دراسات قانونية
إجارة الوقف (بحث قانوني)
اجارة الوقف، للدكتور أحمد حسين أحمد محمد
الدكتور أحمد حسين أحمد محمد
درجة دكتوراه فى الفقه المقارن وأصوله من جامعة الحضارة الإسلامية المفتوحة ببيروت والمعتمدة من كندا
مدير إدارة القضايا بوزارة الأشغال العامة
مدخـل تمهيــدي
يعد الوقف سمة من سمات المجتمع الإنساني عامة والإسلامي خاصة ونظام محدد يهدف إلى تحقيق التنمية الاجتماعية الاقتصادية وهو من أفضل الوسائل التي من خلالها يستمر تدفق ريع المشروعات الخيرية التي تسعـى لمكافحة الفقر والحرمان والجهل والمرض ضماناً لحياة إنسانية أكثر استقراراً ورقياً ، ولقد نهض الوقف الإسلامي بوظائف حضارية شملت مختلف جوانب الحياة في المجتمع ومن المؤكد أن من يناط به شرعاً إدارة الوقف وتولي النظارة عليه مسئول بشكل مباشر عن الإدارة المثلى للوقف والتي من خلالها يتم الارتقاء بالأوقاف وتوفير كل ما يصلحها واجتناب كل ما يؤدي إلى إضعافها ، ولذلك فلقد كانت إدارة الوقف منوطة بتحقيق المصلحة الاقتصادية وبدرء أية مفسدة اقتصادية بالدرجة الأولى ولا ريب أن من أفضل وسائل الإدارة الاقتصادية للوقف هو الاستثمار أعني بذلك استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات ونحوها وإما بطريقة غير مباشرة كشراء الأسهم والسندات ونحوهما ، ولا ريب أن الوقف في حقيقته استثمار فإنه إن كان المراد من الاستثمار إضافة أرباح إلى رأس المال حفظاً لهذا الأخير وزيادة يسر المستثمر فإن الوقف خاص بالأموال التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء أصلها إذ أنه من المتفق عليه أن الأشياء التي لا ينتفع بها إلا باستهلاكها لا يجوز وقفها ، وهذا يؤكد حقيقة أن الوقف استثمار .
إلا أنه لما كانت طبيعة المعاملات الاستثمارية أَنها تتأثر بالربح والخسارة ، وحيث أن أموال الوقف أموال ذات خصوصية قوامها عدم التصرف فيها بما يضرها كالتعامل بالغبن وبأقل من أجرة المثل وسعر السوق لذلك فلقد تم وضع شروط عامة على أساسها يصح استثمار أموال الوقف .
الشرط الأول : وضع الضمانات المالية والاقتصادية الكافية التي من شأنها أن تحقق الحماية الخاصة
لأموال الوقف ، ولقد قام مجمع الفقه الدولي بجدة بإجازة ضمان الطرف الثالث
لسندات الاستثمار الأمر الذي يعني أنه يجب على ناظر الوقف توفير مثل هذا
الضمان حين القيام بأي تصرف تترتب عليه عوائد الوقف .
الشرط الثاني : الاعتماد على الوسائل الحديثة ودراسات الجدوى الاقتصادية الدقيقة في تحليــل
عمليات استثمار الوقف وإسناد أمر متابعتها وتنفيذها إلى ذوى الاختصاص الدقيق
والخبرة العملية المستفيضة في هذا المجال .
الشرط الثالث : وضع نظام صارم يحقق الرقابة على حركة هذه الاستثمارات وتوافقها مع مقاصد
وشروط الواقفين .
الشرط الرابع : التعامل مع الأشخاص الاعتبارية الإسلامية المليئة كالبنوك الإسلامية والشركات أو المؤسسات المؤهلة فنياً ومالياً والتي تمتلك أعلى مستوى من الضمانات وتكون السمة البارزة للتعامل معها هي وجود الأمان الاقتصادي والضمان المريح والذي يقلل من نسبة إصابة الأموال الموقوفة بأية أضرار واختيار الاستثمار في أكثر المجالات الاستثمارات أماناًُ وأقلها خطراً .
هذه هي الضوابط العامة التي من خلالها تنجح عملية استثمار الوقف دون المساس به وتستثمر المنفعة في تحقيق المقاصد التي من أجلها تم هذا الوقف .
ولابد أن نشير هنا إلى أن هناك ضوابط خاصة بمن يؤجرَّ له الوقف إذ أن الإجارة عقد فيه طرفان ولابد أن يلتزما في هذا العقد بأمور يتحقق من الصيانة اللازمة للوقف ، ولذلك فإن من المهم :
مراعاة ما هو الأنفع للوقف :
يجب على متولي الوقف أن يراعي مصلحة الوقف عند قيامه بكل ما يحق له شرعاً القيام به ومنها تأجيره ، فيتحرى الأنفع له ، وقد قرر الفقهاء أنه ” يفتى بكل ما هو أنفع للوقف فيما اختلف العلماء فيه ([1]). ومن ذلك اختيار وعليه يقدم شخص على آخر عند تأجير الوقف ما دام تأجيره له أنفع للوقف من الآخر ، فإذا رغب في استئجار العين الموقوفة أكثر من واحد فإنه ينبغي على المتولي أن يؤجر للموثوق يه منهم ، الذي يلتزم بالمحافظة على تسليم حقوق الوقف من غير مماطلة ، ولو كان أجره أقل من الأجر الذي يرغب به الباقون ؛ لأن الأجر الزائد من المماطل قد يضيع أو لا يحصل إلا بمقاضاة ([2]) .
البعد عن التهمة :
ليس لمتولي الوقف أن يؤجر الوقف لنفسه ولا لمن هم في ولايته ؛ لأنه بهذا يكون مؤجـراً مستأجراً ، ولا يستقيم أن يتولى شخص واحد العقد فيصبح هو في آن واحد طرفي العقد إلا ما استثنى وليس هذا من هذه الموارد ([3]) . كما لا يصح أن يؤجر لمن لا تقبل شهادتهم له وهم أصوله وفروعه وزوجته ؛ بعداً عن التهمة ، لأنه يؤجر ما لا يملك فيجب أن يبتعد عن مكان التهمة ، فإن انتفت التهمة صح العقد .
أما مؤشرات انتقاء التهمة فقد حاول بعض الفقهاء وضع معيار تقاس به وقد اتخذ هذا المعيار أشكال عديدة منها ما يتعلق بالأجرة ذاتها كما سيأتي في البحث .
مراعاة شرط الواقف فيمن يؤجَّر له :
إن من مقتضيات قاعدة ( نصّ الواقف كنص الشارع ) وجوب العمل بجميع ما شرطه ما لم يفض العمل بشرطه إلى الإِخلال بالمقصود شرعاً .
ولذا فقد ذهب جمهور الفقهاء من حنفية ومالكية وشافعية في الأصح عندهم وحنابلة إلى وجوب إتباع متولي الوقف شرط الواقف في التأجير ، ولا يجوز مخالفته إلا إذا أضر بمصلحة الواقف ، ويراعـي شرط الواقف في تأجير الوقف من عدمه ، وفي مدة التأجير ، وفي تحديد من يؤجرَّ له الوقف ؛ لأن الأصل أن الواقف لو شرط شيئاً بقصد عُمل به وأُتبِع ؛ رعاية لغرضه وعملا بشرطه ، فلو شرط الواقف أن لا يؤجَّر الوقف إلا للعلماء ، أو لأهل قريته مثلاً ، فينبغي الامتثال لشرطه ما لم يضر بمصلحة الوقف ، كأن لا يرغب بإجارته العلماء أو أهل قريته كما سيأتي تفصيله.
ولا ريب أن من أهم الطرق الاستثمارية للوقف هي الإجارة ، وهي عقد تمليك المنفعة في المال بعوض وركنها الإيجاب والقبول ولعله من المهم هنا الإشارة إلى أصل عام وهو أنه يشترط في إجارة الوقف ما يشترط في إجارة الملك إلا ما خرج من ذلك بالدليل الخاص ولذلك فإن هناك أحكاماً خاصة تختلف فيها إجارة الوقف من إجارة الملك سيتم تناولها وفقاً لما يأتي في أبحاث :
البحث الأول : ولاية تأجير الوقف ويتنازل من يملك الحق في تأجير الموقوف سواء كان : الناظر
أو القاضي الشرعي المجتهد العدل أو غيرهما أو الموقوف عليه والآراء حول منع الوقف من التأجير وأثاره .
البحث الثاني : الطرف المستأجر في عقد إجارة الوقف ومواصفاته .
البحث الثالث : أجرة الوقف وهنا يدور البحث حول الضوابط الخاصة بتقدير أجرة الوقف وحالاتها التي ترتبط بالأجرة المثلية نزولاً وصعوداً أو تطابقاً إذ أن لتحديد الأجرة دخل في تحقيق الضابطة الشرعية لجواز الإجارة من عدمها .
البحث الرابع : مدة الإجارة وهذا البحث يعنى بمسألة مدة عقد الإجارة والتي يجب أن يراعي فيها شرط الواقف – إن وجد – في تحديد هذه المدة ونستعرض فيها الحالات التي يجوز فيها إجارة الوقف لمدة أطول من مدتها المشروطة والضوابط الخاصة بالمدة إطلاقاً وتقييداً كما سنتناول والإجارة الطويلة بواسطة إبرام عقود وغير ذلك .
البحث الخامس :إنتهاء إجارة الوقف : أنه من المعلوم إن الفقهاء يحددون لإنتهاء الإجارة أحد أجلين إما أن تنتهي الإجارة بانقضاء مدتها المتفق عليها أو أن تنتهي الإجارة بالموت وفي هذه الحالة الثانية يبرز بوضوح الفارق بين إجارة الملك وإجارة الوقف.
هذا هو مجمل الأبحاث التي سوف نتناولها في البنود التالية من مدونة أحكام الوقف الفقهية ، والتي تهدف إلى استقصـاء كافـة ما يتـاح للباحث من مسائل الوقف وفقاً لما ورد في المذاهب الإسلامية الفقهية الثمانية ( مذاهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والمذهب الإمامي الجعفري والمذهب الزيدي والمذهب الاباضي والمذهب الظاهري ) و الله ولي التوفيق .
*****
البحث الأول
من يملك حق تأجير الموقف
تثبت ولاية تأجير الوقف لناظر الوقف دون الموقوف عليه ، وقد أجمع على ذلك جمهور الفقهاء إذ روي عن الفقيه هلال صاحب القاضي أبي يوسف وزفر أن ( الإجارة إلى الوصي دون الموقوفة عليهم ([4]). وعند سائر فقهاء الحنفية أنه مع وجود الناظر ليس للقاضي ولاية تأجير الوقف فـ ( لا يملك القاضي التصرف في الوقف مع وجود ناظر ولو من قبله ) ([5]) ، بل هـو عندهم مقدم على الموقوف عليه إذ أنه أي الموقوف عليه ( يملك المنافع بلا بدل فلم يملك تمليكها ببدل وهو الإجارة وإلا لملك أكثر مما يملك ) فالولاية الخاصة أقـوى من الولاية العامة ، ولا يحق لصاحب الولاية العامة أن يتصرف بالوقف مع وجود صاحـب الولاية الخاصة ([6]) ، وعند المالكية أنه لا يصح إعارة شخص مالك انتفاع بنفسه فقط كمحبس عليه لسكناه ولا تصح إجارته أيضاً ([7]) .
وعند الشافعية أن ( وظيفة المتولي العمارة والإجارة ) ([8]) ، وقالوا ( أن للواقف ولمن ولاَّه الواقف إجارة الوقف ) ([9]) . وقالوا أيضاً : ( أن منافع الموقوف ملك للموقوف عليه يستوفيها بنفسه وبغيره بإعارة وإجارة كسائر الأملاك لكن لا يؤجر إلا إذا كان ناظراً أو أذن له الناظر في ذلك ، هذا إذا كان الوقف مطلقاً فإن كان مقيداً بشيء كما لو وقف داراً على أن يسكنها معلم الصبيان في القرية مثلاً ليس له أن يسكنها غيره بأجرة ولا بغيرها ([10]) .
وقال فقهاء الشافعية أنه ان لم يشترط الواقف ناظراً ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن النظر إلى الواقف لأنه كان ينظر إليه فإذا لم يشرطه بقي على نظره .
والثاني : أنه للموقوف عليه لأن الغلة له فكان النظر إليه .
والثالث : أن النظر للحاكم لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه فكان الحاكم أولى
وهو المذهب ([11]) وعند الحنابلة أن الإجارة تصح من مستحق الوقف لأن منافعه له فله إجارتها كالمستأجر وان لم يكن ناظراً فما بالك به لو كان ناظراً فإنه جائز ([12]).
أما الظاهرية : فلم نعثر في المحلى لابن حزم على نص في تلك المسألة .
أما فقهاء الزيدية : فإنهم قد ذكروا ( أن من وقف شيئاً كانت ولاية ذلك الوقف إلى الواقف وليس لأحد أن يعترضه ثم إلى منصوبه وصياً أو ولياً فإذا نصب الواقف والياً على الوقف أو أوصى به إلى أحد من المسلمين كان أولى بالتصرف ثم إذا كان الواقف غير باق أو بطلت ولايته بوجه من الوجوه ولم يكن له وصي ولا متولى من جهته انتقلت الولاية إلى الموقوف عليه إذا كان آدمياً معيَّناً يصح تصرفه ثم إذا لم يكن ثمَّ واقف ولا منصوب من جهته ولا موقوف عليه معيَّن يصح تصرفه كانت الولاية إلى الإمام والحاكم ، ولا يجوز للإمام والحاكم أن يعترضا ممن له ولاية الوقف من واقف أو منصوبه أو موقوف عليه معيَّن إلا لخيانة تظهر منهم وخيانة الواقف والمنصوب واضحة ، وأما خيانة الموقوف عليه فإنما يكون . يحاول بيع الوقف أو نحو ذلك كأن بطأ الأمة الموقوفة عليه أو يكون المتولي غير خاين إلا أنه ربما عجز عن القيام بما يتوجه فإن الإمام والحاكم يعترضان له بإعاناته أي بإقامة من يعينه ولا يعزلانه وتعتبر العدالة في متولي الوقف فلو كان فاسقاً أو غير عادل لم تصح ولايته على الأصح من القولين وهذا إذا كان متولياً من غيره نحو أن يوليه الإمام أو الحاكم أو الواقف فإنه لا يصح إذا كان فاسقاً ) ([13]) كما يذكر فقهاء الزيدية أيضاً أنه ( لمتولي الوقف تأجيره مدة معلومة لكن لا يكون إلا دون ثلاث سنين لأن خلاف ذلك يؤدي إلى اشتباه الوقف بالملك قال الإمام الهادي : تجـوز إجارة الوقف مدة قريبة نحو سنة أو سنتين دون المدة الطويلة فإن ذلك مكروه ، قبل : ( وتزول الكراهة بأن يكون وقفه مستفيضاً ( أي مشهوراً ) ، وقال بعضهم وإن كان رأيهم مرجوحاً في المذهب أنه يجدد الإشهاد على الإجارة في كل ثلاث سنين .
وقالوا : أن أجرَّ مدةً طويلة صحَّ مع الكراهة ([14] ) .
وأما عند فقهاء الشيعة الإمامية الجعفرية فإن التولية على الأوقاف العامة والخاصة مطلقاً للحاكم إلا أن يعين الواقف متولياً خاصاً ([15] ). وإذا عيََّن الواقف وظيفة المتولي فهو المتعيَّن وإلا إنصرف إطلاقه إلى ما هو المتعارف من التعمير والإجارة واستيفاء العوض وجمع الحاصل وقسمته على الموقوف عليهم ونحو تلكم ولا يجوز لغيره التصدي لذلك ([16] ) .
أما فقهاء الأباضية فيرون أن القائم بشأن الأوقاف لا يملكها بل هو أمين فيها وأن الأوقاف ملكها خاص بما وقفت له ([17] ) ، وأنه يجوز للواقف أن يشترط لنفسه بأن يشرف على التصرف فيما وقفه ، في سبيل الله تعالى من الأموال لأجل الأعمال الخيرية ، ويجوز أيضاً أن يشترط بأن يكون مرد الإشراف على ذلك بعد وفاته إلى أحد أولاده أو إلى الأفضل الأبَّر الأوفى من أولاده فإن هذا الاشتراط لا ينافي الوقفية ولا ينافي التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ([18] ). وقالوا : ( أن إصلاح الأوقاف يرجع إلى من بيده أمرها ) ([19] ).
