دراسات قانونية

تعليل القرارات الإدارية بين الحماية القضائية المتناقصة والأهمية المتزايدة (بحث قانوني)

تعليل القرارات الإدارية بين الحماية القضائية المتناقصة والأهمية المتزايدة

ذ . أحــمـــد الــــزر والـــــي
باحث بسلك الدكتوراه قانون عام

جامعة محمد الخامس السويسي الرباط

تحتل الرقابة القضائية على قرارات الإدارة المرتبة الأولى من حيث فعالياتها المباشرة في الحفاظ على مبدأ المشروعية، وبالتالي يكون لهذه الرقابة أثر فعلي وملموس يؤدي إلى إلغاء القرار الإداري الغير المشروع، أو إلى تقديم تعويض لمن أصابهم ضرر من جراء قرار الإدارة[1].

ويعتبر تعليل القرارات الإدارية[2] أحد أوجه هذه الرقابة ، حيث يساهم وبشكل فعال (أي التعليل) في تسهيل مأمورية القاضي الإداري من خلال تفحصه لوثيقة القرار الإداري وبالتالي مراقبته ومطابقة العلة المعبر عنها للعلة الحقيقية ، عوض إضاعة وقته في استجلاء الأسباب إذ لم يتم ذكرها في صلب القرار.
وقد اعتبر بعض الباحثين[3] في هذا الإطار،أن للتعليل حكمته بالنسبة إلى القاضي الإداري إذا ما تعرض للقرار بمناسبة دعوى الإلغاء يختص برقابتها ،فعرض الأسباب في صلب القرار يمكنه من تركيز رقابته، وبالتالي من إحكامها.

وبالرغم من الأهمية التي يكتسيها التعليل بالنسبة للقاضي الإداري في تأسيس رقابة فعالة على مشروعية القرار الإداري ،إلا أنه لا يحظى بحماية كافية من جانب هذا القضاء في ظل الاختصاص المقيد، إذ تحكم التعليل قاعدتان أساسيتان من قواعد المساطر الإدارية القضائية، حيث تتجلى الأولى في أن عدم المشروعية الناتجة عن الإخلال بالتعليل الو جوبي لا تعتبر من النظام العام ،مما يغل يد القاضي عن البحث من تلقاء نفسه في هذا الوجه، والثانية تتجلى في أن عدم المشروعية في حالة الإخلال بالإلتزام بالتعليل لا يشكل سببا من أسباب قيام المسؤولية الإدارية.

وبالتالي فإن معالجتنا لهذا الموضوع يكون على الشكل التالي :

المبحث الأول: تجليات قصور الحماية القضائية للتعليل الو جوبي.
المبحث الثاني: الأهمية المتزايدة للتعليل في الرقابة على مشروعية للقرار الإداري .

المبحث الأول: تجليات قصور الحماية القضائية للتعليل الو جوبي.

بالرغم من الأهمية المتزايدة للتعليل في الرقابة على مشروعية القرار الإداري من خلال تسهيل مهمة القضاء في بسط رقابته على مختلف أوجه عيوب المشروعية. إلا أنه -أي التعليل -لم يحظى بعد بحماية كافية من جانب هذا الأخير في ظل الإختصاص المقيد ،حيث أن القضاء وهو يراقب مشروعية القرار خاصة عيب إنعدام التعليل لم يعترف لنفسه بعد بإمكانية إثارة هذا العيب من تلقاء نفسه حتى ولو لم يثره الأطراف أي إعتباره من أسباب الطعن المتعلقة بالنظام العام، (المطلب الأول )وفي ذلك حماية لحقوق وحريات الأفراد المخاطبين بالقرارات الإدارية المعيبة شكلا.
هذا وإذا كان القصور في التعليل يؤدي إلى إلغاء القرار الإداري إذا ما طعن فيه ،فهل يجوز أن يكون سببا من أسباب قيام المسؤولية الإدارية ؟وبالتالي الحكم بالتعويض لصالح المعني بالقرار الذي يزعم أنه قد ألحقه ضرر من جراء القرار المعيب وفي هذا ضمان ولو بشكل نسبي حماية قضائية في نطاق قضاء التعويض . (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تعليل القرارات الإدارية وأسباب الطعن المتعلقة بالنظام العام.

أيا كان الخلاف في تحديد فكرة النظام العام، فإنه يترتب على اعتبار إجراء أو قاعدة ما متعلقة بالنظام العام عدة نتائج قانونية، أهمها أن القاضي يمكن إثارته من تلقاء نفسه، كما يجوز الدفع به في أية مرحلة من مراحل الدعوى، وأنه لا يجوز التنازل عنه.
وفي هذا الإطار هل يمكن اعتبار التعليل الو جوبي من أسباب الطعن المتعلقة بالنظام العام باعتباره يدخل ضمن قواعد الإجراء والشكل؟
من المستقر عليه قضاءا أنه لا يجوز بعد انقضاء مدة الطعن أن يثير المدعي أسباب تتعلق بالإجراء أو الشكل الخاص بالقرار الإداري،إذ كانت الأسباب التي أثارها خلال مدة الطعن تتعلق بالمشروعية الداخلية فقط.
وفي هذه الحالة، يرفض القاضي أن يثيرها من تلقاء نفسه، حتى وإن كان السبب الخاص بالإجراء أو الشكل قائما على أساس سليم.

واستنادا إلى هذا الاتجاه قرر مجلس الدولة الفرنسي أن عدم التعليل في الحالة التي يكون فيها إلزاميا لا يعتبر من الوسائل المتعلقة بالنظام العام ومن ثم لا يجوز قبولها أول مرة في مرحلة الطعن بالنقض[4]
وفي مقابل هذا الاتجاه ،يرى جانب من الفقه[5] أن رفض اعتبار قواعد الشكل بصفة عامة وشكلية التعليل بصفة خاصة من النظام العام ،يعتبر بلا شك من أوجه قصور الحماية القضائية للتعليل الو جوبي كما يعد كذلك أمرا يصعب التسليم به لأكثر من علة.

