دراسات قانونية
نسب الطفل بين مدونة الأسرة والمواثيق الدولية (بحث قانوني)
نسب الطفل بين مدونة الأسرة والمواثيق الدولية
إعداد الباحثة: نعمة بوتخريط
حاصلة على شهادة الماستر في القانون الخاص
جامعة محمد الأول كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وجدة
تعتبر الأسرة النواة الأولى للمجتمع، فرقي هذا الأخير وحضارته لا يتحققان إلا بالاعتناء بالأسرة ورعايتها، والإنسان في الاعتبار الأول في أمس الحاجة إليها من حيث كونه يرغب في الاستقرار والسكينة والتساكن، قال تعالى: ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)[1] .
لهذه الغاية أولتها الشريعة الإسلامية عناية خاصة، من حيث تنظيم أحكام الزواج والطلاق والوصية والميراث وكل ما له علاقة بالأسرة، رعيا لما لهذه الأخيرة من دور فعال في الإصلاح والبناء: بناء الإنسان والمجتمع، وهو ما أكده الدستور المغربي لسنة 2011[2] إذ نص في الفقرة الأولى من الفصل 32 منه على ما يلي:” الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع”. هذا ويشكل الأطفال ثمرة هذه الأسرة وشريحة مهمة داخل المجتمع، تستوجب منح الرعاية اللازمة لهم عبر تمكينهم من حقوقهم.
موضوع هام للقراءة : رقم هيئة الابتزاز
لقد وقع الاهتمام بوضعية الطفل على مدى عصور التحضر البشري باعتباره الطرف الأضعف في تركيبة النواة الأولى لكل تجمع بشري، وباعتباره رجل وامرأة الأجيال المستقبلية. الأمر الذي جعله يحتل مركزا مهما في مختلف القوانين الوطنية والتي غالبا ما تتخذ من المواثيق الدولية مرجعا لها، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 دجنبر 1948[3] أكد في الفقرة الثانية من المادة 25 منه، على ضرورة منح الأمومة والطفولة حقا في رعاية ومساعدة خاصتين، وقبله كان إعلان جنيف لحقوق الطفل سنة 1924[4]،الذي أكد بدوره على واجب إيلاء الطفل المكانة المتميزة، عبر حمل الإنسانية في جميع أنحاء العالم على أن تقدم للطفل خير ما عندها، بعيدا عن كل اعتبار بسبب الجنس أو الجنسية أو الدين. وهي مقتضيات لا تختلف في أغلبها عما جاءت به شريعتنا الإسلامية في الحفاظ على حياة الطفل وهويته وتعليمه وتأديبه ورعايته، وهو ما عملت مدونة الأسرة[5] على تحقيقه أيضا من خلال جملة من المقتضيات، سواء من خلال المادة 54 التي عددت الحقوق الواجبة للأبناء على آبائهم، أو من خلال جعل النيابة العامة طرفا أصليا في كل القضايا المتعلقة بالأسرة.[6]
لقد حظي الطفل بعناية متميزة من طرف المشرع المغربي الذي سن أحكاما خاصة به في مختلف فروع القانون ومنها المقتضيات القانونية المتعلقة بحق الطفل في حماية هويته، والتي نجدها موزعة بين مدونة الأسرة وقانون الحالة المدنية[7] وقانون الجنسية[8] وكذا القانون الجنائي[9]، كما أن دستور 2011 كرس هذا الحق وارتقى به إلى مصاف الحقوق الدستورية، حيث ينص الفصل 31 منه على أن الدولة و المؤسسات العمومية والجماعات الترابية تعمل على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة من الحق في التنشئة على التشبث بالهوية المغربية والثوابت الوطنية الراسخة.
وتماشيا مع التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الطفل، عمل المشرع المغربي على تضمين ترسانته القانونية مقتضيات هامة متعلقة بحق الطفل في حفظ وحماية هويته[10]،وذلك من أجل الملاءمة مع المادة 7 من اتفاقية حقوق الطفل ل 20 نونبر 1989[11]، التي نصت على ما يلي: “يسجل الطفل بعد ولادته فورا ويكون له الحق منذ ولادته في الاسم والحق في اكتساب جنسية، ويكون له قدر الإمكان
الحق في معرفة والديه وتلقي رعايتهما”. وانسجاما مع أحكام هذه المادة نجد الفقرتين الثانية
والثالثة من المادة 54 من مدونة الأسرة المغربية قد تضمنت هذه المقتضيات حيث تنص على أنه” للأطفال على أبويهم الحقوق التالية:
– العمل على تثبيت هويتهم والحفاظ عليها خاصة، بالنسبة للاسم والجنسية والتسجيل في الحالة المدنية.
