دراسات قانونية
عنصر الاحتمال في عقد التأمين (بحث قانوني)
رشيد خواضي
باحث في سلك الدكتوراه
جامعة ابن زهر
أكادير
وظيفة عنصر الاحتمال في عقد التأمين
مقدمة
إن الخوف من المستقبل وما قد يخفيه من أخطار يشكل أهم ما يشغل بال الإنسان ، وبما أن الأمن يعتبر من أهم الحاجات الأساسية التي يسعى إلى توفيرها، فإنه لجأ إلى التأمين كمصدر للأمان والضمان وآلية لبث الثقة والتشجيع على الإنتاج والاستثمار.
فعقد التأمين هو الوسيلة القانونية التي تحمي المؤمن له من خطر محتمل تتعرض له مصالحه، حيث يتولى المؤمن تغطية الخطر المؤمن منه في حالة وقوعه مقابل أقساط يدفعها له المؤمن له. ولكي يكون الخطر قابلا للتأمين يلزم أن يكون الشخص غير متأكد من وقوع الحادث أو استحالة وقوعه، وهي الحالة التي يشعر فيها الشخص بالخطر. ومما لا شك فيه أن الخطر عنصر جوهري وركن أساسي لا يقوم عقد التأمين إلا بوجوده، ويمكن تعريفه بأنه حادث احتمالي لا يرتبط وقوعه بإرادة طرفي عقد التأمين[1]. فاحتمالية تحقق الخطر يعتبر شرطا أساسيا لا بد من توافره في مفهوم الخطر لكي يقوم عقد التأمين صحيحا، ومنه نستخلص أهمية عنصر الاحتمال في هذا العقد.
ومع ذلك، اختلف الفقه حول وجود وأهمية الاحتمال في هذا العقد باختلاف الزاوية التي ينظر منها إلى هذا المفهوم ، فإذا ذهب بعض الفقه[2] إلى اعتبار عقد التأمين عقدا احتماليا، بحيث لا يثبت له وجود إلا إذا اقترن بعنصر الاحتمال، فإن اتجاها[3] آخر يرى أنه رغم كون التأمين يقوم على الصدفة في حدود معينة إلا أنه، في النهاية، ليس عملية احتمالية و لا يجب أن يكون كذلك، على الأقل بالنسبة للمؤمن.
ويرى البعض[4] أن غاية المؤمن من إبرام عقد التأمين هو حمايته من الخطر وليس المراهنة على الربح أو الخسارة كما هو الشأن في عقود القمار مثلا، حيث يثبت الربح لصالح طرف على حساب الطرف الآخر. فالمؤمن له ، إنما يشتري الأمان مقابل أقساط يدفعها إلى المؤمن. وهو ما يفسر كون الأمن التزاما أصليا في عقد التأمين خلافا لباقي العقود التي يعتبر فيها مجرد التزام ثانوي[5].
أما في الفقه الإسلامي فيعتبر الاحتمال أو الغرر مصدرا لاختلال التوازن الاقتصادي للعقد، ولعل ذلك ما يفسر منعه في المعاملات حرصا على ضمان التوازن بين التزامات ومنافع المتعاقدين، خاصة وأن عقد التأمين عقد معاوضة، لذلك ذهب جانب من الفقه الإسلامي[6] إلى عدم جواز التأمين التجاري ذي القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري.
لعل الجدال الفقهي المرتبط بوجود الاحتمال في عقد التأمين، يرجع جزء منه إلى الاختلاف حول تحديد مفهوم الاحتمال نفسه ودوره في عقد التأمين.
فهل يعتبر وجود الاحتمال شرطا لصحة عقد التأمين؟
و كيف يؤثر زوال عنصر الاحتمال على التزام المؤمن بالضمان في مرحلة تنفيذ العقد؟
إن تناول موضوع الاحتمال في عقد التأمين والإحاطة بالإشكالات التي يطرحها يستلزم منا اعتماد منهج تحليلي نقدي ومقارن من أجل بحث مكانته ومدى تأثيره في عقد التأمين، وذلك من خلال إبراز مختلف الآراء الفقهية وتحليلها وعرض موقف القضاء منه إلى جانب التشريع المغربي والمقارن.
من أجل ذلك، سنعمد إلى تقسيم الموضوع إلى مطلبين رئيسيين كالتالي:
المطلب الأول: دور عنصر الاحتمال عند إبرام عقد التأمين
المطلب الثاني: اختفاء عنصر الاحتمال في مرحلة تنفيذ عقد التأمين
المطلب الأول: دور عنصر الاحتمال عند إبرام عقد التأمين
يعتبر الخطر محل عقد الـتأمين وعنصره الأساسي الذي يبرم من أجله هذا العقد. ولكي يكون هناك خطر لا بد أن يكون الحادث المؤمن منه احتماليا بمعنى غير مستحيل وغير مؤكد الوقوع. وبالتالي فإن لصفة الاحتمالية وظيفة أساسية في عقد التأمين عند إبرام العقد لارتباطها المباشر بعنصر الخطر.
وللوقوف على دور الاحتمال في عقد التأمين عند التعاقد، سنتطرق في الفقرة الأولى إلى أهميته في تحديد الأخطار القابلة للتأمين، بينما نخصص الفقرة الثانية للاحتمال في التأمين التكافلي.
الفقرة الأولى: أهمية الاحتمال في تحديد الأخطار القابلة للتأمين
تظهر أهمية الاحتمال في مرحلة إبرام العقد، خاصة عند تحديد الأخطار التي يمكن التأمين عليها، وذلك باعتباره مكونا أساسيا في مفهوم الخطر المؤمن منه وعنصرا محددا لقابلية الخطر للتأمين.
أولا: قابلية الخطر للتأمين
لكي يكون الخطر قابلا للتأمين لا بد أن يتوافر فيه شرط الاحتمالية الذي يستلزم بدوره أن يكون تحققه مستقلا عن الإرادة الحرة للطرفين المتعاقدين.
1- الطابع الاحتمالي للخطر المؤمن منه
يعتبر الخطر عنصرا أساسيا في التأمين، وهو الذي يعطي للعملية التأمينية مظهرها الحقيقي، لأن عقد التأمين لا يبرم إلا لتغطية مخاطر[7].
وتحقق الخطر هو الذي يستلزم أن يوفي المؤمن بما التزم به إزاء المؤمن له.ويعرف لخطر بأنه حادث احتمالي لا يتوقف تحققه على إرادة الطرفين المتعاقدين، أي أن الحادث مستقل عن إرادة المؤمن له على الخصوص[8].
ويتبين من هذا التعريف أن الحادث غير الإرادي هو الذي يمكن أن يندرج في مفهوم الخطر، فإذا توقف الخطر على إرادة أحد المتعاقدين، فذلك يعني أنه ليس خطرا محتملا.
ويشكل الخطر محل عقد التأمين الذي لا يتصور قيامه بدونه. فمن أجل الاحتماء وتأمين نفسه، يلتزم المؤمن له بدفع أقساط التأمين مقابل التزام المؤمن بدفع مبلغ التأمين لتوفير الأمان للمؤمن له[9]. لذلك فإن الخطر يدور مع التأمين وجودا وعدما، فحيث لا خطر لا تأمين[10] . وهو ما يؤكده الأستاذ ”مايو MAYAUX” بقوله إن عقد التأمين يبقى بدون ركن المحل إذا زال الخطر عند الاكتتاب أو استحال تحققه بعد إبرام العقد[11].
إن ما يؤكد معنى الخطر هو صفة الاحتمالية ،أي عدم وجود صفة التأكد التام تجاه تحقق الظواهر المختلفة والتي ينتج عنها خسائر مادية، سواء كان تأكدا تاما من وقوع الحادثة أو تأكدا تاما من عدم وقوعها[12]. ففي القانون المدني، يشترط لتكييف الحادث خطرا، أن يكون وقوعه محتملا أي غير مؤكد[13].
