والعقوبات” التي نصت: “يعاقب بغرامة من 10 آلاف (10.000) إلى مليون (100000) درهم وبحبس من شهر إلى سنة أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل من قام بتسليم نفايات خطرة لشخص أو لمنشأة غير مرخص لها بذلك بغرض معالجتها أو تثمينها أو إحراقها أو تخزينها أو التخلص منها”
وهو فصل صريح يشير إلى مسؤولية الأطباء الجنائية في حالة القيام بالأفعال المنصوص عليها في المادة أعلاه. فقد يبرم المستشفى أو الطبيب اتفاقا مع إحدى الجهات أو الشركات أو المصانع أو الوسطاء من شأنه شراء المشيمة والسقط والأعضاء الأدمية الأخرى الممكن الاستفادة منها لاستخلاص أدوية أو مستحضرات تجميل أو استعمالها في أغراض أخرى وهو ما يستخلص معه أن الجريمة الطبية في هذا الباب محتملة من جانب الطبيب أوجهة المستشفى إذ يكفي ثبوت الفعل الذي يسبب ضررا للغير -ضحية أخطاء النفايات الطبية- فيسأل الطبيب على إثر ذلك في هذه النقطة على أساس النص الخاص الذي جرمه قانون 00-28 لا على أساس القواعد العامة الفصلين 432 و 433 من القانون الجنائي المغربي، فالفعل أو الامتناع هنا، لا يتخد من الخطأ ركنا لقيام المسؤولية الجنائية بل يترجم فعلا محظورا يعاقب عليه القانون الطبي في الباب الثاني (المخالفات والعقوبات) من قانون 00-28 المتعلق بتدبير النفايات والتخلص منها بالعقوبة الحبسية دون السجنية مهما بلغت جسامة الضرر الذي يعد –المواطن- عرضة له في أي وقت وفي أي مكان، والأدهى أن المشرع المغربي يعتبر –ربما- أنها حالات استثنائية نادرة الحدوث.
ومن هذا المنطلق فإن راهنية الأطباء والمستشفيات والمصحات …على التأمين الطبي الذي ظل ردحا طويلا من الزمن يفتقر إلى الإرادة الطبية –المرفق والأطباء- لتلبية طلبات المضرورين من الحوادث الطبية يعتبر إسهاما قانونيا حقا، بمقتضى نصوص التشريع وإقرار القضاء لحماية ضحايا الأخطاء يبقى موضوعا للمناقشة والتحليل في النقطة اللاحقة.
ثالثا: دور التأمين الطبي في إقرار الحماية القانونية للمرضى
نظرا لأهمية التأمين على الأطباء للأخطاء الطبية فقد جعله المشرع الفرنسي إلزاميا لجميع العاملين في مجال الصحة، وكذلك المؤسسات الصحية وجميع التنظيمات العاملة في مجال العلاج والتشخيص والصحة، حيث يلزمهم جميعا قانون الصحة العامة الفرنسي الصادر عام 2002 بالتأمين لتغطية المسؤولية المدنية عن الأخطاء الطبية . وهكذا نجد جل المطالبات القضائية تتجه نحو الرجوع على المصلحة بالتعويض لملاءة ذمتها إذا ما قورنت بالأطباء العاملين لديها من جهة، ومن جهة أخرى لشمول التأمين المبرم من طرفها لمختلف الأضرار الناتجة عن أخطاء أجرائها، فما دامت المصحة قد أمنت مسبقا الضرر الناتج عن خطأ الطبيب الأجير، فلا مجال للبحث في مسؤولته الشخصية، كون النتيجة المنطقية لعقد التأمين تفرض الرجوع عليها مع إحلال شركة التأمين التي تبقى متعهدة بجبر الضرر، وذلك ما حدا بالقضاء المغربي إلى إقرار مسؤولية المصحة استنادا إلى مقتضيات عقد التأمين، فقد جاء في قرار المجلس الأعلى عدد 1327 مؤرخ في 04/05/2005 وهو قرار حديث للمجلس الأعلى:
“المحكمة أجابت عن الدفع المثار في الوسيلة بقولها أن الثابت من عقد التأمين أن الضمان يشمل جميع الأضرار اللاحقة بمرضى المصحة بسبب الأخطاء المرتكبة من طرف الأطباء العاملين بها، وهو ما اصطلح عليه بالاشتراط لمصلحة الغير، وبذلك تكون المحكمة قد اعتبرت عن صواب أن من حق المطلوبة المتضررة رفع الدعوى المباشرة على الطالبة وفقا للقواعد العامة المبنية على الاشتراط لمصلحة الغير حيث يكون لهذا الغير أن يطلب باسمه من المتعهد تنفيذ التزامه نحوه ما لم يمنعه العقد من ذلك الشيء الذي يثبت من نصوص وثيقة التأمين التي اعتمدتها المحكمة والتي تفيد انصراف إرادة المتعاقدين إلى ترتيب حق التعويض لفائدة مرضى المصحة عن الأضرار اللاحقة بهم من أخطاء الفريق المعالج التابع لهما في ذمة المتعهدة شركة التأمين التي التزمت بدفع التعويض” .
وإذا كان كل من الواقع والممارسة الطبية والاجتهاد القضائي يسير في اتجاه إقرار مسؤولية المستشفيات العمومية والمصحات والعيادات والمستوصفات عن التأمين، فإن قانون 10.94 المتعلق بمزاولة الطب يخلو من أي إشارة لذلك، وهو ما يستنتج أيضا من القانون الداخلي للمستشفيات السابق ذكره، وأيضا ظهير 28.00 المتعلق بتدبير النفايات والتخلص منها، وكذا المرسوم التطبيقي له رقم 139-09-2.
ذلك ما تنبه إليه المشرع الفرنسي فنص على إجبارية التأمين من المسؤولية المدنية في الفصل 1142 من قانون 14 مارس 2002 ، وألقى على عاتق الأطباء والمؤسسات الطبية عبء تعويض الأضرار الناجمة عن انتقال العدوى واعتبر المسؤولية متحققة في بعض الحالات دون تحقق خطأ الطبيب، مما كان له أثر سلبي على الأطباء، حيث رفضت شركات التامين تغطية مسؤولية الاطباء، أو قبول تغطيتها نظير أقساط مرتفعة، وهو ما شكل عقبة أمام تطيق نظام التأمين .
وما ينبغي الإشارة إليه، أن حتى في حالة تمام عقد التأمين، فهذا لا يعني بتاتا أن المضرور من خطأ طبي سيحصل على التعويض المدني مباشرة بل لا بد من تخطي عقبة الإثبات،فالمؤمن له – الطبيب أو المستشفى- ملزم بعدم الاعتراف بالمسؤولية وعدم التصالح مع المضرور، فالمادة 214-2 من قانون التأمين الفرنسي الحالي المقابلة للمادة 30 من قانون1930فيها ما يلي: “يمكن للمؤمن أن يشترط أي اعتراف بالمسؤولية وأي تصالح يجري خارجا عنه، لا يمكن الاحتجاج به عليه، الإقرار بالوقائع المادية لا يعتبر اعترافا بالمسؤولية”.
كما جاء في المادة 25 من قرار 25 يناير 1965 ما يلي: “… ولا يمكن أن يتعرض على الشركة بأي اعتراف بمسؤولية ولا بأي صلح يتم دون علم الشركة، كما أن الاعتراف بالصيغة المادية لفعل من الأفعال لا يمكن أن يشبه باعتراف بمسؤولية، وكل عمل إنساني ينجز لفائدة المصاب مثلا العلاجات الطبية والصيدلية المقدمة لجريح وقت وقوع الحادثة أو مثل نقله لمنزله أو المستشفى لا يمكن اعتباره بداية صلح أو قبول لمسؤولية ما عدا إذا كان يترتب عنه تعهد”
وقد أكد كل من المشرع المغربي والفرنسي على ضرورة الفصل بين الاعتراف بالمسؤولية والإقرار بالوقائع المادية والتمييز بينهما، فإذا كان اعتراف المؤمن له بمسؤوليته ممنوع بموجب شرط في العقد، فإن الإقرار بوقائع الحادثة جائز، ولا يعطل حق المؤمن في إدارة دعوى المسؤولية، ذلك أن الوقائع المادية ملك لمن يطلبها ولا يجوز أن يتفق المؤمن والمؤمن له على إخفائها إضرارا بالمصاب، والتزام الصمت بشأنها أو عدم الإدلاء بها يعوق سير العدالة ويضللها، ويكون الضحية في نهاية المطاف هو المصاب في الحادثة .
وهو ما يظهر منه قياسا أن القانون يتصدى لضحية الخطأ الطبي وغايته التوفيق بين مصالح متعارضة – ضحية الخطأ الطبي ومصلحة شركات التأمين- ما يجعل التسليم بأن المسؤولية الطبية قائمة على أساس تحمل التبعة في نطاق التأمين أو في نطاق صندوق مشترك يكون خصيصا لهذا الغرض ، ولا يكتمل مردودها المدني على وجه الخصوص لضحية الخطأ الطبي إلا عبر تعديل أو بالأحرى ترميم مدونة التأمينات بنصوص قانونية من شأنها النهوض بالشأن الطبي. وليس الإجهاز عليه، وهو ما ينبغي على المشرع التدخل العاجل والمستعجل لمواكبته.
الفصل الثاني: نطاق المسؤولية الجنائية للأطباء في ضوء العمل القضائي
يتيح العمل فرصة الاتصال بزملاء المهنة على اختلاف اتجاهاتهم، مع ما يثيره ذلك من مشاكل قد تدفع إلى بعض صور السلوك الإجرامي، بل إن الممارسة اليومية للعمل قد تكون مناسبة يتعرض فيها الشخص لظروف تدفعه إلى الإجرام .