– النسب…….”.
لا شك أن موضوع النسب يحظى بأهمية بالغة لدى الأمم كافة باعتباره ثمرة ميثاق غليظ ألا
وهو عقد الزواج، يقول تعالى: ( وأخذن منكم ميثاقا غليظا)[12]. من أجل ذلك عني الإسلام أيما عناية بتنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة ضمانا لحماية الأنساب،وجعلها مبنية على أصول شرعية، ومن مظاهر عناية الإسلام بالنسب أيضا أنه بالغ في التهديد للآباء والأمهات حين يقدمون على إنكار نسب أولادهم، قال رسول الله (ص): ” أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين”[13].
إن أهمية البحث في موضوع “نسب الطفل بين مدونة الأسرة والمواثيق الدولية” تنبع من المحور الأول الذي تدور حوله وهو الطفل الذي يشكل مستقبل الأمة، كما تزداد الأهمية من خلال تناول المحور الثاني وهو المواثيق الدولية التي اكتسبت صفة الإلزام للدول التي وقعت وصادقت عليها، حيث يصير لزاما على هذه الدول تغيير قوانينها الداخلية كي تنسجم مع تلك المواثيق الدولية ولا تتعارض معها. فمما لاشك فيه أن موضوع النسب من الخطورة بمكان، لما يترتب عليه من نتائج خطيرة تؤثر على المجتمع وعلى العلاقات الاجتماعية فيه وبالتالي تماسك المجتمع وتفككه.
تبرز أهمية الموضوع أيضا بالنظر لتعدد القوانين التي تضمنت مقتضيات خاصة بنسب الطفل، ليس فقط في مدونة الأسرة أو المواثيق الدولية، وإنما أيضا في قانون الحالة المدنية الذي أكد على إجبارية تسجيل الطفل في الحالة المدنية وذلك في المادة الثالثة التي جاء فيها:” يخضع لنظام الحالة المدنية بصفة إلزامية جميع المغاربة، كما يسري نفس النظام على الأجانب بالنسبة للولادات والوفيات التي تقع فوق التراب الوطني”. والتسجيل في الحالة المدنية كحق من حقوق الطفل، لم يجعله المشرع المغربي قاصرا على الطفل الشرعي المعلوم جهة انتسابه، بل مدده حتى بالنسبة للطفل المجهول الأبوين أو أحدهما،وأكد على أن التصريح بكل ولادة يجب أن يقع داخل أجل ثلاثين يوما ابتداء من تاريخ وقوع الولادة، بل إن المشرع المغربي أوجد مقتضيات جنائية توجب التصريح بازدياد وليد تحت طائلة العقاب الجنائي طبقا للفصل 468 من القانون الجنائي. هذا من جهة، من جهة أخرى فقد حرص المشرع المغربي من خلال قانون الجنسية[14] على التأكيد أن رابطة الدم من طرف الأب أو الأم هي أساس ثبوت الجنسية الأصلية لولد ينتسب لأب مغربي أو أم مغربية سواء ولد في المغرب أو خارجه، وسميت هذه الحالة بالنسب لاقتصارها على الولد الشرعي، حيث لإضفاء الجنسية على المنتسب لأب مغربي يجب استيفاء شرط الشرعية وفق مدونة الأسرة، في حين يبرز نوع ثاني من رابطة الدم وهي الانتساب لأم مغربية أو ما يسمى بالبنوة، وفي الاصطلاح القانوني فمفهوم البنوة واسع الدلالة بالمقارنة مع النسب لحماية الأطفال من البقاء دون جنسية.
إضافة إلى ما سبق فإن أهمية الموضوع تبرز أساسا من خلال الوقوف على مكانة المواثيق الدولية في إطار التشريع الوطني، ولعل الشيء الجديد في هذا الصدد هو الدستور المغربي ل29 يوليوز 2011 وما حمله في طياته من مستجدات تشريعية، تهم المواثيق الدولية في جانبها الخاص بسموها على التشريعات الوطنية، هنا يطرح التساؤل عن مدى ملاءمة وتماشي هذه المواثيق مع الخصوصية الحضارية والهوية والثقافة الأصيلة للمجتمع المغربي، خصوصا في موضوع خطير كموضوع النسب الذي يكتسي من الأهمية والتعقيد الشيء الكثير.