تثبت ولاية القاضي في تأجير الوقف فيما لو لم يكن هناك ناظر معيَّن وعندئذ فإن الولاية الخاصة لم تنعقد فيتم الرجوع إلى من لهم الولاية العامة ومنهم القاضي ، ولكن ليس للقاضي أن يؤجر الوقف ما دامت الإجارة ممكنة للناظر وقد اتفق على ذلك فقهاء المذاهب الأربعة ([20] ) .
أما فقهاء الزيدية فإنهم يرون أن ( من وقف شيئاً كانت ولاية ذلك الوقف إلى الواقف وليس لأحد أن يعترضه ، ثم إلى منصوبه وصياً أو ولياً ، فإذا نصب الواقف والياً على الوقف أو أوصى به إلى أحد من المسلمين كان أولى بالتصرف ) ([21] ) ، غير أنهم يرون أنه ( إذا كان الواقف غير باق أو بطلت ولايته بوجه من الوجوه ولم يكن له وصي ولا متولي من جهته انتقلت الولاية إلى الموقوف عليه إذا كان آدمياً معتيَّناً يصح تصرفه ، ثم إذا لم يكن ثم واقف ولا منصوب من جهة ولا موقوف عليه معين يصح تصرفه كانت الولاية إلى الإمام والحاكم ، ولا يجوز للإمام والحاكم أن يعترضا من له ولاية الوقف من واقف أو منصوبه أو موقوف عليه معين إلا لخيانة تظهر فيهم ([22] ).
وبعد تفحص مصادر المذهب الظاهري لم أعثر على نص لهم في هذه المسألة وكذلك الاباضية ، أما الإمامية فإنهم يرون أنه لا يجوز لغير الناظر التصرف في الوقف إلا بإذن ولو كان مستحقاً وان اطلق ولم يشترط النظارة لنفسه ولا لغيره فالنظر إلى أرباب الوقف الموقوف عليهم ان كان معيَّناً والحاكم الشرعي ان كان عاماً لأنه الناظر العام ، حيث لا يوجد الخاص ولذلك فلا يحق للموقوف عليه غير الناظر أن يؤجر الوقف إلا إذا كان مأذوناً له ([23] ) .
إذا أبى الناظر فعل ما هو الأصلح للوقف فإن الأمر يعرض على القاضي أو الحاكم الشرعي وله في هذه الحالة أن يعزل الناظر إذ أن له حق الولاية العامة ([24] ). وكذلك يثبت له حق عزل الناظر المشروط له النظر من قبل الواقف إذا ثبتت خيانته ، إلا أن القاضي ليس مطلق اليد في ذلك فلا بد أن يُسبَّب فعل العزل ولا يعزل بلا سبب ([25] ) .
وإذا كان الناظر قد عُينَّ من قبل القاضي فلهذا ذهب المالكية والشافعية وبعض الحنفية إلى عدم جواز عزله إلا لخيانة أو سبب آخر أما الحنابلة وبعض آخر من فقهاء الحنفية فقد رأوا جواز عزله وأن لم يخن هذا ما اتفق عليه فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ([26] ) .
أما عند الزيدية فإن ترتيب الولاية يكون للواقف ثم إلى منصوبه وصياً أو ولياً ثم تنتقل إلى الموقوف عليه إذا كان آدمياً معينَّاً صحيح التصرف ثم تكون الولاية إلى الإمام والحاكم ولا يجوز للإمام والحاكم أن يعترضا ممن له ولاية الوقف من واقف أو منصوبة أو موقوف عليه معين إلا لخيانة تظهر منهم ، ومع هذا فإن الإمام والحاكم لا يعزلان الخائن ، بل يعترضان له بإعانة أي بإقامة من يعينه ولا يعزلانه كما ذكرناه آنفاً ([27] ) .
ويرى الإمامية أنه إذا خان الناظر ضمَّ إليه الحاكم الشرعي من يمنعه عنها إذ الحاكم هـو المرجع العام في الأمور الحسبية فإن لم يكن ذلك عـزله إذ مع عدم الإمكـان لا مناص من قطع يده وطرده ([28] )
ذكر في ما مضى آراء الفقهاء في إدارة الواقف أو الناظر أو القاضي للوقف ومن أساليب الإدارة والاستثمار تأجير الأعيان الموقوفة ، ولكن قد يثور السؤال حول ثبوت الحق في التأجير للموقوف عليه من عدمه ، وفي بيان حكم هذه المسألة لابد أن نشير إلى أن هذه المسألة تنقسم إلى مسألتين في الواقع وهما.
المسألة الأولى : ماذا إذا كان الموقوف عليه هو الناظر على الوقف : وفي هذه الحالة يوجد اتجاهان وهما كالآتي :
الاتجاه الأول : وهو جـواز تأجـير الموقوف عليه هو المعيَّن للوقف وهو رأي المالكية والشافعية والحنابلة ([29] ) . ولا فرق هنا سواء كانت تولية الموقوف عليه قد صدرت من قبل الواقف أو من قبل القاضي فهو في كلتا الحالتين ناظراً كامل الأهلية مطلق الولاية يملك أن يقوم بإدارة الوقف دون انتقاص من صلاحياته وإن كان هو مستحقاً من الوقف ولا بأس هنا أن ننقل قاعدة مقررة لدى فقهاء المالكية إذ يقـررون أنه ( لا يجوز للناظر التصرف إلا على وجه النظر ولا يجوز على غير ذلك ، ولا يجوز للقاضي أن يجعل بيد الناظر التصرف كيف شاء ) ([30] ) .
أما الاتجاه الثاني: فيرى أنه لا يحق للموقوف عليه تأجير الوقف وعللوا ذلك باحتمال موت الموقوف عليه خلال مدة الإجارة فيكون تصرفه في نصيب غيره إلا ان شرط الواقف له ذلك فيصح منه التأجير عندئذ ، وهو رأي بعض الشافعية إذ قالوا : ( منافع الموقوف ملك للموقوف عليه ليوفيها بنفسه وبغيره بإعارة وإجارة كسائر الأملاك لكن لا يؤجر إلا إذا كان ناظراً أو إذن له الناظر في ذلك هذا إذا كان الوقف مطلقاً فإن كان مقيداً بشيء كما لو وقف داراً على أن يسكنها معلم الصبيان في القرية مثلاً ليس له أن يسكنها غيره بأجرة ولا بغيرها ([31] ) .
المسألة الثانية : إجارة الوقف من قبل الموقوف عليـه غير الناظر وقد اختلفت الآراء في هذه
المسألة ، على النحو التالي :
عند الحنفية رأيان في هذه المسألة إذ يرى بعضهم عدم جواز الإجارة التي يقوم بها الموقوف عليه غير الناظر سواء وقف عليه للاستغلال أو للسكنى وسواء انحصر فيه الاستحقاق أم لا إذ أن حقه في الغَلَّة لا في التصرف في الوقف أما من يملك أن يؤجر فإنه الناظر أو القاضي ([32] ) ، فالإجارة من صلاحيات ولي الصدقة دون الموقوف عليهم إذ أنه يملك المنافع بلا بدل فلم يملك تمليكها ببدل وهو الإجارة وإلا لملك أكثر مما يملك ([33] ) ، أما رأي الفريق الثاني من فقهاء الحنفية فأنه بجواز إجارة الموقوف عليه غير الناظر للوقف كالدور والحوانيق يشرط أن يكون الاستحقاق منحصراً في الإجارة ، ولم يحتج الوقف إلى العمارة وكل من له حق استغلال الوقف أن يؤجر عقار الوقف في كل موضع يكون كل الأجر له كما إذا كان العقار لا يحتاج إلى العمارة ولا شريك معه في الغلَّة ، وفيما عدا ذلك فلا تصح منه الإجارة وتفريعاً على ذلك فإنه يجوز للموقوف عليه غير الناظر أنه يؤجر الدور والحوانيت بناء على ما ذكرنا أما الأراضي فإن شَرطُ الواقف تقديم العُشر والخراج وغيرها وجعل للموقوف عليه الباقي بعد ذلك فليس للموقوف عليه أن يؤجرها إذا لو جاز لكان كل الأجر له بحكم العقد فيفوت شرط الواقف وإن لم يشرط ذلك فيجب أن يجوز ويكون الخراج والمؤنة عليه ([34] ) .
أما المالكية فإنهم يجيزون لمستحق الوقف إكراءه فيجوز لمن حبس عليه ملك من الأعيان أو الأعقاب إكراؤه ([35] ) .
ويرى فقهاء الشافعية أن الموقوف عليه إذا لم يكن ناظراً فإنه لا يجوز له أن يؤجر الوقف إذ أن هذا التصرف لا يصدر إلا من الناظر أو نائبه إلا إذا كان الواقف قد شرط ذلك للموقوف عليه أو قد أذن له الناظر بذلك ففي الأولى يجوز للموقوف له أن يؤجر بولاية له في هذا الشأن وفي الثانية يكون وكيلاً في التأجير عن الناظر ([36] ) .
أما الحنابلة فإنهم يصرحون بصحة الإجارة من مستحق الوقف ( الموقوف عليه ) لأن منافع الوقف له فله إجارتها كالمستأجر ([37] ) .
عند فقهاء الزيدية فإن ترتيب من له الولاية على الوقف عندهم يبدأ بالواقف ثم إلى منصوبه وصياً أو ولياً ، أما إذا كان الواقف غير باق أو بطلت ولايته ولم يكن له وصي ولا متولي من جهته انتقلت الولاية إلى الموقوف عليه بشرط أن يكون آدمياً معينَّاً يصح تصرفه ([38] ) .
وفقهاء الإمامية فإنهم يرون عدم جواز التصرف في الوقف لغير الناظر ، لكن ان أطلق الوقف ، ولم يشترط النظارة لنفسه ولا لغيره فالنظر لأرباب الموقوف عليهم الموقوف دون فرق بين كون الموقوف عليهم عاماً أو خاصاً ([39] ) .
أما الاباضية فإنهم يرون أنه يجوز للواقف أن يشترط لنفسه بأن يشرف على التصرف فيما وقفه في سبيل الله تعالى من الأموال لأجل الأعمال الخيرية ويجوز أيضاً أن يشترط بأن يكون مرَّد الإشراف على ذلك بعد وفاته إلى أحد أولاده أو إلى الأفضل الأبرَّ الأوفى من أولاده فإن هذا الاشتراط لا ينافي الوقفية ولا ينافي التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، ولا مانع كذلك عندهم من أن يخصص الواقف أحداً من الناس ليشرف على الوقف ولم أعثر فيما معه يورىَّ من مصادر المذهب الأباضي أي تفصيل يخرج عن هذه القاعدة العامة ([40] ).
هذه هي آراء المذاهب فيما يتعلق بعدم جواز إجارة الموقوف عليه للوقف – إذا لم يكن ناظراً ويلزم ما تقدم :
أولاً : إذا أجر الموقوف عليه ما لم يصح له إجارته ، فالأجرة التي قبضها ينبغي أن تكون للوقف ، ولا تبرأ ذمة مستأجر الوقف بالدفع للموقوف له لأنه أعطى من لم يملك ، وينبغي على الناظر أن يطالبه بالأجر ، ويرجع المستأجر على الموقوف عليه فيما أقبضه ([41] ).
ثانياً : أن لناظر الوقف الحق في إقامة الدعوى القضائية فلو غُصب الوقف من الموقوف عليه فليس للموقوف عليه أن يقيم الدعوى إلا إذا كان هو الناظر أو مأذوناً من قبل القاضي سواء في ذلك الدعوى في عين الوقف أو في المنازعات المتعلقة بغلَّة الوقف .
فلو ادعى الموقوف عليه أنه وقف عليه ، لو ادعاه بإذن القاضي يصح الاتفاق أما بغير إذنه ففيه روايتان : والأصح أنه لا يصح ؛ لأن له حقاً في الغلة لا غير ، فلا يكون خصماً في شيء آخر ، ولو كان الموقوف عليه جماعة فادعى أحدهم أنه وقف بغير إذن القاضي لا يصح رواية واحدة ، ومستحق غلة الوقف لا يملك دعوى غلة الوقف ، وإنما يملكه المتولي ([42] ).
أما إن كان الموقوف عليه معيناً فإنه تصح الدعوى منه ان كان الوقف على معيَّن على عين الوقف فإن الغلة نماء الوقف وبزوال الوقف تزول الغلة ، فيصير كأن الموقوف عليه ادعى شطر حقه ، فينبغي أن تكون رواية الصحة هي الأصح ([43] ).
ودعوى الموقوف عليه لا تقتصر على غاصب الوقف ، بل قد تكون على متولي الوقف ، وعلى الواقف أيضاً .
فلو ادعى رجل على المتولي بأنه من الموقوف عليهم وأن له حقاً في غلة الوقف ، أو بأن حقه فيها كذا أكثر مما كان يعطيه . ينبغي عدم التردد أيضاً في سماعها لأنه يريد مجرد إثبات حقه .
ولو منـع الواقف أهل الوقف ما سمي لهـم ، فطالبوه به ، ألزمه القاضي بدفع ما في يده من غلة ([44] ).
إذا لم يكن هناك نص من الواقف يمنع من تأجير الوقف فإن ما سبق من مسائل تطبق أما في حالة ما إذا كان هناك شرط من الواقف بعدم تأجير الناظر للوقف أو جزء منه .
فلقد تعددت الآراء في هذه المسألة على ثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الأول : يـرى وجوب تطبيق شرط الواقف ويمثل هذا الاتجاه فقهاء المالكيـة ([45] ) ، والحنفية ([46] ) ، والحنابلة ([47] ) ، والشافعية في الأصح ([48] ) ، فإذا شرط الواقف أن لا يؤجر الموقوف أصلاً أو أن لا يؤجر أكثر من سنة مثلاً صحَّ الوقف ووجب اتباع شرطه للقاعدة المعروفة أن ( شرط الواقف كنص الشارع ) .
الاتجاه الثاني : وهو رأي لبعض فقهاء الشافعية وهو مقابل القول الأصح عندهم ويرى أصحاب هذا الاتجاه أنه لا يتبع شرط الواقف في ذلك إذ أنه يعد حجراً على مستحقي المنفعة من هذا الوقف ، إذ أن من مقاصد الوقف تسبيل الثمرة وهذا الشرط يخالف القصد الحقيقي من الوقف .
الاتجاه الثالث : وهو رأي لبعض فقهاء الشافعية مفاده أنه ان منع الواقف زيادة التأجير عن السنة فإن شرطه واجب الاتباع إذ أنهم يرونه محققاً لمصلحة الوقف عندئذ ، أما إن منع التأجير مطلقاً فلا يتبع هذا الشرط ، حيث أنه يكون عندئذ حجراً على مستحقي منفعة الوقف ([49] ).
وهناك آراء أخرى متعددة في هذه المسألة منها رأي الظاهرية في المسألة :
إذ بعد البحث في كتاب المحلى للإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله لم نجد بحثاً مختصاً في هذه المسألة إلا أنه يمكن أن يُستفاد رأي هذا الإمام من خلال المسألة رقم ( 1657 ) التي يذكر فيها ، أنه : ( ومن حبس وشرط أن يباع إن احتيج صحَّ الحبس لما ذكرنا من خروجه بهذا اللفـظ إلى الله تعالى وبطل الشرط لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى وهما فعلان متغايران إلا أن يقول : ( لا أحبس هذا الحبس إلا بشرط أن يباع فهذا لم يحبس شيئاً لأن كل حبس لم ينعقد إلا على باطل فلم ينعقد أصلاً ) ([50] ) ، وقد يُستفاد من هذه المسألة أن الشرط إن لم يتنافى حقيقةً مع الوقف فإنه متبع ويصح معه الوقف ، أما الشرط الذي يخالف حقيقة الوقف وهو حبس الأصل وتسبيل الثمرة فإنه باطل ولا ينعقد معه الوقف أصلاً والإجارة ليست كالبيع فتصح عندئذ والله العالم بمقاصد الأقوال وغوامض الآراء.
أما فقهاء الزيدية فيرون أن لمتولي الوقف أن يؤجر الوقف لمدة معلومة بشرط أن لا تزيد عن ثلاث سنين وعللوَّا ذلك بأن خلاف ذلك الإفراط سيؤدي إلى اشتباه الوقف بالملك ، قال الإمام الهادي وهو من أئمة الزيدية : تجوز إجارة الوقف مدة قريبة نحو سنة أو سنتين دون المدة الطويلة فإن ذلك مكروه ، وتزول الكراهة بأن يكون وقفه مستفيضاً ( أي مشهوراً ) .