وإذا كان للمهنة دور مهم في تحديد الالتزامات التي تثقل كاهل المهني في علاقته مع زبنائه أو عملائه، فإنها تلعب دورا بارزا في مجال المسؤولية وتعيين نطاقها ، والمشرع المغربي حدد الجرائم التي يمكن أن يرتكبها الطبيب وتترتب مسؤوليته جنائيا، إلا أنه لم ينظم هذه الجرائم في مدونة قانونية خاصة، بل نجد بعضها وارد في القانون الجنائي والبعض الآخر متناثر ضمن قوانين خاصة ، ولعل أول ما يلفت الانتباه بالنسبة لنظامنا الجنائي هو تشتت النصوص والمقتضيات الجنائية في عدة قوانين خاصة، على نحو يجعل ما الصعوبة بمكان – عمليا- الاطلاع عليها والاهتداء إليها بسهولة ويسر، حتى أننا لا نجد قانونا خاصا لا توجد مقتضيات زجرية ، ولعل تحديد نطاق العمل القضائي في الجرائم الطبية تحيد مواقفه أحيانا عن منطق الليونة والتساهل إلى اتخاذ موقف الحزم والشدة مع فئة غير قليلة من الأطباء التي تخرج عمدا عن السلوك الواجب الالتزام به في مهنة الطب، أو ثلة من الأطباء المنضبطة لعادات وأعراف المهنة الطبية على ضوء معيار الخطأ الذي تقوم عليه المسؤولية في الجرائم الغير العمدية، وإذا كان علماء الإجرام يتفقون على حقيقة يتم إثباتها بالاستناد إلى المعطيات الرقمية للإحصائيات الجنائية نفسها، وهي أنه منذ تاريخ ارتكاب الجريمة وقيام الشرطة بالتحقيق في ظروف وماديات ارتكابها، وصولا إلى تدخل النيابة العانة، وصولا إلى إحالة المتهم على العدالة الجنائية قصد محاكمته، أي كلما تعددت إجراءات المتابعة والأجهزة المكلفة بالقيام بذلك، كلما قلت حظوظ إصدار أحكام الإدانة، وبالتالي إدراجها ضمن إحصائيات القضاء ، فإنه يصعب عمليا تحديد ماديات الجريمة الطبية بين جرأة النصوص القانونية وافتقارها للعقوبة المتكافئة للفعل أو الامتناع في الجريمة الطبية، وبين تجزيئ القضاء لكل جريمة على حدة خارج النصوص العامة – القانون الجنائي المغربي- إلا استثناءا يتطلب من القاضي جهدا جبارا للاطلاع والمعرفة بالقوانين والنصوص التي توجب العقوبة الجنائية للمخالفات والجرائم الطبية.
لذلك ومحاولة منا لمعالجة “نطاق الجرائم الطبية للطبيب بين سبل التشريع وعمل القضاء” في هذا الفصل تقسيمه إلى مبحثين:
المبحث الأول: التطبيقات القضائية للمسؤولية الجنائية للطبيب الناشئة عن خطأ غير عمدي
المبحث الثاني: محدودية تدخل القضاء في المسؤواية الجنائية للطبيب وخالات انتفائها
المبحث الأول : التطبيقات القضائية للمسؤولية الجنائية للطبيب الناشئة عن خطأ غير عمدي
لعل المرجع الأساسي الذي يتم الركون إليه في حالة عدم وجود تعريف مدقق لمفهوم معين في قانون معين، هو الشريعة العامة لقوانين الشكل أو الموضوع. وما دمنا في كنف الشق الموضوعي-القانون الجنائي المغربي- ونحن بصدد دراسة صور الخطأ الطبي المنحدر من مفهوم الخطأ بشكل عام، هذا الأخير الذي لم يتعرف التشريع بيانه في نطاق الأعمال الطبية، ولم يخلع له إسما معينا، مما حدا بالقضاء إلى القواعد العامة في المسؤولية الجنائية للأطباء شأنهم في ذلك شأن جميع أرباب المهن الأخرى كالمهندسين والصيادلة، وذلك لقلة النصوص الصريحة في هذا الجانب، اللهم ما كان من الفصلان 432 و 433 اللذين يشكلان نصا عاما يطبق على الطبيب كما يطبق على غيره.
وباعتبار أن الطبيب يجد مبرر تدخله وتعرضه لأجسام الأشخاص في الفصلين 124-125 من القانون الجنائي لكون مهنة الطب تعتبر واجبا إنسانيا، والأفعال التي يقوم بها أوجبها القانون وأمرت بها السلطة الشرعية، فإنه وجب لتقرير مسؤولية الطبيب إثبات ارتكابه خطأ أدى إلى وفاة أو جرح أو إلى تشويه الخلقة أو بتر أحد الأعضاء . و حيث أن المشرع أورد في نصوص مختلفة من المجموعة الجنائية صورا للخطأ الجنائي، وهي من الشمول بحيث تتسع لجميع حالات الخطأ التي يمكن تصورها في الواقع ما دام المشرع الجنائي المغربي في هذا الإطار قد نحى منحى التشريعات التي عددت صور الخطأ الجنائي إلا أنه لم يذكرها جميعا إلا في الفصلين 432-433 وهي كلها صور لجرائم غير عمدية وردت في صياغة عامة، لم تحدد الخطأ بعينه مما يعني أنه خطأ قابل لأن ينطبق على الطبيب، بتوافر إحدى هذه الصور فقط دون الأخرى.
وهي صور لأخطاء طبية مادية، أي أنها تشكل صورا للخطأ العادي، في حين الأخطاء الطبية الفنية هي حالات لأخطاء مهنية ذات صلة بأعمال الطبيب في مراحل مختلفة تبتدئ من مرحلة التشخيص حتى تصل أخطاء تحرير الوصفة الطبية أي عملية تنفيذ العلاج بصورة غير مباشرة أو مباشرة في علاقته بالمريض.
ولإلقاء الضوء على هاته الأمور، سنقسم هذه الفقرة إلى نقطتين أيضا، نعمد فيها إلى بسط أهم الجوانب لتسليط الضوء على أشكالها حتى تمد القارئ عموما والباحث في المجال الطبي خصوصا، بالسمات الجوهرية التي تنفرد بها هاته الصور. وذلك من خلال القواعد القضائية المسطرة في هذا الباب.
فما هي إذن أهم التطبيقات القضائية لهذه لصور الخطأ الطبي؟ و كيف يمكن مؤاخذة الطبيب على جرمه الغير العمدي وعلى أي أساس؟.
المطلب الأول: التطبيقات القضائية لصور الخطأ الطبي الواردة في القانون الجنائي المغربي
الفقرة الأولى: عدم التبصر وعدم الإحتياط
1-عدم التبصر
لعل من أهم التطبيقات القضائية الفرنسية ما قضت به محكمة النقض الفرنسية في هذا الشأن: “الذي أحدثه في رحم المجني عليها بجهاز الشفط، ثم أمره بإيقاف فحص التجويف البطني عن طريق المسطرة الذي أمر به طبيب التخدير، وانتهاء بعدم فتح البطن الذي كان ضروريا لإيقاف نزيف داخلي حاد” وأيضا ما قضت به محكمة السين Seine بتاريخ 25 يناير 1949 حينما أدانت” طبيبا جراحا بجنحة الإصابة الخطأ لرعونته وإهماله، حينما أجرى عملية جراحية في الفخذ الأيمن للمريض بدلا من الأيسر، في حين لو رجع إلى الملف الخاص بالمريض لوجد أن صورة الأشعة والبيانات المدونة الخاصة به تشير إلى موضع العملية الصحيح وبالتالي كان في استطاعته تجنب الوقوع في هذا الخطأ ولو تذرع بالحيطة والعناية، وهذا يكفي بإدانته بجنحة الإصابة الخطأ” وفي نفس المعنى أدانت محكمة Douie بتاريخ 12 نوفمبر 1952 “طبيبا جراحا خالف ما جرى إليه العمل بين الأطباء من حيث الإستعانة أثناء إجراء العملية الجراحية بمتخصص حاصل على دبلوم في التخدير أو على الأقل ذو خبرة طويلة في هذا الفن والإكتفاء بإسناد مهمة التخدير لعاملة بسيطة رغم علمه بأنها غير حاصلة على دبلوم فني في التخدير وعديمة الخبرة بالمواد المخدرة مما أدى إلى وفاة المريضة أثناء التخدير” .
أما ما يتعلق بالقضاء المصري، نجد ما قضت به محكمة النقض بأن: “الآثار الحيوية الموجودة برأس الجنين الذي عثر عليه الطب الشرعي بالتجويف البطني تشير إلى أنه وقت إجراء عملية التخدير كان الجنين مازال حيا وغير متعفن كما يقرر المتهم، وأنه يفسر تشخيص المتهم لوفاة الجنين ما زال حيا وغير متعفن كما يقرر المتهم، فضلا عما ظهر من وجود تمزق كبير بالرحم، وأن ذلك مفاده أنه قد أخطأ في الطريقة التي اتبعها في إنزال الجنين الأمر الذي أدى إلى حدوث الوفاة نتيجة تمزق الرحم وما صحبه من نزيف وصدمة عصبية. وانتهى الطبيب الشرعي في تقريره إلى أن ذلك في رأيه يعتبر خطأ مهنيا جسيما. وأنه كما يزيد من مسؤولية المتهم أنه قد فوت على المجني عليها فرصة علاجها على يد أخصائي بعدم تحويلها إلى أحد المستشفيات ثم خلص الحكم إلى ثبوت الإتهام المسند إلى الطاعن في قوله: “و من حيث أنه يتبين مما تقدم أن التهمة الأولى ثابتة من أقوال الشهود سالفة الذكر. قد جاءت قاطعة الدلالة على أن المتهم أجرى عملية إجهاض للمجني عليها أودت بحيلتها ومن أقوال المتهم نفسه، وقد اعترف بإجرائه تلك العملية مستعملا جفة البويضة، ومع التقرير الطبي الشرعي و قد ثبت منه أنه ما كان ينبغي للمتهم استعمال ذلك الجفت وهو يدرك أن المجني عليها في الشهر الخامس الرحمي، كما أن استعمال تلك الآلة قد أدى إلى إحداث تمزيق كبير في الرحم، و أن ذلك يعتبر خطأ مهنيا جسيما من المتهم. و لما كان ذلك، وكانت القاعدة أن الطبيب أو الجراح المرخص له بتعاطي أعمال مهنية لا يسأل عن الجريمة العمدية وإنما يسأل عن خطئه الجسيم، وكان المتهم قد أخطأ في إجراء تلك العملية خطأ جسيما فأهمل ولم يتبع الأصول الطبية. ولا أدل على جسامة خطئه من تركه رأس الجنين وقد وجدها الطبيب الشرعي بالتجويف البطني عند تشريح جثة المجني عليها ولما كان ذلك قد أدى مباشرة إلى وفاة المجني عليها فإنه يتعين إدانة المتهم طبقا للمادة 238 من قانون العقوبات”
وهو ما يدل على أن عدم التبصر – الرعونة – كأحد صور الخطأ الطبي الجنائي تنطبق على التعريف الذي رسمه الدكتور أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح:
“هو عدم إدراك الجاني لحقيقة الأخطار التي يمكن أن تترتب على فعله”.