وفي مجال التأمين يعتبر الخطر حادثا احتماليا، ذلك أن التأمين ينصب أساسا على الأحداث والظواهر غير المؤكدة الوقوع وهو ما يفسر ارتباط التأمين بعنصر الاحتمال.[14]
وقد ينصب تأكد وقوع الحادثة على مبدأ الوقوع ذاته. ففي التأمين من الحريق مثلا، قد يقع الحريق وقد لا يقع، كما يمكن أن ينصب تأكد الوقوع، ليس على مبدأ الوقوع ذاته ولكن على وقت الوقوع، حيث إن الحادثة محل التأمين واقعة لا محالة، ولكن وقت وقوعها غير معلوم، كما هو الأمر بالنسبة للتأمين في حالة الوفاة، حيث إن الخطر المؤمن منه سيقع بدون شك، ولكن وقت وقوعه غير معلوم[15].
وسواء انصب الاحتمال على وقوع الحادث نفسه أو على تاريخ وقوعه، فإن هذا الاحتمال مرتبط بالصدفة. وبتعبير آخر، فإن وقوع الحادث أو تاريخ حصوله يجب أن يكون مستقلا عن إرادة المتعاقدين[16].
إن في حالة عدم التأكد، يصبح الإنسان في قلق وحيرة نتيجة عدم تيقنه من إمكانية تحقق بعض الظواهر ومن نتائجها، وبالتالي فإن هذه الحالة هي التي يشعر فيها الإنسان مقدما بالخطر، ويزداد شعوره بالطمأنينة كلما زادت نسبة معرفته أو كلما زاد احتمال تحقق هذه الظواهر، وأيضا كلما تضاءل احتمال تحققها، حيث يستطيع التعامل معها مسبقا على أساس من العلم والمعرفة والترجيح لاتخاذ قراراته أو الابتعاد عنها[17] .
وعليه، فإذا كان احتمال تحقق الحادث هو %0 فإن درجة الخطر تساوي صفر، وإذا كان احتمال تحقق الحادث هو 100% فإن الخطر يزول أيضا في هذه الحالة. وتصل درجة الخطر إلى أقصاها إذا كان احتمال تحقق الحادث هو 50%، إذ يصعب في هذه الحالة ترجيح قرار على آخر قصد الاحتماء من الخطر.
إن تكييف الخطر يتوقف على تواجد عنصر عدم التأكد، رغم أن تقدير صفة الاحتمالية يطرح إشكالا في بعض الأحيان، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأخطار المركبة كتلك المؤمن عليها في التأمين من المسؤولية المدنية، حيث يصعب الحسم في احتمالية الخطر المؤمن منه، نظرا لتكونه من عدة عناصر مختلفة من حيث زمن الوقوع [18].
ولكي يكتسي الخطر صفة الاحتمالية، لا بد أن يكون ممكنا، لأنه إذا كان عكس ذلك فإن العقد الواقع عليه سيكون بدون محل وبالتالي فهو باطل. والخطر يكون مستحيلا إذا كان الشيء المؤمن عليه قد هلك كليا وقت إبرام العقد أو إذا لم يكن معرضا للخطر المراد التأمين منه.[19]
بالإضافة إلى ذلك، يستلزم اعتبار الخطر احتماليا أن يكون مستقبليا بمعنى أنه لم يحصل بعد ولكن قد يتحقق في المستقبل.
2- عدم توقف تحقق الخطر على محض إرادة الطرفين
لكي يكون الحادث مؤمنا لا بد أن يكون أمرا عارضا، أي غير مدبر أو متعمد. ذلك أن التدبير أو تعمد تحقيق الخطر يخرج عن الظواهر الطبيعية عن نظامها المعتاد الأمر الذي يصعب معه التنبؤ بها مستقبلا بشكل دقيق، كما يلغي هذا التعمد حالة الشك والاحتمال بالنسبة للفرد إذ يصبح في موقف العلم مسبقا بما سيحدث، الشيء الذي يؤدي إلى انتفاء الطابع الاحتمالي عن الخطر التأميني[20] . لذلك تدخل المشرع واعتبر أن الخطأ المتعمد لا يجوز تأمينه، من خلال الفقرة الثانية من المادة 17 من مدونة التأمينات المغربية.
علاوة على ذلك، فإن السماح بتأمين الخطأ العمدي من شأنه أن يشجع المؤمن له بإلحاق الضرر بالآخرين، كما أن السماح للشخص أن يؤمن على نفسه أو على شيء مملوك له ثم يوقع الخطر المؤمن منه للحصول على مبلغ التأمين، يتنافى مع الأخلاق والنظام العام[21] مع العلم أن كون الخطر مشروعا، أي غير مخالف للنظام العام والآداب، يعتبر شرطا ليكون قابلا للتأمين.
ولا شك أن الغش يدور وجودا وعدما مع الإرادة. والعقد بوصفه صورة للتصرف القانوني قوامه الإرادة وهي المجال الخصب لإعمال الغش الذي يتحدد مفهومه في نطاق العقد، بالتصرف المضلل الصادر من طرف أحد المتعاقدين، سواء كان القصد من إتيانه التحايل على القانون أو الإضرار بالغير[22].
وبالرجوع إلى القواعد العامة، فإن الغش يفسد العقود، ولا يحق لمرتكب الغش أن يجني ثمار غشه[23].
وتبعا لذلك، فإن الحادث الإرادي يخرج عن نطاق التأمين، إذ يتعارض مع مقاصد التأمين الذي يستهدف توقي المخاطر وليس التشجيع على وقوعها[24]، إذ إن اعتبار العقد تأمينا يستلزم أن يتضمن خطرا لا يرغب المكتتب في تحققه، وإلا تحول إلى مجرد رهان موضوعه المقاربة على تحقق حادث احتمالي، وهكذا تبدو المصلحة في التأمين عنصرا مقترنا بالخطر، وتعد تبعا لذلك أحد أهم عناصره إلى جانب الاحتمال[25].
ثانيا: إعمال فكرة الخطر الظني في التأمين
بعد أن تطرقنا إلى شرط الاحتمالية ودوره في تحديد الأخطار القابلة للتأمين، نتطرق فيما يلي إلى مدى توافق صفة الاحتمالية مع فكرة الخطر الظني وذلك في نقطة أولى ثم بيان أثر السلطة التقديرية للقاضي على مفهوم الاحتمال في نقطة ثانية.
1- عنصر الاحتمال وقابلية الخطر الظني للتأمين
إذا كان الأصل أن يكون الخطر القابل للتأمين محتملا وغير مؤكد الوقوع في المستقبل، كما تقتضي ذلك القاعدة العامة، فإنه قد يحدث أن يتحقق الخطر قبل اكتتاب العقد فيصبح محل العقد منعدما ويكون مصيره البطلان حسب مقتضيات المادة 50 من مدونة التأمينات المغربية وكذا الفصل L121-15 الذي يقابلها في قانون التأمين الفرنسي. ويطبق نفس الجزاء في الحالة التي يكون فيها أحد المتعاقدين على علم مسبق بتحقق الخطر، إذ ينتفي الاحتمال الذي يعتبر شرطا لازما لينشأ عقد التأمين صحيحا.
إلا أنه قد يعتقد المتعاقدان أن الخطر لم يتحقق بعد، حسب تصورهما، فيتم إبرام عقد التأمين بناء على ذلك، ويتبين فيما بعد أن الخطر قد تحقق في الواقع قبل التعاقد، فيكون هذا الخطر مبنيا على مجرد الظن وهو ما يطلق عليه اصطلاحا الخطر الظني.
ففي هذا السياق يدور البحث حول إمكانية التأمين من الخطر الظني (Assurance putatif) باعتباره قائما فقط في ذهن المتعاقدين.