وقيل : يجدد الإشهاد على الإجارة في كل ثلاث سنين نعم فإن أجَّر مدة طويلة صحَّ مع الكراهة وأجيب عنه بأن لا معنى لتجدد الإشهاد لأنه قد انعقدت الإجارة على وجه فاسد لطول المدة .
وقيل : ان كان المؤجَّر له صاحب المنافع صحت الإجارة وان كان والياً كمتولي أوقاف المساجد ونحو ذلك فشرط صحة الإجارة أن نفرض للمسجد ونحوه مصلحة في طول المدة تفوت هذه المصلحة مع قصر المدة وإلا فالإجارة فاسدة من أصلها ([51] ) .
ويرى فقهاء الإمامية أن الشرائط التي يشترطها الواقف تصح ويجب العمل عليها إذا كانت مشروعة فإذا اشترط أن لا يؤجر الوقف أكثر من سنة أو لا يؤجر على غير أهل العلم فلا تصح إجارته سنتين ولا على غير أهل العلم ، وقد استند فقهاء الإمامية على القاعدة التي قرروها من أن الوقوف على حسب ما أوقفها أهلها فإذا وضع الواقف شرطه وكان مشروعاً لا يخالف حكماً شرعياً ثابتاً فإنه يجب العمل به ولا يجوز إخراج الوقف عن شرطه الذي شرط فيه مع جوازه شرعاً بلا خلاف صريحاً وهو الحجة وللزوم الوفاء بالعقود والشروط ([52] ) .
أما الاباضية فيرون أن الضابط العام فيما يجوز وقفه هو كل مال متملك فيه منفعه بحيث تبقى عينه وينتفع بمنفعته والعين تخرج عن ملكية صاحبها الواقف وتصير وقفاً غير ممتلكة لأحد فلا تباع ولا تشترى ولا توهب ولا ترهن ولا يتصرف فيها أي تصرف والقائم عليها أمين عليها فقط وملكها خاص بما وقفت له ، ويرون أن تأجيرها الأوقاف جائـز ما دام يحقق فائدة دينية أو اجتماعية أو اقتصادية لصـالح الوقف كمـا أن الواقف أن يشترط في وقفه ما لا يخل بتعاليم الإسلام ([53] ) .
*****
البحث الثاني
الطرف المستأجر في عقد إجارة الوقف
إن من الصلاحيات الممنوحة شرعاً للناظر أن يؤجر الموقوف لمن يرغب فيه إلا أن الأمر ليس على اطلاقه بل انه منضبط بمراعاة مصلحة الوقف وعدم القيام بما يضره فلا يصح إكراء الوقف لمن يضر به وهو أمّر مجمعٌ عليه لدى أهل الإسلام قاطبة ، ولا يمنع الموقوف عليه من أن يكون مستأجراً للوقف ، حيث أن حقه في الغلة لا في الرقبة ، فلو أجرَّ القيم الوقف ممن يستحق غلته جاز ([54] ) .
هذا هو الأصل العام إلا أنه قد يثور البحث حول مدى جواز تأجير الناظر العين الموقوفة لنفسه أو لأهله القريبين كوالده أو ولده أو والدته وهكذا وسنستعرض آراء المذاهب في ذلك كله لتتجلى المسألة وضابطها بوضوح .
يرى فقهاء الحنفية : أنه أن رغب ابن الناظر أو أباه مثلاً في تأجير الوقف فإن الأمر لا يخلو من أن يباشر الناظر العقد بنفسه أو أن يتولى القاضي إبرام عقد الإجارة فنحن إذاً أمام حالتين :
أما الحالة الأولى: وهي عندما يباشر الناظر العقد بنفسه لأحد فروعه أو أصوله أو لمن لا تقبل
شهادته وهنا قولان :
الأول : بعدم جواز الإجارة من ابن الناظر وأبيه وعبده ومكاتبه لوجود التهمة ([55] ) .
أما القول الثاني : فإنه يجوز الإجارة من ابنه البالغ أو أبيه ولكن بشرط الخيرية وتتحقق هذه الخيرية بالزيادة عن أجرة المثل كبيع الوصي والخيرية عند أبي حنيفة هي ذاتها التي ذكرها في بيع الوصي لمال الصغير من نفسه وهو أن يأخذ ما يساوي عشرة بخمسة عشر أو يبيع منه ما يساوي خمسة عشر بعشرة على هذا الرأي الفتوى ([56] ) .
كما أن عدم جواز إجارة الناظر للوقف من نفسه أو من ابنه أو من أبيه أو عبده أو مكاتبه هو رأي لصاحبي الإمام أبي حنيفة وهما القاضي أبا يوسف والإمام محمـد بن الحسن الشيباني ، ولا ريب أن من يرى عدم الجواز يعلل ذلك بوجود التهمة من جرَّاء هذا العقد الذي سيجريه الناظر لذلك فإن من يرى عدم الجواز يرى أن البديل هو بتولي القاضي العقد لمن يرغب في إجارة الوقف وان كان ابن الناظر أو أبوه أو غيرهما ممن يرتبط مع الناظر بقرابة تمنعه من إتمام عقد الإجارة .
كما يرى الحنفية أن تأجير الناظر الوقف من غير تلك الأصناف المذكورة جائز بلا إشكال لانتفاء المحاباة .
وإذا رغب أكثر من شخص في إستئجار عقار الوقف فإنه يجب على الناظر اختيار الثقة الذي يحقق المصلحة الأتمّْ للوقف .
ولذلك فإننا نجد في الحالة الثانية أنه إذا رغب الناظر في تأجير العين الموقوفة لنفسه أو لأحد أصوله وفروعه إلا أنه ذهب إلى القاضي وطلب منه أن يتولى العقد فإن العقد يكون صحيحاً ولا يقال : أن القاضي لا يملك التصرف في الوقف مع وجود الناظر ([57] ) ، لأننا نقول عندئذ أن الأمر هنا مختلف ، حيث أن المقام مقام نزاع على صحة تصرف الناظر بنفسه ولذا ساغ اللجوء إلى القاضي بل ان تصرف الناظر لا يصح لوجود التهمة الشديدة في هذه الحالة .
وبالنسبة إلى فقهاء المالكية : فإنهم يرون أنه لا يجوز لناظر الوقف كالوكيل والوصي وشبههما أن يشتري من نفسه ولا أن يبيع منها ولا ممن يتنزل منزلته من أقاربه وغيرهم فإن فعل تعقبه الحاكم بالنظر فيمضي الصواب ويرد غيره ([58] ) . وعلة ذلك الخوف من حصول غبن أو محاباة في كراء الوقف ([59] ) .
ويرى الشافعية أن ناظر الوقف كالوصي والقيم على مال اليتيم يمتنع عليه ما يمتنع عليهما ويجوز له ما يجوز لهما ، ولذا لا يجوز للناظر أن يؤجر من نفسه قياساً على الوصي إذ ليست له ولاية ليتولى طرفي العقد ([60] ) .
أما الحنابلة : فإنهم يفرقون في المستأجر للوقف عما إذا كان الراغب في الاستئجار هو ولد الناظر فإن كان الوقف على نفس الناظر فإن تأجيره أعيان الوقف لولده صحيح ، وإن كان الوقف على غيره ففي تأجيره أعيان الوقف لولده وجوه ثلاثة :
الأول : الصحة مطلقاً وهو رأي جماعة من قضاة الحنابلة .
والثاني : أنه يصح بأجرة المثل فقط .
والثالث: أنه لا يصح مطلقاً وهو ما أفتى به بعض فقهائهم .
أما إذا كان الراغب في استئجار الوقف هو الناظر نفسه فإنه لا يصح أن يؤجر العين الموقوفة من نفسه قياساً على الوكيل وهذا ما عليه جمهور الحنابلة ([61] ) .
وأما الظاهرية : فلم أعثر لهم على رأي في هذه المسألة .
ويذهب فقهاء الزيدية إلى أنه يجوز للناظر معاملة نفسه فيجوز له البيع والشراء من غلة الوقف ويسلم العوض ويجوز له أن يزرع أرض الوقف أو يؤجرها لنفسه ويدفع أجرة المثل كغيره بلا عقد من الإمام أو الحاكم ويكون حكم ذلك في يده حكم المعاطاة إلا أنه يجب أن يتحرى المصلحة وألا يأخذ المثل وقت غلائه بمثله في وقت رخصه ، أما فقهاء الإمامية فلم أجد بعد تتبع كلماتهم على ما يمنع من أن يقوم الناظر بتأجير الوقف لنفسه ما دام بعيداً عن أي قصور أو تقصير من جانبه لتحقيق مصلحة الوقف قد نصَّوا على أن عمل ناظر الوقف مقيد بشروط الواقف المنصوص عليها في صك الوقف إلا ما يكون باطلاً منها وأن مسئولية المتولي كمسئولية ([62] ) الوكيل والمودع سواء قلنا بأنه وكيل عن الواقف أو الوقف أو المستحقين ([63] ) لاسيما وأن وظيفة الناظر مع الإطلاق هو عمارة الوقف وإجارته وتحصيل الغلة وقسمتها على مستحقيها ولو فوض إليه بعضها لم يتعدَّه ([64] ) .
أما فقهـاء الأباضية : فإنهم كما ذكرنا مراراً وتكراراً يرون أن القائم بالأوقاف أمين فيها فهو وكيل ولذلك فإنه لا يشتري من نفسه ولا يؤجر من نفسه ولا يبيع اذ أنها تصرفات يقوى فيها احتمال عدم تحقيق مصلحة للوقف مما يجعله إحتمالاً معتداً به ([65] ) .
*****
البحث الثالث
المدة في إجارة الوقف
عند إبرام عقد إجارة الوقف فإننا نحتاج إلى تحديد زمني معيَّن بهذا العقد شأنه شأن سائر العقود إلا أن هناك سمة خاصة يمتاز بها إجارة الوقف عن إجارة الملك وهو عبارة عن خصوصية الموقوف إذ أن الأصل فيه يظل محبوساً أبداً وأن المنفعة هي التي تسبل لله تعالى لينتفع منها ، ولذلك فإن المدة التي تضرب في عقد إجارة الوقف يجب أن تحقق مصلحة الموقوف فلا تؤدي إلى تلفه أو خرابه أو إلحاق أي ضرر به مهما كان .
وفي بحثنا حول مدة الإجارة الوقفية فإننا سنواجه حالات لا تقرر فيها مدة خاصة بهذا العقد وحالات قدرت فيها المدة إلا أنه لم يلتزم بها مضاقاً إلى بيان حكم الإجارة الطويلة وغيرها من المسائل المرتبطة بهذه المسألة . وهذا كله سوف نتناوله وفقاً لما يلي من مسائل :
المسألة الأولى : إذا تم تقييد إجارة الوقف بمدة زمنية فهل يعني ذلك أنه لا يجوز أن تطلق الإجارة وأن التقييد لازمٌ أم أنه يمكن إجارَة الوقف دون تحديد المدة ؟ ولقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على آراء ، وهي كالآتي .
يرى فقهاء الحنفية رأيين في المسألة :
الرأي الأول : وهو عدم جواز إجارة الوقف إلا لمدة محددة وتقع باطلة الإجارة إذا كانـت مطلقة غير محددة المدة فالإجارة عندهم جائزة إذا آجرها هو إلى وقت معلوم ([66] ) .
أما الرأي الثاني : فهو جواز إجارة الوقف إجارة مطلقة دون الحاجة إلى بيان مدة ما سواء كان الموقـوف ضيعـة أي عقار أم غيرهـا ، ولقد ذكر الأمام نجم الدين الطرسوسي تـ (758 هـ ) في فتاويه أنه : ( يجب العمل بأقوال المتقدمين من الأصحاب رحمهم الله لوجوه :
الأول : لوفرة علمهم واجتهادهم .
الثاني : لقربهم من عصر الامام – أي الامام أبي حنيفة – والأئمة الأعلام .
الثالث : لحسن نظرهم وقوة تحريهم للمسائل التي ليس فيها رواية منصوصة .
الرابع : لأن ما قالوه موافق للأصل المعروف من أي المقادير لا تعرف إلا سماعاً لا مدخل للقياس
فيها .
الخامس : أن قولهم لا يخلوا اما أن يكون عن رواية وهو الظاهر أو ليس عن رواية لكنه موافق
للقواعد والفروع والشواهد ، وأما البحث عن بيان الرواية فلا قدرة لنا عليه لأنها نقل ولم
نقف في ذلك على رواية منقولة عن الإمام ولا عن أبي يوسف ومحمد ، وأما البحث عن أنه
موافق للقواعد والفروع والشواهد فهو أن بيع المنافع كبيع الأعيان وهو أصلها وفي بيع
الأعيان لم يحفظ للتقدير فيها مدة عن أحد من الاصحاب ولا من أهل العلم فكذا في بيع
المنافع لأنها فرعها فلا يرد السلم لأنه خرج بالنص فلا يقاس عليه .
السادس : اننا ان تنزلنا وقلنا ان قول المتقدمين عن تخريج لا عن رواية فقد تأيدَّ بموافقة من قال من
المتأخرين وهم الأشياخ الأعلام فهؤلاء كلهم توافقوا في القول بعدم التقرير ولا شك في
أن لاجتماع الآراء قوة معتبرة ([67] ) .
وبالنظر في الأدلة التي استند إليها الفقهاء فإن الأخذ بالرأي الأول هو الذي يلزم منه تحقيق ما هو أصلح وأنفع للوقف ، حيث أن طول مدة الإجارة عادة يؤدي إلى نشوء احتمالات لدى الآخرين بشبهة تملُّك الوقف أو اندراسه ([68] ) وهذا أمرٌ محتمل الوقوع بقوة حينما تطول مدة الإجارة فالاحتياط يقتضي الأخذ بالرأي الأول لاسيما عندمـا نرى بثني بعض أئمة المذاهب الأخرى له إذ أنه عند المالكية والشافعية والزيدية لا يجوز إجارة الوقف إلا لمدة محددة ومنع الإطلاق في المدة فلا يجوز كراء الأحباس لغير أمد ولا يجوز لأمدٍ بعيد لأنه لغير أمدٍ كراء مجهول ([69] ) ، فيصح لمتولي الوقف تأجيره مدة معلومة ويكون عقد الإجارة صحيحاً إذا كان لمدة معلومة تبقى فيها العين المؤجرة غالباً ليتم إستيفاء المعقود عليه ([70] ) .
أما الحنابلة فلم نعثر على نص لهم يتناول حكم عدم جواز إجارة الوقف لمدة غير محددة إلا أنه يبين بالبحث أنهم يتناولون المدة وضرورة تحديدها إذ يتحدثون عن مقدار المدة وما قد يشترطه الواقف من تحديد لها كما في عبارات بعض فقهائهم ([71] ) أما الإمامية فإن الكلام عندهم يقع في الإجارة لمدة معلومة معروفة الابتداء والانتهاء ، وهذا يتضح من استقراء مسائل عديدة منثورة في مصادرهم الفقهية المعتبرة وعليه فإنه إذا آجر العين الموقوفة البطن الأول من الموقوف عليهم في الوقف الترثيبي وانقرضوا قبل انقضاء مدة الإجارة، فإنهم يرون أن الإجارة لا تصح بالنسبة إلى بقية المدة ومحل الشاهد من هذه المسألة أنها تبين أن الإجارة يجب أن تكون لمدة معلومة ومحددة لا مطلقة سواء كانت مدة قصيرة كاليوم أو طويلة كالسنين تبدأ من الوقف المسمى في العقد وإلا فمن وقت العقد ([72] ) .
أمـا الاباضية فلقد ورد في استفتاء وجَّه إلى مفتي الاباضية في عمان حول تأجير بيت لمدة أربعين عامـاً بأجرة ثابتة قوله : ( لا مانـع منه لأن للواقف أن يشترط في وقفـه ما لا يخل بتعاليم الإسلام ) ([73] ) ، ويقول الشيخ الخليلي في موضع آخر من فتاويه عـن الإجارة : ( إن اتفق الجانبان على إكراه المحل التجاري إلى زمن محدود فالإكراه صحيح ([74] ) .
أما الظاهرية فلم نعثر لهم على نص خاص في هذا الصدد إلا أنه ورد في كتاب الإجارات من المحلى للإمام ابن حزم قوله : ( ومن الإجارات ما لابد فيه من ذكر العمل الذي يستأجر عليه فقط ولا يذكر فيه مدة كالخياطة والنسج وركوب الدابة إلى مكان مسمَّى او نحو ذلك ومنها ما لابد فيه من ذكر المدة كسكنى الدار وركوب الدابة ونحو ذلك ومنه ما لابد فيه من الأمرين معاً كالخدمة ونحوها فلابد من ذكر المدة والعمل لأن الإجارة بخلاف ما ذكرنا مجهولة وإذا كانت مجهولة فهي أكل مال بالباطل ([75] ) .