و بالنسبة للقضاء المغربي نجد تطبيقا بارزا لخطأ عدم التبصر الجنائي في حكم حديث صادر عن ابتدائية واد زم بتاريخ 10/07/2006 الطبيب المعالج والطبيب رئيس المستوصف والممرض الرئيسي والمسؤولة عن الصيدلة مشيرا:
“وحيث أنه بالنظر إلى طبيعة العلاقة التي تربط الطبيب بمريضه التي تحكمها اعتبارات شخصية، يجب أن يباشر الطبيب بنفسه علاج المريض وأن يتتبع بنفسه حالته. وإذا ما قرر الإعتماد على شخص آخر فإنه يبقى مسؤولا إزاء مريضه ويكون مسؤولا عندما يكلف آخر ليحل مكانه عند غيابه إذا تبين أن هذا الأخير لا تجربة له…
وحيث أن إقدام الطبيب الأول على وصف الدواء دون أن يكلف نفسه عناء تتبع حالة المريضة الصحية، وحيث إنه و كما معلوم أن العلاج بالعقاقير والأدوية بات ينذر يوما بعد يوم بمخاطر جمة إذا لم يتقن استعمالها وفقا لمعايير دقيقة ومحكمة. ونظرا لما تنطوي عليه من مواد قد تصل إلى درجة عالية من الخطورة وكل ذلك يقتضي من الطبيب الإلتزام في علاج مرضاه جانبا كبيرا من اليقظة والحيطة لئلا يقع في أخطاء فلا يمكن تدارك عواقبها كما يقتضي منه أخذ كل الحيطة عندما يضطر إلى استعمالها ومتابعة مدى تأثير الدواء على المريض وما إذا كانت له مضاعفات أم لا…
وحيث اعترفت الظنينة الخامسة تمهيديا باعتبارها الممرضة التي أشرفت على عملية الحقن بأنه استعصى عليها إيلاج شوكة الإبرة وأعادت ذلك مرة ثانية بعد تسريح مجرى الدم، وحيث إن من واجب هذه الأخيرة أيضا التأكد من صلاحية الدواء وأخذ كافة الإحتياطات اللازمة لتفادي وقوع أي خطر محتمل حيث كان يتوجب عليها بعدما استعصى عليها إيلاج الشوكة إخبار الطبيب بذلك لكي يتسنى لهذا الأخير التدخل ومعرفة سبب هذه الصعوبة وتفادي أي مضاعفات يمكن أن تنجم عن ذلك الشيء الذي لم تقم به مما يعد ذلك أيضا تقصيرا وعدم تبصر وإهمال من طرفها بصفتها ممرضة وتضطلع بمسؤولية جسيمة…
وحيث إنه ومن خلال تفحص مختلف أوراق الملف فإن الظنينة الرابعة هي التي تتولى حراسة صيدلية المستوصف وهي المسؤولة عن الدواء المتواجد بها، وحيث إن عملها هذا يقتضي منها بالدرجة الأولى معرفة صلاحية الدواء قبل تسليمه للممرضة…
وحيث أضافت الظنينة الرابعة في تصريحها التمهيدي بأنها تقوم بمعية كل من طبيب المستوصف والممرض الرئيسي بإحراق الدواء عندما يصبح فاسدا.
وحيث تكون بذلك مسؤولية الطبيب باعتباره رئيس المستوصف جسيمة كما أن مسؤولية الممرض الرئيسي والمسؤولة عن الصيدلة جسيمة أيضا سيما و أنهم مسؤولون عن صلاحية الأدوية المتوفرة بالصيدلية التابعة للمستوصف…
وحيث إن كل واحد من هؤلاء الأظناء أخل بالتزام عام يفرضه القانون على الناس كافة، وهذا يقتضي أن يتجنب الإنسان كل تصرف من شأنه المساس بالحقوق والمصالح التي يحميها القانون وأن يكون متبصرا بعواقب تصرفاته وهذا الإلتزام يفترض أن يكون الوفاء به ممكنا وإذ ” لا إلتزام إلا بمستحيل، ولا تكليف إلا بمقدور كما يقول الأصوليون”.
وحيث إن ما كان مفروضا على الأظناء كان ممكنا تفاديه بأخذ التبصر وترك الإهمال و اللامبالاة واحترام النظم والقوانين المعمول بها، و حيث إنه ما دام أن عمل هؤلاء الأشخاص هو جسم الإنسان فالقانون يقرر أن كل أذى يلحق بجسم الإنسان بعدم تبصره أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله وعدم مراعاته النظم والقوانين يشكل جريمة يعاقب عليها القانون الجنائي حسب ما يستفاد من الفصل 433 وهو فصل المتابعة أعلاه.
وحيث تكون بذلك أفعال الأظناء عدم تبصر وإهمال وعدم مراعاة للنظم والضوابط أدى إلى إصابة الضحية بشلل على مستوى أطرافها السفلى وحيث إن العلاقة السببية بين ما تعرضت له الضحية والخطأ في حق المتهمين الأول والثاني والرابعة والخامسة ثابتة وفق ما هو مبين أعلاه بشكل لا يرقى إليه الشك سيما وأن حالة المريضة بعد الإصابة شخصت على أساس أن ما حصل لها كان نتيجة حقنها بمادة الأكستنسلين بصفة مباشرة…”
لئن كان الحكم أعلاه يحوي جميع صور الخطأ المنصوص عليها في إطار الفصلين 432 و 433 من القانون الجنائي المغربي، فإنه يجعل وكما أومأنا أنه ليس ضروريا أن يكون الخطأ الطبي الجنائي الذي يدخل في تكوين الجنحة خطأ غير منفصل عن صور الخطأ لقيام مسؤولية الطبيب الجنائية عن أخطائه المهنية. فعنصر الإتصال والترابط بين صور الخطأ الطبي ليس شرطا لتحريك المسؤولية الطبية بل تخلف إحداها لا يؤثر على مجريات الواقعة الجرمية الطبية.
ولا مجال للإحتجاج بأن هاته الصور قد وردت على سبيل الحصر حتى نقول بانتفاء مسؤولية الطبيب الجنائية لتظل حكرا فقط على الخطأ المدني في إطار قواعد المسؤولية المدنية. لأنه حتى وإن سلمنا بذلك فالصور الأربعة الواردة في إطار الفصلين 432 و433 تكون كافية لاحتواء جميع عناصر الخطأ بكافة أشكالها كيفما كانت مدنية أو جنائية. و في هذا الصدد يتجه أيضا الدكتور أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح:
“الصور التي ذكرها المشرع من الإتساع بحيث يمكن أن تشمل كل صور الخطأ التي عدد المشرع”.
لننتهي أن مؤاخذة الطبيب عن جرمه الغير العمدي، في عدم التبصر كأحد صور الخطأ الطبي قياسا على صور الخطأ بشكل عام، تتطلب ثبوت المنسوب إليه بتوافر العلاقة السببية بين الخطأ والضرر. غير أن أهم المفارقات القضائية تجعل من ثبوت ذلك مجرد جنحة موقوفة التنفيذ، مما يجسد سمو عمل الطبيب على رقابة القضاء كما في الحكم أعلاه. فأي ضمانة تبقى لضحية الخطأ الطبي الجنائي في ألفية ثورة النصوص الدستورية والقوانين المعدلة كما هو الشأن لدستور المغرب فاتح يوليوز 2011 الذي نص في فصله 22:
“لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، و من قبل أي جهة كانت خاصة أو عامة.
لا يجوز لأحد أن يعامل الغير تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أولا إنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية
ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون”.
