دراسات قانونية

الآثار الجبائية و السوسيو ثقافية لمعضلة التهرب الضريبي (بحث قانوني)

الآثار الجبائية و السوسيو ثقافية لمعضلة التهرب الضريبي

بقلم الأستاذ المالكي محمد ـ

هيئة المحامين الدارالبيضاء

باحث في الحكامة المحلية

مقدمة :

لقد شكل فرض الضرائب والرسوم في كثير من الأحيان مصدر سخط وغضب واحتجاج لكثير من الشعوب عبر العالم، وقد أخذت مظاهر السخط في بعض الأحيان أشكال عنف مفتوح ومباشر في مواجهة الأجهزة الجبائية، وتمرد على السلطات المختصة واللجوء إلى أشكال منظمة لرفض التوجهات الحكومية على المستوى الجبائي، وبالرغم من كون الجبايات تشكل المصدر الأساسي للتمويل العمومي، إلا أن الكثير من الملزمين يعمدون إلى التهرب من دفعها والتحايل على القوانين المنظمة لها، وتجاوز لذلك عملت الكثير من الدول على إقرار نصوص تشريعية تنظم الميدان الجبائي.

وقد حاول الفقهاء تحديد مفهوم الجباية بناء على وضع تكييفات قانونية تحدد ماهيتها وعناصرها، ووضع أسس فرضها لتبرير مشروعيتها وضمان قبولها إلى جانب قواعد علمية وفنية لضمان سلامتها، لذلك يعتبر موضوع الجباية من الموضوعات التي شغلت بال الحكومات على مر العصور نظرا لما لها من أثر عميق على أحوال الشعوب السياسية والاقتصادية والاجتماعية[1]. فالضريبة هي ذلك الرباط المادي الذي يربط الفرد بحكومته وبقية أفراد المجتمع، وهي في نفس الوقت أداة سياسية فعالة سواء في المجال المالي أو الاقتصادي أو الاجتماعي[2].

و تتجلى أهمية دراسة ظاهرة التهرب الضريبي في خطورتها بالنظر إلى الانعكاسات التي تترتب عنها، وخطورتها تكمن في تكتمها وسريتها، والتي تمثل سر نجاحها وبقائها واستمرارها، فالتهرب الضريبي يفوت على خزينة الدولة أموال طائلة ومهمة لو تم استثمارها وتوظيفها لحققت التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة، لذلك فإن إمكانية الإحاطة بنسبة التهرب الضريبي بلغة الأرقام تبقى صعبة، وهي صعوبة تكمن في حساسية الظاهرة وكذلك ذكائها من خلال حرص وحذر وذكاء ممتهنيها في عدم ترك أثر يدل عليها.

وتبقى ظاهرة التهرب الجبائي ظاهرة خطيرة أرهقت مالية الدولة والجماعات الترابية ،إذ أضعفت المردودية الجبائية و أربكت السياسات الوطنية و المحلية ، فكانت تأثيراتها وخيمة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي أجلت موعدها مع التنمية.
والتهرب الجبائي يمكن اعتباره أحد العوامل الرئيسية التي تأثر في كل القطاعات المرتبطة بالتدبير المالي وآثاره متعددة ومختلفة على اعتبار أن القطاعات المرتبطة بالمالية العامة تتأثر بشكل مباشر، لأن نقص الاعتمادات المالية ينعكس على هذه الأخيرة[3].
وأمام تفشي هذه الظاهرة و استمرارها وتزايدها بشكل مهول ،بات معه من الصعب الوقوف في وجهها واستئصالها.