المسألة الثانية : إذا لم يحدد الواقف مدة معينة لتأجير الوقف إهمالاً فقد اختلف الفقهاء في مدى صلاحية الناظر لتحديد مدة عقد الإجارة وحدودها وذلك وقفاً للتفصيل الآتي :
أولاً: المذهب الحنفي : واختلف أصحابه فيما لو أهمل الواقف مدة الإجارة على آراء فمنهم من يرى أنه إذا أهمل الواقف تحديد المدة فإن الأمر للناظر يكري الوقف إلى المدة التي يراها أصلح وهو رأي المتقدمين من الحنفية ([76] ) ، وهناك من يرى أن المدة تُقيَّد بسنة مطلقاً تجنباً لطول المدة الذي قد يؤدي إلى إبطال الوقف حيث أن من رآه يتصرف منها تصرف المُلاَّك على طول الزمان قد يتوهمه الناس مالكاً ، ولذلك ودفعاً لمثل هذا التوهم فقد رأى بعض الفقهاء أن المدة يجب أن تحدد واختلف في تحديدها فبعضهم كما ذكرنا يرى أن مدة السنة هي المدة الأقل لدفع مثل هذا الخطر عن الوقف وقد فصَّل البعض إذ أن إجارة السنة هي لوقف الدار أما الأرض فثلاث سنين إلا إذا كانت المصلحة بخلاف ذلك ، وهذا قد يختلف زماناً وموضعاً ، بل يرى بعضهم أنه لو احتيج لذلك فإنه يعقد عقوداً مترادفة كل عقد لسنة بكذا هذا في الدار أما بالنسبة لإجارة الأراضي الموقوفة فيصبح كل عقد لثلاث سنين ويذكر في عقد واحد أنه يؤجر له الدار سنة كذا بأجر كذا وهكذا لمدة ثلاث سنين ، وهكذا إلى تمام المدة ويكون العقد الأول لازماً فقط لأن جميع ما عداه يكون مضافاً وكل ذلك إذا كان المؤجر غير الواقف أما إذا كان المؤجر هو الواقف فله التأجير لأكثر من مدة السنة والثلاث سنين ([77] ).
ثانياً : المذهب المالكي : وهم يرون ما يلي :
إذا كان الموقوف أرضاً للزراعة وكان المكتري من ليس مرجع الوقف له وكان الناظر من جملة الموقوف عليهم فإن كان الوقف قد تم على معينين أو معيَّن فإنه يجوز للناظر إجارة الأرض الموقوفة سنتين أو ثلاث سنين ولا يجوز أكثر من ذلك ، أما إذا كان الوقف على غير معيَّن كالفقراء ونحوهم من العناوين العامة فإنه يجوز عندئذ أن تكري وتؤجر أربع سنين لا أكثر ، قال ابن رشد : ( وأما الأحباس المحبسة على المساجد والمساكين وما أشبه ذلك فلا ينبغي لمتولي النظر فيها أن يكريها لأكثر من أربعة أعوام ان كانت أرضاً وعليه مضى عمل القضاة في كراء الأحباس ) .
إذا كان الموقوف داراً فلا يُؤجر الناظر الوقف أكثر من سنة سواء أكان الموقوف عليه معيناً أم غير معيَّن .
أن أكرى الناظر الوقف أكثر مما تقدم ذكره سواء بالنسبة للدار أو الأرض فإنه لابد أن يكون محققاً لمصلحة الوقف وعندئذ يمضي وإلا يفسخ لأنه بموته لا تنفسخ الإجارة ([78] ).
أما إذا كان الكراء لمن مرجع الوقف له جاز الكراء لعشر سنين ونحوها سواء كان الموقوف داراً أم أرضاً وسواء كان الموقوف عليهم معينين أو غير معينين، وقد أكرى الإمام مالـك – رحمه الله ، منزله عشر سنين وهو صدقة على هذا الحال ([79] ).
يكون تحديد المدة السابقة في الحالات الطبيعية أما إذا اقتضت الضرورة الإجارة لأكثر من هذه المدد مثل حالة تهدم الوقف فيجوز كراؤه بما يبنى به ولو طال الزمان كأربعين عاماً أو أزيد بقدر ما تقتضي الضرورة ، وهو خير من ضياعه وإندراسه ([80] ).
ثالثاً: المذهب الشافعي : اختلف فقهاء الشافعية على ثلاثة أراء في هذه المسألة أما الأول فيرى أن
إجارة الوقف هنا لا تقيد بمدة زمنية محددة بل يصح العقد إلى مدة تبقى فيها العين المؤجرة
غالياً وعلى ما يليق بها فالمرجع في المدة التي تبقى فيها العين غالباً يعود إلى أهل الخبرة وكل
شيء يحبسه فيؤجر الرقيق مثلاً ثلاثون عاماً أما الدابة فقد يليق بها أن تؤجر لعشر سنين
والثوب سنة أو سنتين هذا هو الرأي الأول وأما الرأي الثاني فيرى أن لا يؤجر الوقف
لأكثر من سنة لإندفاع الحاجة بها أما الرأي الثالث فيري أنه لا يزاد في إجارة الوقف على
ثلاثين سنة لأنها نصف العمر الغالب ([81] ). وهذه الآراء الثلاثة ليست سوى تقديرات
تقريبية للمدة اللائقة كما عَبَّرَ عنها فقهاء الشافعية قد تتغير بحسب الزمان والمكان ونوع
الموقوف .
رابعاً: المذهب الحنبلي : وفقهاء الحنابلة لا يقيدون إجارة الوقف بمدة معينة إذا أهملها الواقف
وهم في ذلك كالشافعية وتقدير المدة عندهم متروك إلى ما تقتضيه المصلحة ما دام الوقف
على جهة عامة ([82] ).
خامساً: المذهب الظاهري: فلم أعثر في كتبهم على حكم خاص في هذه المسألة .
سادساً: المذهب الزيدي : ويرى فقهاء الزيدية أن لناظر الوقف ومتوليه أن يؤجر الوقف مدة معلومة دون ثلاث سنين وأن الزائد على هذه المدة سيؤدي إلى اشتباه الوقف بالملك ([83] )
قال الإمام الهادي : ( تجوز إجارة الوقف مدة قريبة نحو سنة أو سنتين دون المدة الطويلة
فإن ذلك مكروه ) ، ولقد فسرَّ فقهاء الزيدية الكراهة بأنها كراهة حظر تمنع الصحة مع
حصول اللبس، ولكن الكراهة تزول إذا كان الوقف مشهوراً استفاض العلم بوقفيته بين الناس.
وقد يقول بعض الفقهاء أنه إن كان المؤجرَّ له صاحب المنافع صح ذلك ووجهه أنه أجرَّ
ملكه وهو المنفعة سواء كانت تورث عنه أو تنتقل إلى من بعده بالوقف بخلاف المتولي
فليس مالكه للمنفعة أما إن كان المؤجَّر له والياً كمتولي أوقاف المساجد ونحو ذلك فشرط
صحة الإجارة أن نفرض للمسجد ونحوه مصلحة في طولها تفوت هذه المصلحة مع قصر
المدة وإلا فالإجارة فاسدة من أصلها أي باطلة ([84] ) .
سابعاً: المذهب الإمامي الجعفري: ويرى فقهاء هذا المذهب أنه كلما كانت الأجرة والمنفعة
والمدة معلومة صحَّت الإجارة ويتفرع على لزوم تعيين المدة أنه لو آجره كل شهر بكذا أو
كل سنة بكذا ولم يُبيَّن مقدار الأشهر أو السنين لم تصح الإجارة لجهالة المدة وهذه هي
الضابطة العامة في الإجارة عندهم ([85] ) .
ولذلك فإنهم يرون أنه لا يجوز إيجار الوقف مدة طويلة يخشى عليه من تغلب الأيدي
وترتب أثر الملكية عليه ، هذا رأيهم مع الإطلاق أي في حال لم يشترط الواقف شيئاً أما
إذا اشترط أن لا يؤجر أكثر من سنة أو سنتين وقام المتولي أو الناظر بعقد إجارة لأكثر من
ذلك بطل الزائد.
قال الإمام كاشف لغطاء : ( ولا تجدي الحيلة بإيجاره عقوداً متعددة سنتين سنتين لأنه
خلاف غرض الواقف وإن وافق لفظه وهو من جملة الشواهد على أن الأغراض تُقيَّد
الألفاظ ) ([86] ) .
ثامناً: المذهب الأباضي: وُجَّه استفتاء إلى مفتي الأباضية وفقيهها في العصر الحاضر الإمام الشيخ
أحمد الخليلي ورد فيه أن ثلاثة أخوة أوقفوا بيتهم على مسجد ومدارس ثابتة له على أن
يُؤجر لهم البيت لمدة أربعين عاماً وأن الذي حملهم على تنجيز الوقف بسرعة هو الخشية من
وقوع التبديل من ورثتهم فأجابهم سماحة المفتي بأنه لا مانع من ذلك من باب أن للواقف
أن يشترط في وقفه ما لا يخل بتعاليم الإسلام ومن الواضح أن الإجارة لهذه المدة الطويلة
وبتلك الكيفية صحيحة عندهم وإلا لما أفتى بالجواز ([87] ) هذا ما عثرنا عليه في هذه المسألة
والله أعلم .
المسألة الثالثة : كنا فيما مضى نبحث حول الإجارة العادية والتي تختلف عن ما يسميه بعض الفقهاء بالإجارة الطويلة وهو مفهوم واسع يشمل الدور والأراضي ويدخل فيه ما يسمى لدى الفقهاء بالحكر والاستحكار وهو يختص برقبة الأرض الخالية فيجري عقد استئحكارها للبناء عليها أو الغرس فيها ويقصد من إجارتها منع الغير وإبقاء الأرض الموقوفة في يد المستأجر للبناء عليها أو غرسها بالأشجار المثمرة أو لأي غرض آخر لمصلحة الوقف على أن يكون على نفقة المستأجر لقاء أن يدفع المستأجر أجراً رمزياً محدداً ودون تحديد لمدة زمنية وينتقل التحكير من الآباء للأبناء ومن الأبناء إلى الأحفاد فهو عقد يُوَّرث ([88] ) ، ولقد تنوعت الآراء حول هذه المسألة وفقاً لما يأتي :
أولاً : المذهب الحنفي :
وانقسمت الآراء في المذهب الحنفي إلى ثلاثة ، وهي :
الأول : ويرى أصحابه أنه يجوز عقد هذه الإجارة الطويلة مطلقاً دون الحاجة إلى ضرورة مدعاة فتجوز إجارته أي مدة كانت ([89] ) .
الثاني : ويرى أصحابه أنه لا تجوز الإجارة الطويلة إلا إذا كانت هناك حاجة إليه كوسيلة لتصير ضروري للوقف ولزم الأمر تعجيل الأجرة فإنه يجوز للناظر أن يعقد عقوداً متفرقة مترادفة كل عقد على سنة يكتب فيه ( استأجر فلان بن فلان كذا ثلاثين سنة بثلاثين عقداً كل عقد على سنة كذا ) ويكون العقد الأول لازماً لأنه ناجز ويكون العقد الثاني غير لازم لأنه مضاف ([90] ) .
الثالث : وأصحابه يرون أنه لا تجوز الإجارة الطويلة سواء كانت بعقد واحد أم بعقود مترادفة فالإجارة باطلة لتحقق المحذور وهو أن طول المدة يؤدي إلى إبطال الوقت . وقد اعترض عليه بعض الفقهاء بأن الاضطرار إلى الإجارة الطويلة لحاجة عمارة الوقف بتعجيل أجرة سنين مقبلة يزيل المحذور إذ أن المقتضي موجود وهو أن يكون الوقف بحاجة إلى عمارة كما لو خرب وتعطل الانتفاع به لاسيما عندما لا يكون لدى الوقف أموال يُعمرَّ بها ولا يوجد من يمكنه أن يقرض الوقف ما يحتاج إليه في الإعمار ولا يوجد عقار آخر ذو ريع يمكن استبدال الوقف محل الكلام به عندئذ يصحَ الإجارة الطويلة وتكون لصالح الوقف لاسيما إذا لم يكن هناك موانع شرعية غير ما ذكر الفتوى عند الحنفية هو بالإجارة لمدة سنة واحدة سواء كانت لأرض أو عقار ، ولابد في نهاية هذه الفقرة الإشارة إلى أن هذه الآراء تنظر إلى المسألة في حال كان المؤجر غير الواقف أما إذا كان المؤجر هو الواقف فإن التأجير لمدة طويلة جائز ولو دون تحقق حالة ضرورة ودون حاجة إلى رفع الأمر إلى القاضي الشرعي لأن الواقـف يحتاط في وقفـه شأنـه شأن المالك في ملكه وولايته عليه أقوى من ولاية غيره ([91] ) .
ثانياً : المذهب المالكي :
يرى المالكية أنه إذا كان الناظر من الموقوف عليهم فلا يجوز له تأجير الوقف لأمد بعيد سواء كان لضرورة أو لغير ضرورة لأن بموته تنفسخ الإجارة ، أما إذا كان الناظر من غير الموقوف عليهم فإن لم تكن هناك ضرورة للإجارة الطويلة فلا تجوز . أما إذا كانت هناك ضرورة لتعمير الوقف وما شابه فإنه تجوز الإجارة الطويلة في الدور وشبهها ولا تجوز في الأرض والعقار إذ لا يتصور أن يلحقها خراب مع مرور الزمن ([92] ) .
ولقد أفتى بهذا الرأي بعض أكابر أهل المغرب من فقهاء المالكية وهو القاضي ابن باديس فأجاز كراء دار محبسة على الفقراء تخربت ولم يوجد ما تعمر به السنين الكثيرة وشرط الفتوى بالجواز أن يكون إصلاحها من إجارتها وكرائها ، ولقد منع هذا الفقيه المغربي أن يباع الوقف ولم ينكر عليه أحد من أهل عصره ([93] ) ، مما يعني تلقي فقهاء المالكية هذا الرأي بالقبول والاتفاق .
ثالثاً : المذهب الشافعي :
ويرى أصحابه أنه لا تصح الإجارة الطويلة في الوقف مطلقاً إلا إذا كانت هناك حاجة إليها أو كانت هنـاك مصلحة تعـود إلى الوقف لا إلى المستحق وتثبت هذه الحاجة أو المصلحة عند القاضي([94] ) .
رابعاً : المذهب الحنبلي :
ويرى فقهاء الحنابلة نفس رأي الشافعية في أنه لا تجوز الإجارة الطويلة إلا إذا كانت هناك حاجة إليها أو كانت هناك مصلحة للوقف لا للموقوف ([95] ).
خامساً : المذهب الظاهري :
لم أعثر على نص يعالج حكم في هذه المسألة .
سادساً : المذهب الزيدي :
يجيز فقهاء الزيدية الإجارة الطويلة بشرط أن يكون الوقف مستفيضاً مشهوراً بحيث تنتفي فيه المخاوف من التباسه بما هو ملك خاص أو إذا كان المؤجر هو صاحب المنافع وإن كان والياً كمتولي أوقاف المساجد ونحو ذلك فشرط صحة الإجارة أن نفرض للمسجد ونحوه مصلحة في طولها تفوت هذه المصلحة مع قصر المدة وإلا فالإجارة فاسدة من أصلها ([96] ).
سابعاً : المذهب الإمامي الجعفري :
ويرى فقهاء الإمامية أنه لا يجوز إيجار الوقف مدة طويلة يخشى فيه على الوقف من تغلب الأيدي وترتب أثر الملكية عليه هذا مع الإطلاق ولو شرط الواقف أن لا يؤجر أكثر من سنة أو سنتين فآجر المتولي أو المرتزقة أكثر من ذلك بطل الزائد ولا تجدي الحيلة بإيجاره عقوداً متعددة سنتين سنتين لأنه خلاف غرض الواقف وأن وافق لفظه ([97] ).
ثامناً : المذهب الأباضي :
ذكرنا فيما مضى فتوى إمام الأباضية في العصر الحاضر سماحة العلامة الشيخ أحمد الخليلي بجواز إجارة الوقف لمدة طويلة تزيد على أربعين عاماً وأن ذلك لا ينافي تعاليم الإسلام مع حفظ العقار الموقوف ([98] ).