وحامي الحقوق و الحريات – القضاء – يقف عاجزا أمام بحر العلوم عام، و الطب خاصة. باعتبار مهنة الأطباء تقوم على تقديس حياة الإنسان والحفاظ على جسمه، فيتساهل في تطبيق النصوص رغم جرأة -بعض-الأطباء واستخفافهم بواجبهم وعدم رعايتهم لقواعد المهنة. فالخدمات ومراكز الإستقبال الصحية ببلادنا هي – أعرف من أن تعرف – فمتى يعي المشرع خطورة الوضع وإلى متى ستظل فصول المتابعة الجنائية غير قابلة للتنزيل تحت ذريعة تعاطف القاضي الجنائي، ووسيلته في ذلك سلطته التقديرية غير الخاضعة لرقابة المجلس الأعلى في غير مقام الشأن الطبي؟
هذا ما يهم عدم التبصر كأحد صور الخطأ الطبي، فماذا يمكن القول عن عدم الإحتياط كصورة أخرى لا تخلو أهمية من نشاطات وسلوكات طبية ذات طابع
إيجابي؟
2 – عدم الإحتياط
أما القضاء المصري فقد ذهب بدوره إلى إدانة طبيب في نقض جنائي ارتأينا أن نعرضه أدناه بالتفصيل:
“وحيث أنه يبين من الحكم الإبتدائي المؤيد لأسبابه والمكمل بالحكم المطعون فيه أنه حمل واقعة الدعوى بما هو مجزء أن المجني عليه مورث المطعون ضدهم كان يعمل حدادا بشركة مصر للبترول (الطاعنة الأخرى) وفوجئ أثناء عمله بدخول جسم غريب في عينه اليسرى فأخرجه، و لما توجه إلى طبيب الشركة أحاله إلى الطاعن بوصفه أخصائيا في الرمد تعاقدت معه الشركة على علاج العاملين بها، و بعد أن أوقع الكشف الطبي عليه حقنه في عينيه و أجرى له جراحة في عينيه معا ثم صرفه بعد ساعة من إجراءها و ظل يتردد على الطاعن بسبب تورم عينيه ووجهه حوالي أربعين يوما للعلاج أن تحقق فيما بعد أنه فقد إبصاره مع أنه كان سليم البصر قبل الجراحة التي لم يستأذن الطاعن في إجرائها. ولم يجري مخصوصا قبلها وقد تخلفت لديه بسبب الطاعن عاهة مستديمة وهي فقد بصره كلية، وبعد أن عرض الحكم لبيان مختلف التقارير الطبية الفنية المقدمة في الدعوى وأقوال واضعها أثبتت أن المجني عليه لم يكن في حاجة إلى الجراحة بالسرعة التي أجراها له الطاعن، عول في ثبوت خطأ الطاعن على ما أورده من تقرير أخصائي مصلحة الطب الشرعي الدموي مع أنه كان يتعين على الطاعن إجراء الفحوص الباطنية والمعملية اللازمة التي توجبها الأصول الفنية للمريض قبل الجراحة وأن إجراء الجراحة في العينين معا قد يعرض المريض إلى مضاعفات إذا أصابت العينين معا بسبب بؤرة مستكنه أو عدوى خارجية أو أثناء الجراحة قد تفقدهما الإبصار وهو ما حدث في حالة المجني عليه، و أن الجراحة لو أجريت على عين واحدة فقط لأمكن اتخاذ الإجراءات الواقية ضد الحساسية عند إجراء الجراحة على العين الأخرى، و لما حدثت المضاعفات في العينين معا مما أدى إلى فقدهما الإبصار كلية، فضلا عن أن الطاعن أخصائي في طب العيون فإنه يطالب ببذل غاية الحذر في علاجه” وهو ما أكده الحكم المستأنف: “… وبذلك يكون المتهم مسؤولا عن النتيجة التي انتهت إليها حالة المريض وهي فقد إبصاره لا بسبب خطأ علمي وإنما كان نتيجة عدم تبصر شخصي منه وهو أمر معنوي تقديري ليس ميزان خاص”.
أما محكمة النقض فقد عللت تأييدها للحكم المطعون فيه بما يلي: “… فإن هذا القدر الثابت من الخطأ يكفي وحده لحمل مسؤولية الطاعن جنائيا ومدنيا، ذلك أنه من المقرر أن إباحة عمل الطبيب مشروطة بأن يكون ما يجريه مطابقة للأصول العلمية المقررة، فإن فرط في اتباع هذه الأصول أو خالفها حقت عليه المسؤولية الجنائية بحسب تعمده الفعل ونتيجته أو تقصيره وعدم تحرزه في أداء عمله، وإذا كان يكفي للعقاب على جريمة الإصابة الخطأ أن تتوافر صورة واحدة من صور الخطأ التي أوردتها المادة 233 من قانون العقوبات، فإن النسف على الحكم بالخطأ في تطبيق القانون في هذا الخصوص يكون غير سديد”.
أما التطبيقات القضائية لهذا النشاط الإيجابي كصورة من صور الخطأ الجنائي في المغرب فقد أدانت المحكمة الإبتدائية بالبيضاء في حكم جنحي صادر عنها في 19 فبراير 1988 “”طبيبا جراحا متخصصا في فن التوليد لعدم اتخاذه الإحتياطات الكفيلة بالحفاظ على حياة المريضة الضحية على الرغم من توفره على بطاقة المعلومات الشخصية بها… حيث إنه لم يعمل قبل إجراء عملية الولادة على اخذ صور للجنين داخل بطن أمه حتى يتمكن من معرفة وضعيته، ولم يقم بتهيئ كمية الدم اللازمة لحالة الطوارئ، ولا بتهيئ المحضنة لاستقبال المولود الذي ولد بتاريخ سابق لتاريخ الولادة (30 أسبوعا)، وإنما عمد إلى عملية قلب الجنين داخل الرحم وتوليد الضحية دون إجراء فحوص دقيقة، ودون حضور الطبيب المخدر المنعش مما عجل بوفاة المريضة”.
وفي حكم ابتدائية تازة و التي تتلخص وقائعه في أن “طبيبة مختصة في أمراض النساء و الولادة قامت بإجراء عملية قيصرية لسيدة قصدت عيادتها للولادة، و بعد إجراء العملية استمرت تحس بالآلام على مستوى رحمها اضطرت منه المريضة إلى مراجعة الطبيبة عدة مرات. إلا أن حالتها ازدادت سوءا و اضطرت إلى الإنتقال إلى مستشفى إبن سينا بالرباط حيث خضعت لعملية جراحية تبين من خلالها أن الطبيبة التي أجرت العملية القيصرية نسيت جسما غريبا في بطنها هو عبارة عن ضماد تسبب في تعفن الرحم، حيث خضعت لعملية جراحية لإزالة هذا الجسم الغريب و هو من مخلفات العملية الأولى المنجزة من طرف المتهمة… و بالتالي تبقى هذه الأخيرة مسؤولة عن ذلك مسؤولية كاملة في إطار الفصل 433 من ق. ج لعدم تبصرها أثناء عملية إغلاق الجرح و إهمالها في احتساب ما استعملته من قطع نسيج أثناء العملية بصورة دقيقة و مركزة خاصة و أن مسؤولية الطبيبة في هذا الشق لا تندفع بمبدأ إبداء غاية أو تحقيق نتيجة. مما يتعين مؤاخذة المتهمة بما نسب إليها وفق فصل المتابعة…”
على أن الأحكام لا تنتهي دائما بالإدانة ومؤاخذة الطبيب بالمنسوب إليه، فقد ذهبت المحكمة الإبتدائية بتازة في جنحة الإيذاء الغير العمدي نتيجة عدم اتخاذ الإحتياطات اللازمة طبقا للفصل 433 من ق ج معللة حكمها في قضية ولادة ترتب وجود شلل الظفيرة بيد الوضع الآتي:
“… وحيث أنه وما دامت الولادة قد تمت بطريقة عادية وأن المولود استمر حيا بعد ذلك وهو ما يؤكد أن الطبيب المولد استعمل يقظته وحنكته وراعى في هذه الولادة للحفاظ على حياة الأم والمولودة خاصة. وأن تقرير الخبرة أفاد أن الطبيب كان أمام ولادة مستعصية ومستعجلة تطلبت إجراءاها خلال 20 دقيقة بالنظر لكون الأم لم تلتحق بالمصحة إلا خلال الساعة الرابعة وأربعين دقيقة مساء، وأن الوضع كان على الساعة الخامسة مساء وهي العناصر التي تدخلت بدورها في جعل الولادة مستعصية وأن الشلل الجزئي للظفيرة الذراعية اليمنى للمولودة ما هو إلا نتيجة محتمة لمثل هذه الولادة في مثل هذه الظروف، وهو ما أكد الشاهد في معرض شهادته.
وحيث أنه لم يثبت للمحكمة من خلال ما ذكر أعلاه أن المتهم قام أو ارتكب إهمالا أو لم يراع القوانين والنظم ولم يتبصر خلال عملية الولادة، مما تبقى معه العناصر التكوينية لجنحة الفصل 433 من ق ج غير متوفرة هذا من جهة، ومن جهة أخرى الطرف المشتكي صرح في محضر الضابطة القضائية أنه زار الطبيب في العيادة صباحا ونصحهم بارتياد المصحة على الفور لكن لم يلتحقوا إلا خلال المساء وبعد الزوال مما يؤكد صحة ما ورد بشهادة الولادة من ضبطه للتواريخ لم ينازع فيها المشتكين رغم اطلاعهم عليها بعد الولادة.
وحيث أن المحكمة من خلال المناقشات الشفاهية وما راج أمامها وانطلاقا من معطيات الملف لم يثبت لديها العناصر الكافية للقول بإدانة المتهم خصوصا وأن عمل الطبيب ليس مبنيا على تحقيق نتيجة وإنما بذل عناية.
وحيث أن الأصل هو البراءة وأن الشك يفسر لمصلحة المتهم وهي القاعدة القانونية التي ارتأى نظر المحكمة إعمالها أمام عدم ثبوت السبب المباشر في حدوث الضرر وعدم إمكانية الجزم بكونه ناتج عن إهمال الطبيب وتقصيره وارتأت تبعا لذلك القول ببراءته” .
إن مؤاخذة الطبيب بأحد صور الخطأ المنصوص عليها في الفصلين 432 و433 من القانون الجنائي المغربي تستلزم على الطبيب الحيطة والحذر، وإلا أصبح مسؤولا في مواجهة مريضه أمام القضاء الجنائي الذي لن يحيد ويتوارى في تطبيق قواعد الخطأ الغير العمدي، في حالة ثبوت القصد الجنائي للطبيب في تخلفه عن القيام بما كان يلزم، واتخاذه كافة سبل الإحتراز الواقعي والمادي والمهني لدحض ما يواجه به، سواء من طرف النيابة العامة في إطار تحريك الدعوى العمومية، أو من ضحية عمله الطبي جنائيا أو مدنيا في إطار الدعوى العمومية أو الدعوى المدنية التابعة لها، و أيضا في إطار أحكام المسؤولية المدنية أمام القضاء المدني.