يترتب عن التهرب الجبائي آثار سيئة على الصعيد الاقتصادي الاقتصادي والاجتماعي فهو يعتبر من العوامل المساعدة على التخلف، إنه يضر أولا بمصلحة الدولة، كما أنه يضر بمصالح الأفراد، فهو يؤدي إلى حرمان خزينة الدولة من موارد إضافية مما ينتج عنه الإخلال ببنية الميزانية العامة، خاصة وأن النفقات العامة تقرر على أساس الموارد، فإذا لم تستطع الدولة تحصيل الموارد المقررة في الميزانية.
فالتهرب الجبائي بصفة عامة له انعكاسات على جميع الميادين سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو المالية، ولا يمكن القضاء عليه دون اتخاذ التدابير اللازمة سواء على المستوى الوطني أو الدولي[4].
ومن خلال هذا الموضوع سنقتصر بالحديث الى الآثار الجبائية والآثار السوسيوثقافية.

المطلب الأول: الآثار الجبائية.

إن نجاح أي سياسة اقتصادية رهين بمدى الإمكانيات المالية المعتمدة والأهداف المتبعة وتوفير هذه الموارد مرتبط بمدى قدرة ومتانة النظام المالي على مستوى الكفاءة في توفير الآليات الأساسية لنجاح التدبير المالي وفق البرامج المسطرة مسبقا[5].
ومن نتائج التهرب الجبائي على الاقتصاد الوطني والمحلي هو ضعف مردودية الجباية وعدم مساهمتها في التنمية (الفقرة الأولى) وارتفاع ظاهرة الباقي استخلاصه (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: ضعف مردودية الجباية وعدم مساهمتها في التنمية.

إن كل انعكاس يكون له أسباب وتأثيرات مختلفة ومتبادلة، فالتخلف الاقتصادي بإمكانه أن يكون حاجزا دون فعالية تدخل دور الجباية التنمية، كما أن الهيكل الجبائي يستطيع بدوره تأجيل التنمية الاقتصادية للبلاد[6].
والجباية تؤثر بشكل كبير على دعامات الاقتصاد الوطني خاصة عندما تكون الدولة هي المحرك الأساسي للاقتصاد ويتجلى هذا بوضوح في التأثير على العناصر المختلفة للاقتصاد، كالإنتاج، التضخم، الاستهلاك[7]…

وإن الإصلاح الذي شمل الجباية المحلية وإن كان قد تضمن عدة إيجابيات من شأنها أن تعزز المداخيل المالية للجماعات خاصة الحضرية، فإن هذا الإصلاح لا يمكن في الوقت الراهن أن يحل مشكلة محدودية التمويل الذاتي بصفة نهائية أمام التملص الجبائي الذي يقضي على كل سياسة تنموية تعزم الجماعة القيام بها. وأمام عدم وجود إحصائيات حول مردودية الجبائية المحلية وما تعانيه من تهرب جبائي، فإننا نلمس ضعف مردودية الموارد الجبائية من خلال المكانة التي تحتلها داخل مجموع الموارد المخصصة للجزء الأول، حيث أنها لا تكفي لسد نفقات التسيير وبالأحرى أن تقوم بدور تنموي أو أن يكون لها دور تدخلي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للجماعة، فالموارد الذاتية لا تغطي سوى %70 من مجموع نفقات التسيير[8].
وعموما فإن الموارد الجبائية للجماعات الترابية ضعيفة لا تساهم بما فيه الكفاية في تغطية مصاريفها وبالتالي القيام بدور تنموي، لذا عليها بدل المزيد من الجهود لتقوية مواردها المالية الموجودة والبحث عن مصادر جديدة حتى يمكنها أن تساهم في تشجيع الاقتصاد الوطني.

الفقرة الثانية: ارتفاع الباقي استخلاصه[9].