إذ يبرز في هذا الإطار موقفان اثنان: الأول يدافع على مشروعية الدول على ملاءمة المواثيق الدولية بشكل لا يتعارض مع الثوابت الوطنية والدينية والسيادية للدولة، والمنصوص عليها في دستورها بشكل يحفظ خصوصياتها و توجه ثاني يدعو إلى سمو المرجعية الدولية لحقوق الإنسان على باقي الدساتير والقوانين الوطنية، ويدافع بشدة على سمو المرجعية الدولية على القوانين الوطنية، وملاءمة التشريعات الوطنية مع كل الاتفاقيات الدولية بغض النظر عن مدى تعارضها مع الثوابت الوطنية والمرجعية الإسلامية، ويدعو إلى ضرورة ملاءمة التشريعات الوطنية مع كل الاتفاقيات والمواثيق الدولية بل ورفع التحفظات على هذه الاتفاقيات[15].
إجمالا يمكن القول أن المغرب ظل حريصا على الانخراط في المنظومة الكونية لحقوق الإنسان من خلال مصادقته وانضمامه للعديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية، مؤكدا في الوقت ذاته تمسك المملكة المغربية بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، إذ ورد في تصدير دستور 2011 ما يلي: ” وإدراكا منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به على الصعيد الدولي، فإن المملكة المغربية العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا”.
بالرجوع إلى أحكام الدساتير السابقة، نستخلص أن المشرع المغربي قد تجنب التنصيص على أي مقتضى صريح يمكن أن يكرس سمو الاتفاقيات الدولية على القوانين الداخلية، وهو ما جعل الدساتير المغربية السابقة تصنف ضمن الدساتير الصامتة أو المبهمة بخصوص العلاقة بين الاتفاقيات الدولية والتشريع الداخلي.
بخلاف هذا النوع من الدساتير، هناك دساتير واضحة في هذا الاتجاه تقول بعلو القانون الدولي على الدستور الوطني، كالدستور الفرنسي الذي منح أسبقية للمعاهدات الدولية المصادق عليها من طرف البرلمان على القوانين العادية الصادرة عن هذا الأخير[16].
ولأول مرة يتم التنصيص صراحة في دستور 2011 على سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية، وهكذا ورد في التصدير على ” جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة”.
ارتباطا بما سبق ذكره مع موضوع “نسب الطفل بين مدونة الأسرة والمواثيق الدولية” يمكن القول أن أغلب المواثيق التي تمكنا من الاطلاع عليها أجمعت على ضرورة منح الطفل الحق في أن يكون له اسم وتسجيله فور ولادته، بدءا بإعلان حقوق الطفل الصادر في 20 نوفمبر 1959[17] الذي أكد في المبدأ الثالث منه على أن “للطفل منذ مولده حق في أن يكون له اسم وجنسية”، ثم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية سنة 1966[18] والذي نص في الفقرة الثانية من المادة 4 على ما يلي:” يتوجب تسجيل كل طفل فور ولادته ويعطى اسما يعرف به”، نفس المقتضى تضمنته اتفاقية حقوق الطفل المعتمدة من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 نوفمبر 1989 والمصادق عليها من قبل المغرب سنة 1993 حيث نصت في المادة 7 في فقرتها الأولى على أنه:” يسجل الطفل بعد ولادته فورا ويكون له الحق منذ ولادته في اسم والحق في اكتساب جنسية، ويكون له قدر الإمكان الحق في معرفة والديه وتلقي رعايتهما”. هذا من جهة، من جهة أخرى أكدت المواثيق السابقة على ضرورة إيلاء الطفل العناية اللازمة وضرورة تمكينه من جميع حقوقه على قدم المساواة دون أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو النسب أو أي وضع آخر يكون له أو لأسرته، هذا المبدأ تم التنصيص عليه في المادة 4( الفقرة 1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والمبدأ الأول من إعلان حقوق الطفل، والمادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ل10 دجنبر 1948 والمادة الثانية من اتفاقية حقوق الطفل.
بالرجوع إلى الفصل 32 من دستور 2011، نجده يؤكد في فقرته الثالثة على ضرورة توفير الحماية القانونية والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال بكيفية متساوية بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية، إلا أن هذا لا يحول دون التأكيد على وجود بعض أوجه الاختلاف بين التشريع الوطني والمواثيق الدولية، سيما في الجانب المتعلق بالمساواة في الحقوق لجميع الأطفال دون اعتبار للنسب، فالطفل الشرعي وغير الشرعي متساويان في جميع الحقوق وما يترتب عليها من آثار بما في ذلك الحق في الإرث، مثل هذا المقتضى لا يؤخذ به في إطار القانون المغربي، فمدونة الأسرة حددت أسباب لحوق النسب في المادة 152 في :
1-الفراش
2-الإقرار
3-الشبهة
أما المادة 158 من ذات المدونة فقد حددت وسائل إثبات النسب بالفراش أو بإقرار الأب، أو بشهادة عدلين، أو ببينة السماع، وبكل الوسائل الأخرى المقررة شرعا بما في ذلك الخبرة القضائية”، الأمر الذي يفهم منه أنه في حالة عجز أحد الطرفين الأب أو الأم أو هما معا عن إثبات نسبهما للطفل فإن النسب لا يلحق بهذا الأخير.