هذا ما قد يخلفه الخطأ في عدم الإحتياط فماذا بخصوص الإهمال وعدم الإنتباه الطبي اتجاه المريض؟ و ما هو أثره القانوني الجنائي في الجريمة الطبية؟
الفقرة الثانية: الإهمال وعدم مراعاة النظم و القوانين
1 – الإهمال و عدم الإنتباه
ففي القضاء المصري نجد حكم لمحكمة النقض يقضي في هذا الصدد: “حيث أن الحكم المطعون فيه في سياق بيانه لواقعة الدعوى قد أورد العناصر التي يتوافر فيها ركن الخطأ فيما نسب إلى الطاعن فقال أن المصاب عرض على المتهم الثاني المفتش للصحة فأثبت أن به إصابات من عقر الكلب وظل يعالجه فترة ادعى أنه شفي في حين كانت تبدو منه حركات غريبة لاحظها أقارب المجني عليه بعد خروجه من عيادة المتهم الثاني، فذهب خال المجني عليه يرجوه في أن يرسله لمستشفى الكلب لمعالجته فرفض الطاعن، ثم ذكر الحكم أن الخطأ الذي وقع من الطاعن هو امتناعه عن إرسال المصاب إلى مستشفى الكلي ليعطى المصل الوافي أخذا بما جاء بتقرير الطبيب الشرعي من أن الإصابات كما وصفت بتقرير الطبيب الكشاف تقع بالأنف والجبهة مما يحتم معه إرسال المصاب فورا لإجراء العلاج بالحقن دون انتظار ملاحظة الحيوان العاقر. و قال الحكم إن تصرف الطبيب على النحو الذي تصرف به كان سببا في وفاة المريض. و فيما أثبته الحكم من ذلك ما يدل على أن المحكمة قد استظهرت وقوع الخطأ من الطاعن الذي أدى إلى وفاة المجني عليه. لما كان ذلك، و كانت المادة 238 من قانون العقوبات التي طبقتها المحكمة على جريمة الطاعن لا تستلزم توافر جميع مظاهر الخطأ الواردة بها. وإذا فمتى كان الحكم قد أثبت توافر عنصر الإهمال في حق المتهم “مفتش الصحة” بعد اتباعه بما يقضي به منشور وزارة الداخلية رقم 23 لسنة 1927 الذي يقضي بإرسال المعقورين إلى مستشفى الكلب، و لوقوعه في خطأ يتعين على كل طبيب أن يدركه ويراعيه بغض النظر عن تعليمات وزارة الصحة…”
والإهمال و عدم الإنتباه كصورة للخطأ الطبي السلبي في القضاء المغربي تظهر جليا في مجموعة من الأحكام والقرارات. حيث جاء في قرار لمحكمة استئناف تازة أدان طبيبة لم تراع اهتماما لازما على إثره نسيت قطعة ثوب في جسم المريضة ما تعليله: “… و هو ما يفيد أن المتهمة و أثناء إجراءها العملية المذكورة قد انعدم لديها التبصر ولم تتخذ الإحتياط ولم ترد انتباها بما تقتضيه القواعد الطبية العادية، إذ أن نسيان قطعة ثوب في الجسم وهو أحد أدوات إجراء العملية ليس من الأخطاء العملية والفنية الفائقة الدقة التي تقتضي تطبيق نظريات طبية قد يثبت نجاحها أو فشلها بتجربتها والتي يمكن التساهل فيها وعدم المساءلة، وإنما هو تقصير في مسلك الطبيب العادي ولا يقع من طبيب يقظ و نبيه وجد في نفس الظروف التي أحاطت به، أو هو إخلال بواجب سابق في عدم عد الضمادات والأدوات المستعملة عدا دقيقا والتأكد من استرجاع ما تم استعماله في جسم الضحية طالما أن الضحية تكون أثناء العملية فاقدة الوعي والطبيب مسؤولا عن سلامته.
وحيث إن ما سبق بيانه قد تسبب في ضرر للضحية ببتر الخرطوم الأيمن للرحم بسبب ما أصابه من تحلل وتعفن بسبب الخرقة المذكورة كما هو ثابت من التقرير المذكور وهو كاف للقول بثبوت مقتضيات الفصل 433 من ق ج في حق المتهمة…”
وفي هذا الصدد أدانت ابتدائية فاس في حكمها بتاريخ 24/05/2007 مكلف بالتخدير بتهمة التسبب في القتل الخطأ عن طريق الإهمال وعدم الإحتياط ومما جاء فيه: “حيث إن المتهم و عند الإستماع إليه في سائر المراحل أفاد أنه هو الذي قام بعملية تخدير الضحية أثناء قيام الطبيب بعملية جراحية على مستوى جانب أنفها بطول سنتمتر بشكل عمودي وأنها توفيت أثناء إجراء العملية الجراحية لها، و تبين للمحكمة أن سبب وفاة الضحية يدخل في إطار حادث تخدير، علاوة على أن الضحية كان بالإمكان إنقاذها ولو خضعت لطريقة إنعاش مؤطرة وسريعة من طرف المكلف بالإنعاش، و حيث وأن المحكمة ومراعاة لما اتضح لها أن المتهم ارتكب إهمالا أثناء تخديره للضحية وتقصير أثناء إنعاشها، ذلك أنه لم يتخذ الإحتياطات اللازمة أثناء عملية التخدير ولم يقم بعملية إنعاش للضحية سريعة ومؤطرة لإنقاد حياتها وبذلك تكون مقتضيات الفصل 432 من القانون الجنائي ثابتة في حقه”.
هذا عموما ما يتعلق بالإهمال وعدم الإنتباه كأحد صور الخطأ الطبي، فالمتتبع للعمل القضائي بشأن جريمة الخطأ الغير العمدي من خلال صور الخطأ الثلاث: “عدم التبصر، عدم الإحتياط، الإهمال وعدم الإنتباه” المضمنة في قانون العقوبات، إن على مستوى التشريعات المقارنة أو التشريع الوطني المغربي – الفصلين 432 – 433 من القانون الجنائي – سيستشف مدى الترابط والتناغم بين عناصر الخطأ الثلاث، مما يجعل مجرد توافر إحدى الصور كفيلا للقول بضم جميع الصور الأخرى في الفعل الجرمي، وكأن انتفاء ثبوت جميع الصور لا يلغي توافر مجرد أحد الصور في الخطأ حتى تتحقق المساءلة الجنائية في حق الطبيب عن أخطائه المهنية.
فالأحكام و القرارات الآنفة خير دليل على أن القضاء – المقارن والوطني- يسائل الأطباء عموما والأخصائيين بشكل خاص بمجرد وجود إحدى صور الخطأ الجنائي الذي يتسع ليشمل باقي صور الخطأ المحتملة خارج ما هو محدد في الفصلين 432 و 433، مما يجعل من الخطأ الطبي الجنائي في صوره الثلاث يندرج في سياق الخطأ العام والذي يشكل فيه مبدأ – عبء الإثبات – إشكالا قانونيا كونه رهينا بأمور مادية وفنية دقيقة تتسع معها دائرة التملص من المسؤولية الجنائية. في حين عدم مراعاة القوانين و الأنظمة كصورة رابعة من صور الخطأ الجنائي بمثابة صورة رابعة مستقلة عن الصور السالفة، و لذلك أطلق على هذه الصورة “بالخطأ الخاص” لتمييزه عن “الخطأ العام” الذي يتسع لبقية صور الخطأ.
وعليه كيف يمكن أن تتحدد المسؤولية في عدم مراعاة النظم والقوانين في المجال الطبي؟ و كيف يمكن مساءلة الأطباء في ضوء هذا “الخطأ الخاص”؟ و هل مجال الإثبات في هذه الصورة يتسع أم يضيق، ولصالح من؟ و هو ما سنقف عليه في النقطة الموالية.
2 – عدم مراعاة النظم و القوانين:
كما أسلفنا فإن لفظ القوانين واللوائح يحمل على أوسع معانيه، فلا يقتصر على اللوائح التي تصدرها جهات الإدارة، بل يشمل القوانين والقرارات والتعليمات التي توضع لحفظ النظام والأمن وصيانة الصحة العامة، ولعل أهم تطبيق قضائي لذلك، قرار لمحكمة النقض المصرية لسنة 1927 ورد فيه: “إذا كان الثابت أن مفتش الصحة قد أخطأ بعدم اتباعه ما يقضي به منشور الداخلية رقم 33 لسنة 1927 م والذي يقضي بإرسال المعقور إلى مستشفى الكلب، فإنه يكون مسؤولا عن وفاة المصاب”.
ويعد هذا القرار أهم تطبيق لهذه الصورة. وفي نقض مصري آخر بتاريخ 25 فبراير 1931 ذهبت محكمة النقض إلى أن: “الطبيب الذي يجري عملية دون أن يكون مرخصا له بمزاولة المهنة يرتكب المخالفة بذلك و جنحة الإصابة الخطأ. فلا يعاقب إلا على الإصابة إذ المخالفة والجنحة نشأتا عن فعل واحد هو إجراء العملية ولكن الطبيب في هذه الحالة يرتكب جرحا عمدا، لأن إجراء العملية لا يباح له إلا بالترخيص بمزاولة المهنة.
وما دمنا لم نتوفق في تشريعنا الوطني – القانون المغربي – لتطبيق قضائي يتعلق بهذا الجانب، تجدر الإشارة إلى أن عدم الإلتزام بالقرارات الوزارية أو المناشير أو اللوائح تعد مخالفة مهنية لقاعدة قانونية صريحة وملزمة، فمثلا ينص قرار لوزير الصحة العمومية رقم 64.SM بتاريخ 27 يوينو 1967 بتحديد كيفيات تطبيق المرسوم الملكي رقم 554.65 الصادر في 17 ربيع الأول 1387 (26 يوينو 1967) بمثابة قانون يوجب التصريح ببعض الأمراض و اتخاذ تدابير وقائية للقضاء على هذه الأمراض على إجبارية التصريح ببعض الأمراض وردت على سبيل الحصر. مما يعني أن مخالفة الطبيب لذلك يعد خطأ ومخالفة صريحة للقانون.