من جماع ما تقدم وبعد استعراض آراء المذاهب الفقهية فيما يتعلق بهذه المسألة يتبين أن هناك ثلاثة اتجاهات فقهية الأول منها يقول بجواز الإجارة الطويلة مطلقاً والثاني يرى عدم جوازها مطلقاً ، أما الثالث فإنه يجيزها في حال الضرورة ولا ريب أن الإجارة الطويلة الأمد أسلوب استثماري قد لا يبدوا جيداً في حالات العمل غير المنضبط قانونياً وإدارياً كما كان في العصور الماضية فلقد كانت المدة الطويلة سبباً لفقدان العارفين بالوقف والشهود فيه وبالتالي يسهل وضع اليد عليه فإن من رآه يتصرف فيه تصرف المُلاَّك مدة طويلة يخال هذا مالكاً فتضيع الأوقاف والحقوق المترتبة عليها إلا أن هذا المحذور غير ذي أهمية في عصرنا الحاضر إذ أن التنظيم الإداري والقانوي لعملية توثيق المعاملات والملكيات وما إلى ذلك قد بلغت مبلغاً عظيماً من التنظيم والاتقان وينبغي أن يستفاد منها في عملية التوثيق الوقفي وإدارة الأوقاف وصناعة استثمار الوقف في عالم يسوده الاقتصاد المتحرك والنشط في هذا القرن المتميز من الزمان ولا ريب أن هناك العديد مما يمكن استخدامه كضوابط شرعية في إجارة الوقف بالإضافة إلى الضوابط التي ذكرناها في المدخل التمهيدي فلا نعيد والله أعلم .
المسألة الرابعة : وهي من المسائل المستجدة وقد أطلق على هذه المسألة ( الإجارة بأجرتين ) وهي طريقة ابتكرها بعض الفقهاء علاجاً لمشكلة حدثت للعقارات الموقوفة في اسطنبول علم 1020 هـ عندما نشبت حرائق كبيرة أتلفت معظم العقارات الوقفية وشوَّهت المظاهر الخارجية لبعض الأوقاف الأخرى ، ولقد واجهت إدارة النظارة الوقفية مشكلة عدم توافر الأموال اللازمة لتعميرها فأقترح العلماء آنذاك أن يكون هناك عقد إجارة على العقار المتدهور أو التالف بأجرتين إحداهما أجرة كبيرة معجلة تقارب قيمة هذا العقار يستلمها الناظر ليعمر بهذه الأموال العقار الموقوف أما الأجرة الثانية فهي أجرة سنوية مؤجلة وقليلة ويتجدد هذا العقد كل سنة وهو طويل الأجل بطبيعته إذ أنه لابد فيه من أن يسترد المستأجر كل مبالغه التي دفعها من خلال ضرب هذه المدة الطويلة إذ هي الضمان الوحيد له ليستعيد أمواله إذ أن هذا العقد هو عقد تمويلي في الواقع وهذه الصيغة التمويلية تعالج مشكلة عدم جواز بيع العقار الموقوف اذ ان الأجرة الكبيرة المعَجَلَّة تحقق نفس ما قد يحققه البيع وهي تحقق أيضاً منافع للمستأجر في البقاء فترة طويلة في العقار المؤجر سواء كان منزلاً أو دكاناً أو غير ذلك ولا شك أن هذه الطريقة تتناغم مع ضوابط الرأي الذي يجيز الإجارة الطويلة إذ أن وجود الأجرة يحمي العقار الموقوف من إدعاء المستأجر أنه قد تملكه بالشـراء أو غيره كما أن ما يبنى على هذه الأرض الموقوفة يظل ملكاً للوقف دون المستأجر .
المسألة الخامسة : وهي مسألة جديدة فهي تتناول صيغة جديدة من صيغ الإجارة وهي الإجارة المنتهية بالتمليك وهي ذات صور عديدة بعضها لا ينسجم مع أحكام الوقف وضوابطه إلا أن هناك من صورها ما يصلح في باب الوقف وهو أن تؤجر إدارة الوقف ( أو الناظر ) الأرض الموقوفة لمستثمر ( شخصياً اعتبارياً كان أو شخصياً طبيعياً ) مع السماح له بالبناء عليها سواء مباني أو محلات أو غير ذلك حسبما سيتم الاتفاق عليه ويستغلها المستثمر فترة من الزمن ثم يعود كل ما بناه المستثمر بعد انتهاء الزمن المتفق عليه إلى الوقف أذ يتضمن العقد تعهداً بالهبة من قبل المستثمر تلك المباني وغيرها إلى الوقف أو ان يتضمن أحد بنود عقد الإجارة هبة معلقة أو وعداً بالبيع ثم يتم البيع في الأخير بعقد جديد ويمكن أن ينص في العقد على أن تعطى للوقف أجرة ولو كانت قليلة حتى يستفيد منها في ادارة أموره ولا مانع من أن تمدد الفترة لقاء ذلك والله أعلم .
*****
البحث الرابع
أجـــرة الوقـــف
من المتفق عليه أن ولاية الناظر على الوقف مقيدة بأن تكون أفعاله وتصرفاته في مصلحة الوقف ولما كانت الأجرة احد أركان عقد الإجارة فلا ريب عندئذ أن نشهد اهتماماً فقهياً بالبحث حول الأجرة ومقدارها على نحو التفصيل فهل يصح أن تكون الإجارة بأقل والإجارة إذا انشغلت على غبن فاحش وآثارها وأثر تغيير أجرة الوقف بعد العقد بزيادة أو نقصان وبعبارة أخرى أثر الظروف الطارئة على الأجرة وغيرها من مسائل إلا أنه من الضرورة التأكيد على أن الأصل العام في تقدير أجره الوقف وهو أن تكون بمقدار أجرة المثل ولا تجوز بأقل منها ، حيث أن الالتزام بأقل من أجرة المثل التزامَ يسبب ضرراً للمستحقين إلا إذا كان النقصان يسيراً لا يسبب ضرراً معتداً به فالإجارة عندئذ صحيحة والأصل أن تسمى الأجرة وهي تملك ، إلا إذا كانت الإجارة باطلة أو فاسدة فإنه عندئذ تلزم أجرة المثل وتسمى الأجرة إذ أن الإجارة الفاسدة والباطلة متساويتان في استحقاق بدل المثل .
إن الضابط العام في بدل الإجارة أي ( الأجرة ) أن يكون مالاً معلوماً مملوكاً طلقاً مقدوراً على تسليمه ، وهذا كما يصلح أن يكون ثمناً في البيع فإنه يصلح أن يكون عوضاً في الإجارة سواء بسواء ([99] ).
*****
وسنتناول تفصيل ما ذكرنا إجماله في أول البحث وذلك على النحو التالي :
أولاً : حكم إجارة الوقف بأقل من أجرة المثل :
إذا أجر الناظر العين الموقوفة بأقل من أجرة المثل وكان النقصان يسيراً يتغابن الناس فيه والذي ان وجد فإن الناس تتسامح فيه في معاملاتهم وتتقبله من بعضها البعض فإن الإجارة تكون نافذة سواء كان المستأجر من المستحقين أو من غيرهم ([100] ) ، وهذا يخرج عما نحن بصدده في هذه المسألة إذ أننا نتناول هنا حالة النقصان الفاحش ، وقد تنوعت آراء المذاهب فيها فعند الحنفية أن الإجارة تفسد عندهم ويجب على القاضي إذا رفع ذلك إليه أن يبطل الإجارة إلا إذا اقتضت الضرورة إجارته بهذا الغبن الفاحش ([101] ) وعندهم أيضاً أن الواقف إذا آجر بالأقل مما لا يتغابن الناس فيه لم تجز ويبطلها القاضي فإن كان الواقف مأموناً أي أميناً وفعل ذلك عن طريق السهو لا بقصد بل من غفلة فإنه لا يعزل بل يقره القاضي في يده ولكن يأمره بالإجارة بالأصلح وإلا أخرجها من يده وجعلها في يد من يثق بدينه وتجوز عندهم أيضاً الإجارة بالأقل إذا كانت للضرورة ومن صور الضرورة هنا إذا كانت العين غير مرغوب في إجارتها إلا بالأقل أو إذا أصيب الوقف بنائبة أو كان عليه دين أو كان الدار عليها مرصد والمرصد هو دينً على الوقف ينفقه المستأجر لعمارة الدار لعدم مالٍ حاصل في الوقف ففي مثل حالات الضرورة هذه ومثيلاتها تجوز الإجارة بالأقل أما في حال لا توجد فيه ضرورة معتبرة شرعاً فإن المستأجر يلزمه تمام أجرة المثل ([102] ).
أما فقهاء المالكية فإنهم قد ذهبوا إلى أنه إذا أجرَّ الناظر العين الموقوفة بدون أجرة المثل فإنه يضمن تمام أجرة المثل ان كان ملياً وإلا رجع على المستأجر لأنه مباشر وكل من رجع عليه لا يرجع على الآخر هذا إذا كان المستأجر لا يعلم بأن الأجرة المسماة أقل من أجرة المثل فإن كلاً منهما ضامن فيبدأ به وبناء على ذلك فلو وقعت الإجارة بما هو أقل من أجرة المثل ثم زاد شخص آخر ما يبلغ أجرة المثل فإن إجارة الأول تفسخ وتؤجر للشخص الثاني الذي زاد ولو التزم الشخص الأول بتلك الزيادة لم يكن له ذلك إلا أن يزيد على الشخص الثاني الـذي زاد حيـث لم تبلغ زيادة من زاد أجرة المثـل فإن بلغتها فلا يلتفـت إلى زيادة من زاد ([103] ) .
أما فقهاء الشافعية فانهم رأوا فساد الإجارة إذا وقفت بغبن فاحش إلا أنهم يفرقون بين أن يؤجر الناظر العين الموقوفة على غيره وبين أن يؤجر العين الموقوفة على نفسه فإنه لا يجوز للناظر أن يؤجرها على غيره بأقل من أجرة المثل فلو أجرها بالأقل فإن العقد يكون غير صحيح ([104] ) ، ويرى الحنابلة ان العقد يكون صحيحاً الا أن الناظر يضمن قيمة النقص الفاحش لأنه يتصرف في مال غيره على وجه الحظ فيضمن ما نقضه بعقده وهو في ذلك كالوكيل إذا باع بدون ثمن المثل أو أجر بدون أجرة المثل ([105] ) ، ويجب أن يلاحظ هنا أنه إذا كانت العين موقوفة على الناظر فإنه يجوز أن يؤجرها بأقل من أجرة المثل قياساً على جواز الإجارة هذا عند الشافعية أما فقهاء الحنابلة فإن لهم في هذه الصور رأيان أولهما يجيز الإجارة كما الشافعية ، وثانيهما لا يجيزه كما أن بعض فقهاء الحنابلة يرتبون أثراً على ذلك يتعلق ببطلان ولاية الناظر إذ يرونه مفرطاً فتزول ولايته بانتفاء شرطها وهو الأمانة وهناك من يرى أن نظارته لا تبطل ويكتفي بتضمينه وحسب ([106] ) .
أما الزيدية فلم أعثر على هذه المسألة على وجه الخصوص إلا أن الإمام أحمد المرتضى قد ذكر في كتابه شرح الأزهار في معرض بيان ما يجوز للمتولي فعله وما لا يجوز أنه لا يجوز للمتولي أن يبيع شيئاً مما تعلق بما تولاَّه بثمن المثل مع وقوع الطلب من غير المشتري بالزيادة على ثمن المثل فإن باع كان البيع فاسداً لأنه قد خان فبطلت ولايته في ذلك فأما لو لم تقع المطالبة من الغير لكن غلب في ظن المتولي أنه لو أشهر بيع هذا الشيء حصل فيه مع الثمن أكثر فإنه يصح البيع وإن كان مكروهاً على أجود الأقوال ([107] ) وقد يقال أن المناط في الإجارة هو نفسه في البيع إلا أن البيع تمليك العين أو الرقبة والإجارة تمليك المنفعة ومن الواضح أن الملاك فيها واحد إن أنهم إذ أن البيع والإجارة تقعان كليتهما على العين إلا أن البيع يقع على العين من حيث رقبتها وذاتها والإجارة تقع على العين من حيث منافعها وغلتها .
أما فقهاء الإمامية فإنهم يرون أن الضابط العام في بدل الإجارة أن يكون مالاً معلوماً مملوكاً طلقاً مقدوراً على تسليمه وهذا كما يصلح أن يكون ثمناً في البيع يصلح أن يكون عوضاً في الإجارة ([108] ) ، ومن الواضح من استقراء بعض الأحكام أن الأصل أن الوقوف على حسب ما أوقفها أهلها ولذلك فإنه يجوز عندهم أن يجعل الواقف للولي والناظر مقداراً معنياً منه ثمرة العين الموقوفة أو منفعتها سواء كان أقل من أجرة المثل أم أكثر أم مساوياً اذن فالأجرة المسماة هي الأصل ، أما إن لم يجعل له شيئاً كان له أجرة المثل ان كان لعمله أجرة إلا إن يظهر من الواقف قصد المجانية ([109] ) ، ولو أجرَّ الناظر مدة فزادت الأجرة منها أو ظَهَرَ طالب بالزيادة لم ينفسخ العقد لأنه جرى بالغبطة في وقته إلا أن يكون في زمن خياره فيتعيَّن الفسخ حينئذ ثم ان شرط له شيء عوضاً من عمله لزم وليس له غيره وإلا فله أجرة المثل عن عمله مع قصد الأجرة به وقضاء العادة بعدم تبرعه به ([110] ).
وأخيراً فإنه بتتبع المصادر المتاحة في فقه الاباضية لم أعثر على رأيهم في هذه المسائل بعينها إلا أن هناك أحكاماً أخرى وردت في الفتاوي الخليلية تعطينا صورة واضحة عن ضوابط عامة في هذا المجال كقوله ( لا يباع شيء من غلَّة الموقوف بأقل من سعره إذ لا محاباة في الوقف ) وكقوله ( تجب مراعاة مصلحة الوقف كاليتيم ) وقوله : ( تراعى في ذلك مصلحة الوقف فإن كانت المصلحة في ذلك متعينة جاز ولا بد أن يتم ذلك على أيدي الأمناء ذوي الخبرة في مصالح الأموال ) وقوله أيضاً : ( وأن لا يكون غبن في الوقف لا في بيع الأصل ولا في إتباع البديل وأن يكون البديل خيراً من الأصل ) ([111] ) كل ذلك يرشدنا إلى أن ما عليه المذهب هو أن الأجرة عند تحديدها يجب أن تكون لصالح الوقف فلا تكون أقل من أجرة المثل بحيث تلحق ضرراً بالوقف .
وختاماً فإنه لابد أن أذكر ما عثرت عليه من رأي للإمام ابن حزم أمام الظاهرية إذ أنه يرى أنه لا تجوز إجارة الأرض أصلاً لا للحرث فيها ولا للغرس فيها ولا للبناء فيها ولا لشيء من الأشياء أصلاً لا لمدة مسماة قصيرة ولا طويلة ولا لغير مدة مسماة لا بدنانير ولا بدراهم ولا بشيء أصلاً فمتى وقع فسخ أبداً ولا يجوز في الأرض إلا المزارعة بجزء مسمى مما يخرج منها أو المغارسة كذلك فقط فإن كان فيها بناء قل أو كثر جاز استئجار ذلك البناء وتكون الأرض تبعاً لذلك البناء غير داخلة في الإجارة أصلاً .
ولا يجوز عن الظاهرية استئجار دار ولا عبد ولا دابة ولا شيء أصلاً ليوم غير معين ولا لشهر غير معيَّن ولا لعام غير معيَّن لأن الكراء لم يصح على شيء لم يعرف فيه المستأجر حقه فهو أكل مال بالباطل وعقد فاسد ([112] )
ثانيا ً: مسألة تغيير الأسعار بعد إبرام عقد الإجارة :
إذا أجـرَّ الناظر أو غيره الوقف بأجرة المثل ثم طرأ على هذه الأجرة تغَّير بعد إبرام العقد فإن مثل هذا التغيير لا يخلـوا إما أن يكون بنقصان أو بزيادة في الأسعار وعندئذ يثور السؤال حول مدى الاستقرار الذي قد يحظى به هذا العقـد المبرم مع الغير لاسيما وأنه عقد إجارة للوقف والضابط الأساس في هذا الأمر هو صون مصلحة الوقف فأين تكمن هذه المصلحة في مثل هذا الوضع وستستعرض آراء الفقهاء من كافة المذاهب في مسألة التغيُّر سواء كان بنقصان أو بزيادة كما يلي :
1- التغيُّر عند فقهاء الحنفية :
إذا نقصت أجرة المثل لأي سبب كان بعد إبرام العقد فإن العقد لا يفسخ بل يبقى سارياً إلى نهاية مدته ويلتزم المستأجر بدفع الأجرة المتفق عليها في العقد دفعاً للضرر الذي قد يلحق الوقف بسبب ذلك ولأن الناظر لا يملك الفسخ والإقالة إلا إذا كان فيها خيرٌ للوقف وللموقوف عليهم وهو غير متحقق هنا فلا يصح الفسخ كما أن الأجرة ينظر إلى كونها مثلية حين إبرام العقد فلا يضرها أن تتغير بعد ذلك ([113] ) .