من هنا تبرز أولى الإشكالات:
– ما موقع المواثيق الدولية في الدستور المغربي؟ وإلى أي حد استجاب لمطالب الهيئات الحقوقية والمنظمات الدولية في جعل حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا تسمو على القوانين الوطنية دون استثناء؟
إذا كنا لا ننكر حرص المشرع المغربي من خلال المستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة على توفير كافة الضمانات الحمائية للطفل خصوصا في الجانب المتعلق منها بضمان حقه في النسب، عبر مجموعة من المقتضيات التي حاول من خلالها حماية مصلحة الطفل وحقوقه المشروعة في التعرف على أبويه وفي حمل اسم عائلي أسوة بغيره، للتقليص من حالات أطفال الشوارع ورفعا للمعاناة والحرمان عن هذه الشريحة، فإن دراستنا المتواضعة لهذه المقتضيات حملتنا على القول بوجود إشكالات عديدة ليس فقط على مستوى ملاءمة المواثيق الدولية مع القانون الوطني، وإنما أيضا من خلال جملة من المقتضيات المتعلقة بالنسب التي تحمل في طياتها تناقضا واضحا مع نصوص المدونة ذاتها، وتطرح صعوبات جمة على مستوى العمل القضائي المغربي. تتجلى أبرزها في المادة 156 من المدونة التي تعتبر مستجدا تشريعيا حسمت الجدل المحتدم فقهيا وقضائيا حول النسب الناتج عن الخطبة، وكرست حق الطفل المزداد في فترة الخطبة في نسبه لأبيه الخاطب، وإن كانت مدونة الأحوال الشخصية الملغاة لم تتطرق لإمكانية لحوق الحمل الناتج عن الخطبة.
تنص المادة 156 من المدونة على ما يلي: “إذا تمت الخطوبة وحصل الإيجاب والقبول وحالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج وظهر حمل بالمخطوبة، ينسب للخاطب للشبهة إذا توفرت الشروط التالية:
أ- إذا اشتهرت الخطبة بين أسرتيهما، ووافق ولي الزوجة عليها عند الاقتضاء.
ب-إذا تبين أن المخطوبة حملت أثناء الخطبة.
ج-إذا أقر الخطيبان أن الحمل منهما.
تتم معاينة هذه الشروط بمقرر قضائي غير قابل للطعن.
إذا أنكر الخاطب أن يكون ذلك الحمل منه أمكن اللجوء إلى جميع الوسائل الشرعية في إثبات النسب”.
إن أول ملاحظة يمكن أن تتراءى في هذا الموضوع أن هذه المادة فضفاضة اعتراها الغموض والاضطراب.والحقيقة أن المادة 156 من المدونة لا تختلف في شيء عن أحكام عقد الزواج الصحيح، ذلك أن لثبوت النسب للخاطب يجب توافر عنصرين هما الإيجاب والقبول مع العلم أنهما ركنان في عقد الزواج، وكذا اشتهار الخطبة وموافقة ولي الزوجة وهما شرطي صحة إذ لا ينقص الخطبة والحالة هذه إلا تسمية الصداق والتوثيق لدى عدلين، لذلك كانت صياغة المادة المذكورة فيها نوع من التداخل في بعض محتوياتها مع بعض مواد المدونة.
تجدر الإشارة في هذا الصدد أن أهم المذاهب الإسلامية أجمعت على أن الخطبة وعد بالزواج غير ملزم وأن الوعد ليس له قوة العقد إطلاقا، فجمهور المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية يعارضون مسألة إلحاق الولد بالخاطب ويعتبرونه ولدا غير شرعي، ويستدلون في هذا الصدد بحديث الرسول الأكرم(ص): ” الولد للفراش وللعاهر الحجر”[19]. وبالتالي فالشريعة الإسلامية كانت قاطعة عندما وضعت ضوابط لثبوت النسب لا يجوز الخروج عليها ولا التنازل عنها ولا الاتفاق على مخالفتها، وما مؤسسة الزواج إلا الحصن الحصين لذلك، وقد تأثرت مدونة الأحوال الشخصية الملغاة بالفقه الإسلامي في موضوع إثبات النسب الناتج عن الخطبة والذي كان يقسم البنوة إلى شرعية وغير شرعية، وهذا ما يستشف من المادة 83 منها التي اعتبرت أن البنوة الشرعية هي التي يتبع الولد فيها أباه في الدين والنسب ويبنى عليها الميراث وينتج عنها موانع الزواج ويترتب عليها حقوق وواجبات الآباء والأبناء، والبنوة غير الشرعية ملغاة بالنسبة للأب فلا يترتب عليها شيء من ذلك إطلاقا، وهي بالنسبة للأم كالشرعية لأنه ولدها.