أولا : فإن كل من الإختصاص و الشكل ينتميان إلى المشروعية الخارجية للقرار،وبالتالي يبدو أمرا غير مفهوم أن يكون الأول دون الثاني متعلقا بالنظام العام.
ثانيا : إن قواعد الإجراء والشكل تؤدي وظيفة هامة ،حيث تهدف إلى حماية حقوق الأفراد ،ومن أهم التطبيقات لذالك ،حق الموظف في الاطلاع على الملف وتمكينه من إبداء دفاعه ،وقد انتقد بعض الفقه([6]) عدم اعتبار القاضي الإداري مثل هذه القواعد متعلقة بالنظام العام لأن ذلك يعني معاقبة المدعي الذي لا يحتاط بإثارة هذه المخالفة وقت رفع الدعوى ، ولم يفطن إليها إلا في مرحلة الاستئناف.
ثالثا : أليست دعوى الإلغاء دعوى موضوعية فلما لا تكون كل أوجه الإلغاء فيها متعلقة بالنظام العام ؟إن موقف القاضي الدستوري في هذا الإطار يتفوق كثيرا على القاضي الإداري، إذ يعتبر جميع أوجه عدم الدستورية تتعلق بالنظام العام ومن ثم يجوز له بل يجب عليه أن يثيرها ولو من تلقاء نفسه.

ومن خلال هذه التبريرات التي ساقها الفقه المغربي والمقارن لتفنيد القول بأن التعليل الو جوبي لا يعتبر من النظام العام جعل بعض الاجتهاد القضائي خاصة في المغرب يغير من موقفه بخصوص ذلك ،حيث جاء في أحد أحكام إدارية أﯖادير[7] ” وحيث ثبت للمحكمة من خلال القرار موضوع الطعن أنه مشوبا بعيب التعليل استنادا إلى القانون رقم 01/03 المتعلق بإلزام الإدارات العمومية والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية بتعليل قراراتها الإدارية. وحيث إن عيب تعليل القرار الإداري يعد من النظام العام حسب مقتضيات المادة الأولى من القانون 01/03 التي نصت على إلزامية تعليل القرارات الإدارية الصادرة عن الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية والمصالح التي عهد إليها بتسيير مرفق عام. وحيث من آثار ارتباط تعليل القرار الإداري بالنظام العام الحق في إثارته من طرف المحكمة تلقائيا”

وهو الأمر الذي جعل البعض ومنهم الأستاذ محمد قصري إلى القول بضرورة تعميم هذا الاجتهاد على مختلف المحاكم الإدارية وبالتالي اعتبار التعليل الو جوبي من النظام العام لأن الأمر يتعلق بخرق واضح لمقتضى قانون جديد يهدف إلى خلق جو من الشفافية والديمقراطية والتخلي عن أسلوب البيروقراطية والتسيب بين الإدارة مصدر القرار والمرتفقين المتعاملين معها.

المطلب الثاني : المسؤولية الإدارية عن القرار الإداري الغير المعلل.

إذا كان القصور في التعليل يؤدي إلى إلغاء القرار الإداري إذا ما طعن فيه ،فهل يجوز أن يكون سببا للحكم بالتعويض عن ضرر مادي أو أدبي يزعم المعني بالقرار أنه قد أصابه من جراء القرار المعيب؟
لمعالجة هذا الإشكال لا بدَ من استحضار موقف القاضي الإداري الفرنسي الذي يميز بهذا الخصوص ما إذا كان الشكل ثانويا أو جوهريا ،وبالتالي فهو يحكم بالتعويض إذا كان الأمر يتعلق بخرق لإجراء جوهري يترتب عنه الإخلال بحقوق الأفراد ،حيث قضى مجلس الدولة الفرنسي في أحد أحكامه[8] بمساءلة الإدارة عن فصل موظف دون استشارة المجلس التأديبي على أساس أن هذا الشكل أساسي وجوهري وبالتالي الحكم بالتعويض.
أما إذا كان عيب الشكل غير ذلك ولا يؤثر على سلامة القرار موضوعا (كما هو الحال بالنسبة لانعدام التعليل)لإمكانية تصحيحه لاحقا فلا يرتب الحق في التعويض على خلاف الأسباب الموضوعية كعيب السبب والانحراف في استعمال السلطة حيث يرتب مسؤولية الإدارة بالتعويض عن الحكم بإلغاء القرار الإداري المشوب بعيب الموضوع .

وبالرجوع إلى موقف القضاء الإداري المغربي نجد تضارب في الأحكام الصادرة في الموضوع،حيث اعتبرت بعض المحاكم[9] أن المسؤولية الإدارية تقوم بمجرد الحكم بإلغاء القرار الإداري غير المشروع سواء أكان الأمر يتعلق بعيب الشكل(ومنه انعدام التعليل) أو بعين الموضوع ،غير أن إدارية وجدة كان لها رأي آخر حيث ميزت بين عيب الشكل الذي يمكن تداركه والذي لا ينال من صحة القرار والوقائع المبنية عليه وعيب الموضوع ،واعتبرت في أحد أحكامها[10] “أن مسؤولية الإدارة عن القرار الإداري رهين بأن يكون القرار معيبا في موضوعه وليس في شكله القابل للتصحيح والذي لا يؤثر على سلامة القرار الإداري “والأمر نفسه أكدته إدارية مراكش في أحد أحكامها[11] حيث جاء فيه”بأن عيب الشكل أو الإجراءات في القرار الإداري لا يكون مصدر للمسؤولية الإدارية والتعويض ما لم يكن مؤثر في موضوع القرار وجوهره”
وبالتالي فإن إشكالية التعويض عن القرارات الإدارية غير المشروعة لعيب الشكل بما فيه عيب انعدام التعليل تشكل إحدى مظاهر القصور على مستوى الحماية القضائية مما يعني أن الأمر لازال مطروحا للنقاش سواء على مستوى الفقه أو القضاء.