يعرف حجم الباقي استخلاصه تطورا سنة بعد الأخرى، وهذه الظاهرة متفشية في كل الجماعات الترابية، سواء الغنية أو الفقيرة، الإقليمية أو الحضرية أو القروية. كما أنها بذلك تشمل مختلف الوحدات الترابية الجماعية.
والباقي استخلاصه له مجموعة من الآثار السلبية، وأن العجز الذي يصيب ميزانيات الجماعات الترابية بسبب عدم التحصيل، يدفع هذه الأخيرة إلى عدم تحقيق العديد من المشاريع المقررة برسم أي سنة مالية معينة الشيء الذي يستغرب له المواطنون خاصة وأن المنتخب يبادر دائما إلى إخبارهم بالمنجزات التي سيحققها في دائرته الانتخابية. ثم إن الباقي استخلاصه غالبا ما يؤدي إلى توقف الجماعة عن القيام ببعض النفقات الإجبارية كأجور الموظفين ونفقات التدبير اليومي لدواليب الإدارة كتسديد نفقات استهلاك الماء والكهرباء والهاتف… إلخ.

وظاهرة الباقي استخلاصه تتقاطع فيها مجموعة من الأسباب والمسببات منها ما هو سياسي وفلسفي وقانوني ومنها ما هو تدبيري وتقني.

المطلب الثاني : الآثار السوسيو ثقافية.

إن الملزم كفرد في المجتمع يسعى إلى تأمين وضعه المادي والاجتماعي والزيادة في حجم الثروة التي يحصل عليها، مما يجعله ينفر من أي التزام جبائي، وهذا يشكل تعارضا بينه وبين مصلحة خزينة الجماعة أو الدولة.
لذلك تطفو على السطح مسألة ضعف المواطنة الجبائية وغياب حوار وتوعية جبائيين.

الفقرة الأولى: ضعف المواطنة الجبائية

لا شك أن علاقة الخاضع للرسم أو الضريبة بالإدارة الجبائية تعتبر العنصر الأساسي في تدبير الشأن العام المحلي والوطني ، وتنظيم المال العام، فلا يمكن أن يكون لأي سياسة جبائية مفعول، دون أن يكون هناك تواصل بين الإدارة الجبائية كهيكل تنظيمي وبين الخاضع للرسم كمصر للتمويل[10].
والإدارة الجبائية لا تساهم في توعية وإعلام الملزمين بأهمية الجباية كما لا تقوم بأدوارها الإنسانية وتحسين علاقتها بالملزمين الذين يبقوا في نظرها مجرد رقما ضريبيا ليس إلا.
ويتميز النسق الجبائي بضعف واضح في المواطنة الجبائية لدى الملزمين ووجود نفور اتجاه حقوق الجماعة والدولة، وذلك راجع إلى عدة عوامل غدتها الإدارة الجبائية من خلال اجراءاتها وسلوكاتها اتجاه الملزمين الجبائيين، وهي أسباب إذا ظلت قائمة فليس هناك ما يبرر شعور الملزم بالواجب الجبائي.

وعند انعدام روح المواطنة لدى الملزمين يميلوا للجوء إلى التهرب الضريبي والذي له عواقب وخيمة على إقتصاد البلاد بحيث يفوث على الدولة موارد مالية مهمة، الأمر الذي يدفع هذه الأخيرة إلى البحث عن موارد إضافية كإحاث ضرائب أو رسوم جديدة أو الرفع من أسعار الرسوم الموجودة أو ربما اللجوء إلى إجراءات استتنائية كالقروض الداخلية أو الخارجية والإصدار النقدي[11] .
وأمام ما تعانيه الإدارة الجبائية من معضلة التهرب الضريبي فإن تأهيل الملزم الجبائي على ثقافة المواطنة أصبح مطلبا حقيقيا وأصبح يفرض نفسه على الأقل كمحاولة لتجاوز الثغرات السابقة[12].
ويبقى تحقيق أهداف أي نظام جبائي رهينا بمستوى الإدارة التي تسهر على تطبيقه، إذا انطلقنا من هذه الفرضية، فإن تأهيل الإدارة الجبائية بالمغرب يبقى أهم مدخل من مدخلات أي إصلاح يروم تحقيق أعلى المعدلات في المردودية الجبائية ويساهم في الوقت نفسه في خلق علاقات سوية بين أطراف العلاقة الجبائية، وهذا التأهيل يمر حتما عبر عصرنة آليات تدبير الجبايات وعبر تطوير آليات التواصل الجبائي[13].