إذا زادت أجرة المثل فإذا كانت الزيادة قد حصلت بقصد الإضرار بالمستأجر فلا يعتد بهذه الزيادة ما دامت المدة باقية لأنها زيادة غير مشروعة وتبقى الأجر كما هي وقت إبرام العقد ([114] ) ، أما إذا كانت قد حصلت لكثرة الرغبة في المستأجَر وزيادته في ذاته فإن المسألة تختلف عما إذا كان منشأ الرغبة البناء أو الغرس أو الأعمال التي استحدثها المستأجِر لنفسه في الوقف بحيث لو أُزيلت المستحدثات فإنها لن تؤجر إلا بالأجرة الأولى فإنه هنا لا يعقد بالزيادة لأن منشأها ملك للمستأجِر لا للوقف ([115] ) ، ولكن إذا كان منشأ الرغبة يرجع إلى الوقف ذاته مثل كثرة الحاجة إلى هذا الوقف فإن فقهاء الحنفية قد افترقوا في هذه المسألة على رأيين :
أولها : يرى أن هذه الزيادة لا يعتد بها فما دام عقد الإجارة قد انعقد صحيحاً فالمعتبر أجرة المثل وقت إبرام العقد وتكون الإجارة بانعقادها صحيحة لازمة طول مدتها فلا يضرها تغيُّر الأجرة بزيادة أو نقصان ولأن المستأجر ملك المنفعة في مدة الإجارة بالأجر المسمى فلا وجه بطلب الزيادة منه .
أما الرأي الثاني: فيرى أنه للناظر حق الفسخ وأصحاب هذا الرأي يرون أن الإجارة تنعقد وفتاً فوقتاً إذا أن المعقود عليه فيها هو المنفعة وهي توجد وقتاً فوقتاً ، ولذا فإن من مصلحة الوقف فسخ الإجارة ولا ضرر على المستأجر لأنه لم يلزم بأكثر من أجرة المثل ولذلك فإنه إن لم تفسخ الإجارة ، فإنه يكون على المستأجر المسمى فقط فإن امتنع الناظر من الفسخ فسخه القاضي ويعلم القاضي بالزيادة بقـول عدلين من أهل البصر والأمانة عند محمد بن الحسن أما القاضي وأبي حنيفـة فإنه يكتفى عندهما بقول العدل الواحد فقط ([116] ) .
وباعتبار أن الفتيا في الوقف تكون بما هو الأنفع له عندما يختلف العلماء في مسألة ما ([117] ) فإن الرأي الثاني هو المختار عند الحنفية للفتوى ([118] ) .
وبناء على هذا الرأي فإنه قبل الفسخ يُخيَّر الناظر المستأجَر بين قبول الزيادة وبين الفسخ فإن قبلها فلا فسخ ما دامت المدة باقية ولقد زال العارض الذي سوَّغ الفسخ بقبول المستأجر للزيادة ولذلك يسقط حق الفسخ ([119] ) .
أما إذا امتنع عن قبول الزيادة فإنه ينظر إلى المستأجر فإن كان غير مشغول بالمؤجَر يفسخ العقد ويؤجر لغيره وإن كان مشغولاً به وكان لعمله الذي يشغله فيه نهاية معلومة فلا يفسخ العقد بل ننتظر إنتهاء العمل هذا ، مثل إذا كان يزرع الأرض المؤجرة فإننا ننتظر وقت الحصاد فيحصد زرعه وتضاف إليه الزيادة في الأجرة من وقت حصولها إلى وقت الحصاد ثم نفسخ عقد الإجارة وتؤجر الأرض لمن يدفع أجر المثل أما إذا لم يكن للعمل نهاية معلومة فلا يفسخ العقد بل يترك المستأجَر في يده إلى نهاية مدة الإجارة ولكن تضاف إليه الزيادة من وقت حصولها إلى إنتهاء المدة ([120] ) .
ولابد من الإشارة هنا إلى أن القاضي لا يبتدئ بالفسخ إلا إذا امتنع الناظر عن ذلك إذ أن الناظر هو من له حق الفسخ وهو الذي يرفع الأمر إلى القاضي ويفسخ العقد بحضور المستأجِر أمام القاضي ودور القاضي ليس سوى إمضاء ذلك الفسخ ويحكم به مع العلم بالخلاف أما إذا امتنع الناظر فإن القاضي عندئذ يبتدئ بالفسخ ويحكم به ([121] ) .
2- التغيُّر عند فقهاء المالكية :
إذا طرأ ما ينقص من قيمة العين الموقوفة أو يحول دون استيفاء المنفعة المقصودة من وراء إجارتها فعلى الناظر أن يحط من الكراء ولا يفسخ العقد والحط يعني أن يقلل من قيمة الأجرة ويشترط هنا أن يكون لسبب عارض لابد للمستأجِر فيه كالأمر السماوي ( قوة قاهرة ) ولكن لابد بعد إنتهاء المدة التي يقع فيها هذا العارض ويستغرقها لابد أن تعاد أجرة الكراء كما كانت وتستمر إلى تمام مدة الإجارة أو الكـراء ولا يفسخ العقد ( عقد الإجارة ) ([122] ) .
إذا طرأ ما يزيد في أجرة الوقف بعد العقد فإنه إذا ما اشترط في العقد على قبول الزيادة من مكتر آخر فإن هذا العقد يبطل لأنه من الغدر ويكون ذريعة إلى بيع وسلف أو إلى سلف جرَّ منفعة ([123] ) ، ولكن إذا لم يشترط في الكراء ذلك فإنه ينظر إلى الأمر على النحو الآتي :
إذا وقع العقد بأجرة المثل وحصلت زيادة فيها فقد افترق فقهاء المالكية على رأيين منهما يرى أنه إذا وقع الكراء على وجه الغبطة في الحال بأن أجرَّ بأجرة المثل وجاء من يطلبه بأزيد مما أكترى به فإن هذه الزيادة لا تجوز ولا يلتفت إليها ولا يفسخ العقد بل يستمـر كما هو ([124] ) ، أما الرأي الثاني فيرى أنه إذا كان الزيادة في حدود الثلث فإنها تقبل فيخيَّر الأول في الزيادة أو الترك ([125] ) .
إذا وقع بأقل من أجرة المثل فإن الزيادة تقبل حينئذ لأن العقد قد حصل فيه غبن ويثبت ذلك بالبينة إن بالكراء الأول غبناً على الحبس ([126] ) وتفسخ إجارة المستأجر الأول للمستأجر الثاني الذي زاد سواء كان حاضراً وقت إجارة الأول أو غائباً ولو التزم الأول تلك الزيادة التي زيد عليه لم يكن له ذلك إلا أن يزيد على من زاد حيث لم تبلغ زيادة من زاد أجرة المثل فإن بلغتها فلا يلتفت لزيادة من زاد ([127] )
التغيُّر عند فقهاء الشافعية :
لم يتطرق فقهاء الشافعية إلى التغيُّر بالنقص عن أجرة المثل لكنهم تناولوا مسألة زيادة الأجرة وسيظهر في تضاعفها بعض ما ينفع في التعرف على الحكم الشرعي في حالة النقصان أيضاً وهي كالآتي :
إذا أجَّر الموقوف عليه بحكم الملك العين الموقوفة وزادت الأجرة في المدة أو ظهر طالب بالزيادة فإن العقد يسري كما هو ولا يتغير بذلك ([128] ) وهذا الحكم معتبر حتى في حالة ما إذا أجر الموقوف بأقل من أجرة المثل لأن المؤجر إذا كان من المستحقين جاز له الإيجار بأقل من أجرة المثل ([129] ).
إذا أجرَّ الناظر باعتباره متولياً ثم طرأت هذه الزيادة أو ظهر من يطالب بها فإن العقد لا يتأثـر بذلـك على أصح الأقوال عندهم ويعللون ذلك بأن العقد قد جرى بالغبطة في وقته ([130] ) وبه أفتى الإمام النووي وعنده أن العقد لا ينفسخ ولا يجوز للناظر ولا لغيره فسخه سواء زيد فيه الثلث أو أكثر ([131] ) ومقابل أصح الأقوال هناك رأيان :
الرأي الأول منهما مفاده أن العقد ينفسخ لوقوعه مخالفاً للمصلحة والغبطة في وقته لاسيما اذا كان طالب الزيادة ثقة وكانت الزيادة معتد بها وهو رأي ابن الصلاح ([132] ).
أما الرأي الثاني فملخصه أنه إذا كانت الإجارة لسنة فما دونها فإن العقد لا يتأثر وإذا كانت أكثر فالزيادة مردودة ([133] ).
التغيُّر عند فقهاء الحنابلة :
إذا استأجر ما تكون منفعة إيجاره للناس مثل الحمام وغيره فنقصت المنفعة المعروفة مثل أن ينتقل جيران المكان ويقل الزبون لخوف أو أخراب أو تحويل ذوي سلطان لهم ونحو ذلك فإنه يحط للمستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة المعروفة سواء رضي الناظر وأهل الوقف أم سخطوا ولا يرجع على المستأجر بما وضع عنه إذا لم يوضع إلا قدر ما نقص من المنفعة المعروفة ([134] ).
كما أنهم لا يرون تغير الأسعار بعد ابرام عقد الإجارة الشرعية سبباً شرعياً صحيحاً للفسخ ([135] ).
إذا طلب احدهم العين الموقوفة بزيادة عن الأجرة الأولى فإن الإجارة لا تنفسخ ما دامت قد انعقدت صحيحة حتى وأن لم يكن في تلك الزيادة ضرر لأن الإجارة عقده لازم من الطرفين ([136] ).
والإجارة الصحيحة ليس للمؤجر ولا غيره فسخها لزيادة حصلت ولو كانت العين وقفاً ([137] )، هذا ولقد خص بعض الفقهاء الحكم المذكور آنفاً بما لو كان الموقوف عليه هو من أجرَّ الوقف أما إذا كان الناظر قد أجرَّ ما هو على سبيل الخيرات ثم طلب الزيادة فلا فسخ على الصحيح من المذهب وإن كان هناك قول باحتمال فسخه ([138] ) .
التغيُّر عند الظاهرية :
لم أعثر في المحلىَّ للإمــام ابن حزم على نص واضـح في هـذه المسألة إلا مـا ورد كأصل عام في المسألة ( 1326) عندما نص على أنه ( لا تجوز الإجارة إلا بمضمون مسمَّى محدود في الذمة أو بعينٍ معيَّنة متميزة معروفة الحد والمقـدار وأن العقـود المقتضى بها فلا تكون إلا بمعلوم ) ([139] ).
التغيَّر عند الزيدية :
لما كانت النصوص التي تتناول هذه المسألة بشكل صريح غير متوفرة فإننا نحاول أن نفهم من بعض ما تسالم عليه فقهاء الزيدية الذين يرون أن شرط صحة عقد الإجارة وجود مصلحة في أي شرط يضاف في العقد ومثلَّوا لذلك بالمدة القصيرة وغيرها فإن لم تكن هناك مصلحة محققة للوقف من الشرط فإن الإجارة تكون فاسدة من أصلها كما ورد في شرح الأزهار وهو من الكتب المعتبرة في فقه الزيدية ([140] ) .
التغيَّر عند الإمامية الجعفرية الأثنا عشرية :
يرى فقهاء الإمامية أنه لو أجرَّ الناظر مدة فزادت الأجرة فيها أو ظهر طالب بالزيادة لم ينفسخ العقد لأنه جرى بالغبطة في وقته إلا أن يكون في زمن خياره فيتعيَّن الفسخ حينئذ ([141] ) ، ولم يتم التعرض للنقصان إلا أن الملاك في كلتا الحالتين واحد والله العالم .
التغيَّر عند الأباضية :
لم أعثر على نص يتناول حكم هذه المسألة فيما بين يدي من مصادر والله أعلم .
*****
البحث الخامس
انتهاء عقد إجارة الوقف
عندما يتـناول الفقهاء أي عقد فإنهم يختمون البحث بالحديث عن أسباب وحالات انتهائه الإجـارة فإنه دراسة الأسباب تقتضي التعرض لمبحثين أساسيْن هما :
أولاً : أسباب انتهاء عقد إجارة الوقف حيث يتم فيه التعرض للحالات التي يترتب عليها انتهاء هذا العقد .
أما المبحث الثاني: فإنه يتناول الآثار المترتبة على هذا الإنتهاء ولعل الأثر الرئيسي الذي يعقب انتهاء عقد الإجارة هو بطبيعة الحال وجوب تسليم المستأجَر إلى ناظر الوقف أو متوليه إلا أن هذا التسليم قد يعتوره بعض التغيُّر في حال المستأجَر ولكل شكل من أشكال التغيُّر حكمه الذي سنتعرض له في هذا المبحث والذي سنختم به الكلام عن عقد إجارة الوقف والله ولي التوفيق .
*****
الفصل الأول
أسباب انتهاء عقد إجارة الوقف
ينتهي عقد إجارة الوقف بأحد سببين :
الأول : هو السبب الطبيعي وهو موت طرفي العقد أو أحدهما .
السبب الثاني : فهو السبب العقدي أي إنقضاء مدة العقد وسنتناولها فيما يأتي :
السبب الأول : ( السبب الطبيعي ) وهو موت أحد طرفي العقد أو كليهما :
إذا مات طرفا العقد أو احدهما فإن العقد لا ينقضي ، حيث إن أي عقد فإنه ليس إلا اجتماع إرادتين على أمر لمدة معينة وما دام هو عقد لازم فإن مقتضى لزومه أن لا ينفسخ بالموت ويخلف المستأجِر وارثُه في استيفاء المنفعة واليك تفصيل المذاهب في ذلك :
أولاً : رأي الحنفية :
إذا كان المؤجر غير الواقف فإن للمسألة حكماً يختلف عما إذا كان المؤجر هو الواقف فإذا كان المؤجر غير الواقف فإن الإجارة لا تبطل بموته سواء كان من المستحقين أو من غيرهم وسواء كان هو القاضي أو أمينه وهذا هو المعتمد عندهم ([142] ) ، وعلل ذلك في الاسعاف بأنها ( أي الإجارة ) وقعت للوقف وأنها لا تنفسخ كما في حالة موت الوكيل المؤجِر أو القاضي ([143] ) .
إذا كان المؤجر هو الواقف فإن فقهاء الحنفية قد انقسموا في ذلك على رأيين أحدهما : يرى أن في حكم هذه المسألة قياس إن غلبنَّاه فلابد أن نحكم ببطلان الإجارة كما أن في حكمها استحسان إن أخذنا به فلابد أن نحكم بعدم اقتضاء الإجارة وبقائها إلى الوقت الذي سمًّاه الواقف ([144] ) ، هذا أما الرأي الثاني في هذه المسألة فإن مفاده أن الإجارة لا تبطل بموت المؤجر الواقف لأنه لم يؤاجرها بملك إنما آجرها للوقف ([145] ) .
والرأي المعتبر لدى أغلب فقهاء الحنفية هو هذا الرأي الذي لا يبطل إجارة الوقف بموت المؤجر سواء كان هو الواقف أو غيره ([146] ) .
إذا مات المستأجر خلال مدة عقد الإجارة وقبل انقضائها فإن الإجارة تنفسخ ويرجع ورثته بما عجل من الأجرة لما بقي من المدة على القابضين أو على من ضمن الدرك في الإجارة وإذا استمروا على الانتفاع بالعين المستأجرة فعليهم أجرة المثل إلى وقت الفسخ فالإجارة هنا منتقضة لأن المستأجر إنما أجرها لغيره فالإجارة جائزة كما لو أن رجلاً قد وكلَّه آخر ليستأجر لآخر داراً فمات الوكيل فإن الإجارة جائزة إلى الأبد ([147] ) .