إلا أن المشرع المغربي استجابة منه للتحولات العميقة التي مست كيان المجتمع المغربي وغيرت العديد من مسلماته وثوابته، وكذا حرصه على عدم حرمان الطفل من النسب الذي يعد من حقوقه الأساسية،وبالتالي تفادي المس بهويته وضياعه بوجه أو بآخر كانت إحدى الدوافع التي فرضت عليه سن مقتضيات المادة 156 من المدونة التي من شأنها الحد نوعا ما من أطفال الشوارع الذين يشكلون نسبة مهمة داخل المجتمع المغربي.
بالرجوع إلى تصدير الدستور نجد بأن الدستور يربط بين سمو الاتفاقيات الدولية في حالة عدم تعارضها مع أحكام الدستور وقوانين المملكة والهوية الوطنية،وهو ما يفيد أن تقيد المملكة المغربية بتنفيذ التزاماتها الدولية والتي تشكل الاتفاقيات والمواثيق الدولية المصادق عليها جزءا منها، مقترن وجوبا بعدم تعارضها مع أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، خصوصا إذا استحضرنا الفصل 55 من دستور 2011 الذي يؤكد على وجوب مصادقة المحكمة الدستورية على أي التزام دولي يتضمن ما من شأنه أن يمس بالمقتضيات الدستورية[20].
ختاما يمكن القول أن المستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة سيما فيما يتعلق بالنسب كانت استجابة للتحولات التي مست كيان المجتمع وغيرت العديد من مسلماته وثوابته القيمة، وملاءمة مع المواثيق الدولية في هذا الإطار، فقد كانت فلسفة المشرع واضحة وهي حماية الأنساب وحفظها من الضياع مما كان من الضروري التساهل والبحث عن حلول كفيلة بالحد من ظاهرة أطفال الشوارع والأطفال المتخلى عنهم.
إن محاولة الملاءمة التي قام بها المشرع المغربي بين المرجعية المحلية والمرجعية الدولية لا تخفي في الحقيقة بعض أوجه التناقض بين المرجعيتين، خصوصا حين يتعلق الأمر بتشريعات الأحوال الشخصية التي هي من صميم الهوية الدينية للمغاربة داخل وخارج أرض الوطن، وحجم هذا التناقض لا يظهر في مواد مدونة الأسرة كلها بقدر ما يظهر في المادة 156 منها.وإن كان بعض الفقه الحداثي[21] يرى جواز إلحاق نسب الطفل بالخاطب لكون هذه المسألة اجتهادية بالأساس لعدم ورود نص قطعي فيها، ونظرا لتشوف الشارع الإسلامي للحوق الأنساب، وعلى إثر تغير أحوال الناس ولكون شريعة الإسلام خالدة وصالحة لجميع الأزمان، ولتفادي استفحال ظاهرة أطفال الشوارع.
لقد أكد جلالة الملك محمد السادس نصره الله في كلمته أمام اللجنة المعهود إليها أمر مراجعة مدونة الأحوال الشخصية، أن هذا القانون وإن كان مستمدا من الفقه الإسلامي إلا أنه كسائر القوانين الأخرى قابل للتعديل والتغيير طبقا لما تقتضيه المصلحة. إذ جاء في كلمة جلالته:
“وإننا لنحث هذه اللجنة الموقرة التي نحيطها بكامل رعايتنا أن تتحلى بأعلى درجات الوعي لمسؤولياتها الجسيمة في الحفاظ على مقاصد الشريعة الإسلامية ومحكم نصوصها، وأن تلتزم الموضوعية والفهم العميق لواقعنا الاجتماعي، وأن تنزل الأحكام منازلها من حيث الضرورة والمصلحة العامة التي حكمها الشرع في كثير من الأحكام، دون أن تتقيد باجتهاد سابق كان لع ما يبرره في زمنه وبيئته”.
(محاماه نت)