المبحث الثاني :الأهمية المتزايدة للتعليل في الرقابة على مشروعية القرار الإداري.

يقوم التعليل بأدوار متعددة في سبيل الرقابة على مشروعية القرار الإداري سواء كنا نقصد الجوانب الشكلية أو الجوانب الموضوعية من القرار الإداري ،فالالتزام بالتعليل سواء أكان مصدره القانون أم الإلزام القضائي يرقى بالتعليل لدرجة الشكليات الجوهرية والتي يعد القرار باطلا عند إهمالها[12] ويعتبر التعليل بالنسبة للقاضي الإداري”مصدر للمعلومات” وهذا يؤدي إلى تسهيل مهمة الرقابة على مشروعية القرار،خاصة الرقابة على السبب (المطلب الأول) والانحراف في استعمال السلطة(المطلب الثاني)

المطلب الأول : دور التعليل في الرقابة على سبب القرار الإداري.

يتجلى عنصر السبب في مجموعة من الوقائع السابقة على اتخاذ القرار الإداري والتي تدفع الإدارة إلى إصداره ،فهو إذا المبرر والدافع إلى اتخاذ القرار الإداري ،والتعليل بما يتضمنه من إعتبارات قانونية وواقعية تشكل كل منها أساس القرار الإداري يعد بذالك أساسا فنيا للرقابة على القرار الإداري ،ويؤدي دورا يتناسب مع درجة الرقابة التي يمارسها القاضي على السبب[13]

الفقرة الأولى : أهمية التعليل في الرقابة على مشروعية القرار الإداري.

يقصد بهذه الرقابة تلك التي لا تتعدى الوجود المادي للوقائع(أولا) وتكييفها القانوني والتي تعارف الفقه على أنها تمثل الرقابة العادية على عيب السبب(ثانيا)

أولا : دور التعليل في الرقابة على الوقائع المادية للسبب.

يكون القرار الإداري غير مشروع إذا انبنى على واقعة مادية غير صحيحة هنا نجد القاضي يمارس رقابته على مادية الوقائع ،فكل قرار إداري يتصل بالضرورة بحالة مادية في عالم الوقائع ، وعندما يصدر رجل الإدارة قرارا معينا فإنه يأخذ في اعتباره واقعة مادية تكون تجسيدا لقاعدة قانونيا عامة ومجردة ،فإذا لم توجد هذه الواقعة المادية فإن ذلك يعني أن المحتوى القانوني لهذه القاعدة لا يمكن أن يكون ساريا وموضوع تنفيذ في مواجهة حالة مزعومة ليس لها قوام في الواقع لهذا – وكما سلفت الإشارة – يمارس القاضي رقابته عن طريق بحث ومعرفة ما إذا كانت الوقائع التي استندت إليها الإدارة صحيحة وثابتة لأنه بانعدامها يكون القرار الإداري غير مشروع ،وحتى يتمكن القاضي من ذلك يجب على الإدارة أن تبرر قرارها.
وقد مارست الغرفة الإدارية بمحكمة النقض (المجلس الأعلى سابقا) من خلال التعليل الرقابة على مادية الوقائع منذ نشأتها. ففي قضية أحمد بن يوسف بتاريخ 9 يوليوز 1959 حرصت على التأكد من صحة الوقائع المادية للقرار عندما استندت في إحدى حيثياتها على ما يلي “وحيث إنه من جهة أخرى يستنتج من فحص الأوراق المدلى بها في الملف بأن المآخذ التي بررت بها الإدارة فصل الطاعن هي عدم الكفاءة الوظيفية والمهنية والتعارض باستمرار مع رؤسائه وعرقلة سير المرفق العام تستند إلى وقائع صحيحة”[14]
كما قررت في قضية مماثلة بأن القرار القاضي بالتشطيب على الطاعن من أطر وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة “لم يكن يحتوي على أية واقعة جدية ويتعرض بالتالي للإلغاء لأن الوزير لم يدل سوى بعلة غير واضحة لم يتأكد وجودها المادي”[15]

هذا وقد سارت المحاكم الإدارية منذ نشأتها على نفس نهج الغرفة الإدارية بمحكمة النقض.
ففي حكم[16] صادر عن إدارية البيضاء اعتبرت هذه الأخيرة “وحيث إن القرارات الإدارية لما كانت تعتبر من التصرفات القانونية التي تعبر عن إرادة السلطة الإدارية فإنه لابد لهذه القرارات من سبب علما أن القرار الإداري يجب أن يهدف إلى تحقيق الصالح العام ،ويكون انعدام الباعث من الناحية الواقعية حينما تدعي الإدارة أن ظروف مادية دفعتها لاتخاذ القرار ثم يتبين عدم وجودها في الواقع …
وحيث بناءا على ما ذكر تكون الأسباب الواقعية الداعية لاتخاذ قرار رفض الترخيص منعدمة ويكون قرار رئيس الجماعة الحضرية للمعاريف غير معلل وبالتالي طعن متسما بالشطط في استعمال السلطة ويتعين إلغاؤه”
كما ألغت إدارة وجدة [17] قرار التخفيض من نقطة السلوك الممنوحة سابقا للطاعنة وذلك لعدم بيان الأسباب المؤدية إلى ذلك عن طريق تعليل القرار الإداري.