ثانياً : رأي المالكية :
إذا مات المؤجر قبل تمام مدة الإجارة وكان من المستحقين فإن الأصح من الأقوال لدى فقهاء المالكية هو أن الإجارة تفسخ في باقي المدة سواء إنتقل الاستحقاق إلى من في طبقة المؤجر أو إلى من يليه وانتقاله إلى ولده لأن لمستحقي الوقف التصرف مدة حياته ولذلك كان لوارثه الفسخ وهذا هو الأصح لديهم ([148] ) وان قال بعضهم بعدم فسخ عقد الإجارة إلا أنه قول ضعيف ([149] ) .
إذا مات المؤجر قبل تمام مدة الإجارة ولم يكن المؤجر من المستحقين فإن موته لا يؤثر على العقد ودوامه إلى مدته التي ضربت له ([150] ) .
إذا مات المستأجر فإن عقد الإجارة لا ينفسخ ([151] ) وهذا الحكم وارد في إجارة الملك أيضاً كما إجارة الوقف .
ثالثاً : رأي الشافعية :
لا تنفسخ إجارة ناظر الوقف بموته سواء كان الناظر هو الواقف أو الحاكم أو منصوبه أو من شرط له النظر على بيع البطون لأنه ناظرٌ للجميع ولا يختص ببعض الموقوف عليهم ([152] ) .
إذا كان الناظر المتوفى ممن له حق في الوقف لكونه وقفاً عليه وأجر بدون أجرة المثل ومات خلال مدة عقد الإجارة فإن في هذه المسألة ، حالتان :
الحالة الأولى : إذا كان هذا الناظر قد شرط له النظر على جميع حصص المستحقين وهنا يرى فريق من الفقهاء أن الإجارة تنفسخ في حصته فقط ويبقى العقد سارياً على أنصبة باقي الموقوف عليهم ([153] ) ، أما الفريق الآخر فيرى أن الإجارة لا تبطل لأنه أجرة في حق نفسه وحق غيره بولاية ([154] ) ( أي بسبب ولاية النظارة التي له ) .
أما الحالة الثانية فهي : إذا شرط لهذا الناظر النظر على حصته فقط مدة استحقاقه وسواء كان هذا الناظر متعدداً أو متحداً ، وقد اختلفوا في المسألة على رأيين :
أولها : يرى أن الإجارة تنفسخ فيما بقي من مدة إذ أن استحقاق الوقف قد إنتقل بموت المؤجر لغيره ولا ولاية له عليه ولا نيابة .
أما أصحاب الرأي الثاني: فيرون أن الإجارة لا تنفسخ كما هي في إجارة الملك فإن فيها لا تنفسخ بموت المؤجر وتبقى إلى انقضاء المدة لأنها عقد لازم ، ويرجع الخلاف بين أصحاب هذين الرأيين إلى مسألة البطن الثاني من المستحقين ، وهل أنهم يتلقون الوقف من الواقف أم من البطن الأول فمن قال أنه يتلقى الوقف من الواقف فقد رأى انفساخ العقد والرأي الأول هو الأصح عند الشافعية ([155] ) .
إذا مـات المستأجـر فإنـه لا ينفسـخ العقـد كمـا في إجـارة الملــــك ([156] )
رابعاً : رأي الحنابلة :
يختلف حكم المسألة عند فقهاء الحنابلة بين ما إذا كان المؤجر هو الحاكم والناظر العام في حال عدم وجود ناظر خاص أو من شرط له النظر وكان أجنبياً وبين حال ما إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه.
ففي حال ما إذا كان المؤجر فيها هو الناظر العام أو من شُرط له النظر ولو كان أجنبياً ومات أحدهما قبل انتهاء مدة الإجارة فإن العقد لا ينفسخ بموته بالاتفاق ([157] ) .
أما إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه فإما أن يكون هذا المؤجر الموقوف عليه مؤجراً بأصل الاستحقاق فلدى فقهاء الحنابلة رأيين في المسألة فأصحاب الرأي الأول يرون أنه إذا مات قبل تمام المدة فإن الإجارة تنفسخ ، وهذا هو الصحيح في المذهب لأن الطبقة الثانية تستحق العين بجميع منافعها تلقياً عن الواقف يإنقراض الطبقة الأولى فلاحق للأولى فيه بعد انقراضهم ([158] ) .
أما الرأي الثاني فإن مفاده فأن الإجارة لا تنفسخ ، وذلك لأن الثاني لا حق له في العين إلا بعده فهو بهذا كالوارث وذكر بعضهم أن هذا القول هو المذهب وهو أشهر وعليه العمل ([159] ) ، ومنشأ الخلاف بين القولين أنه إذا أجرَّه مدة يعيش فيها غالباً وإلا فإن الإجارة تنفسخ قولاً واحداً ([160] ) .
ومن الواضـح أنه إذا أخـذنا بالرأي الأول فإن البطـن الثاني يستحق حصته من الأجرة من تركـة المؤجـر ان كان قد قبضها وإن لم يكـن قبضها فعلـى المستأجر وإذا اخترنا ، الرأي الثاني فإن المستأجر يرجع على ورثة المؤجر القابض إن لم يكن له تركة فإن كانت له فالرجوع يكون فيها ([161] ) .
أما إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه وكان مشروطاً له النظر أو كان الواقف قد تكلم بكلام يدل على أنه جعل النظر للموقوف عليه فالمسألة لا تخلو من الآتي :
أولاً : طريقة تفيد بعدم بطلان الإجارة بموته في المدة وتلحق هذه الحالة بحالة الناظر العام ونحوه وهو ما أفتى به المتأخرين لأن الإيجار من الناظر هنا بولاية ومن يلي بعده إنما يملك التصرف فيما لم يتصرف فيه الأول ([162] ) .
ثانياً : إذا كان الموقوف عليه مؤجراً بأصل الاستحقاق فإنه إذا مات قبل تمام المدة فإن الإجارة تنفسخ عند قوم وعند آخرين لا تنفسخ .
ثالثاً : إذا مات المستأجر فإن الإجارة لا تنفسخ .
خامساً : رأي الظاهرية :
قال ابن حزم في المحلى ( وموت الأجير أو موت المستأجر أو هلاك الشيء المستأجر أو عتق العبد المستأجر أو بيع الشيء المستأجر من الدار أو العبد أو الداية أو غير ذلك أو خروجه عن ملك مؤاجره بأي وجه خرج كل ذلك يبطل عقد الإجارة فيما بقي من المدة خاصة قلَّ أو كثر وينفذ العتق والبيع والإخراج عن الملك بالهبة والاصداق والصدقة برهان ذلك قول الله تعالى : } وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا { ([163] ) ، وقول رسول الله r (( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام )) وإذا مات المؤجر فقد صار ملك الشيء المستأجر لورثته أو للفقراء إنما إستأجر المستأجر منافع ذلك الشيء والمنافع إنما تحدث شيئاً بعد شيء فلا يحل له الانتفاع بنافع حادثة في ملك من لم يستأجر منه شيئاً قط ، وهذا هو أكل المال بالباطل جهاراً ، ولا يلزم الورثة في أموالهم عقد ميت قد بطل ملكه عن ذلك الشيء ولو أنه آجر منافع حادثة في ملك غيره لكان ذلك باطلاً بلا خلاف ، وهذا هو ذلك بعينه ، وأما موت المستأجر فإن كان عقد صاحب الشيء معه لا مع ورثته فلا حق له عند الورثة ولا عقد له معهـم ولا ترث الورثـة منافـع لم تخلق بعد ولا ملكها مورثهم قط وهذا في غاية البيان وبالله تعالى التوفيق وهو قـول الشعبي وسفيـان الثوري والليـث بن سعد وأبي حنيفة وأبي سليمان وأصحابهما ، ومطرف ابن أبي شيبة نا عبدالله بن أدريس الأودي عن طمطرف بن طريف عن الشعبــي قال : ( ليس لبيت شرط ، ومن طريف ابن أبي شيبة نا عبدالصمد – هو ابن عبدالوارث – عن حما بن سلمة عن حميـد عن الحكم بن عتيبة فيمن آجر داره عشر سنين فمات قبل ذلك ، قال : تنتفي الإجارة ، وقال مكحول قال ابن سيرين وأياس بن معاوية : لا تنتقـض ، وقال عثمان اللبثي ومالـك والشافعي وأصحابها لا تنتفي إلا برهان ، قلنا : صدقتـم ما احتجوا به أن قالـوا : عقـد الإجارة قد صـحَّ فلا يجوز أن ينتقض إلا ببرهان ، قلنا : صدقتم وقد جئناكم بالبرهان ، وقالـوا : فكيف تصنعون في الأحباس ؟ قلنا : رقبة الشيء المحبس لا مالـك لها إلا الله ، وإنمـا المحبس عليهـم المنافــع فقط فلا تنتقض الإجارة بموت أحـدهم ولا بولادة من يستحـق بعض المنفعة لكن ان مات المستأجر انتقضت الإجارة لما ذكرنا من أن عقده قد بطل بموته ولا يلزم غيره إذ النهى من القرآن قد أبطل ذلك بقوله عز وجل : }وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا { ، فإن قالـوا : قد ساقـى رسول الله r خيبر اليهود وملكها للمسلمين وبلا شك فقد مات من المسلمين قـوم ومن اليهود قـوم والمساقة باقية ، قلنا : إن هذا الخبر حق ولا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا عليهم لوجوهٍ أربعةٍ :
أولها : أن ذلك العقد لم يكن إلى أجل محدود بل كان مجملاً يخرجونهم إذا شاءوا ويقرونهم ما شاءوا ، كما نذكره في المساقاة إن شاء الله تعالى ، وليست الإجارة هكذا .
والثاني : إنه إن كان لم ينقل البنا تجديد عقده r أو عامله الناظر على تلك الأموال مع ورثة من مات من يهود وورثه من مات من المسلمين فلم يأت أيضاً ولا نُقل أنه أكتفى بالعقد الأول عن تجديد آخر فلا حجة لهم فيه ولا لنا بل لا يشك في صحة تجديد العقد في ذلك .
والثالث : أنهم لا يقولون بما في هذا الخبر ومن الباطل احتجاج قوم بخبر لا يقولون به على من يقول به وهذا معكوس .
والرابع : أن هذا الخبر إنما هو في المساقاة والمزارعة وكلامنا هنا في الإجارة وهي أحكام مختلفة وأول من يخالف بينهما فالمالكيون والشافعيون المخالفون لنا في هذا المكان فلا يجيزان المزارعة أصلاً قياساً على الإجارة ولا يريان للمساقاة حكم الإجارة فمن المحال أن لا يقيسوا الإجارة عليهما وهم أهل القياس ثم يلزموننا أن نقيسها عليها ونحن نبطل القياس وبالله تعالى التوفيق ) ([164] ).
سادساً : رأي الزيدية :
لم أعثر على نص لهم في هذا سواء في باب الإجارة أو في باب الوقف .
سابعاً : رأي الإمامية :
عند فقهاء الإمامية أن الإجارة لا تُبطل بموت المؤجر أو المستأجر إلا إذا أخذت خصوصية أحدهما في المنفعة التي هي موضوع الإجارة كما إذا آجر نفسه للعمل بنفسه أو استأجر الدار ليسكنها بنفسه حيث يتعذر إستيفاء المنفعة حينئذٍ ، وذلك مبطل للإجارة ، كما أنه لا أثر الموت الولي والوكيل الذي يتولى الإجارة ([165] ) .
فلو وقعت الإجارة صحيحة ثم عرض لأحدهما الجنون أو فقد التمييز أو الموت لم تبطل لأن الأهلية شرطٌ حدوثاً لا إستدامةً ([166] ) .
ولقد فرَّعت هذا القول وهو الراجح بل ما اتفق عليه فقهاء المذهب الإمامي مسائل ليس هنا مجال إستقصائها إلا أن من أشهرها مسألة ما إذا كان المؤجر من البطن الأول من المستحقين ثم مات في أثناء مدة الإجارة فإنه على القول بعدم بطلان الإجارة بالموت فإن في المسألة تردد أظهره البطلان ويكون الخيار للبطن الثاني بين الإجازة في الباقي من المدة وبين الفسخ فيه ([167] ) ، أما لو كان المؤجر هو الناظر الذي هو من غير الموقوف عليهم فإن كانت الإجارة قد راعت مصلحة الوقف مراعاة المصلحـة الوقـف فقط فإنها تصـح وتنفذ بالنسبة إلى سائر البطون دون الحاجة إلى إجازتهم أما لو وقعت مراعاة للبطن اللاحق دون أصـل الوقف فنفوذها بالنسبة إليهم دون إجازتهم محل إشكال ([168] ) .
إن عقد الإجارة عقد لازم بلا خلاف ولا إشكال فلا يبطل إلا بالتقابل أو بأخذ الأسباب المقتضية للفسخ ، ولا بأس هنا بأن نشير إلى أنه مقابل القول الراجح هناك من يرى من قدماء الفقهاء الإمامية أن الإجارة تبطل بالموت ، كما أن هناك من يرى أنها تبطل بموت المستأجر ولا تبطل بموت المؤجر إلا أن الرأي الذي كان في صدر المسألة نسبته إليهم أجمع هو الأشبه بأصول المذهب وقواعده وهو الأشهر بين المتأخرين بل هو المشهور بينهم. ([169] )
ثامناً : رأي الاباضية :
يرى الاباضية أن عقد الإيجار واقع على منفعة العين المؤجرة والثمن عوض عن تلك المنفعة لأن المستأجر لا يملك العين وإنما يملك المنفعة فلو حيل بينه وبين استيفاء تامٍ لها لم يكن عليه من الثمن إلا بقدر ما استوفاه ، فإذا أمكنه الانتفاع بالعين فيما اكتراها له لم تنفسخ الإجارة لأن المنفعة المعقود عليها لم تزل بالكلية ([170] ) .
ولعل مثل هذه القواعد العامة تعين على فهم رأي المذهب الأباضي وقلة المصادر بين يدي هي سبب ذلك النقصان إلا أن المجال متسع للباحثين الآخرين لاثراء هذه النقطة ومثيلاتها بالرجوع إلى مصادر أكثر وأوسع في المذهب الاباضي .
*****
السبب الثاني : و هو السبب التعاقدي و يتحقق بانقضاء مدة عقد الاجارة :
عقد إجارة الوقف من العقود التي لابد أن تكون لمدة معلومة ولقد تعرضنا في تفاصيل عديدة إلى المدة ، طولها وقصرها وغير ذلك من المسائل ومن المهم بيان المدة في هذا العقد ، كما أوضحناه بشيء من التفصيل فيما سبق ولا ريب أن العقد عندما يضرب له أجل فإنه ينتهي بإنتهاء أجله ويتساوى في ذلك إجارة الملك وإجارة الأوقاف وبناء على ذلك فإذا انتهت مدة الإجارة وجب على المستأجر تسليم الموقوف المؤجَّر إلى ناظر الوقف ولكن عند إنتهاء مدة الإجارة فإن الأمر لا يخلو من الآتي :
أولاً : أن يكون المستأجَر كما هو على حالته الأولى دون نقصان أو زيادة .
ثانياً : أن يكون في المستأجَر زيادة .
ثالثاً : أن يطرأ على المستأجر نقصان .
أما أولاً : فإن المستأجر يلتزم بتسليم العين المستأجرة إلى الناظر ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء لأن ملك المنفعة قد انتهى بانتهاء مدته فلا يحق للمستأجر إبقاءه تحت يده إلا بعقد جديد ولا مقتضي لتغريم أحدهما شيئاً للآخـر ([171] ) وهذا الحكم عبارة عن نتيجة طبيعية للالتزام العقدي عامة فلا خلاف عليه بين الفقهاء من أي المذاهب كانوا والله العالم .
أما ثانياً : فإنه إذا نقص المستأجر عن حالته التي كان عليها وقت عقد الإجارة كما في حالة تعدي المستأجر على الوقف وهدمه فإنه يضمن وفي هذه المسألة أقوال أما الحنفية فإنهم يفرقون وفقاً لمدى النقصان الحاصل فإذا كان النقصان سبب عدم إمكانية إعادة المستأجَر كما إذا كانت العين المستأجرة شجرة وقد تم قلعها ولا يمكن إعادة غرسها فإن الناظر ضامن لقيمة ما نقص ويصرف الضمان في عمارة الموقوف لا بإعطاء القيمة إلى الموقوف عليهم إذ أن القيمة المذكورة بدل عما نقص من الوقف ، أما إذا كانت إعادته ممكنة فإن المستأجر يؤمر بإعادته إلى حالته الأولى كما كان سابقاً محافظاً بذلك على الصفة التي كان عليها قبل النقصان ولا يغير في هذه الصفة إلا اذا غيرَّ لما هو أكثر نفعاً للوقف ويكون الناظر في هذه الحالة متبرعاً بالزائد فيبقى ما بناه على حالته لجهة الوقف ولا يعطى له شيء مقابل ما أنفقه على عمارة الوقف أما إذا لم يكن التغيير أنفع للوقف فإنه يؤمر بهدمه وإعادة العين إلى ما كانت عليه ([172] ) .
