دراسات قانونية
النفقة الزوجية من خلال النوازل الفقهية (بحث قانوني)
النفقة الزوجية من خلال النوازل الفقهية
إعداد الطالب
عبد الله أكور
تحت إشراف الأستاذ :
الدكتور الحسن الرغيبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام الزاكيان الناميان على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين المنتجبين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تقديم:
يقول الله تعالى : “لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا” [1]
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ولهن عليهم رزقهن وكسوتهن بالمعروف”[2]
يعتبر موضوع النفقة من المواضيع اللتي حضيت بعناية كبيرة من خلال بسط كثير من الاحكام الفقهية والقانونية وكذا جانب علم الاجتماع الأسري، وهذا دليل على الطابع الإنساني الرحيم للشريعة الاسلامية الغراء تحقيقا للتكافل الاجتماعي للأمة، وترسيخا لأواصر المحبة والتلاحم بين افراد الأسرة يوجه عام، وبين الزوجين بوجه خاص.
أسباب النفقة بوجه عام ثلاثة، الزوجية والقرابة والالتزام كما نصت بذلك المادة 187 من مدونة الاسرة المغربية، وقد يثور البت الأول- الزوجية، بمشاكل وإشكاليات عديدة خاصة مع هذا التغير الاجتماعي الذي شهدته الأسرة المغربية خاصة والأسرة العربية وغيرها عامة، و سأحاول في هذه الدراسة المبسطة الحديث عن الموضوع ورطه ببعض النوازل الفقهية، وفق تصميم منهجي خلال كالآتي:
المبحث الأول : حقيقة النفقة وأحكامها
المطلب الأول معناها اللغوي والاصطلاحي
المطلب الثاني : حكمها والحكمة منها
المبحث الثاني : النفقة الزوجية من خلال بعض النوازل الفقهية و رأي مدونة الأسرة
المطلب الأول: نفقة الزوجة من خلال بعض النوازل الفقهية
المطلب الثاني: رأي مدونة الأسرة المغربية
خاتمة
المراجع والمصادر المعتمدة في الموضوع
المبحث الأول: حقيقة النفقة وما يتعلق بها من أحكام
المطلب الأول: التعريف اللغوي والاصطلاحي للنفقة الزوجية
لغة : يطلق لفظ النفقة ويراد بها معاني عدة منها:
النفوق : ويعني الهلاك والموت، فيقال نفقت البهائم أي ماتت و أهلكت
الإنفاق : وهو مصدر أنفق ينفق بمعنى صرف المال وأفناه، ومنه قوله تعالى :” إذن لأمسكتم خشية الإنفاق” [3] أي خشية الفناء والنفاذ.
النفاق: بمعنى راج، نفقت السلعة نفاقا أي راجت ومنه اشتق النفاق أي إظهار الإيمان باللسان وكتمان الكفر بالقلب[4].
ومنه اشتق معنى نفقة الزوجة أي الهلاك فيهلك الطعام بالأكل ويهلك اللباس بالاستعمال…
النفقة اصطلاحا:
تعددت عبارات الفقهاء في تحديد المعنى الاصطلاحي للنفقة
يقول الدردير في الشرح الصغير :
قوةٌ و إدامٌ وكِسوة ومسكن بالعادة.
يقول العدوي في حاشيته على الخرشي:
ما به قِواَم معتاد حال الآدمي دون سرف
وقال ابن عامر في ملخص الاحكام الشرعية
ما يدفع به الإنسان حاجة غيره، ومن غذاء وسكن ولباس، وما يلحق بذلك من كل ما تتطلبه المعيشة بدون تقصير ولا إسراف بحسب حال الطرفين ودرجة أمثالهما.
هذه التعاريف وغيرها فيها إشارة إلى شمول النفقة لكل ما به قوام الحياة الزوجية، ويكون معتادا من قوة الناس بحسب العادة الجارية بين أهل بلد الزوجين، مع مراعاة حال الزوج ومقدار النفقة ونوعها.