في الواقع يختلف الحكم بحسب ما إذا كان الأمر يتعلق بالتأمين البحري أو التأمين البري. ففي التأمين البحري ، يقبل القانون البحري تأمين الخطر الظني، وبصفة خاصة عندما يتعلق الأمر بالسفينة التي غرقت بدون أن يعلم بذلك الأطراف[26]، عكس التأمين البري حيث لا يقبل التأمين على الخطر، بالنسبة لبعض الفقه[27]، إلا إذا كان مستقبلا .ومع ذلك تباينت آراء الفقه حول مسألة التأمين على الخطر الظني في التأمينات البرية باختلاف المعيار الذي اعتمده كل اتجاه فقهي في تحديد مفهوم الاحتمال في عقد التأمين.
فمعارضو[28] الأخذ بالخطر الظني يستندون إلى مقتضيات المادة 50 من مدونة التأمينات التي يقابلها الفصل L121-15 من قانون التأمينات الفرنسية التي تأخذ بالمعيار الموضوعي لمفهوم الخطر، حيث تقضي ببطلان عقد التأمين بمجرد أن يتحقق الحادث المؤمن وقت اكتتاب العقد دون أن يميز المشرع المغربي أو الفرنسي بين الحالة التي يكون فيها أحد الطرفين على علم مسبق بحصول الحادث أو تلك التي يجهل فيها المتعاقدان تحقق الخطر، بل ألزم المشرع الطرف الذي تبث علمه بعدم تحقق الخطر في المستقبل، والذي وصفه بسوء النية، بأن يدفع للمتعاقد الآخر الذي لا يعلم ذلك، ضعف القسط السنوي[29]. وهنا يتبين أن المشرع المغربي وكذا الفرنسي يتجهان إلى عدم جواز التأمين على الخطر الظني.
ويستند الاتجاه الفقهي الذي يؤيد هذا الطرح إلى فكرة أن الخطر حادث احتمالي، وأن الاحتمال لا يوجد إلا بالنسبة للمستقبل، وبالتالي لا يمكن التأمين على حادث مرتبط بالماضي نظرا لانعدام الاحتمال بمفهومه الموضوعي[30].
ومع ذلك، فإن الرأي الفقهي الذي اعتمد معيارا ذاتيا لتحديد مفهوم الاحتمال، ذهب إلى جواز التأمين من الخطر الظني باعتبار أن الاحتمال يبقى مسألة نفسية (composante psychologique) وأن الأهم هو توافق إرادة الطرفين على تغطية الخطر، وهذه الإرادة موجودة حتى بالنسبة للخطر الظني[31].
أما من الناحية الفنية، فلا يوجد مانع من التأمين على الخطر الظني، ذلك أن المعطيات الإحصائية والمبادئ التي تؤطر عملية التأمين يمكن تطبيقها على الخطر الظني أيضا. فالمهم هو أن يكون المؤمن والمؤمن له قد جهلا مسألة حصول الحادث قبل التعاقد. وهنا لا بد من التأكد من حسن نية المكتتب[32].
هذا بالإضافة إلى أهمية التأمين على الخطر الظني على المستوى العملي وخاصة في التـأمينات البحرية التي جرت العادة والممارسة في الماضي أن يتم تأمين جميع الأخطار، بما فيها الأخطار الظنية، نظرا لعدم كفاية وسائل الاتصال آنذاك، حيث يصعب معرفة وقت تحقق الخطر المؤمن منه. إلا أن الخطر الظني لا زال قابلا للتأمين حتى في الوقت الراهن، حيث تطورت وسائل الاتصال الحديثة وأصبح بالإمكان العلم بحصول الحادث في وقت وجيز.
وبناء على ما سبق، يكون الحكم بعدم جواز التأمين على الخطر الظني في المجال البري مجانبا للمنطق، خاصة وأن الحيز الزمني بين الحادث وعلم طرفي عقد التأمين بحصوله قد يكون أكبر في بعض الحالات مما هو عليه الأمر في مجال التأمين البحري في الوقت الحاضر بفضل التطور الحاصل في مجال الاتصال[33].
وفضلا عما سبق، يذهب بعض الفقه[34] في فرنسا إلى أن الوظيفة الاجتماعية للتأمين تتمثل في تلبية الحاجة إلى الأمان، وأن الشعور بالخطر الذي يبرر الحاجة إلى التـأمين حاضر لدى المؤمن له بمجرد أن يعتقد أن الحادث لم يتحقق بعد، بغض النظر عن كونه قد تحقق ماديا. فالبعد الأخلاقي، في هذا الإطار، هو العنصر المحدد لقابلية الخطر الظني للتأمين، ذلك أن ضرورة حماية المؤمن له في هذه الحالة تجد أساسها في مبدأ حسن النية الذي يؤطر العلاقة التعاقدية بين طرفي عقد التأمين.
ويظهر مما سبق أن الاتجاه المؤيد لقابلية الخطر الظني للتأمين يؤسس موقفه على أن العنصر الأهم في الخطر هو أن يكون احتماليا وغير مؤكد الوقوع ، وهو ما ينطبق على الخطر الظني الذي تحقق فعلا دون أن يعلم الطرفان بذلك، بغض النظر عن كونه أمرا مستقبليا. ويعزز هذا الاتجاه الفقهي رأيه بأن عنصر الاحتمال يقاس بمعيار ذاتي وفق تصور المتعاقدين.
وقد انتقد بعض الباحثين[35] المؤيدين للأخذ بالمعيار الذاتي لمفهوم الاحتمال موقف المشرع الفرنسي الذي اعتمد تصورا موضوعيا للاحتمال، من خلال مقتضى الفصل L121-15 المشار إليه آنفا، على اعتبار أن تأمين الخطر الظني لا يطرح أي إشكال سواء من الناحية التقنية للعملية التأمينية أو من الناحية الأخلاقية. فالممارسة الميدانية بينت أن المؤمنين في مجال التأمين من المسؤولية المدنية في فرنسا يقبلون التأمين من الخطر الظني من خلال ما يعرف ببنود مراعاة الماضي (clauses de reprise du passé) غير المعلوم والتي تسمح بضمان مسؤولية المكتتب عن الأحداث التي وقعت قبل التعاقد في حال عدم علمه بقيام مسؤوليته عن تلك الأفعال التي سببت ضررا للغير ، وينطبق نفس الحكم على الخطر الظني في التأمين على الأشخاص.
إلا أن جانبا آخر من الفقه[36] ينتقد الرأي الذي يأخذ بالمعيار الشخصي لمفهوم الاحتمال بكون التعليل الذي برر به أصحاب هذا الاتجاه موقفهم غير متسم بالصحة لأنه من غير المتصور أن يكون الخطر محتملا طالما أنه وقع في الماضي، ولا عبرة باعتقاد الأطراف إذ ليس من شأن ذلك الاعتقاد أن ينفي تخلف ركن من أركان عقد التأمين وهو الخطر الذي لا يقوم العقد صحيحا بدونه.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تبني المعيار الذاتي لتقدير الاحتمال قد يؤدي إلى الغش والتحايل من طرف المؤمن له، إذ بإمكانه أن يدعي عدم معرفته بوقوع الحادث المؤمن منه، رغم علمه بذلك قبل التعاقد من أجل الاستفادة من الضمان ، علما أن إثبات سوء نية المؤمن له يعد مهمة صعبة لأنها مسألة نفسية[37].
2- أثر السلطة التقديرية لقاضي الموضوع على مفهوم الاحتمال في عقد التأمين
إذا كان الفقه ينقسم إلى اتجاهين متعارضين حول مدى قابلية الخطر الظني للتأمين، حسب المعيار الذي يؤسس عليه كل اتجاه تصوره حول مفهوم الاحتمال في عقد التأمين ، فإن القضاء الفرنسي يتجه نحو توسيع فكرة الاحتمالية في التأمين وذلك من خلال الأخذ بالمعيار الذاتي لمفهوم الاحتمال عند التعاقد.