ونفس الاتجاه عبرت عنه إدارة مراكش[18] “أن سلطة الإدارة في منح أو رفض الترخيص لموظفيها من أجل التفرغ لمتابعة التكوين مع احتفاظهم خلال المدة المتطلبة لذالك بوضعيتهم الإدارية ومرتباتهم ليس سلطة مطلقة وإنما تخضع لرقابة القضاء فيما يخص صحة وشرعية السبب المعتمد في الرفض متى أعلنت عنه في صلب القرار أو كشفت عنه أمام القضاء ،ومجرد توجيه النصح أو اقتراح لطالب الترخيص للجوء إلى رخصة الاستيداع من اجل تحقيق نفس الغاية لا يعتبر تعليلا للقرار المطعون فيه ،مما يتوجب معه إلغاء القرار الإداري لعيب السبب”
وجاء في قرار آخر لمحكمة الاستئناف الإدارية بالرباط[19] ” وحيث أنه فيما يخص الوسيلة الأولى المستمدة من عيب إنعدام التعليل … فإنه بعد اطلاع المحكمة على صلب القرار المطعون فيه،… تبين لها أنه قد أوضح بدقة جميع العلل والمعطيات المتعلقة بالمتابعة التأديبية … وخلص القرار في الأخير إلى ترتيب عقوبة العزل المقترحة من طرف المجلس التأديبي الذي مثل أمامه الطاعن. وعلى هذا الأساس فإن القرار يبقى معلل تعليلا سليما ومنطقيا بما فيه الكفاية”

ومن خلال هذا القرار يتبين بأن محكمة الاستئناف الإدارية مارست الرقابة على توفر شرط التعليل لتتوصل إلى أن القرار المطعون فيه يستند على وقائع موجودة فعلا.
هذا ومن خلال مختلف الأحكام المشار إليها سلفا يتضح أن التعليل يلعب دورا بارزا بالنسبة للرقابة القضائية ، وذلك من خلال تمكين القاضي الإداري من بسط رقابته على الوجود المادي للوقائع والتأكد من مدى صحتها ووجودها فعلا. هذا فضلا عن أهميته – أي التعليل – في الرقابة على التكيف القانوني للوقائع ،كما أن التعليل لا يسمح للإدارة بتقديم مبررات جديدة بعد الطعن في القرار وبالتالي رفضها من طرف القاضي.

ثانيا : أهمية التعليل في الرقابة على التكيف القانوني للسبب.

عندما يطلق المشرع وصفا لحالة معينة أو وقائع مادية محددة ،فإن تطبيق هذا الوصف علي الوقائع التي تواجه الإدارة وتستلزم تدخلها بقراراتها الإدارية يطلق عليه اصطلاح “التكييف القانوني للوقائع”،فالمقصود من عملية التكييف هو إدراج عملية واقعية معينة داخل إطار فكرة قانونية([20]) وبمعنى آخر يعني التحقق من صحة الوصف القانوني أو التكييف القانوني الذي خلعته الإدارة على الوقائع المادية. فمثلا إذا كان البحث في وجود الأفعال المنسوبة إلى الموظف يشكل رقابة على مادية الوقائع فإن البحث فيما إذا كانت تلك الأفعال تشكل خطأً هو رقابة على التكييف القانوني للوقائع[21]
وبفضل إبراز الاعتبارات الواقعية والقانونية التي كانت وراء إصدار القرار الإداري ،يبسط القضاء رقابته على التكييف القانوني في إطار مطابقة الواقع للقانون.
ويعد حكم “Gomel ” الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي في 4 أبريل 1914 الحكم المؤسس لهذا النوع من الرقابة[22]
وبدوره القضاء الإداري المغربي وعلى رأسه محكمة النقض( الغرفة الإدارية) أقر لنفسه – من خلال التعليل – الرقابة على التكييف القانوني للوقائع ،ففي قضية كورتيي بتاريخ 4/12/1998 اعترف القاضي لنفسه بصلاحية مراقبة التكييف القانوني للوقائع التي استند إليها قرار العزل ،وكذلك في قضية أحمد بن يوسف المشار إليها سابقا حيث اعتبرت بأن الوقائع المنسوبة للطاعن والممثلة في عدم الكفاءة وعرقلة سير المرفق العام تشكل خطأ جسيما يبرر العقوبة ،وفي قضية مولاي يزيد العلوي بتاريخ 19/12/1999 اعتبرت المحكمة بأن الطاعن الذي تم طرده من الامتحان لضبطه وهو يقوم بعملية الغش ونظرا لاعترافه بالرجوع إلى الدفتر أثناء الامتحان ،فإن فعله هذا من طبيعته أن يبرر قرار طرده.

وعلى نفس النهج سارت مختلف المحاكم الإدارية منذ نشأتها. ففي حكم المحكمة الإدارية بمكناس مؤرخ في 5/2/1998 قضية الغنيمي ضد المدير العام للجمارك والضرائب الغير المباشرة اعتبرت المحكمة أن ثبوت واقعة قيام جمركي بعملية مراقبة سائقي الناقلات بالطريق الوطنية خارج دائرة وظيفته وبدون أمر المصلحة التي ينتمي إليها يشكل مخالفة مهنية ،ومن شأنه أن يبرر الإجراءات التأديبية المتخذة ضده[23]

كما جاء في حكم صادر عن إدارة الرباط[24] “إن التكييف القانوني للوقائع الذي انتهت إليه الإدارة غير سليم … فإنه يتضح من خلال الوقائع المعروضة وتقرير السيد مدير السجن الذي يعمل به الطاعن من أن هذا الأخير لم يطلب شيئا من مساعد المفتش بل إن هذا الأخير هو الذي قام بدس ورقة عشر دراهم في جيب الطاعن وبالتالي يبقى القرار متسما بالشطط في استعمال السلطة”.
هذا ومن خلال ما سلف يتضح أن التعليل يلعب دورا هاما في تمكين القضاء من بسط رقابته على الوقائع المبني عليها القرار وتكييفها القانوني وحتى ما إذا تبين له أن وقائع القرار غير صحيحة وغير ثابتة أو غير محددة أو كان التكييف الذي منحته إياه الإدارة غير صحيح ولا يوصل إلى النتيجة القانونية للقرار الإداري ،قضى بإلغائه لعيب السبب.