ويرى الحنفية أن النفقة هي الإدرار على لاشيء بما به بقاؤه ومعناه: الإنفاق على الإنسان من زوجة وأولاد وأقارب أو كل من تلزم نفقته، وكلمة “شيء” تشمل حتى غير الإنسان، واعتبر فقهاء الحنفية أجرة الطبيب والدواء غير واجبة على الزوج.
وأما الشافعية فقد عرفوها بقولهم: “الإنفاق هو الإخراج ولا يستعمل إلى في خير” فهذا التعريف مطلق وعام دون النظر إلى تفاصيل موضحة، سوى ما قالوه عن حال المنفق من يسر او عسر. ومذهب الحنابلة في الموضوع : كفاية من يمونه خبزا واداما وكسوة وتوابعها”
وهو تعريف حدد الإطعام بالخبز مما يوجب على الزوجة ألا تطلب غيره.
إن التعريفات المتقدمة اتفقت في جوهرها على تحديد النفقة في امور ثلاث وهي:الطعام والكسوة والسكن، كما يمكن أن تشمل أجرة الطبيب والدواء والرعاية مما تقتضيه العادة.
المطلب الثاني : حكم النفقة الزوجية ودليلها والحكمة منها:
لم يختلف فقهاء الشريعة الاسلامية الغراء في وجوب نفقة الزوجة لجملة من الأدلة، منها ما ورد في القرآن الكريم ومنها ما ورد في السنة النبوية الشريفة فمن القرآن على سبيل المثال لا الحصر نجد قوله تعالى: “وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها”.[5] فنصت الآية على وجوب النفقة للزوجة حال الولادة وفي حال امتاعها للزوج،[6] ومن الآيات كذلك قوله تعالى: “لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا”[7].
وقوله تعالى: “وإن كن اولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ” [8]
ففي الآية دليل على وجوب النفقة للمطلقة الحامل مما يفهم منه ان النفقة للزوجة أولى.
وقوله تعالى : “قد علمنا ما فرضنا عليهم في ازواجهم “[9] قال الشافعية في هذه الاية إن الله عز وجل فرض فرائض للزوجات على أزواجهن، ومن تلك الفرائض النفقة.
ومن السنة النبوية ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” فاتقوا الله في النساء فإنكم اخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم احدا تكرهونه، فغن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.”[10]
وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما اشتكت شح زوجها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: “إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علم،فهل علي في ذلك جناح؟ فقال صلى الله عليه وسلم :”خذي من ماله بالمعروف، ما يكفيك ويكفي بنيك”[11]
قال الفقهاء فلو لم تكن النفقة واجبة لما أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ من غير إذن زوجها وعلى هذا اتفق أهل العلم.[12]
ومن الأحاديث كذلك: عن معاوية بن حيدة قال: قلت يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: “تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه، ولا تضرب، ولا تهجر إلى في البيت”.[13]
فدل الحديث على وجوب النفقة والكسوة بقدر سعة الزوج.
فهذه النصوص وغيرها تدل على وجوب نفقة الزوجة، وقد جاءت نصوص أخرى تفيد التحذير من التقصير من هذه النفقة من ذلك الحديث المشهور”كلكم راع…” وحديث “ما من عبد استرعاه الله رعية…” ومن النصوص الواضحة في هذا الباب حديث عبد الله بن عمرو بن العاص “كفى بالمرْء إثما ان يضيع من يعول” وفي رواية “من يقوت”[14]
والنفقة جاءت لحماية ضعف المرأة، وكذا خدمة زوجها واحتسابه لمصلحته،…الخ. غير أن علة النفقة اختلف حولها الفقهاء إلى ثلاثة آراء متباينة.
ففريق يرى أن العلة من ذلك هي التمكين، ورأى يرى أنها الاحتباس لخدمة الزوج ورأي ثالث يرى أن العلة على قدر ما أنفق الزوج من مال حين العقد عليها.
وهذه الآراء ناقشها المهتمون بالشأن الفقهي الأسري فوجدنا في ذلك ما يلي:
ربط النفقة بالوطء، والاستمتاع يحول الزواج إلى عقد معاوضات ومبادلات لأن الاستمتاع مشترك بين الزوجين.
اما الذين ربطوا النفقة بالاحتباس فإن في ذلك تحديد لملامح التقسيم الطبيعي للعمل بين الرجل والمرأة داخل البيت من أجل بناء الأسرة.