ففي هذا الصدد، صدرت عدة قرارات لمحكمة النقض الفرنسية، منها القرار[38] الصادر بتاريخ 10 أبريل 1996، والذي يقضي بأنه ” لا يمكن ضمان الخطر الذي يعلم المؤمن له بتحققه قبل إبرام عقد التأمين”.
ويتضح من خلال هذا القرار أن القضاء الفرنسي يكرس الصفة الاحتمالية لعقد التأمين من ناحية ويؤكد على أهمية علم أو جهل المؤمن له بحصول الحادث المؤمن منه قبل إبرام العقد، وهو ما يفسر توجه القضاء نحو الأخذ بالمعيار الشخصي لمفهوم الاحتمال في عقد التأمين. فبمفهوم المخالفة، نستنتج أن الخطر الذي لا يعلم المؤمن له بتحققه قبل التعاقد يكون قابلا للتأمين.
وعلاوة على ذلك، فإن إسناد محكمة النقض الفرنسية لقاضي الموضوع سلطة كاملة في تقدير وجود الاحتمال في عقد التأمين، ينعكس إيجابا على قابلية الخطر الظني للتأمين. ذلك أن للقاضي سلطة مطلقة في تقدير الصفة الاحتمالية للعقد ولا مانع في اعتماد تصور المتعاقدين للخطر.[39]
وعليه، فإن تبني المعيار الذاتي لمفهوم الاحتمال يسمح للمؤمن له بالاستفادة من التعويض في حالة تحقق الخطر، حتى ولو حصل ذلك قبل التعاقد بدون علم الأطراف حماية للمؤمن له حسن النية. فعقد التأمين ينبني على منتهى حسن النية، ويتجلى ذلك في الثقة المتبادلة بين الطرفين، فيعتمد المؤمن إلى حد كبير على ما يدلي به طالب التأمين من بيانات متعلقة بالشخص أو بالظروف المحيطة بالخطر المطلوب التأمين منه[40]. لذلك يرى بعض الباحثين أن أساس قابلية الخطر الظني للتأمين يتمثل في علاقته المتينة بمفهوم حسن النية الذي يؤطر عقد التأمين في شموليته[41].
إن الاحتمال في هذه الحالة ينتج عن جهل الأطراف المتعاقدة لتحقق الخطر المؤمن منه قبل إبرام العقد، وهو ما يفسر أيضا إقرار القضاء لبنود مراعاة الماضي غير المعلوم. ويعتبر ذلك تكريسا ضمنيا لقابلية الخطر الظني للتأمين في المجال البري. وتجدر الإشارة إلى أن تقدير الاحتمال يتم في الوقت الذي تلتقي فيه إرادة الأطراف لإبرام العقد وليس أثناء تسلم وثيقة التأمين[42].
ومع ذلك، فإذا كان من المفروض أن يكون الخطر الظني قابلا للتأمين تطبيقا لمبدأ حسن النية وتماشيا مع قرارات محكمة النقض الفرنسية الصادرة في هذا الشأن، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن القضاء الفرنسي تراجع نسبيا عن ذلك من خلال قرار محكمة النقض[43] الصادر بتاريخ 11 يونيو 2009، والذي اشترط أن يتضمن عقد التأمين اتفاقا صريحا على ضمان الخطر الظني.
الفقرة الثانية: عنصر الاحتمال في عقود التأمين التكافلي
لما كانت ممارسات التأمين التقليدية محل خلاف وجدل فقهي حول مشروعيتها بسبب احتوائها على الغرر، خصوصا وأن عقود التأمين التجارية تندرج ضمن عقود المعاوضة، ظهر التأمين التكافلي كبديل عن تلك العقود التقليدية باعتباره مبنيا على أساس التبرع والتعاون. إلا أن النقاش حول الفرق بين التأمين التقليدي والتأمين التكافلي لا زال قائما خاصة فيما يتعلق بوجود الغرر وتأثيره فيهما.
أولا: فكرة التبرع كأساس للتأمين التكافلي
يقوم التأمين التكافلي على مبدأ التبرع بين المشتركين بهدف تغطية الأخطار المؤمنة . ويعتبر القسط، الذي يسمى أيضا اشتراكا، التبرع الذي يسهم به المشترك، ويؤديه عن رضاء تام لتعويض من يصيبه ضرر. ويتحمل مجموع المشتركين الخطر ويتعاونون فيما بينهم من أجل تفتيت المخاطر التي قد يتعرضون لها[44]. وتصبح هذه الأموال المقدمة منهم ملكا للشخصية الاعتبارية للجمعية التي يمتلكونها جميعا ، ويتمتعون بما تقدمه من خدمات لجميع أعضائها، بينما المستأمنون في التأمين التجاري لا يدفعون الأقساط على سيبل التبرع بل هي مقابل للخدمة التأمينية التي تقدمها لهم شركات التأمين، وهي شركات مساهمة ملك لأصحابها تم إنشاؤها بغية تحقيق الربح، وفي حالة التعويض المالي عن الحادث المحتمل إذا وقع يأخذ التعامل شكل المعاوضة المالية بأجل مع تفاوت في قيمة النقدين[45].
وعليه، فإذا انتفى التبرع في عقد التأمين التكافلي بقي أن يكون عقد معاوضة. والمعلوم أن كل معاوضة يجهل تكافؤ عوضها، أو لا يوثق بحصولها فهي من الغرر. والغرر في المعاملات ممنوع من منظور الشريعة الإسلامية خاصة في المعاوضات[46]. فالالتزام بالتبرع هو التزام أقدم عليه المؤمن له وشرطه على نفسه راغبا طائعا ومختارا، وما يكون في نظام التأمين التكافلي من غرر فهو محتمل ، إذ يتعلق الأمر بعقد تبرع وليس عقد معاوضة ويغتفر الغرر في عقد التبرع ما لا يغتفر في عقد المعاوضة[47].
ويعرف الفقيه المالكي الحطاب الالتزام بالتبرع في كتابه” تحرير الكلام في مسائل الالتزام” على أنه إلزام الشخص نفسه شيئا من المعروف من غير تعليق على شيء[48]. ويعد عقد التأمين التكافلي من عقود التبرعات، مثل الهدية والهبة والأعطية ونحو ذلك، التي لا يفسدها الغرر و إن كان كبيرا، لأن مبنى هذه العقود قائم على الإرفاق والتعاون والتكافل ونحوه، التي تمنح من طرف إلى آخر من دون مشاحة بينهما وليس على مبدأ الربح والمتاجرة[49].
وينتج عن كون هذا العقد عقد تبرع انتفاء صفة الاحتمال عنه، والمراد هو عدم تمكن أحد طرفي العقد من معرفة مقدار ما يأخذ أو ما يعطي عند التعاقد، ذلك أنه لا يشترط في جواز التبرع معرفة المتبرع عند التبرع مقدار ما تبرع به على وجه التحديد، وهذا هو معنى القول بأن الغرر والجهالة يغتفران في التبرعات تشجيعا على فعل الخير من جهة ولعدم تضرر المتبرع إليه بالغرر والجهالة من جهة أخرى، لأنه لم يبذل عوضا في مقابل هذا التبرع فلا مخاطرة ولا غرر[50].
فالمؤمن له يلزم نفسه بالتبرع لمجموعة المشتركين الآخرين، أما ما يحصل عليه المؤمن له المتضرر فهو أيضا التزام بالتبرع إلا أنه معلق على وقوع الضرر المؤمن منه.