الفقرة الثانية : أهمية التعليل في الرقابة على ملائمة القرار الإداري.

إن تعليل القرار الإداري يصبح ضروريا للقاضي حينما يمارس رقابة الحد الأقصى والتي تسمح له أن يراقب ملائمة القرار،ذلك أن القاضي هنا لا يبحث فقط عما إذا كان من شأن الوقائع تبرير القرار ولكن يبحث أيضا عما إذا كانت هذه الوقائع أن تبرر مضمون القرار،إنه يقوم بتقدير أهمية الوقائع وصولا لتقدير مشروعية القرار. وتبدو أهمية التعليل في هذا المجال واضحة للأفراد ذوي الشأن وكذا لقاضي الموضوع خصوصا في مجال الضبط الإداري.
هذا وأمام توسع نطاق السلطة التقديرية المعترف بها للإدارة ،حاول القضاء الإداري تحقيق فعالية أكثر في رقابته على أنشطة الإدارة وضمان التوازن بين متطلبات الحقوق والحريات العامة للأفراد واعتبارات نجاعة العمل الإداري في ظل الظروف المتغيرة دوما.

وبالتالي عمل – وبفضل تعليل القرار الإداري – على الحد من حرية الإدارة في تقدير ملائمة قراراتها الإدارية ، بحيث أخضع هذا التقدير لرقابته حتى لا يتحول إلى سلطة تعسفية ،ومن هنا جاءت نظرية ” الخطأ الظاهر في التقدير ” لسد الثغرات الموجودة في الرقابة على القرارات التي تصدر استنادا إلى السلطة التقديرية.
هذا ويرجع الفضل في ابتداع هذه النظرية إلى مجلس الدولة الفرنسي من خلال حكمه الشهير المعروف بحكم “La grange” في 15 فبراير 1961 حيث جاء فيه ” إذا مارست السلطة الإدارية المختصة حرية تقدير أعمالها في حالة تمتعها بالسلطة التقديرية ،فإن القرارات التي تتخذها يجب أن لا يشوبها … الخطأ الظاهر في التقدير”[25]

والملاحظ أن هذه النظرية تتداخل بشكل كبير مع نظرية اعتمدها القضاء الإداري المصري و هي نظرية “الغلو في التقدير” والتي تعرف تطبيقا واسعا في مجال المنازعات المتعلقة بتأديب الموظفين.
وقبل إبراز أهمية التعليل في الرقابة على ملائمة القرار الإداري في ظل القضاء الإداري المغربي ،نسجل أن هذا الأخير ولعقود طويلة من الزمن رفض بسط رقابته على ملائمة القرار الإداري ، ويظهر ذلك في العديد من قرارات الغرفة الإدارية بمحكمة النقض ففي قرارها المتعلق بقضية التادلي الصادر في 15 يوليوز 1963 اعتبرت أنه ” لما كان الخطأ يبرر العقوبة فإن اختيار هذه الأخيرة يدخل في نطاق السلطة التقديرية التي لا يمكن مناقشتها أمام قاضي الإلغاء” وتأكد هذا الموقف في قرارات أخرى لاحقة[26]

إلا أنه وبفضل التعليل وأهميته في تسهيل الرقابة القضائية على ملائمة القرار الإداري عدل القضاء الإداري المغربي عن موقفه السابق وقام ببسط رقابته على ملائمة القرار ويظهر ذلك من خلال حكم المحكمة الإدارية بالرباط في قضية أجدع رشيد حيث اعتبرت ” أن قيام الطاعن بالاحتفاظ بالأشياء المذكور أعلاه دون تسليمها إلى مخزن المعدات بشكل قانوني أو على الأقل إخبار رئيسه المباشر له ،كما أن قيامه بتسليمها إلى الشرطي بالعروي دون أن يحرر محضرا بذلك يعد خطأ جسيما نظرا لإمكانية استعمال تلك الأصفاد خارج إطارها القانوني وهو ما حدث فعلا.
وحيث إن المحكمة وعلى افتراض أحقيتها في مراقبة ملائمة بين الأفعال والعقوبة المتخذة فإنها ترى استنادا إلى ما ذكر بأن الأخطاء المرتكبة من طرف الطاعن تبرر العقوبة المتخذة في حقه بالنظر إلى مهمته كرجل للقوة العمومية ،وإن أي إخلال بذلك يعد خطأ جسيما من جانبه ،مما تكون معه هذه الوسيلة غير مرتكزة عل أساس”[27]

كما ورد في قرار الغرفة الإدارية بعد استئناف الحكم المذكور ” حيث إنه وكما أشار إلى ذلك الحكم المستأنف فإن الطاعن باعتبار مهنته كرجل للقوة العمومية كان عليه أن يحافظ ما أمكن على سلامة المواطنين وألا يفرط في أدوات أو إشارات لا يستعملها عادة إلا رجل الشرطة ،وأن الخطأ المرتكب من طرفه بتسهيل حصول شخص مدني عليه بصورة غير مباشرة يعد خطأ جسيما يبرر العقوبة المتخذة في حقه. وأن تمسك الإدارة بأن عقوبة العزل كانت مبررة بالأفعال المنسوبة إلى الطاعن والعقوبة المتخذة ضده مما يكون معه الحكم المستأنف مرتكزا على أساس قانوني سليم ومعللا تعليلا كافيا يقتضي تأييده “[28]
لقد كان هذا الموقف الذي تبنته المحكمة الإدارية بالرباط ثم الغرفة الإدارية بمحكمة النقض بمثابة الضوء الأخضر لباقي المحاكم الإدارية لبسط رقابتها على تبرير القرارات الإدارية ومن ثم مراقبة وجود الملائمة بين المخالفة والجزاء التأديبي من عدمها ،ومن ثم تمديد الرقابة على ممارسة السلطة التقديرية للإدارة[29]