كخلاصة لهاته الفقرة صور الخطأ الطبي إجمالا: “الخطأ العام والخطأ الخاص”. فإن هذا الأخير يكتسي أهمية خاصة في ميدان الإثبات الجنائي، وذلك لما يغلب على مهنة الطب من اعتبارات تقنية وفنية دقيقة ومعقدة، تكون في الغالب بمثابة مجسمات لحالات الخطأ الطبي الفني والعادي معا. والذي سنستنتج بأنها تشكل فعلا عبئا حقيقيا على القضاء في استنباط القرائن القضائية، لأنها تعد مرحلة لعمل طبي تترامى فيه وسائل الإثبات بين الشك واليقين، وتتجاذبه اعتبارات المهنة وتعاطف العدالة أحيانا، وصعوبة الإثبات بالنسبة لأطراف النزاع الطبي، وحتى متاهة قناعة القاضي في الجزم بالإدانة أو العكس.
المطلب الثاني: التطبيقات القضائية لصور الخطأ الطبي المادية والفنية
إن حالات أو صور الخطأ الطبي هي مجسمات إما لأخطاء مادية لا تتصل بالأمور التقنية والفنية التي تتطلب المهارة والدقة في إنجاز العمل الطبي. وهي عادة لا تحتاج إلى خبرة لإثبات مراعاة الطبيب لقواعد المهنة. وأمثلتها إجراء جراحة على الكلية السليمة بدلا من الكلية المريضة أو استئصال العين اليمنى بدل اليسرى أو زرع عضو في غير ما اتفق عليه… وإما تكون صورة لأخطاء طبية فنية ذات طابع تقني. وفي كل هذه الحالات قد ينحرف الطبيب عن السلوك المعتاد مما قد يصيب المريض بأضرار قد تكون مميتة.
و سواء تعلق الأمر بأخطاء عادية مادية أو بأخطاء تقنية فنية فإن الإجتهاد القضائي قد أوجب على الطبيب تجنبها وإعطاء المريض عناية يقظة متفقة مع المعطيات العلمية، وهذه هي طريقة أداء الطبيب العادي متوسط الحرص والعناية الذي يعتبره الفقه معيارا للقياس في مختلف مراحل العمل الطبي بدءا من تشخيص المرض والفحوصات والتحاليل الأولية وانتهاء بالعلاج. وعليه سنحاول التعرض لهاته الأخطاء من خلال محاولة فصل الأخطاء المادية عن الأخطاء الفنية وإن كان أحيانا الخطأ المادي الطبي ما هو إلا صورة تطبيقية للخطأ الطبي الفني والعكس صحيح.
إذ نجد حالات تتعلق بمرحلة التشخيص والعلاج ومرحلة الجراحة والتخدير تقوم فيها مسؤولية الطبيب على أساس الإلتزام ببذل عناية وضمان السلامة وتمثل أخطاء مادية بالإضافة إلى وجود حالات استثنائية يلتزم فيها الطبيب بتحقيق نتيجة سواء في عمليات نقل الدم أو التحاليل الطبية وحالات الجراحة التجميلية والتركيبات الصناعية حيث تشكل أخطاء فنية. فهل صحيح أن التزام الطبيب في الحالات المادية يظل ثابتا على مبدأ تحقيق غاية؟ ثم هل هذا الإلتزام في الأخطاء الفنية لا يحيد عن مبدأ تحقق نتيجة؟ وإلى أي مدى يمكن القول بصحة هذه المعادلة؟ وهو ما سنتناوله اتباعا كالآتي:
htmlspecialchars_decode(‘”‘) الفقرة الأولى: الأخطاء المادية htmlspecialchars_decode(‘”‘)
وفيها يكون الطبيب محل مساءلة جنائية. ويتعلق الأمر بالخطأ في التشخيص، والخطأ في مرحلة العلاج أو خلال إجراء عملية جراحية.
أولا: الخطأ الطبي في التشخيص
التشخيص هو فن معرفة واكتشاف مرض معين بأبعاده المرتبطة بعضها ببعض، الذي منح له الفحص الإشعاعي نجاحا كبيرا، وهو نشاط يمارس من جميع الأطباء كيفما كانت تخصصاتهم المهنية والتشخيص يتضمن أول إجراء طبي يواجه به الطبيب المرض لاستعرافه وتوضيحه بعد إجراء الفحص. ويعرف التشخيص بأنه ذلك الجزء من العمل الطبي الذي يهدف إلى تحديد المرض ووضعه في الإطار المحدد، فهو بمثابة حكم يصدره الطبيب بعد دراسة حالة المريض و الإلمام بالأعراض الظاهرة والخفية، وقد يستعين الطبيب في قيامه بهذه المهمة بغيره من الإختصاصيين إذا وجد إزاء حالة لا يسعفه فيها علمه وتكوينه، وقد يستعين ببعض الفحوص و الأشعة و التحاليل إذا كان يتطلب ذلك.
أو هو “استفهام” المريض عما يعانيه مع الإحاطة بجميع المعلومات الصحية . هذا الواجب والفرض – استفهام واستجواب المريض – يقود الطبيب طبعا إلى عملية فحص مريضه لاستكناه طبيعة الألم ومصدره، وهو إما ظاهري أو فحص دقيق حسب قناعة الطبيب بضرورة ذلك. فالفحص الطبي إذن هو قيام الطبيب بمناظرة المريض ظاهريا من خلال ملاحظة بعض العلامات التي قد تظهر على جسمه، وذلك ليتحقق من وجود ظواهر معينة تساعده على تشخيص المرض ووصف الدواء، أو مباشرة طريقة من طرق العلاج أو الجراحة. بعد ذلك يتم التشخيص على مراحل تبدأ بالإستماع لإفادات المريض ورصد الأعراض المرضية ثم إجراء الفحص السريري والإستعانة بآلات أو فحوصات شخصية (أشعة، تحاليل و غيرها) وكذلك بأطباء آخرين عند الإقتضاء.
و التشخيص يجد سنده القانوني في التشريع المغربي انطلاقا من الفصل 30 من مدونة السلوك الطبي التي نصت على أن: “الطبيب يجب أن يقوم بالتشخيص بفائق العناية دون اعتبار الوقت الذي يستغرقه هذا العمل، وعند الإقتضاء يستعين تبعا للإمكانيات المتوفرة بالأطباء الأكثر معرفة وبالطرق العلمية الأصلح”.
وعليه، كيف تتم مساءلة الأطباء عن أخطاء التشخيص؟ وبالطبع نخص موقف القضاء من ذلك.
إن الأحكام التي وردت بشأن أخطاء التشخيص متعددة على مستوى القضاء المقارن و نظيره المغربي. ونظرا لأن دهاقنة و فطاحلة العلوم الطبية يمكن أن يخطئوا في التشخيص، فإن المحاكم نفسها مستقرة في قراراتها على القول: “إن الطبيب حر في تشخيصه” أو إن الغلط في التشخيص لا يشكل في حد ذاته خطأ مهنيا” أو في قول أكثر جرأة “لا يشكل الغلط في التشخيص خطأ” . فمن أهم التطبيقات القضائية لأخطاء التشخيص على مستوى القضاء المقارن و المغربي.
ففي الفحوصات الطبية استقر القضاء الفرنسي على أن إجراء الفحوص الطبية التمهيدية للمريض يعد أمرا ضروريا قبل الإقدام على إجراء الجراحة، وبالتالي فإن الإهمال الواقع من الطبيب في إجراء مثل هذه الفحوص يشكل خطأ في جانبه تقوم به مسؤوليته.
حيث أدانت محكمة “بواتييه” طبيبا كان قد اكتفى بالمعلومات المختصرة التي قدمتها المريضة كتابة، لكي يحدد تشخيصه، ويصف علاجا للتخسيس أودى بحياتها، ووفقا لتقرير الخبراء فإن الطبيب قد تجاهل على نحو غير مقبول الأصول المستقرة للعلوم الطبية”. كما رفضت محكمة “كولمار” أن تعفي طبيب من واجبه في أن يستعلم من طبيب آخر، حتى ولو كان هذا الأخير طبيبا أعفاه من هذا الإلتزام ، وفي نفس الإتجاه نص حكم صادر عن ابتدائية سلا بتاريخ 08/08/1989: “إنه كان يتعين على الطبيب الجراح في هذه الحالة اتخاذ كل الإحتياطات الواجب القيام بها والتي ينبغي، بل يجب اتخاذها قبل العملية كتحضير المريضة لإجراء سلسلة من الفحوص الطبية للتأكد من سلامتها والقيام بفحصها سريريا و قياس ضغط شرايينها وسرعة نبضها وإفراغ بطنها وهي فحوص على جانب كبير من الأهمية، وهو غير مستبان من خلال الإطلاع على الملف الطبي المتعلق بالهالكة، أي المتهم “الطبيب الجراح” وقبل شروعه في العملية القيصرية لم يقم بالإجراءات المذكورة وهي على جانب كبير من الأهمية”.
على أن الخطأ في التشخيص لا يكون محل متابعة جنائية دائما خاصة إذا كان الخطأ يرجع إلى تضليل المريض في البيانات التي أدلى بها عن آلامه وأعراض المرض أو إخفائه لبعض الحقائق، هذا وقد حذا القضاء المصري حذو القضاء الفرنسي، في صدد اغتفار الخطأ في التشخيص طالما لم يتم هذا الخطأ عن جهل واضح بمبادئ الفن الطبي، وعلى ذلك قضت محكمة مصر الأهلية بأن: “الطبيب لا يسأل عن خطئه في تشخيص مرض أو عدم مهارته في مباشرة عملية جراحية، إلا أن يكون مسؤولا عن خطئه الجسيم مدنيا وجنائيا إلا إذا أثبت أنه لم يتخذ الإجراءات التي يوجبها الفن”. كما أدانت محكمة باريس طبيب بسبب استعماله طرقا طبية قديمة مهجورة في الكشف على سيدة حامل، لا سيما وأن من شأن هذه الطرق أن تلحق أضرارا بالجنين.