المبحث الثاني: نفقة الزوجة من خلال النوازل الفقهية وموقف مدونة الأسرة
المطلب الأول:النفقة الزوجية من خلال بعض النوازل الفقهية.
1 سئل الشيخ أي عبد الله السطي رحمه الله –عام سبعة وثلاثين وسبعمائة بظاهر تلمسان- عن رجل التزم نفقة الزوجة وكسوتها وكراء مسكنها وكتب بذالك وثيقة عليه،ثم اختلفا فقال والد الزوج هذا الالتزام المذكور لأمد الزوجية لان الزوج عديم.وقال والد الزوجة لا إلى أمد.
فأجاب الشيخ:إذا كان اللفظ الصادر من الملتزم هو نفقة الزوجة وكسوتها وكراء مسكنها من غير تقيد فالظاهر حمله على أمد الزوجية لاستغراقه لها وبعد قصد ما زاد عليها،ولا يقبل حمله على مادون هذا إلا بموجب.
2-من تطوع بالنفقة على أولاد زوجته دون كسوتهم:سئل سيدي عبد الله العبدوسي عن رجل تزوج امرأة وتطوع لأولادها بإجراء النفقة عليهم وجميع المؤن إلا كسوة طوال زوجيتهما.
فأجاب :بأنه لا يلزمه إسكان ولا إخدام ولا غير ذلك إلا الطعام والشراب خاصة.
3-سئل أبي مهدي عيسى بن عبد الرحمان السكتاني عن امرأة نشزت من دار زوجها لدار أهلها فمكثت عندهم مدة ولم يزل زوجها يطلبها ويبعث إليها فامتنعت.هل لها النفقة مع الحال الموصوف أم لا؟
فأجاب :إذا امتنعت عليه ولا قدرة على ردها بالقاضي ولا بغيره فليست لها النفقة على الزوج.والسلام.
4-سئل الشيخ محمد التاودي عن امرأة ترتبت لها على زوجها نفقة أعوام ماضية نحو العشر سنين وقامت تطلب الآن بالنفقة التي أنفقتها على نفسها في المدة المذكورة فهل يلزمه أن يعطيه القدر الكافي الذي وجب لها من حب وزيت وسمن….أو لا يلزمه إلا الثمن لشدة الوقت وغلاء الثمن؟
فأجاب:الحمد لله،لا يلزمه إلا ثمن ما أكلته حين أكلته والله اعلم والسلام.
5-سئل عمر ابن عبد العزيز الكرسيفي عن كيفية احتساب أجرة المرضع بعد الطلاق وضمنها نفقة الزوجة التي في العصمة في بلاد سوس.جاء السؤال على النحو الآتي: سئل كاتبه ـ غفر الله له ـ عما يجب المطلقة على مفارقها في إرضاع ولده الذي وضعته بعد الطلاق، وتربيته و مؤونته، من يوم الوضع إلى تمام مدة الرضاع؟
فأجاب ـ والله الموفق للصواب: “إن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، والزمان والمكان، فمن الرجال غني وفقير، وقوي وضعيف، ومن النساء رفيعة القدر ووضيعته، وغزيرة اللبن وقليلته، ومن لبنهن كثير المنفعة وقليلها.
كما أن المقتات من الطعام كذلك، ومن الزمان وقت رخاء ووقت غلاء، ووقت حر ووقت برد، ومن البلاد ما يقنع أهله بقلبل من القوت، ومالا يقنعون به، إلى غير ذلك مما ينبغي لمن ابتلي بالنازلة مراعاته والتنبيه إليه، والبحث عما عسى أن يخفى عليه من تلك الأحوال، إذ ليست على حد سواء.
فرب امرأة يستغني ولدها بلبنها عن الطعام، فلا يحتاجه إلى الفطام، وأخرى ليست كذلك فتغذيه به من الشهر الأول.[15]
ورب طعام يكفي منه القليل، وطعام لا ينفع منه إلا الكثير، ورب بلد فيه فاكهة أو تمر أو خضرة يستعان بها على القوت، وبلد ليس فيه إلا الدقيق، وربما زمان برد لا يحتاج فيه إلى الحناء، وزمان حر لابد فيه منها، فإذا علم ما علمه من ذلك فرض الأجرة والنفقة على حسب ما اقتضاه علمه وأداه إليه اجتهاده، قال في “تحفة الحكام”.