ويرى الأستاذ آمال المشرفي[30] أن القاضي في هذه المرحلة لا يلجأ إلى نظرية الغلو والخطأ في التقدير لإلغاء الأخطاء الإدارية ،إلا في الحالة التي لا يوجد فيها شك حول صبغتها الفادحة والمبالغ فيها فكل من يتحلى بحد معقول من المنطق سيخلص إلى اعتبار التصرف الإداري متسما بالغلو.
وصفوة القول أنه إذا كان التعليل يؤدي دورا مهما في الرقابة على سبب القرار الإداري وذلك من خلال الرقابة على الوجود المادي للوقائع والرقابة على التكييف القانوني للوقائع وكذا الرقابة على أهمية الوقائع وخطورتها وعلاقتها بالقرار،فإنه يؤدي كذالك دورا فعالا في الكشف عن عيب الانحراف في استعمال السلطة.

المطلب الثاني : دور التعليل في كشف عيب الانحراف في استعمال السلطة.

يقصد بعيب الانحراف في استعمال السلطة استخدام الإدارة لسلطتها من أجل تحقيق غاية غير مشروعة سواء باستهداف غاية بعيدة عن المصلحة العامة أو بابتغاء هدف مغاير للهدف الذي تتوخاه أو حدده لها القانون[31].
وهكذا نكون أمام الانحراف في استعمال السلطة إذا قامت الإدارة بإصدار قرار لتحقيق غاية أو هدفا يجانب و يتعارض مع المصلحة العامة . كما لو استعمل الموظف السلطة لتحقيق غرض شخصي له[32] ،أو الانتقام لغيره[33] ،ونكون كذالك أمام الانحراف في استعمال السلطة إذا قام الموظف بإصدار قرار يحقق المصلحة العامة ولكن تلك المصلحة ليست هي ذات المصلحة العامة أو الغاية العامة التي حددها القانون لهذا النوع ،أو ذاك من أنواع القرارات الإدارية[34] ،وفي أي من هاتين الحالتين يكون القرار معيبا بعيب الانحراف في استعمال السلطة وجديرا بالإلغاء[35] .
ويعتبر عيب الانحراف في استعمال السلطة أشد العيوب صعوبة في الإثبات إذ أنه يتعلق بالهدف أو الغاية التي قصدت إليها الإدارة من إصدار القرار،وإثبات المقاصد والنوايا مسألة صعبة وعسيرة ، وهذا ما يوضح المعاناة التي يقاسيها المدعي للإثبات سوء نية الإدارة.

هذا ولا تختلف القاعدة العامة في إثبات الانحراف في استعمال السلطة عن بقية العيوب الأخرى حيث يقع على عاتق المدعي إثبات دعواه باستهداف الإدارة هدفا بعيدا عن المصلحة العامة أو بانحرافها عن الهدف الخاص المحدد لها.
ولا يملك القاضي أن يثير هذا العيب أو يتعرض له من تلقاء نفسه بل لا بد أن يطلب المدعي ذلك كما هو الشأن بالنسبة لبقية العيوب التي تصيب القرار الإداري فيما عدا عيب الاختصاص الذي يتعلق بالنظام العام وانعدام التعليل حسب بعض الاجتهادات القضائية كما أسلفنا في السابق.

ويتقيد الإثبات بما يقتضيه ملف الدعوى من أوراق ومستندات أي أن إثبات الإساءة أو الانحراف ينحصر بين دفتي كأصل عام ،وفي هذا الإطار ذهبت الغرفة الإدارية في أولى اجتهاداتها في قضية الحيحي[36] إلى أن ” إثبات الانحراف يمكن أن يتأتى بالرجوع إلى الأوراق التي يحتويها ملف الدعوى وفي هذه الحالة من المفروض أن كل جهاز إداري يخصص لكل موضوع نزاعي ملف خاص يتضمن تعليمات السلطة الإدارية وكذا جميع المراسلات السابقة واللاحقة على القرار المطعون فيه “.
ونظرا لصعوبة موقف المدعي في الإثبات ،ولشدة المبدأ الخاص بإثبات العيب من أوراق الملف ، فإن مجلس الدولة الفرنسي وكذا نظيره المصري خففا من وطأة صعوبة الإثبات ويسرا تلك الصعوبة بتوسيعهما في معنى ملف الدعوى ، واستعانتها بظروف الدعوى وملابساتها ،وأخذهما ببعض الأدلة على وجود العيب ولهذا فإن القضاء الإداري حاول التخفيف من الصعوبات التي يلاقيها المعنيون بالأمر في سبيل إثبات عيب الانحراف في استعمال السلطة[37] .