الفقرة الثانية : غياب حوار وتوعية جبائيين.

يشير غياب أو ضعف الوعي الجبائي إلى ضعف في التوعية الجبائية التي تتحمل عبئها الإدارة الجبائية، هذه التوعية يكون من أهم نتائجها المباشرة تحسين المردودية المالية للجباية بتحسيس الملزم بأهميته في تحمل الأعباء العامة من خلال ربط إيجابي بين ما يجبى من الرسوم و الضرائب المحلية و النفقات، هذا التحسيس الذي يتم بتدعيم التواصل عبر وسائل الإعلام الرسمية و غير الرسمية[14].
ومن بين الأسباب التي تساهم في ضعف الحصيلة المالية لجبايات الجماعات المحلية هو غياب سياسة حوارية اتصالية دائمة تساعد على معرفة واجباتهم وحقوقهم، وعلى الفهم السليم للقواعد الجبائية، حيث يظل الطابع الغالب لدى جل الجماعات الترابية هو غياب حوار جبائي بين الإدارة الجبائية المحلية وغياب توعية جبائية في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة الأمية داخل الأوساط المجتمعية المغربية بشكل كبير.

و هكذا، فإن المعالجة العلمية للوعي الجبائي و المشاكل المرتبطة به لا يمكن فصلها عن فلسفة المشرع و القانون من جهة، و أخلاق و نفسية الملزم المحلي من جهة أخرى، حيث إن كلمة “ضريبة” بمجرد نطقها تثير العديد من المشاكل النفسية و الاجتماعية لدى الملزم و يرتبط مفهومها بالتحملات التي لا يطبقها الفرد، مما يجعل الكثير من الملزمين يشبهونها بالضربة التي يتلقونها من الإدارة فيعمدون إلى بعض الأمثلة المعبرة عن وقع الضريبة على أنفسهم مثل “ضربوني بالضريبة، الله يحفظنا و يحفظكم من الضريبة”[15]. حتى أن العلاقة السائدة بين الإدارة الجبائية و الملزمين و التي تتميز بالشك و انعدام الثقة و استعمال السلطة و الإكراه بدلا من التواصل و الإعلام، عمق الهوة بين أطراف هذه العلاقة، و هو ما يدعم الجهل و مناهضة الجباية.
و في إطار التوعية الجبائية، فإنه يلاحظ شبه غياب لإعلام الملزم رغم الأهمية التي أصبحت تكتسيها هذه المهمة بالنسبة للإدارة الجبائية المحلية من أجل تحقيق أهدافها المتمثلة في زيادة الموارد المالية للجماعة و تفعيل دورها التنموي على المستوى المحلي، و ذلك نظرا لانعدام وجود خطة لتوعية الملزمين و مساعدتهم على فهم التقنيات الجبائية و أسرارها و المساطر القضائية المتعلقة بالمنازعات الجبائية.

كما يلاحظ نوعا من المحدودية على مستوى وسائل الإعلام غير الرسمية في الدفع بالوعي الجبائي لدى الملزمين، والصحافة الاقتصادية المتخصصة فتظل غالبا سجينة تحاليل نظرية لا يمكن الاعتماد عليها كمصدر يستطيع الملزم الاعتماد عليه في البحث عن المعلومات الجبائية الدقيقة و الشاملة، هذا بالإضافة إلى مشكل نشر مقالات باللغة الفرنسية يجعلها لا تخاطب إلا نخبة محدودة من المهتمين، و نفس القول ينطبق على المجلات الجماعية التي تتسم بمحدودية تناولها للقضايا الضريبية.

 

(محاماه نت)

إغلاق