و عليه هل هناك سبيل لإعفاء الطبيب في أخطاء التشخيص؟
الأمر يجب أن يتعلق باستعصاء تقني دقيق للفحص أو يعزى إلى عنصر أجنبي أو حالة الضرورة والإستعجال. ففي حكم لمحكمة النقض الفرنسية قضت: “بتبرئة طبيب أخطأ في التشخيص حيث استبعد الإنسداد المعوي الذي تسبب في وفاة المريضة، واستندت المحكمة في حكمها إلى تعقيد وعدم وضوح الأعراض مما أدى إلى صعوبة ملاحظة الإنسداد”.
وفي نفس الصدد قضى حكم لإدارية وجدة بتاريخ 02/03/2005 بتحميل المسؤولية لوزارة الصحة في خطأ طبي ورد فيه الآتي: “وحيث يستفاد من المقال الإفتتاحي أن إبن المدعي قد أصيب بتاريخ 28/11/1999 بعينه اليمنى ونقل على إثر ذلك إلى مستشفى الفارابي وقد صادف ذلك اليوم عطلة فلم تنجز الفحوصات لمدة ثلاثة أيام مما تسبب في نزيف بعينه، مما جعله يعرض ابنه على اختصاصي لأمراض العيون بالقطاع الخاص بتاريخ 10/12/1999 الذي أكد وقوع خطأ جسيم وإهمال في التشخيص، وفي ضوء هذا المعطى نقل ابنه إلى المركز الجامعي الإستشفائي الجامعي بالرباط، هذا الأخير قام بعملية جراحية على العين اليمنى للإبن بتاريخ 06/01/2000 فجاء تقرير العملية مؤكدا وقوع نزيف حاد سابق على العين وأن العين أصبيت بالعمى، وبعد الإستماع إلى الطبيب المعالج أوضح أن يوم دخول المريض إلى المستشفى كان يوم عطلة ونودي عليه في منزله وبعد أن جاء وفحص المريض تبين له أنها لا تستدعي القيام بعملية، وأن في هاته الحالة يجب استعمال آلة Viltreotone التي ليست متواجدة بالمستشفى و لا تتواجد حتى بالمستشفى الجامعي بالرباط”.
وقد ميز القضاء الجنائي بين التشخيص المعقد الذي لا يشكل خطأ لا يثير مسؤولية الطبيب وبين التشخيص الواضح الذي يستوجب الخطأ فيه مساءلة الطبيب. وتطبيقا لذلك قضت المحكمة الإتحادية العليا لدولة الإمارات بنقض حكم استئنافي قضى بإدانة طبيب واستندت في قضائها إلى تعقد حالة المريض و صعوبة التشخيص معللة بالآتي: “… إن قسم الأشعة لم يخطر الطبيب الطاعن الذي كان على رأس الجراحة بوجود قصور في تكوين الجيوب الأنفية، وانعدام خلفي للنواتي الخطافية، ولم يتوفر للطبيب سوى صور أشعة مقطعية سمك 15 مللتر وبمستوى رؤية ضعيفة غير واضح منها تفاصيل التركيبات العظيمة الفوهية مما أوهم الطبيب بأن حالة المريض تشخيص في التهاب مزمن وضيق الجيوب الأنفية”.
وتجدر الإشارة أنه ليس هناك سبيل لتملص الطبيب من مسؤولية الجنائية احتجاجا بعدم علمه بحالة المريض النفسية. وهو ما يجد له تطبيقا في قرار للمجلس الأعلى حول حالة مريض أدخل مستشفى الإختصاصات بالرباط بيوم 17/12/2000 وأنه انتحر يوم 14/12/2000 أي بعد مرور أسبوع، وأن زوجة الهالك تقدمت بدعوى بتاريخ 15/02/2002 توضح فيها أنها أرملة الهالك، وأن زوجها كان مريضا بمرض نفسي وأن المسؤولين بهذا المستشفى تركوه بمفرده بالطابق الثالث بمستشفى الإختصاصات دون اتخاذ الإحتياطات اللازمة، إلا أن المركز الجامعي استأنف الحكم نظرا لتحميلة المسؤولية لشركة التأمين وقد استأنف لتحميل المسؤولية للزوجة التي تعرف حالة زوجها علما أن المحكمة حملت العارض المسؤولية لتقصيره في تشخيص المرض وعدم توفير العناية اللازمة رغم العلم بتدهور حالة المريض. كما أن بقائه لمدة أسبوع يمكن للإدارة والطاقم الطبي من معرفة مرضه وإرساله إلى مستشفى الأمراض العقلية، فضلا على أن ممرض المصلحة أكد أن الهالك كان يعاني من مرض السفيليس وفي مرحلة متأخرة (مضاعفات السيفيليس النفسية في حالة متأخرة) وأن حالته النفسية جد متدهورة الشيء الذي يؤكد أن المستشفى كان على علم بحالة المريض، وبذلك يكون مسؤولا طبقا لمقتضيات الفصل 79 من ق.ل.ع في فقرته الأولى.
أمام هذا قضى المجلس الأعلى بإلغاء الحكم المستأنف جزئيا فيما قضى به بإخراج شركة التأمين الوطنية والحكم من جديد بإحلالها محل مؤمنها في الأداء واعتبار الخطأ خطأ في التشخيص”.
أمام هذا التنوع في قرارات و أحكام القضاء التي تقر مبدأ مساءلة الطبيب أثناء مرحلة التشخيص، فبعدما اختلفت محاكم القضاء الفرنسي في شأن تقرير مسؤولية الطبيب عن الخطأ في التشخيص فقضت بعضها بانتفاء المسؤولية الجنائية للطبيب في ذلك، قضى البعض الآخر بقيام مسؤولية الطبيب – جنائيا ومدنيا – شريطة أن يكون الخطأ نتيجة جهل وإهمال جسيم من الطبيب كما أسلفنا. وأخيرا استقر القضاء على أن الخطأ في التشخيص نتيجة إهمال أو عدم احتياط من جانب الطبيب. بمثابة ثبوت جنائي إذا نشأ عن فعله إصابة المريض أو وفاته. أصبحنا نسائل الطبيب عن الإخلال بمبدأ الإلتزام ببذل عناية”.
الفرض والواجب على الطبيب والذي يجد له صدى في حكم لمحكمة باريس بتاريخ 26/09/2002: “الطبيب الذي أجرى تصويرا صوتيا Echographie قد أخل بالتزامه ببذل عناية حيث أكد للأبوين أن للجنين أطرافه الأربعة كاملة، وذلك بمناسبة فحصه للأم بين الأسبوع العشرين والأسبوع الرابع والثلاثين من الحمل، وتبين بعد الوضع أن الطفل فاقد لذراعه الأيسر وهو أمر يمكن تشخيصه بنجاح عادة منذ الأسبوع الثاني عشر من الحمل”.
كما أن عدم استشارة الطبيب في التشخيص لطب التخصص يجعله محل متابعة جنائية، حين قضت محكمة ليون: “أن الطبيب (الطب العام) المرتكب خطأ في قراءة صورة التشخيص الطبي للقلب L’électrocardiograme التي لم تكن تبين بوضوح علامات تظهر جلطة قلبية متنامية، ولكنه ارتكب خطأ لعدم احترامه لالتزامه بالإستشارة حين أهمل توجيه المريض الأخصائي في القلب وشخص المرض بكونه مجرد شعبة رئوية Bronchite”.
وعموما فإن مبدأ “الإلتزام ببذل عناية” الملزم للطبيب في مرحلة التشخيص يتأسس بناءا على الحالات التالية:
1 – يسأل الطبيب إذا أخطأ في التشخيص خطأ واضحا ينم عن جهل واضح بأصول المهنة وتقنية الفن الطبي.
2 – إذا لم يستعمل الوسائل العلمية الحديثة المتفق على استعماليها وفي حدود توفرها، وإذا كانت حالة المريض الصحية من شأنها تحمل تلك الآلات.
3 – إذا استعمل آلات مهجورة من شأنها إلحاق الأذى بالمرض.
4 – إذا لم يستشر زملاؤه الأكثر تخصصا ولو كانت القاعدة العامة تقضي أن الطبيب لا يلتزم باستشارة طبيب آخر أكثر منه خبرة وتخصصا إلا أن هناك حالات استثنائية تستدعي ذلك وبصفة خاصة إذا طلب المريض أو ذووه منه ذلك.
فإذا كان هذا هو موقف القضاء من مرحلة التشخيص والذي أقر مبدأ مساءلة الطبيب. فما هو الوضع إزاء مرحلة أخرى لعمل طبي يكون فيها العلاج التزام أيضا “ببذل عناية” ملقى على عاتق الطبيب؟
ثانيا: الخطأ الطبي في العلاج
من المبادئ المستقر عليها فقها وقضاء أن الطبيب حر في اختيار طريقة علاجه التي يراها ملائمة وفي مصلحة المريض، فلا مانع يمنع الطبيب من اتباع علاج شخصي خاص به شريطة أن يكون العلاج المذكور مبنيا على أسس طبية علمية صحيحة ، وهو مقيد في ذلك بمصلحة المريض وما تقضي به اللوائح و القوانين المنظمة لمهنة الطب، وأيضا المنظمة لاستخدام المواد السامة والمخدرة. و قد أكد المشرع الفرنسي على ذلك في المادة التاسعة من قانون أخلاقيات المهنة بقوله: “الطبيب حر في وصف العلاج الذي يتناسب مع حالة المريض”. كما نص في المادة الثامنة عشر من ذات القانون: “يجب على الطبيب أن يمتنع عن الفحص والعلاج الذي يترتب عليه مخاطر لا مبرر لها، ويجب أن يراعي أن تكون الأخطار التي تترتب على هذا العلاج أقل من أخطار المرض نفسه، وأن يكون استعماله مبررا بحالة المريض ومصلحته في الشفاء و إلا عد الطبيب مسؤولا عن خطئه”.