وكل ما يرجع لافتراض موكل إلى اجتهاد القاضي
بحسب الأقوات والأعيان والسعر والزمان والمكان
وقال الشيخ ميارة رحمه الله في ضرح البيتين: وقدر مالك رحمه الله في المدينة مد هشام في اليوم، وقدر ابن القاسم بمصر ويبتين ونصفا إلى ثلاث في الشهر، والويبة: اثنان وعشرون مدا بمده عليه الصلاة والسلام، ومد هشام المذكور هو مد وثلث بالمد النبوي، انتهى بالمعنى.
قلت: فجملة ما لزم في الشهر على التقدير الأول أربعون مدا نبويا، وفيها من آصع الفطر عشرة، ومن آصع الكيل لوقتنا وبلدنا خمسة.
وعلى التقدير الثاني ستة وستون مدا، وفيها آصع الفطر سبعة عشر ونصف، وبصاع الكيل ثمانية وربع، فبين التقديرين ثلاثة آصع كيلية وربع لقلة الأقوات في المدينة المشرفة، وقناعة أهلها بخلاف مصر.
هذا كله في نفقة الزوجة التي في العصمة، أو مافي حكمه، وأما مؤونة الولد فقال ميارة أيضا في المحل المذكور، ناقلا عن أبي الفضل قاسم بن محمد الوزير شهرة: مقدار النفقات في وقته بفاس ما نصه باختصار: “إذا كان الولد من سبعة أعوام يعطي نصف نفقة أمه، ومن خمسة إلى ستة الثلث، ومن عشرة إلى اثني عشر الثلثان، والرضيع أوقية[16] في الشهر، والحاضنة ثمن الأوقية، ولها في البادية ربعها”. انتهى.
قلت: إذا كان الأمر كذلك، فالأقرب إلى الصواب في هذه البلاد على التقدير الثاني لقيام شعيرها مقام القمح بمصر في الإقتيات لجودته وقوة نفعه. والقاعدة أن ينظر أو لا فيما يصلح شأن المرأة أيام الوضع، فيعطي لها ما اعتيد في ذلك على قدر وسع الرجل كصاع الفطر من إدام وستة من دقيق وعقيقة ورطل ونصف من حناء، وتندرج مؤونة الصبي في الشهرين الأولين: فيما ذكر، ثم تعطي عشر موزونات في كل شهر إلى تمام الحولين، تكون أجرتها في الرضاع والتربية معا، ثم ينظر بعد ذلك حال الصبي ومؤونته.[17] فإن استغنى باللبن عن الطعام فبها ونعمت، وليدفع لها ربع رطل من الحناء في كل شهر من شهور الحر تطليه لا غيره، وإن لم يستغن به فليدفع لها في الشهر الثالث فما بعده إلى كمال ستة أشهر مدين نوبيين لكل شهر، وفي السابع إلى التاسع ثلاثة أمداد لكل شهر، ثم هكذا يزيد له مدا واحدا في كيل ثلاثة أشهر إلى تمام الحولين، ويلزم من ذلك أن يجتمع في الشهر الأخير منهما صاعان نبويان، وهما صاع الكيل كما يفهم مما سبق، وذلك ثمن أمه، المقدرة بثمانية آصع وربع في الشهر بتقريب، لأنه إذا كانت نفقة ابن ثمان سنين المشارك فيها لابن سبع في الحكم أربعة آصع التي هي نصف الثمانية الواجبة للأم في الشهر، فنفقة ابن سنتين فيه صاع واحد، لأن نسبة السنتين من الثمان سنين كنسبة الصاع من الأربعة آصع.
هذا ما اقتضاه تقدير الوزير المتقدم، واقتضاه الحساب أيضا كما ترى، وهو رحمه اله موافق للصواب في تقديره بدليل التجريب.