ويختلف دور القاضي الإداري في عملية إثبات عيب إساءة استعمال السلطة بحسب ما إذا لم تقم الإدارة بالكشف عن هدفها أو في حالة كشفها عن هدفها وفي هذه الحالة الأخيرة تبرز أهمية التعليل بحيث يقوم القاضي الإداري بمقارنة الهدف الذي قصدته الإدارة من استعمال سلطتها والهدف الذي حدده المشرع لها، فإذا وجد توافق بين الهدفين فإن القرار يكون صحيحا ،أما إذا اتضح للقاضي أن هناك تباين واضح بين الهدفين ،وأن الإدارة قد استخدمت سلطتها لتحقيق غاية تختلف عن الغاية التي حددت لها فإن القرار يكون في هذه الحالة مشوب بعيب إساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها.
وارتباط عيب الانحراف في استعمال السلطة بغاية القرار،يجعله عيبا متصلا بنفسية ونوايا مصدر القرار،فهو يتصل بعناصر ذاتية وشخصية في عواطف مصدر القرار،لذالك فرقابة هذا العيب من الصعوبة بمكان خصوصا وأن إثبات الانحراف يقع على مدعيه وأنه عيب خفي مستتر ومستقر في بواعث الإدارة الخفية ودوافعها الباطنة ،ولكن مع ذلك تسهل رقابته بإبرازه والكشف عنه في صلب القرار الإداري من خلال قاعدة إلزامية التعليل وفي هذا الإطار يقول الأستاذ الطماوي[38] : “وإن كان هذا في القليل النادر أن تكشف من مجرد قراءة القرار عن عيب الانحراف ،ويحدث هذا عندما تعلن الإدارة طائعة أو مرغمة عن أسباب قرارها … فإن هذه الأسباب ،لما بينها وبين الأغراض من روابط قوية ، تكشف عن الأهداف الحقيقية التي تتوخاها الإدارة… فإذا أضفنا ان القانون الفرنسي ومعه القضاء في بعض الحالات ،يستلزم تعليل القرارات الإدارية ،لأدركنا أن وسائل إثبات عيب الانحراف هي في الوقت الحاضر من السهولة بمكان “.

وجاء في إحدى أحكام إدارية أﯖادير[39] ما يلي:”وحيث إنه فيما يتعلق بالوسيلة الثانية المتعلقة بعيب الانحراف في استعمال السلطة فإن عيب الانحراف في استعمال السلطة المبرر لإلغاء القرار الإداري يجب أن ينطوي في القرار ذاته لا في وقائع سابقة عليه أو لاحقة له وأن يكون مؤثرا في توجيه هذا القرار وأن يقع ممن يملك صلاحية إصداره لا من أجنبي عنه ،وعليه فإن الأمر ينحصر في تقدير النتيجة التي انتهى إليها القرار المطعون فيه والأساس الذي قام عليه للوصول إلى هذه النتيجة ، فمتى كان قد استند إلى وقائع صحيحة ثابتة من وثائق الملف المؤدية إلى النتيجة التي استخلصها فلا يكون هناك وجه للطعن بعيب الانحراف في استعمال السلطة.

وحيث أن الطاعن تخلف أثناء جميع مراحل الدعوى وكذا بجلسة البحث المنعقدة بمكتب المستشار المقرر عن إثبات العيب المشار بهذا الصدد ،مما يكون معه الوسيلة المذكورة غير مبنية على أساس ويتعين من أجل ذلك ردها “.
كما يقوم التعليل بدور كبير في الكشف عن الانحراف بالإجراءات ،علما أن الانحراف بالإجراءات يتحقق إذا تعمدت الإدارة إخفاء الهدف الذي تسعى إلي تحقيقه وذلك بإتباع إجراءات أكثر بساطة من تلك التي كان يجب اتخاذها ،ويعتبر الانحراف بالإجراءات “Le détournement de procédure” أحد أشكال إساءة استعمال السلطة والانحراف بها ،ولكنه يحدث في ميدان الإجراءات الإدارية ،إذ تلجأ الإدارة إلى استعمال إجراء بعينه تراه أيسر من الإجراء المحدد لها قانونا لإنجاز هدف معين ،فيصبح قرارها في هذه الحالة مشوبا بإساءة استعمال السلطة عن طريق الانحراف بالإجراءات[40]

وقد صدرت عدة أحكام عن مجلس الدولة الفرنسي بصدد إساءة استخدام الإجراءات منها ما يتعلق بالتجاء الإدارة إلى الإستلاء المؤقت على العقارات بدلا من سيرها في طريق إجراءات نزع الملكية للمنفعة العامة تفاديا منها لطول ودقة هذه الإجراءات[41].
وبالتالي فإن التعليل يساعد القاضي ،في الكشف عن الانحراف في استعمال السلطة بما فيها الانحراف في الإجراءات ،فحين تشير الإدارة إلى السند القانوني أو الإجراء القانوني في قرارها ،فإنه يكون في استطاعة القاضي تحديد ما إذا كان الهدف الذي تسعى إليه الإدارة يمكن تحقيقه بواسطة هذا النص أو الإجراء أم كان يجب إتباع نص أو إجراء قانوني آخر.

وحيث إن الإدارة وإن كانت تتوفر على سلطة تقديرية واسعة في مجال نقل موظفيها وتوزيعهم على مختلف المصالح والمرافق التابعة لها في إطار المصلحة العامة ،إلا أن ذلك لا يحول بين القضاء ومراقبة هذه القرارات واستنباط أسبابها وخلفياتها كلما طعن فيها بالإلغاء ،كما هو الوضع في هذه النازلة ” لكن حيث إن الإدارة لم تدلي ببيانات وإيضاحات دقيقة حول النقص الذي تدعيه في الأطر الإدارية … وما المقصود بالأطر الإدارية التي حصل فيها النقص… إلى ذلك من التوضيحات التي من شأنها أن تمكن المجلس الأعلى من بسط رقابته في خصوصية مشروعية مقرر النقل”[42] وجاء في حكم لإدارية فاس[43] وهي تلغي قرار النقل ” وحيث أنه من الثابت كذلك أن قرار نقل الطاعن إلى إعدادية ابن البناء صدر لاحقا على تاريخ صدور الحكم أعلاه ،مما يعني ذلك إصرار الإدارة في شخص النائب على تأكيد تعيين الطاعنة بالإعدادية المذكورة بصفة مبيتة وحيادا على مضمون الحكم المشار إليه ،مما يتضح بشكل لا غبار عليه اتجاه نية مصدر القرار إلى تفعيل قراره الأول ولم يكن الغرض منه ،كما تذرع بذلك ،المصلحة العامة في إطار إعادة الانتشار وإنما يتضح صراحة على تأكيد استعمال لسلطته الذاتية وليس الموضوعية في مواجهة الطاعنة جزاء لها على مقاضاتها إياه في شأن العقوبة التي تم إلغاؤها في حقها ،مما يكون معه القرار مشوبا بعيب الانحراف في استعمال السلطة “كما يلغي القضاء الإداري قرار اتخاذ عقوبات مقنعة حيادا على الضمانات القانونية المخولة لاتسامه بعيب الانحراف في استعمال السلطة حيث جاء في حكم لإدارة البيضاء[44]” ظروف الأحوال تبين أن نية الإدارة الصريحة اتجهت إلى عقاب الموظف دون إتباع الإجراءات التأديبية المقررة في القانون… وقد كان على الوزارة متى ثبت لها أن الطاعن قد ثبتت في حقه بعض المخالفات الإدارية أن تقوم بعرضه على المجلس التأديبي حتى يتمكن من الدفاع عن نفسه ،وبالتالي إلغاء القرار المطعون فيه ” .