ويؤاخذ على ذلك أن شركة التأمين، التي أنشأت وعاء التأمين، تلتزم بتعويض الأضرار المؤمن منها بشرط أن يلتزم المشتركون بالتبرع إليها، فلا يلتزم وعاء ، التأمين بالتعويض لمن لا يلتزم بالتبرع له بالقسط، فنكون تبعا لذلك، أمام التزامين من طرفين كل منهما مرتبط بالآخر[51]. ومتى اشترط الالتزام بأن يدفع الملتزم له شيئا للملتزم، فإنه يأخذ حكم هبة الثواب أي هبة العوض[52].
كما تضاربت الآراء حول ما يتبرع به المؤمن له لوعاء التأمين. هل يخرج من ملكه أو أنه يبقى في ذمته؟
فالقول بأن الاشتراكات التي دفعها المؤمن لهم قد خرجت من ملكهم وأنهم تبرعوا بها لوعاء التأمين يعني أنه لا يبقى أي حق في هذه الاشتراكات غير أن الواقع عكس ذلك، حيث يرجع الفائض التأميني إلى المشتركين بحكم العقد[53]، وهو ما يتعارض مع مبدأ التبرع الخيري الذي جمعت به أقساط التأمين من المؤمن لهم، إذ لا يجوز الرجوع في الهبة والتبرع.
لذلك، ومن أجل تلافي هذا التناقض، أخرج القسط التأميني كهبة ثواب. إلا أن هذا المخرج اعترض عليه لأنه اعتبر عقد معاوضة به غرر فاحش، إذ لا يعرف الواهب مقدما مقدار الثواب الذي سيحصل عليه[54].
ثانيا: أثر الغرر في عقود التبرعات
إذا كانت القاعدة العامة في الفقه الإسلامي أن الغرر يؤثر في سائر عقود المعاوضات المالية فيمنع صحتها، فإن عقود التبرعات لا يؤثر الغرر في صحتها. وهو حكم يمتاز به المذهب المالكي على سائر المذاهب.فتأثير الغرر في غير عقود المعاوضات أخف من تأثيره في عقود المعاوضات. وبما أنه لا يمكن نفي جميع الغرر في العقود، فإن هنالك ضابط للغرر المؤثر الذي يكون معه العقد غير صحيح[55].
ففي هذا الصدد ، ذهب الأستاذ علي الخفيف، في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية، إلى جواز عقد التأمين. واعتبر الغرر فيه من المغتفر، معتمدا في ذلك على أن الغرر المانع من جواز المعاملة هو ما أدى إلى نزاع، وأن الغرر الموجود في عقد التأمين لا يؤدي إلى نزاع، فاستدل على ذلك بشيوع عقد التأمين وانتشاره دون أن يبطلوه. كما استشهد الأستاذ علي الخفيف على أن الغرر في عقد التأمين غير مؤثر بأن هناك عقودا جوزها كثير من الفقهاء مع أن ما فيها من الغرر أكثر من الغرر الذي يوجد في عقد التأمين.
ومثال ذلك، دخول الحمام نظير أجر معين دون أن يتحدد مقدار ما يستعمل من الماء وما يقضي فيه من الزمن[56] .
ويعتبر جانب من الفقه الإسلامي أن الغرر المؤثر هو الغرر الكثير في عقود المعاملات المالية، إذا كان في المعقود عليه أصالة ولم تدع للعقد حاجة[57].
ونفهم من ذلك أن الغرر اليسير لا يؤثر في العقود وهو ما لا يكاد يخلو منه أي عقد، لذلك اشترط الغرر الكثير حتى نكون بصدد الغرر المؤثر الذي صار العقد يوصف به. وعلاوة على ذلك، يشترط أن يكون الغرر في عقد من عقود المعاوضات المالية، ذلك أن عقود التبرعات لا يترتب على الغرر فيها خصومة ولا أكل للمال بالباطل.
إلا أن رأي الجمهور على خلاف ذلك، إذ يرون أن الغرر يؤثر أيضا في عقود التبرعات[58]، غير أن هناك من الباحثين[59] في الفقه الإسلامي من يرى أنه لا يؤثر في التأمينات التكافلية كما يؤثر في التأمينات بقسط ثابت، لأن التأمين التكافلي من قبيل التعاون والبر والتعاون، والتبرعات يغتفر فيها الغرر.
المطلب الثاني: اختفاء عنصر الاحتمال في مرحلة تنفيذ عقد التأمين
إذا كان إبرام عقد التأمين يتطلب وجود عنصر الاحتمال نظرا لارتباطه بركن الخطر المؤمن منه، فإن التساؤل يطرح حول مدى أهميته ولزوم حضوره على طول الفترة التعاقدية، وهو ما سنتناوله فيما يلي بالتفصيل حيث سنتطرق إلى زوال الاحتمال بإرادة المؤمن له ( الفقرة الأولى) وآثار ذلك على عقد التأمين ( الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: اختفاء عنصر الاحتمال بفعل خطأ المؤمن له
قد يكون خطأ المؤمن له متعمدا بحيث يكون تحقق الخطر متعلقا بمحض إرادته، مما يفضي إلى زوال عنصر الاحتمال ويصبح الخطر مؤكد الوقوع. كما يمكن، في المقابل، أن يقع الخطر بفعل خطأ المؤمن له غير المتعمد. ففي هذا الصدد يطرح تساؤل حول مدى قابلية خطأ المؤمن له للتأمين سواء في حالة الخطأ غير المتعمد (أولا) أو الخطأ المتعمد (ثانيا).
أولا: قابلية الخطأ غير المتعمد للتأمين
كان الرأي السائد في فرنسا يتمثل في أن الحوادث التي يجوز التأمين منها هي التي تترتب عن الفجائية، والتي هي من قبيل الصدفة دون الأخطاء ولو كانت غير متعمدة، بدعوى أن السماح بالتأمين منها يشجع المؤمن له على ارتكاب الخطر المؤمن منه بإهمال ورعونة، وهو مطمئن إلى أنه مغطى بالتأمين. وسرعان ما تم قبول التأمين من الأخطاء غير المتعمدة دون الأخطاء المتعمدة، وذلك لأن أغلب الأخطار ليست ناجمة عن الصدفة وحدها وإنما قد تولد أيضا عن فعل المؤمن له[60].
وقد يكون الخطأ الصادر عن المؤمن له مقصودا ولكن له ما يبرره. ففي هذه الحالة لا يعتبر خطأ متعمدا لافتقاده للعنصر المعنوي المتمثل في قصد إحداث الضرر.
ويكون خطأ المؤمن له مبررا إذا كان الدافع إليه أسباب مشروعة لا تتعارض مع النظام العام .ويتحقق ذلك في الحالات التالية[61] :
إذا كان الدافع إليه توقي وقوع الخطر أو الحد من عواقبه.
إذا كان سببه تأدية واجب كما إذا ارتكب المؤمن له الخطأ في سبيل إنقاذ شخص معرض للخطر أو لمنع وقوع ضرر حال بالغير أو المصلحة العامة.
إذا صدر الخطأ عن المؤمن له دفاعا عن نفسه.
ولا شك أن الخطأ غير المتعمد تشمله التغطية خاصة وأنه لم يرد ضمن الأفعال المستثناة من التأمين من طرف القانون، كما أن المادة 17 من مدونة التأمينات تنص على أن ”المؤمن يتحمل الخسائر والأضرار الناتجة عن الحادث الفجائي أو الناتجة عن خطأ المؤمن له، عدا استثناء صريح ومحدد في العقد”. وأضاف المشرع في الفقرة الثانية من نفس المادة أن المؤمن لا يتحمل، رغم أي اتفاق مخالف، الخسائر والأضرار الناتجة عن خطأ متعمد أو تدليسي للمؤمن له[62].
ويفهم من منطوق الفقرة الثانية من المادة 17 من مدونة التأمينات أن الخطأ غير المتعمد قابل للتأمين، ذلك أن المشرع أشار إلى الخطأ المتعمد والتدليسي كسببين لإعفاء المؤمن من الضمان، إذ إن المقصود بخطأ المؤمن له الوارد في الفقرة الأولى من المادة أعلاه هو الخطأ غير المتعمد. ويراد به كل خطأ يصدر عن المؤمن له عن إهمال أو تهور، أي بدون قصد، لا فرق بين الخطأ اليسير والخطأ الجسيم[63].