وبيانه أنا قد اختبرنا صبيا ابن سنة في مأكله، لنعلم كم يكفيه في اليوم غذاء وعشاء، فوجدناه يكفيه ثلاث لقم فيهما مع لبن أمه.
واختبرنا قبضة من الدقيق، وهي عشر صاع الفطر الذي قلنا إنه يكفيه، لنعلم كم فيها من اللقم بعد جعلها عصيدة أو كسكوسا بلا خضرة، فوجدنا فيها تسعا متوسطة، فضربنا التسع في عشرة عدد قبضات الصاع، فخرج تسعون لقمة فقسمناها على ايام الشهر، فخرج لكل يوم ثلاث لقم التي ذكرنا أنها تكفي الصبي.
لو ضم إلى هذه الثلاث مثلها من الخضرة لما أطاق أكلها إلا إن عدم اللبن في أمه، فإذا علم مما ذكر أن صاع الفطر يكفي ابن سنة في الشهر فنصفه الذي هو مدان، يكفي فيه ابن ستة اشهر، وضعفه الذي هو صاع الكيل يكفي ابن سنتين كما ذكرنا فيهما لا محالة.
وإن كان من لا خبرة له بالأمر يستقل ذلك، فينكره كما كنا كذلك قبل الإختبار، وليس الخبر كالعيان.
وأما الإدام فقبضته منه في الشهر تكفي، وإن كان من الصبيان من لا يكفيه ما ذكرنا، فليزد له بقدر الحاجة والوسع، وأما الأوقية التي ذكرها الوزير فلم ندر قدرها ولا جنسها، ثم يدفع لها ثيابا تدرجه فيها وتقيه من البرد، وتحفظ به ثيابها من أوساخه، فإذا دفع إليها جميع ما ذكر لزمها إرضاعه وتربيته إن لم يقبل غيرها كما لزمها ذلك مجانا، أو بما تيسر إن كان الب معسرا، أو مات ولا مال للولد، وإن كان الأب موسرا، أو الرضيع غير أمه، فللأم الخيار في إرضاعه بأجرة المثل، أو في تركه دون الأب، ولو وجد من يرضعه مجانا أو بأقل من أجرة المثل، والله أعلم.[18]
وقد كنا أجبنا في النازلة بما يخالف ما هنا بكثير، ثم رجعنا عنه. قيده بذي حجة الحرام متمم مائتين وألف عبد ربه تعالى عمر بن عبد العزيز بن عبد المنعم الكرسيفي، لطف الله به في المقام والرحيل، آمين.
وبتحليل هذه الفتوى يتضح لنا من خلال منهجية المفتي في الإجابة ما يلي:
استهل الإجابة بالتأكيد على أن تحديد أجرة الرضاع يختلف باختلاف أحوال الناس والزمان والمكان، وهذا ما ينبغي للفقيه مراعاته والتنبيه إليه، أي أنه يؤكد على مراعاة الواقع المعاش للناس.
ثم استعرض تقدير فقهاء المالكية لنفقة الزوجة التي في العصمة أو ما في حكمه، كما يلي:
تقدير الإمام مالك في المدينة: مد هشام في السوم، وهو مد وثلث بالمد النبوي.
تقدير ابن القاسم بمصر: ويبتين ونصف إلى ثلاث في الشهر، والويبة: اثنان وعشرون مدا بمده عليه الصلاة والسلام.
ثم قام بتحويل وحدة قياس المكاييل في المدينة ومصر إلى الوحدة المحلية في منطقة سوس، وقال:
فجملة ما لزم في الشهر على التقدير الأول (أي في المدينة) أربعون مدا نبويا، وفيها من آصع الفطرة عشرة ومن آصع الكيل لوقتنا وبلدنا خمسة.
وعلى التقدير الثاني (أي مصر) ستة وستون مدا، وفيها من آصع الفطر سبعة عشر ونصف وبصاع الكيل ثمانية وربع.
ثم نقل عن أبي الفضل قاسم بن محمد الوزير شهرة مقدار النفقات في وقته بفاس واستخلص من كل ما سبق أن الأقرب إلى الصواب في بلاد سوس، التقدير الثاني لقيام شعيرها مقام القمح بمصر في الاقتيات لجودته وقوة نفعه، بالإضافة إلى ما يصلح شأن المرأة أيام الوضع بحسب وسع الرجل من إدام ودقيق وعقيقة وحناء. وتندرج في ذلك مؤونة الصبي في الشهرين الأولين، ثم تعطي عشر موزونات في كل شهر إلى تمام الحولين تكون أجرتها في الرضاع والتربية معا.