كما يعتبر الانحراف في استعمال السلطة أحد أوجه الإلغاء الذي يعتمده القضاء الإداري لرقابة السبب وهذا ما أوضحته إدارة أﯖادير في إحدى أحكامها[45]”حيث أن قرار إلغاء الترخيص الممنوح للطاعنة باستغلال قاعة الأفراح البلدية في تنظيم ندوة حول الميثاق الجماعي الجديد ليوم 15/11/2003 تم تعليله بكون قاعة الأفراح منشغلة نتيجة تتابع المناسبات الوطنية وعلى رأسها عيد المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال المجيد وذكرى 23 نونبر لانتفاضة قبائل أيت بعمران.

وحيث تبين للمحكمة بعد الاطلاع على وثائق الملف بأن السبب المعتمد من طرف الإدارة في إلغاء الرخصة الممنوحة للطاعنة غير مرتكز على أساس سليم فقد أصدر المجلس البلدي بتاريخ 14/11/2003 قرار تحت عدد 1656 تم التحديد بموجبه لجمعية الاتحاد النسائي المحلي باستغلال القاعة لمدة يومين إضافيين 14 و15 نونبر 2003 وهو ما حال دون الطاعنة من الاستفادة من الرخصة المخولة لها من طرف المجلس باستغلاله قاعة الأفراح البلدية يوم 15/11/2003.
وحيث أن المناسبات الوطنية المحتج بها لها تواريخ محددة ( 6 نونبر بالنسبة لعيد المسيرة و 18 نونبر بالنسبة لعيد الاستقلال و 23 نونبر بالنسبة لذكرى انتفاضة قبائل ابن باعمران) والإدارة لما أصدرت مقررها بالترخيص للطاعنة باستغلال قاعة الأفراح البلدية لتنظيم ندوة حول الميثاق الجماعي بتاريخ 15/11/2003 تعلم علم اليقين تواريخ المناسبات الوطنية المذكورة والتي لا تتزامن مع أيام الاحتفال بها مع التاريخ المرخص به للطاعنة في استغلال القاعة.

وحيث تكون بذلك التبريرات التي تمسكت به الإدارة لإلغاء الترخيص للطاعنة غير مرتكز على أساس سليم مما يكون معه القرار الطعين مشوبا بالانحراف في استعمال السلطة يناسب معه للحكم بإلغائه ” .
وصفوة القول أن التعليل ضمانة هامة في الرقابة على عيب الانحراف في استعمال السلطة وكذا الرقابة على الكشف عن الانحراف بالإجراءات حيث أن الإدارة كانت تحجم عن الإفصاح في القرار عن الدوافع التي من أجلها أصدرت قرارا ما وتكتفي بالتذكير أنها أصدرت ذلك القرار تحقيقا للمصلحة العامة ،مما يجعل عيب الانحراف في استعمال السلطة خفي متستر يصعب الكشف عنه وإظهاره لأنه يكمن في بواعث الإدارة الخفية ودوافعها الباطنة ،إلا أن الإدارة عندما تعلن مرغمة ولزوما عن أسباب قرارها ،فإن تلك الأسباب تكشف عن الأهداف الحقيقية التي تتوخاها الإدارة وبالتالي فإن عيب الانحراف أصبح إثباته من السهولة بمكان.

ونختم بالدور الذي يضطلع به التعليل في تحسين عمل الإدارة من خلال حملها على مراقبة نفسها بنفسها مما يجنبها اتخاذ قرارات متسرعة وطائشة،كما يهدف إلى تناسق سلوك العمل الإداري في إطار مرجعية قانونية قائمة، باعتبار التعليل عمل عقلاني يعتمد على التنسيق والتحليل والتدقيق ومن شأنه أيضا أن يؤدي إلى الانسجام والاستمرارية التي يجب أن تطبع العمل الإداري. وبالتالي يبقى هدفه وغايته هو التوصل إلى الوضوح والدقة وضمان تناسق سلوك الإدارة في المواقف المتشابهة ،لأن التعليل على حد تعبير الأستاذ سليمان محمد الطماوي “يلزم الإدارة أن تفكر وتتروى قبل أن تتدخل ،إذ أن مجرد شعور رجل الإدارة بأنه ملزم بأن يعلل قراره ،وأنه سيخضع لعدة أنواع من الرقابة –رقابة رؤسائه أولا ،ورقابة المعني بالأمر وذوي المصلحة ثانيا ورقابة القضاء ثالثا …كل هذا سيجعله يجنح إلى جانب الروية ويهدئ من نزواته وهمزات نفسه”[46]

 

(محاماه نت)

إغلاق