وتجدر الإشارة إلى أن الخطأ الجسيم لا يشمل الاحتيال وسوء النية، وهذا ما يميزه عن الخطأ التدليسي. ففي هذا الصدد يرى الفقيهان بيكار وبوسون [64] Picard et Besson) ( أنه لا يصح إعمال أحكام التدليس على الخطأ الجسيم، فهما عنصران متباينان. ذلك أن التدليس هو فعل ينطوي على سوء النية مع وجود إرادة للحصول على نتيجة الفعل في حين أن الخطأ الجسيم ينتج عن إهمال أو تهور دون أن تكون لفاعله نية إحداث الضرر.
ويتميز الخطأ الجسيم أيضا عن التدليس بكون هذا الأخير يتعارض مع النظام العام عكس الأول، إذ إن الخطأ وإن كان جسيما فإن المؤمن له لا شك أنه يريد إتيان الفعل وليس نتيجة الفعل[65]، وهذا ما يجعل الاحتمال قائما وبالتالي يتحمل المؤمن ما ينتج عنه من أضرار وخسائر[66] .
في نفس الاتجاه سار القضاء الفرنسي من خلال أحد قرارات محكمة النقض الصادر بتاريخ 7 أبريل 1987 عن الغرفة التجارية، حيث نقض قرارا لمحكمة الاستئناف بأنجيه (Angers) الذي أسس على بند في عقد التأمين ينص على استبعاد الخطأ الجسيم الذي تقرره المحكمة من الضمان، فاعتبرت محكمة النقض الفرنسية أن هذا الشرط غير مؤسس على أسس مؤكدة ولا يستجيب لمتطلبات قانونية، وبالتالي لا يمكن إعمال الاستثناء الوارد في الفقرة الأولى من الفصل L113-1 من قانون التأمين في هذه الحالة[67].
ويتضح من خلال هذا القرار أن القضاء الفرنسي يتجه نحو تفسير الاستثناء المتعلق بالخطأ الجسيم والمنصوص عليه في عقد التأمين بشكل ضيق لصالح المؤمن له حتى لا يتم استبعاده من التأمين، وهو ما يوافق مقتضى النص القانوني[68] الذي يميز بين الخطأ الجسيم ، الذي تشمله التغطية، والخطأ التدليسي أو العمدي الذي ينطوي على سوء نية المؤمن له وبالتالي انتفاء صفة الاحتمالية.
ثانيا: استثناء الخطأ المتعمد أو التدليسي من التأمين
أشرنا فيما سبق إلى أن الخطر القابل للتأمين يكتسي طابعا احتماليا. ومعنى ذلك أن تحققه ينبغي أن يكون مستقلا عن إرادة الطرفين المتعاقدين.
فتنفيذ المؤمن لالتزامه بأداء مبلغ الضمان عند حدوث الخطر المؤمن منه لا يتم إلا إذا كان حصول الحادث ناتجا عن الصدفة، ذلك أن تدخل إرادة أحد الطرفين أو كلاهما في ذلك ينفي صفة الاحتمال التي تعتبر مكونا أساسيا في مفهوم الخطر[69].
وفي ذلك تنص الفقرة الثانية من المادة 17 من مدونة التأمينات على أن ” المؤمن لا يتحمل، رغم أي اتفاق مخالف، الخسائر والأضرار الناتجة عن خطأ متعمد أو تدليسي للمؤمن له”. ومعنى ذلك، أن الحادث المؤمن يجب أن يكون مفاجئا وعرضيا أي غير مدبر أو متعمد، لأن التعمد أو التدبير يخرج الظواهر الطبيعية أو العامة عن انتظامها المألوف وبالتالي يصعب التنبؤ بها مستقبلا بدقة. كما يلغي هذا التعمد حالة الشك أو عدم التأكد بالنسبة للفرد[70].
ويرى الأستاذان بيكار وبوسون[71] (Picard et Besson) أن أساس عدم جواز التأمين من الخطأ المتعمد يتمثل في أن الحادث المؤمن منه لا يكون احتماليا إلا إذا كان حصوله بفعل الصدفة ، وبالتالي فإن توقف تحقق الحادث على فعل المؤمن له العمدي يعني أن هذا الحادث لا يتصف بالطابع الاحتمالي، وهو ما يؤدي إلى انعدام شرط من شروط الخطر وهو عدم التأكد حيث يصبح الحادث مؤكدا بالنسبة للمؤمن له.
ومع ذلك، فقد ذهب رأي آخر[72] إلى أن الأساس الصحيح لعدم جواز تأمين الخطأ العمدي يرجع، بالإضافة إلى ما سبق، إلى اعتبارات تتعلق بالأخلاق والنظام العام. والتأمين من الخطأ العمدي معناه تحميل الغير نتائج غش المتعمد وتشجيع هذا الأخير على ارتكاب الخطأ. ومعناه أيضا أنه لا مصلحة للمؤمن له في عدم تحقق الخطر وبالتالي ينتفي كذلك عنصر المصلحة في التأمين.
ويكون الخطأ متعمدا وبالتالي لا يقبل التأمين، إذا كان المؤمن له قد أراد ليس الفعل أو الامتناع المؤدي إلى الضرر فحسب، وإنما الضرر ذاته أيضا. والخطر العمد لا يكون موجودا إلا بالقدر الذي يتطابق فيه الضرر الواقع مع الضرر كما أراده مرتكبه[73]، وفي هذا الصدد صدر قرار[74] لمحكمة النقض الفرنسية بتاريخ 10 أبريل 1996 يقر بناء على الفقرة الثانية من الفصل L113-1 من قانون التأمين الفرنسي، الذي يقابل المادة 17 من مدونة التأمينات المغربية، على أن الخطأ المتعمد الذي يعفي المؤمن من الضمان هو الخطأ الذي يفترض فيه وجود إرادة لدى المؤمن له في إحداث الضرر نفسه وليس فقط الفعل المؤدي إليه . فقصد إحداث الضرر إذن له دور فعال في سقوط الضمان لتعارضه مع الاحتمال كعنصر جوهري في التأمين.
ونجد القضاء الفرنسي الحديث يتجه نحو تفسير الخطأ العمدي تفسيرا واسعا وذلك من خلال تمييزه بين المفهوم الذاتي والمفهوم الموضوعي للخطأ المتعمد. حيث يوصف هذا الخطأ بالذاتي حينما تكون للمؤمن له نية إحداث الضرر كما أراده مرتكبه في حين ينعث بالخطأ المتعمد الموضوعي بمعنى الخطأ التدليسي عندما يكون المؤمن له واعيا بالعواقب الحتمية لخطئه الذي يستهدف من خلاله التنصل من التزاماته التعاقدية . فالخطأ التدليسي يهم كل الحالات الأخرى التي يزول فيها عنصر الاحتمال[75]. وهو ما يؤكده قرار[76] صادر عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 12 شتنبر 2013 حيث اعتبر أن المؤمن له وإن كان لا يقصد الأضرار الناتجة عن فعله إلا أنه حاول عن وعي عبور النهر باستعمال وسيلة نقل غير ملائمة لذلك، إضافة إلى تصريحه الخاطئ عن ملابسات الحادث الشيء الذي يثبت خطأه التدليسي والذي ينتفي معه الطابع الاحتمالي اللازم لتغطية الخطر. وهذا بخلاف التأمين من المسؤولية التي يمكن في إطارها أن يسعى المؤمن له إلى التسبب في وقوع الخطأ من دون أن يسعى بالضرورة عن وعي إلى إحداث الضرر، حيث لا يعي المؤمن له، في هذه الحالة، عواقب فعله. فهنا يجب أن يثبت أن المؤمن له قصد إحداث الضرر، أو على الأقل الظروف تبين أنه ما كان ليجهل عواقب فعله من حيث أنه سيؤدي بالضرورة إلى إحداث الضرر، كما في حالة المهني الذي يرتكب الخطأ عن وعي وهو يعلم أن الضرر حاصل لا محالة[77].