بعد ذلك ينظر إلى حال الصبي، فإن استغنى باللبن عن الطعام يدفع لها ربع رطل من الحناء كل شهر من شهور الحر تطليه لا غيره.
وإذا لم يستغن به فقد تم تقدير ما يكفي الصبي ابن سنة في مأكله في اليوم غذاء وعشاء بالتجريب فوجده ثلاث لقم فيهما مع لبن أمه. واختبر قبضة من الدقيق وهي عشر صاع الفطر ليعلم كم فيها من اللقم بعد جعلها عصيدة أو كسكوسا بلا خضرة.
وإذا لم يستغن به فقد تم تقدير ما يكفي الصبي ابن سنة في مأكله في اليوم غذاء وعشاء بالتجريب فوجده ثلاث لقم فيهما مع لبن أمه. واختبر قبضة من الدقيق وهي عشر صاع الفطر ليعلم كم فيها من اللقم بعد جعلها عصيدة أو كسكوسا بلا خضرة.
وفي الختام أشار إلى أن إرضاع الصبي وتربيته يلزم الم مجانا، أو بما تيسر إن كان الأب معسرا.
المطلب الثاني : موقف مدونة الاسرة
سنحاول في هذا المطلب عرض موقف مدونة الاسرة في الموضوع ومناقشته وتحليله
1- عرض الموقف :
لقد عبرت مدونة الاسرة عن موقفها من النفقة الزوجية في المادة 194 التي تقضي بما يلي:
“تجب نفقة الزوجة على زوجها بمجرد البناء، وكذا إذا دعته للبناء بعد ان يكون قد عقد عليها”
وهذا النص يفهم منه ان النفقة تجب بالاستمتاع تماشيا مع رأي الجمهور رغم ما على هذا الرأي من مآخذ وهو الموقف ذاته الذي أخذت به مدونة الأحوال الشخصية الملغاة في مادتها 117، ومحتوى النصين معا مأخوذ من قول الامام مالك رضي الله عنه: “لاتجب النفقة على الزوجة حتى يدخل بها (زوجها) او يدعى إلى الدخول بها وهي ممن توطأ وهو بالغ”[19].
ولعل المشرع المغربي ساير هذا الفهم من خلال العمل القضائي، حيث نجد في قرارات محاكم الاستئناف فهم منها مجتمعة ما خلاصته:
إن النفقة الواجبة للزوجة على زوجها تنشأ عن زواج صحيح مستجمع لكافة أركانه وشروطه الشرعية، مع الدعوة للدخول الذي يجب ان تسبق تاريخ المطالبة بالنفقة.[20]
2- مناقشة الموقف:
من خلال المادة 194 اعلاه يتبين لنا أن :
الأخذ بفلسفة الاستمتاع يوحي إلى ان الزوج ليس له ان يلزم زوجته على القيام بخدمة البيت على اعتبار أن النفقة هي في مقابل الاستمتاع ليس إلا، وخدمة البيت هي من المسائل التي اختلف فيها اختلافا بينا لغياب وجود دليل شرعي قطعي بشأنها، كما نجد عند الفقهاء كابن تيمية وابن القيم وغيرهما.