كما أن للطبيب أن يقوم بالعلاج بنفسه، أو يستعين بالغير من المؤهلين لذلك طبقا للفصل 23 من القرار المقيمي بشأن قواعد السلوك الطبي ، غير أن الطبيب يسأل في حالة مرضية يفوق علاجها مستواه العلمي وكفاءته المهنية إذا لم يستعن بأطباء اختصاصيين واستشارتهم في طريقة العلاج فالطبيب ملزم باتباع الأصول العلمية وقت تنفيذ العلاج الطبي، باعتباره “التزام عام” يقع على عاتق الأطباء باتخاذ العناية اللازمة وعدم الإهمال أو الجهل الجسيم بأصول المهنة، أو في حالة خطأ نتيجة استخدام لفن قديم منتهي في العلاج، وهو ما ذهبت إليه إحدى المحاكم الكندية: “بإدانة طبيب أجرى تجبيرا لكسر بفخذ طفل، متبعا طريقة بدائية نتج عنها تلف سريع للعضو اقتضت الضرورة العلاجية بتره، وفي هذه القضية نبهت المحكمة إلى الواجبات الأساسية للطبيب أن يستخدم وسائل معروفة وعلما حديثا و أن يحدد علمه حتى يكون مسايرا للعلوم الحديثة وقت تنفيذ العلاج”.
ولا سبيل للطبيب في دفع مسؤوليته بحجة فقر المريض وعدم قدرته على دفع الأتعاب الطبية، وهو ما يجد له صدى في حكم محكمة جنح الجيزة: “في سنة 1935 بصدد مسؤولية الطبيب عن عدم وضع المريضة تحت ملاحظته في عيادته والتردد عليها يوميا حيث تستدعي حالتها ذلك وأنه لا يخليه من هذه المسؤولية أن تكون المريضة فقيرة، لأن الطبيب كان يجب عليه أن يبحث هذه الوجهة قبل إجراء العملية لا بعدها، فإما أن يقبل العلاج وإما أن يرفض فيتحمل أهل المريضة المسؤولية ويرسلونه إلى المستشفى أو يتركونه يموت ميتة أخرى لا مسؤولية عليه فيها”.
ولا وسيلة للطبيب أيضا في الإحتجاج برفض المريض للعلاج إلا بتوافر شرط الكتابة، وهو ما يجد له صدى أيضا في القضاء: “الطبيب يسأل عن الرحيل المبكر للمريض من المستشفى بعد إجراء العملية الجراحية وما ينتج عن ذلك من ضرر، حيث كان ينبغي على الطبيب الحصول كتابة من المريض على ما يثبت رفضه للبقاء”.
ولا يسأل الطبيب عن الخطأ في العلاج إلا إذا كان ظاهرا أو أن الطبيب أظهر جهلا بأصول العلم الطبي وهو ما يجد له صدى في قرار لمحكمة النقض بمصر: “إن إباحة عمل الطبيب مشروطة بأن يكون ما يجريه مطابقا للأصول العلمية المقررة، فإذا فرط في اتباع هذه الأصول أو خالفها حقت عليه المسؤولية الجنائية و المدنية، متى توافر الضرر بحسب تعمد الفعل ونتيجته أو تقصيره و عدم تحرزه في أداء عمله أيا كانت درجة جسامة الخطأ المستوجب لمسؤولية مرتكبه جنائيا ومدنيا، وقد قررت أن الطاعن قد أخطأ بتصديه لعلاج الفتق الأربي الأيمن جراحيا في عيادته الخاصة، مع عدم قدرته على مجابهة ما صحب الحالة من غرغرينا بالأمعاء الدقيقة و الخصية رغم علمه مسبقا قبل تدخله جراحيا بأن وجود الغرغرينا أمر متوقع، الأمر الذي انتهى إلى وفاة المريض، فإن هذا القدر الثابت من الخطأ يكفي وحده لحمل مسؤولية الطاعن جنائيا ومدنيا”.
وأكثر من ذلك، فلقد فرض القضاء الفرنسي على الطبيب التزاما بمراقبة تنفيذ تعليماته. و”أقرت محكمة “تولوز” الإبتدائية بمسؤولية الطبيب عن النتائج الضارة الناشئة عن عدم مراعاة تعليماته، وكان الطبيب قد أعطى تعليماته لرجل أصيب في حادث تصادم بأخذ حقنة مضادة للتيتانوس، ولم يتناول المصاب الحقنة لأسباب غير معروفة فأصيب بهذا المرض ثم شفي منه، ولكن تخلفت لديه أضرار كبيرة نسب للطبيب عدم مباشرته بنفسه علاج الحقن الموصوف للمريض وقد ألزمته المحكمة بدفع تعويض للمريض، بعد أن أسندت إليه عدم تأكده بنفسه من تنفيذ علاجه”.
وفي حكم صادر عن محكمة استئناف مصر قضت فيه: “بالنسبة للأطباء الأخصائيين فإنه يجب استعمال منتهى الشدة معهم، وجعلهم مسؤولين عن أي خطأ و لو كان يسيرا إذا ساءت حالة المريض بسبب معالجتهم لأن من واجبهم الدقة في التشخيص وعدم الإهمال في معالجتهم”.
كما يجب على الطبيب اللجوء إلى العلاج بالأدوية قبل اللجوء إلى العمليات الجراحية وبالأخص في المرحلة الأولى للمرض، ويجب عليه تجنب استخدام وسائل علاجية طويلة الأمد أو معقدة و مضرة بالصحة، و هذا ما أكدته المادة 18 من قانون أخلاقيات المهنة، ويجب عليه توخي الحيطة والحذر أثناء فترة العلاج، ويعد مسؤولا في حالة انقطاعه عن معالجة مريضه دون مبرر و في وقت غير مناسب وهو ما قضت به محكمة النقض الدولية الفرنسية: “بإدانة طبيب بجريمة القتل الخطأ بسبب عدم قيامه بفحص إكلينيكي شامل للمريضة، وهذا عاق تشخيص المرض بدقة وأخر التدخل الجراحي مم نجم عنه وفاة المجني عليها”.
إن علاج الطبيب يكون محل متابعة جنائية نتيجة أخطائه، فالإضافة إلى الحيطة و الحذر ومراقبة تتبع العلاج والإكتشافات الطبية فإنه بالمقابل ليس من حق الطبيب استعمال علاج إن كان في طور التجريب أو ما زال لم يؤذن باستعماله. وتعتبر وصفة العلاج التي يحررها الطبيب هي محرك عملية العلاج، وعادة ما تكون هي الحد الفاصل بين التشخيص و العلاج، وتعتبر الوصفة وثيقة خطيرة من شأنها أن تثير مسؤولية الطبيب، وفي أحوال أخرى مسؤولية الصيدلي الذي يسلم الدواء أو الممرضة التي تشرف على العلاج، وقد قضى القضاء الفرنسي “عن وفاة مريض كان الطبيب قد حرر له وصفة بدواء سام وكتب عليها الحرف الأول من كلمة « Gouttes » نقاط، الشيء الذي حذا بمساعد الصيدلي لأن يركب الدواء على أساس 25 غرام (25Grammes) فقضت المحكمة أن الطبيب ارتكب خطأ بعدم توضيح الوصفة الطبية بما فيه الكفاية، وإدانة الصيدلي ومساعده بوصفهما شريكين لأن الصيدلي ملزم بالإعتراض على الوصفة إذا خالفت الصيغة الصيدلية وإشعار الطبيب بما يلاحظه من أمور غير عادية تبدو له غلطا”.
وفي هذا الإتجاه نحى حكم محكمة واد زم الذي أومأنا إليه سابقا، يستفاد معه أن أخطاء الطبيب في العلاج تبتدئ من لحظة تحرير الوصفة حتى مرحلة تنفيذ العلاج وتتبع المريض بالملاحظة والإرشادات والتدخل الآني إذا استدعت الظروف ذلك.
بقي لنا أن نتساءل عن حالة الطبيب الذي يفوت فرصة العلاج؟
والطبيب الذي احترم قرار مريضته في رفض العلاج تماشيا مع مبدأ الرضا؟ وما محل المسؤولية الجنائية في هذا الفعل؟ و هل يشكل جريمة يعاقب عليها القانون؟
تتعدد فرصة العلاج بين تفويت الفرصة في استمرار الحياة، وتفويت الفرصة في الشفاء أو الشفاء بلا آثار، وتفويت فرصة تجنب الضرر الذي يشكو منه المريض، وتفويت فرصة التحسن، وتفويت فرصة العلاج على يد أخصائي، و تفويت فرصة الحياة العادية دون إعاقة. وهي جميعا صور لتطبيقات قضائية في القضاء المقارن نصوغها بالتلخيص أدناه لإستجلاء مكونات الفعل الذي يوجب قيام مسؤولية الطبيب عن تفويت فرصة العلاج للمريض.
فقد قضى القضاء في تفويت فرصة استمرار الحياة بأنه: “يعد مسؤولا الطبيب الذي أخطأ في استئصال الزائدة الدودية، فهو وإن لم يؤدي إلى الوفاة إلا أنه حرم المريضة من الحياة”.
وفي تفويت فرصة الشفاء بلا آثار اعتبرت المحكمة “مسؤولا الطبيب الذي تسبب بإهماله الملاحظة والعناية، في ترك الأنيميا والعطب يزدادان لدى المريضة، فعلاقة السببية و إن لم تقم بين الخطأ و الوفاة، إلا أنه فوت على المريضة فرصة الشفاء”.
وفي حالة تفويت فرصة تجنب الضرر الذي يشكو منه المريض “اعتبر القضاء مسؤولا الجراح الذي يمتنع – دون مبرر مقبول – عبر التدخل.
(محاماه نت)