والجدير بالذكر أنه يصعب تقدير نية الإضرار في هذه الحالة، ذلك أنه يتوجب على القاضي أن يبين أن المؤمن له في التأمين من المسؤولية المهنية قد خرق عمدا التزاماته وهو واع بالعواقب الحتمية لفعله وأنه أراد الضرر الذي لحق بضحيته.
ففي هذا الصدد، يرى الأستاذ ”مايو MAYAUX ”[78] أن الخطأ التدليسي يستلزم أن يكون المؤمن له في المسؤولية المهنية واعيا بالفعل الذي ارتكبه بإرادته الحرة، أي أن له نية الخرق المتعمد لالتزاماته التعاقدية.
ويفهم من ذلك أن إرادة مرتكب الخطأ لا تنصب فقط على الفعل ولكن تنصب أيضا على نتائجه. لذلك لا يفترض أن يكون هناك تطابق بين الضرر الذي ينوي المؤمن له إحداثه والضرر الذي حصل بالفعل، وهذا ما يميز الخطأ التدليسي عن الخطأ المتعمد، حيث يمكن تعويض مفهوم الإرادة بالوعي لدى المؤمن له في التأمين من المسؤولية المهنية بأن وقوع الضرر حتمي. إلا أن مسألة العلم بعواقب فعله لا تعدو أن تكون قرينة بسيطة تحتمل إثبات العكس، إذا أثبت المؤمن له المهني أنه لم يكن يعلم بعواقب فعله أي إحداث الضرر.
وهذا ما يؤكده قرار[79] حديث لمحكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 26 أكتوبر 2017، حيث اعتبر أن قرار محكمة الاستئناف ببطلان شرط سقوط الضمان هو قرار سليم مبني على أسس قانونية، ذلك أن المؤمن له في هذه الحالة لم يكن يعي حجم الضرر الذي سيلحق بالزبون ولم تكن لديه نية الإضرار به عندما ارتكب خطأ مهنيا بعدم التدخل لحل مشكل برمجة جهاز الأداء الالكتروني في التاريخ المحدد لذلك كما اتضح للمحكمة من خلال وقائع القضية المعروضة أمامها، مما ينتفي معه الخطأ التدليسي. واستنتجت المحكمة بالتالي أن الحادث إنما نتج عن خطأ غير متعمد، وهو ما يجعل الطابع الاحتمالي قائما.
وتبعا لذلك، أكدت محكمة النقض على بقاء التزام المؤمن بضمان المسؤولية المهنية قائما ومرتبا لآثاره.
وبما أن مهمة تقدير سوء نية المؤمن له ليست بالسهلة، فقد ذهب القضاء الفرنسي إلى أن سقوط الضمان عند ارتكاب المؤمن له خطأ تدليسيا يقوم متى تبث أنه يعرف عواقب فعله أو امتناعه، ولا حاجة لنية الإضرار. فغياب الاحتمال يوازي وجود النية[80].
الفقرة الثانية: آثار انقضاء عنصر الاحتمال في عقد التأمين
يترتب عن انتفاء وصف الاحتمال عن عقد التأمين في مرحلة تنفيذ العقد إما سقوط حق المؤمن له في الضمان (أولا) أو بطلان عقد التأمين (ثانيا).
أولا: إعفاء المؤمن من التزامه بالضمان
يواجه انقضاء الاحتمال في عقد التأمين في طور التنفيذ بسقوط حق المؤمن له في الضمان، شريطة وجود بند صريح وقانوني ينص على ذلك في وثيقة التأمين. ومع ذلك، يبقى النقاش القانوني بشأن آثار اختفاء الاحتمال أثناء تنفيذ العقد يتمحور حول مدى مشروعية بنود الاستثناء (clauses d’exclusion) الواردة في عقد التنفيذ[81]. ففي هذا الصدد أكد قرار[82] صادر عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 29 أكتوبر 2002 على أن البند الوارد في عقد التأمين والذي ينص على أن سلوكا معينا للمقاولة المؤمن لها من شأنه أن يزيل عنصر الاحتمال في العقد وبالتالي سقوط الضمان، هو بند صريح وواضح ويوافق مقتضى الفصل
L113-1 من قانون التأمين.
ويعتبر السقوط انقضاء حق المؤمن له في الضمان في حالة إخلاله ببنود العقد، وتعرفه المادة الأولى من مدونة التأمينات بأنه ” حالة لا تعدم عقد التأمين ولا يزول إلا حق التعويض بالنسبة لحادث معين على إثر إخلال المؤمن له بأحد التزاماته”. فالسقوط عقوبة خاصة (Peine privée) تتمثل في فقدان الحق في الضمان وتستهدف دفع المؤمن لهم إلى تنفيذ التزاماتهم التعاقدية، ولا يمكن مواجهة المؤمن لهم بالسقوط ما لم يرد بشأنه شرط صريح في العقد[83].
وأسباب السقوط متعددة، كإخلال المؤمن له بالالتزام بالحد من النتائج الضارة للكارثة، والتزامه بإبلاغ السلطات في التأمين من السرقة، والتزامه بعدم المبالغة، غشا، في الأضرار الناجمة عن الحوادث[84] .
فسقوط الحق، إذن، هو جزاء يقع على عاتق المؤمن له جزاء إخلاله بالتزاماته بعد وقوع الحادث. ويختلف بالتالي عن البطلان الذي يقدر يوم نشأة العقد، عند الإخلال بالتصريح بالخطر، أو يوم تفاقم الخطر أثناء سريان العقد[85].
هذا، و تهدف التأمينات من الأضرار إلى حماية المؤمن له من عواقب الحوادث التي قد تلحق أضرارا بذمته المالية. ولكي يحقق التأمين هدفه في بث الأمان وتعويض المؤمن له عن الخسائر التي لحقت ذمته المالية دون أن يكون وسيلة للكسب وتحقيق الربح والإثراء، فإن هذا التأمين يحكمه مبدأ الصفة التعويضية الذي يندرج ضمن النظام العام بحيث لا يجوز مخالفته. فهو يهدف إلى منع المؤمن له من تعمد إيقاع الخطر المؤمن منه استعجالا للحصول على مبلغ التعويض ومنع إثراء المؤمن له من جراء الخسارة التي أصابته تفاديا لإبعاد التأمين عن غايته الأساسية المتمثلة في التعاون فيما بين المؤمن لهم وليس المضاربة لتحقيق الربح[86] .
كما يقوم عقد التأمين أيضا على مبدأ المصلحة الذي يكفل للتأمين تحقيق وظائفه. فإذا كان من المتصور أن يكون المؤمن على حياته شخصا آخر غير المؤمن له، بحيث يترتب على وفاة الأول استحقاق لمبلغ التأمين سواء لفائدة الثاني أو لشخص آخر غير المؤمن له، فإن هذا قد يغري المؤمن له أو المستفيد بتعجيل وفاة المؤمن عليه . لذلك أخرج المشرع المغربي أسوة بغيره من التشريعات الخطأ المتعمد من دائرة التأمين[87].