أما حجة من أوجب خدمة الزوجة لزوجها ما جاء في الحديث الصحيح أن فاطمة عليها السلام أتت النبي عليه الصلاة والسلام تسأله خادما، فقال :” ألا اخبرك ما هو خير لك منه؟ تسبحين الله عند منامك ثلاثا وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين وتكبرين الله ثلاثا وثلاثين”.[21]
ووجه الاستدلال هنا ان فاطمة ؛ وهي أشرف النساء وابنة أشرف خلق الله لما سألت أباها الخادم لم يأمر زوجها عليا بأن يكفيها ذلك إما باستتئجار خادم لها، او بتعاطي ذلك بنفسه، ولو كانت عفاية ذلك إلى علي أمره به كما فعل في صداقها قبل الدخول مع أن سوق الصداق ليس بواجب إذا رضيت المرأة ان تؤخره.[22]
جاء في زاد المعاد لابن القيم ما نصه : “قال ابن القيم ما نصه :”قال ابن حبيب في الواضحة :” حكم النبي صلى الله عليه وسلم بين على بن أبي الب وبين زوجته فاطمة الزهراء رضي الله عنها حين اشتكيا إليه خدمة البيت، فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة، خدمة البيت وحكم على علي بن أبي طالب بالخدمة الظاهرة”، ثم قال ابن حبيب: والخدمة الباطنة: العجين والطبخ والفرش وكنس البيت واستقاء الماء وعمل البيت كله”.[23]
أما من قالوا بعدم وجوب خدمة الزوجة للبيت فيحتجون بأن عقد الزوجية إنما هو للاستمتاع لا للاستخدام، ودليلهم في ذلك أن الحديث السابق إنما دل على التطوع ومكارم الأخلاق لا على الوجوب والالزام.
وعند تأملنا للفريقين يتبين ما يلي:
إن استحضارنا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ” إلى أن قال: “والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم”[24]
برجوعنا إلى مدونة الأسرة نجد انها جعلت الرعاية مسؤولية مشتركة بين الزوجين حيث قضت المادة 4 منها أن ” الزواج ميثاق تراض وتماسك شرعي بين رجل وامرأة غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين طبقا لأحكام هذه المدونة”، وأيضا المادة 51 من نفس المدونة جاء فيها أن “الزوجة تتحمل مع الزوج مسؤولية تسيير ورعاية شؤون البيت…” وعلى هذين النصين وغيرهما إذا كانت المدونة لا تقصد بالرعاية المنوطة بالزوجة الخدمة الباطنة كما هو واضح، فإنه لم يبق إلا احتمال كونها تقصد بها الإشراف، الذي يعني أن الزوجة لا يجب عليها أن تقوم بأي خدمة منزلية كيفما كانت.
مما يفيد أن مهمة الزوجة لا تتجاوز امتاع الزوج وإنجاب الاطفال فقط، وهذا طرح فكري فيه إهانة للمرأة وحط من قيمتها.
الاحكام المستنتجة من المادة 49 التي نصت على حق الكد والسعاية، والمادة 195 التي تفهم منها أن امتناع الزوجة عن الرجوع إلى بيت الزوجية لا يسقط نفقتها عن المدة التي غابت فيها عن بيت الزوجية، وكذلك المادة 196 أن المطلقة طلاقا رجعيا لو خرجت من بيت عدتها دون عذر ولا رضى زوجها فإن حقها في النفقة باق ويسقط حقها في السكنى.
هذه الأحكام المستنبطة تتنافى مع فلسفة الاستمتاع التي تبناها جانب الفقه وكذا المادة 194 من المدونة، ولهذا فإن الموقف التشريعي الذي تبنته هذه المادة أي 194 يتناقض مع مقتضيات المواد السالفة الذكر (49-195-196).
خاتمة:
بعد هذا العرض نخلص إلى أن مسألة النفقة الزوجية مبنية على التراضي التام بين الطرفين، مع ضرورة مراعاة أحوال الزوج لا دخله، فإن كان فقيرا لم يجب عليه إلا ما يقدر عليه وإن كان غنيا تجب عليه نفقة الغني، وهذا ما تؤيده النصوص الشرعية الصريحة التي سبق ذكرها.
ينبغي إعادة النظر في مسألة إلزام الزوج بالنفقة في جميع الأحوال التي تكون عليها الزوجة مع التأكيد على ضرورة قيام هذه الأخيرة بخدمة زوجها حتى تستقيم الحياة، خصوصا وأن عمل البيت لم يعد متعبا كما كان سابقا، (نظرا لصغر مسافة الشقق، توافر آلات المطبخ الاوتوماتيكية…الخ).
ولكي لا يتزايد عزوف الشباب عن الزواج ورغبتهم عنه، ينبغي إعادة النظر في النصوص المنظمة للنفقة.
(محاماه نت)