والمالكية : فإنهم يرون أن القيمة تلزم الناظر في هذه المسألة وهو الرأي المعتبر في المذهب عندهم فالواجب في الهدم القيمة ملكاً كان المهدوم أو وقفاً عقاراً أو غيره فيقَّوم الموقوف قائماً ومهدوماً ويؤخذ ما بين القيمتين ، كما إذا قوَّم قائماً بعشرة ومهدومـاً بستـة فما بينهما أربعة فيعطاها والنقض باقٍ على الوقفية وإن فوت النقض يلزمه قيمته بتمامه وتجعل تلـك القيمة في عقار مثله يُجعل وقفاً عوضاً عن المهدوم ([173] ) .
وأما الشافعية : فلم أعثر لهم على نص في ذلك ، والحنابلة فقد صرَّحوا بأن ما نقصه المستأجر من الوقف فإن عليه ضمانه مطلقاً ([174] ) .
ولقد ذكر الظاهرية أن الإجارة جائزة في كل شيء له منفعة فيؤاجر لينتفع به ولا يستهلك عينه ومن الإجارات ما لابد فيه من ذكر العمل دون المدة ومنه ما لابد فيه من الأمرين معاً وإلا كانت الإجارة مجهولة وإذا كانت مجهولة فهي أكل مال بالباطل ([175] ) ولا ضمان على أجير مشترك أو غير مشترك ولا على صانع أصلاً إلا ما ثبت أنه تعدى فيه أو أضاعه والقول في كل ذلك ما لم تقم عليه بينةٌ قوله مع يمينه فإن قامت عليه بينة بالتعدي أو الإضافة ضمن وله في كل ذلك الأجر فيما أثبت أنه كان عمله فإن لم تقم بينة حُلَّفَ صاحب المتاع أنه ما يعلم أنه عمل ما يدعي أنه عمله ولا شيء عليه حينئذٍ ([176] ) .
أما الزيدية : فإنهم يرون أنه من استأجر عيناً من الأعيان أو داراً فإنقضت مدة الإجارة فإنه يجب عليه الرد لتلك العين والتخلية لتلك الدار فوراً من غير تراخٍ ، وهو المذهب عندهم ([177] ) وفي مسألة أوردها الإمام أحمد المرتضى حول من استأجر دابة فإنه إذا استؤجر على الحفظ وعندئذ إذا سلم دابته إلى آخر ليحطب عليها ويكون الحطب نصفين فتلفت الدابة بغير أمر غالب فهل يجعل أجيراً فيضمن أو مستأجر فلا يضمن ويظهر أن الرأي الثاني هو المعتبر عندهم ، كما أن المستأجر لا يضمن مطلقاً لا الأمر الغالب ولا غيره ([178] ) .
أما فقهاء الشيعة الإمامية فقد ذكروا مسائل عديدة في حال نقصان المستأجَر وعدم بقائه على حاله منها مسألة ما إذا استأجر عيناً فآجرها لغيره وسلمها له فإن صحت الإجارة الثانية ، فتلفت عند الثاني أو تعيبَّت بتقصير من الثاني كان الثاني ضامناً وأما الأول فلا يضمن إلا إذا كان الثاني سلمها له غير مأمون عنده وكذا الحال إذا استؤجر على عمل في عين يأخذها عنده فاستأجر آخر على العمل فيها وسلمها له ([179] ) .
أما الاباضية : فيرون أن المكتري لا يكلف إصلاح ما إكتراه عندما تعرض له عوارض خارجة عن ممارسته قد تؤدي إلى تحوُّل العين المكتراة عن طبعها وعدم صلاحها للغرض الذي أكتريت من أجله ، كما أننا نستخلص من النصوص الفقهية المتعددة لديهم أن للمكتري أن يرجع إلى المكري فيما دفعه إليه من الكروة ان تعذر إنتفاعه بالعين المكتراة بسبب ما طرأ عليها مما هو خارج عن تسببات المكتري سواء كان هذا الرجوع بالفسخ الذي يطرأ على العقد تلقائياً بسبب هذه العوارض أم كان ذلك بما للمكتري من حق الخيار بسببها ([180] ) .
*****
الفصل الثاني
الأثر المترتب على انتهاء عقد إجارة الوقف
إذا انتهت إجارة الوقف والمستأجر فيه زيادة أو طرأ عليه نقصان فقد اختلفت آراء الفقهاء في هذه المسألة على النحو التالي :
رأي الحنفية :
يقول فقهاء الحنفية أنه إذا زاد المستأجر بأي شيء كبناء جديد أو غرس أو زرع فإذا كان لزوالها نهاية معلومة فإنها تترك في يد المستأجر إلى أن يحصل عليها مثل الزرع في الأرض الذي يترك إلى أن يحصد ويلزم المستأجر بدفع أجر المثل عن المدة التي شغل فيها زرعه للأرض لأن الزرع موضوع فيها بحق فلو تمَّ تكليف المستأجر بقلع الزرع وتسليم الأرض لتضرر ولو تركناها في يده إلى إدراك الزرع بدون أجر فإن مصلحة الوقف لن تراعي لذا فإنه مراعاة لكلا المصلحتين فإن المستأجِر يترك في يد المستأجَر ويلزم الأخير بدفع أجرة المثل ([181] ) . كما ذكرناه آنفاً أما إذا لم يكن للزيادة نهاية معلومة فإنه اما أن تكون الزيادة موضوعة بحق بما معناه أنه قد أذن الناظر للمستأجر بالبناء أو الغرس فإن المستأجر يكون أولى بالإجارة من غيره ويترك المستأجر تحت يده ما دام ملتزماً بدفع أجرة المثل ولا يعطـى لغيره دفعاً للضرر عنه وورثتـه مثله أما إذا حصل من ذلك ضرر فيؤجر لغيره ([182] ) .
وإذا كانت الزيادة موضوعة بغير وجه حق كما إذا بنى بغير إذن الناظر فإنه ينظر إذا كانت الأنقاض من مال الوقف فإذا هدم البناء فإن الأنقاض تفقد كل قيمة عندئذ يؤخذ البناء للوقف وليس للمستأجِر حق الرجوع بما أنفقه على العمارة فلو طالب المستأجر بالهدم رفض طلبه لأنه تعنت بلا فائدة بل انه مورد للضرر اذ أنه يتحمل نفقات الهدم . أما إذا كانت الأنقاض من ماله هو فإن الهدم قد يضر الوقف وقد لا يضره وعلى الأول فان للمستأجر الخيار بين أن يهدم البناء ويأخذ أنقاضه وبين أن يرضى بأن يتملك الناظر البناء بأقل قيمة له قائماً أو مهدوماً .
وعلى الثاني فالهدم يكون مضراً بالوقف ولذا فإنه يسوغ للناظر تملك البناء جبراً على صاحبه بأقل قيمة له قائماً أو مهدوماً وهذا يعني أن للناظر الخيار بين أن يتملكه للوقف وبين أن يتركه إلى أن يتخلص من الأرض ويدفعه إلى المستأجر وهذا هو الرأي المعوَّل عليه ([183] ) .
رأي المالكية :
إذا استأجر شخص أرضاً محبسة لمدة معلومة فبنى فيها أو غرس ثم انتهت المدة فإن للناظر أن يخيره بين أن يدفع له قيمة ذلك البناء أو الغرس على أنه مقلوع وبين أن يأمره بقلع ذلك البناء والغرس على حسابه هذا ان لم يحتج له الوقف والا فيوفي له من غلته ما صرفه المستأجر في البناء ويصير ذلك البناء وقفاً ([184] ) .
رأي الشافعية :
إذا كان المستأجر مأذوناً في الزيادة سواء من الناظر أو الحاكم الشرعي فإن الزيادة تكون من حقه إلا اذا اختلطت بمال الوقف وتعذر تمييزها فإنها تصير شركة بينهما .
إذا كان المستأجر غير مأذون في الزيادة فإن الزيادة تبقى على ملك المستأجر سواء كانت مميزة أو مبنية في الوقف مختلطة بأنقاضه ولذا فإذا طلب المستأجر أخذ أنقاضه المختلطة بمال الوقف والتي يتعذر تمييزها عنه فالبعض يرى أنه يجاب طلبه إلى الهدم ثم يجتهد في الأنقاض القديمة والحادثة ويميزها عن بعضها البعض ويأخذ أنقاضه ويغرم أرش الهدم، ويرى آخرون أنه لا يجاب إلى طلب الهدم ويجبر على تعيين قيمة لأنقاضه سواء قيمة مسماة أو قيمة المثل ويأخذها من غلَّة الوقف صيانة للوقف من الهدم ، ويرى البعض الآخر منهم أنه يملك المستأجر الكل فله أخذه وله هدمه بل يجبر عليه ما لم يتركه لجهة الوقف إذ يلزم ناظره بقبوله منه ثم يغرم للوقف بدل أنقاضه بمثلٍ إذا كان شيئاً مثلياً أو بقيمةٍ إذا كان من الأشياء المتقومة وإن هدمها لزمه ارش الهدم ويقوم الناظر بالاستفادة من هذه الأموال في بناء مثل المهدوم وتلزمه أيضاً الأجرة لمدة بقاء ملكه في أرض الوقف لأنه يتعذُّر التمييز مَلَكَ الكل.
أما إذا طلب المستأجر أخذ أنقاضه في حال عدم تعذر التمييز فيجاب إلى طلبه وإن أدى إلى الهدم لأن البناء من فعله وبالتالي فإنه لم يفوت بالهدم شيئاً مملوكاً للوقف إلا أنه يلزمه ما نقص من قيمة أنقاض الوقف وأرضه باستعمالها في البناء ثم الهدم إذ أنه متعَّدٍ بذلك ، هذا وهناك من يرى أنه ليس للمستأجر أي حق في الزيادة ولا رجوع له فيها بعد انقضاء مدة الكراء سواء كانت متميزة أو غير متميزة إلا أنه رأي مرجوح عندهم ([185] ).
رأي الحنابلة :
وملخصه أنه في حال حصول زيادة في المستأجر فإنه لا يتملك الغراس أو البناء بعد انقضاء مدة الإجارة وهو غير تام الملك كالموقوف عليه والمستأجر والموصى له بالمنفعة ، وذلك لقصور ملكه ولا يتملك لجهة وقف الأرض إلا بشرط واقف أو رضا مستحق ان لم يكن هناك شرط إذ أن في دفع قيمته من ريع الوقف تفويتاً على المستحق ، وإنما الذي يتملك ذلك بالقيمة بعد انقضاء المدة هو ناظر الوقف كما أنه لا يتملك الغراس أو البناء سواء كانت الإجارة صحيحة أو فاسدة لوجود الاذن في وضعه في أرض الوقف وإذا كان لا يقلع فعلى مالكه أجرة المثل ([186] ).
رأي الظاهرية :
قال الإمام أبو محمد ابن حزم ( وكل ما عمل الأجير شيئاً مما استؤجر لعمله إستحق من الأجرة بقدر ما عمل فله طلب ذلك وأخذه وله تأخيره بغير شرط حتى يتم عمله أو يتم منه جملة ما لأن الأجرة إنما هي على العمل فلكل جزء من العمل جزء من الأجرة ، وكذلك كل ما استغل المستأجر الشيء الذي استأجر فعليه من الإجارة بقدر ذلك أيضاً ) ([187] ) هذا لكنه لم يتعرض إلى خصوص المسألة محـل البحث إلا أنني رأيت الحسن والفائدة في إيراد هـذا النص الذي يشكل ضابطاً عاماً عنده رحمه الله.
رأي الزيدية :
وعند الزيدية أنه إذا زاد المستأجر في العين المستأجرة زيادة أمر مرغبَّ فيها كالبناء والإصلاح ثم أجرَّها بأكثر لأجل تلك الزيادة طابت له الزيادة وان لم يأذن المالك إلا أن هناك رأي عند بعض فقهائهـم يقـول أنه إذا إنقضت الإجارة فصل ما يمكن فصله كالأبواب لا ما لا يمكن فصله كالجص ([188] ) ومن الواضح بعد التأمل أن الرأي الأول هو المعتبر عندهم ، حيث أن الرأي الثاني ذكر على نحو التمريض ودون نسبته إلى فقيه مشهور منهم مما يعلمنا بضعف مستنده وعدم رجحانه عندهم .
رأي الإمامية :
وفقهاء الإمامية فإنهم ذهبوا إلى أنه إذا استأجر الإنسان عيناً لمنفعة ما مدة معينة فإنه لا يحق له أن يشغلها بما من شأنه إشغاله فيها أكثر من تلك المدة فمن استأجر بيتاً لا يحق له أن يعمل فيه أو يحرز فيه ما لا يمكن تفريغه منه عند انقضاء مدة الإجارة ولو فعل عامداً كان متعدياً في إبقاء ذلك الشيء فيحق للمالك وفي حالة إجارة الوقف يحق للناظر إجباره على أن يسلمه العين المستأجرة غير مشغولة به وان استلزم الضرر عليه ولا يجوز للمستأجر الامتناع من ذلك إلا أن يرضى المالك أو الناظر بإشغال العين به ولو بثمنٍ يتفقان عليه أما لو فعل ذلك غير عامد فإن أمكن إزالته من دون لزوم ضرر على صاحبه لزم مع عدم رضا المالك بالإبقاء ولو بثمن إن لزم عليه الضرر وجب على المالك الرضا بالإبقاء بأجرة ما لم يلزم الضرر على المالك أيضاً فيجب على المستأجر إزالته مع عدم رضا المالك ، كما إذا كان موجباً لنقص قيمة العين وتعيَّبها عرفاً ، وكذا الحال لو اشغل المستأجر العين بما من شأنه أن يفرَّغ منها عند إنقضاء مدة الإجارة فاتفق خلاف ذلك لطوارئ غير محتسبة ، كما لو لم ينضج الزرع لبرودة الهواء أو لقلة الماء ([189] ) .
ويبقى رأي فقهاء الاباضية :
في هذا الموضوع متناغماً مع آراء سائر المذاهب في ذلك ، وهذا ما نراه من فتاوى الإمام الخليلي إذ يقول في إحدى فتاويه ( إن اتفق الجانبان على إكراء المحل التجاري إلى زمن محدود فالإكراء صحيح وهما على شرطهما الذي اتفقا عليه وما قام به المستأجر من إعداد المحل للتجارة أما إن يكون بدون موافقة صاحب العمل واما أن يكون بموافقته ففي الحالة الأولى يعد متبرعاً ولا عناء له على ما عمل عند الخروج من المحل وفي الحالة الثانية يعوَّل على إتفاقهما ([190] ) .
كما ان هناك كلام رصين متين لا بأس بإيراده لفائدته الجمة إذ يقول : ( ان المكتري لا يكلف إصلاح ما إكتراه عندما تعرض له عوارض خارجة عن ممارسته قد تؤدي إلى تحوُّل العين المكتراة عن طبعها وعدم صلاحها للغرض الذي أكتريت من أجله بل ان للمكتري أن يرجع إلى المُكري فيما دفعه إليه من الكروة ان تعذَّر انتفاعه بالعين المكتراة بسبب ما طرأ عليها مما هو خارج عن تسببات المكتري سواء كان هذا الرجوع بالفسخ الذي يطرأ على العقد تلقائياً بسبب هذه العوارض أم كان ذلك بما للمكتري من حق الخيار بسببها) ([191] ) .
*****
خاتمــــة
وإنني إذ وصلت إلى ختام البحث حول مسائل إجارة الوقف فإنني أحمد الله العلي القدير أن وفقني لفرصة ثمينة تتمثل في سبر أعماق بحر الفقه العميق لمذاهب الإسلام الثمانية والذي يؤكد تلك الحقيقة التي تقول أن هذه المذاهب ليست سوى آراء نورانية صدرت من مشكاة حضارة سامية اصيلة وهي تلك الحضارة التي اسسها نبينا المصطفى الامين صلى الله عليه و اله و سلم و اثمرتها انهار الاجتهاد الاصيل والعقل السديد و الفكر النقدي العلمي الرشيد وأسأل الله أن يوفقنا لنرتقي بالعلم و الفقه لنسموا بحضارتنا في عالمنا الراهن عالم المعرفة و التنمية و اخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .
(محاماه نت)