وإذا كانت التشريعات المختلفة قد وضعت جزاء لتعمد المؤمن أو المستفيد الاعتداء على حياة الغير، بأن قضى بحرمانه من مبلغ التأمين، فإن هذه الوسيلة ليست وقائية ذلك أنها لا تمنع من إبرام العقد ابتداء، كما أنها لا تثني المؤمن له أو المستفيد عن عزمه بقتل المؤمن له متى حرص على إخفاء فعلته.وعلى كل حال فإن سقوط حق المؤمن له أو المستفيد في مبلغ التأمين يقتضي إثبات تسببه عمدا في وفاة الغير، وهذا ليس بالأمر السهل. وهنا تظهر أهمية شرط المصلحة التي تتمثل في الفائدة التي تعود على المؤمن له أو المستفيد من المحافظة على حياة المؤمن عليه، لأنه متى توافرت هذه المصلحة فإن وفاة هذا الأخير تصيب المؤمن له أو المستفيد بالضرر[88]. فالمصلحة مرتبطة إذن بالخطر المؤمن منه.
وفضلا عما سبق، فإن التأمين يقوم على مبدأ حسن النية كمبدأ لازم في كل العقود، لكن بدرجة أكبر في عقد التأمين نظرا للطبيعة الخاصة لهذا العقد وللالتزامات الناشئة عنه.
وقد عرف أحد الباحثين حسن النية بأنها عقد الإرادة وتوجه السلوك في التصرفات والأفعال على نحو ايجابي يتفق مع قواعد الصدق والأمانة وشرف التعامل وتجنب كل ما يخل بذلك من تصرفات سلبية تنطوي على الغش والإضرار[89].
فلا يكفي للوفاء بمتطلبات عقد التأمين أن يتصرف طرفاه بحسن النية، بل لا بد من التقيد بمنتهى حسن النية. وفي ذلك يقول الأستاذ الحسين بلوش[90] بأنه يجب النظر إلى حسن النية بمفهومه الخاص في عقد التأمين، الذي يختلف عن حسن النية في تنفيذ العقود المدنية الأخرى، في كون هذا الأخير يسري على كافة العقود في مرحلة تنفيذها. أما حسن النية في مجال التأمين فيكون لازما في المرحلة السابقة للتعاقد وأثناء سريان العقد. ومؤداه أن المؤمن يعتمد اعتمادا كليا على البيانات التي يصرح بها المؤمن له.
وتطبيقا لهذا المبدأ، فإن المشرع المغربي، على غرار ما هو عليه الأمر في التشريع الفرنسي، يميز في تحديد الجزاءات بين المؤمن له سيء النية ويعامله معاملة قاسية، والمؤمن له حسن النية ويخصه بمعاملة ألطف.
وتبعا لذلك، فإن إقدام المؤمن له مثلا، على إعلان بيانات كاذبة عن تاريخ الحادثة أو أسبابها أو ظروفها للمؤمن قصد تضليله، أو إذا سكت عمدا عما يجب إعلانه يقصد إخفاءه، فإنه سيكون عرضة لسقوط حقه في الضمان. ويعتبر السقوط كلا لا يتجزأ بحيث لا يشمل كل العناصر والضمانات في العقد[91].
ثانيا: بطلان عقد التّأمين
إن ما يعتبر احتماليا في عقد التأمين هو تحقق الخطر وليس وجوده، وهو ما يعني أن التزام المؤمن بتغطية الخطر قائم منذ اكتتاب العقد، في حين أن حصول الحادث المؤمن منه غير مؤكد الوقوع وبالتالي فإن التزام المؤمن بأداء التعويض عن الضرر الحاصل يبقى احتماليا ومرتبطا بتحقق الخطر.
وتبعا لذلك، فإن غياب الاحتمال يفضي إلى بطلان العقد باعتباره عنصرا جوهريا في عقد التأمين[92]، سواء عند الاكتتاب أو في مرحلة تنفيذه[93].
ويعتبر الإخلال بالالتزام بالتصريح بتفاقم الخطر أهم الأسباب المؤدية إلى اختلال التوازن العقدي، ذلك أنه مرتبط بصفة مباشرة بعنصر الخطر الذي يقوم بالأساس على عنصر الاحتمال، فهذا الأخير هو الذي يضمن التوازن بين الطرفين وبالتالي فإن كل تغيير في درجة الاحتمال بالنسبة لأحد المتعاقدين يفضي إلى اختلال هذا التوازن. غير أن المشرع المغربي سكت عن الجزاء الواجب التطبيق على المؤمن له المخالف للالتزام بالتصريح بتفاقم الخطر. لذلك يرى الأستاذ الحسين بلوش[94] أنه يجب تطبيق الجزاء المنصوص عليه في المادة 30 على المؤمن له سيء النية والمادة 31 على المؤمن له حسن النية، وذلك للأسباب التي يجملها فيما يلي:
إن القضاء المغربي يميل إلى تطبيق جزاءات البطلان والتخفيض النسبي على الإخلال بالالتزام بالتصريح بالخطر
إن طبيعة الالتزام بالتصريح بالخطر لا تختلف باختلاف زمن حصوله. فالهدف منه هو تنوير المؤمن عن الخطر حتى يكون على بينة من الأمر وتحديد القسط المناسب.
فتصرف المؤمن له بماله المضمون بعقد التأمين قد يترتب عليه تفاقم الخطر المؤمن ضده، وهذا التعديل أمر مشروع وقد تتطلبه أنشطة المؤمن له. لكن من غير المقبول أن تؤدي هذه التعديلات إلى الإضرار بالمؤمن. فالتغيير الذي يتم بفعل المؤمن له لا يجب أن يكون من الأهمية بحيث يزيد من درجة احتمال وقوع الخطر أو درجة جسامته. أما إذا كانت التعديلات التي يجريها المؤمن له لا تؤثر في الخطر المؤمن ضده على النحو السابق، فلا نكون بصدد الالتزام بالإعلان أصلا، لأن المؤمن له لا يلتزم إلا بإعلان الظروف المؤثرة على الخطر وعلى فكرة المؤمن عنه[95].
وطبقا للمادة 30 من مدونة التأمينات فإن عقد التأمين يكون باطلا في حالة كتمان أو تصريح كاذب من طرف المؤمن له، إذا كان هذا الكتمان أو التصريح الكاذب عمدا يغير موضوع الخطر أو يؤثر في فكرة المؤمن حول الخطر المؤمن منه.
ويفهم من منطوق هذه المادة أنه لكي يؤدي التصريح الكاذب أو الكتمان إلى البطلان، لا بد أن ينطوي على سوء النية والغش وإلا فتطبق مقتضيات المادة 31 من ذات المدونة.
ويتم تقدير سوء نية المؤمن له بالنسبة للتصريح بتفاقم الخطر أثناء تنفيذ العقد بالنظر إلى وقت حصول التفاقم. ولا يشترط لتطبيق جزاء البطلان على المؤمن له سيء النية أن يكون الكتمان أو التصريح الكاذب قد نتج عن الحادث إذ إن المستهدف هو الغش وليس النتيجة. لهذا السبب فإنه لا يهم إذا كان الغش قد اكتشف قبل الحادث أو بعده. كما لا يؤخذ بعين الاعتبار كون الواقعة المغفلة أو المصرح بها تصريحا كاذبا قد اكتشفت بعد زوالها، لأن الزوال لا يمحي الغش الذي يريد القانون معاقبته[96]، خاصة وأن عقد التأمين مبني على خاصية حسن النية التي يرجع سببها إلى الطبيعة الاحتمالية للخطر محل التأمين وكون المؤمن يعتمد كليا في تقدير الخطر على ما يصرح به المؤمن له من معلومات[97].
وأما عن آثار البطلان بالنسبة للعقود التي تغطي الأخطار المتعددة حين يختفي عنصر الاحتمال عن بعض الأخطار المؤمن منها في هذا النوع من العقود، فيرى بعض الفقه[98] بأن تقدير الاحتمال بالنسبة لكل خطر على حدة يتم بشكل منفصل عن الأخطار الأخرى المؤمن منها، وأن البطلان لا يطبق إلا بالنسبة لضمان الخطر الذي ينتفي فيه الطابع الاحتمالي إلا إذا كان العقد غير قابل للتجزئة.
(محاماه نت)