دراسات قانونية
أسس ترافع النيابة العامة في القانون (بحث قانوني)
أسس ترافع النيابة العامة في القانون المغربي
بقلم الطلبة الباحثين
رشيد عيدان
سالم بيكاس
مصطفى بحسيس
ماستر القانون المدني
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية
أكادير
مقدمة
موضوع هام للقراءة : رقم هيئة الابتزاز
يعتبر القضاء في خصومات الناس من أدق الأمور وأشقها لأن القاضي كإنسان ليس معصوماً من الخطأ كما أن الحقيقة لا تخرج عن بئرها – عارية كما يصفونها – لكل من يطلبها، بل هي في حاجة لجهود مستمرة وتوسلات وصلوات حارة والتماسات ورجاوات . لذلك كان المتهم البريء الذي يقدم للمحكمة – لظروف سيئة أحاطت به – معذوراً إذا هو خشي أن لا تظهر براءته من تلقاء نفسها أمام القاضي .ومن هنا جاءت فكرة المرافعة كضرورة لإظهار الحقيقة وللدفاع عنها ضد الكذب والافتراء وللانتصار للحق على الباطل وللفضيلة ضد الرذيلة.
وتختلف المرافعات أمام المحاكم بين مرافعات الدفاع وبين مرافعات النيابة العامة.،فهذه الأخيرة تمثل المجتمع أمام القضاء،وتدافع عن مصالحه،وترافع باسمه،وتختلف عن المحامي في كون هذا الأخير ينوب عن “الخاصة”. أما جهاز النيابة العامة فينوب عن “العامة”. ولأجل ذلك سمي ممثلو الحق العام ب”المحامون العامون” كما أن القانون أعطى لها حق المرافعة باسم المجتمع وسميت بالقضاء الجالس.
إذن ماهي المرافعة؟ ماهي أحكامها وأسسها؟ وماهي أسس مرافعات النيابة العامة؟ وماهي بعض الإشكالات التي يطرحها ترافع النيابة العامة في الواقع العملي؟
ولمقاربة هذه الإشكاليات سنقارب الموضوع من خلال التصميم الآتي:
المبحث الأول: الأحكام العامة لفن المرافعة
المبحث الثاني: أسس المرافعة عند النيابة العامة
المبحث الأول: النيابة العامة وأحكام الترافع
قبل الحديث عن الأحكام والأسس العامة لفن المرافعة (المطلب الثاني)، لابد من الوقوف عند ماهية النيابة العامة وأدوارها في الترافع باسم المجتمع (المطلب الأول).
المطلب الأول: ماهية النيابة العامة
الفقرة الأولى: مفهوم النيابة العامة وخصائصها
أولا: مفهوم النيابة العامة
لقد اختلف الفقه حول تحديد حول مفهوم النيابة العامة، فمنهم من يربطها بالسلطة التنفيذية وذلك لقيامها بتحريك الدعوى العمومية حول كافة الجرائم. ومنهم من يعتبرها سلطة قضائية لأن من يباشر مهامها تابع للقضاء. وهناك اتجاه ثالث يراها سلطة لا تخضع لأي سلطة من السلطات الثلاث.
وعموما الرأي الغالب يرى أن إن النيابة العامة جهاز قضائي يمثل المجتمع أمام القضاء وتدافع عن مصالحه، وتتكلم باسمه، فالنيابة العامة ما هي في نهاية المطاف إلا محام في ثوب قاض[1].
ثانيا:خصائص النيابة العامة
يتعدد المترافعون في القانون المغربي ويختلفون حسب أنواع المحاكم والقضايا من المدعي إلى المدعى عليه، إلى المفوض الملكي[2] والطرف المدني والمسؤول المدني إلى النيابة العامة، هذه الأخيرة التي يبدو دورها أكثر وضوحا وحضورا في المادة الزجرية كما لا يمكن ذكرها دون استحضار المبادئ التالية:
– وحدة النيابة العامة: فهي تشكل هيئة واحدة غير قابلة للتجزئة .فلا فرق بين أن يباشر إجراء من إجراءات الدعوة وكيل الملك أو الوكيل العام للملك شخصيا أو نائب من نوابهما،
سواء في حضور الجلسات أو في استنطاق المتهمين أو ممارسة طرق الطعن ،بل إن الإجراء الذي يبدِؤه عضو من أعضاء النيابة العامة لا يمنع القانون عضو آخر من إتمامه.
– استقلالية النيابة العامة: يتمتع أعضاء النيابة العامة بقدر من الاستقلال تجاه المحكمة من ناحية ،إذ لا يسوغ لها أن توجه إليهم ملاحظات أو أوامر أو انتقادات ومن ناحية ثانية إزاء الخصوم بحيث لا يحق لهم مثلا مطالبتها بتعويض عن الضرر الذي يلحقهم جراء ادعائها[3].
– عدم مسؤولية النيابة العامة: أي أن النيابة العامة يكون لها كامل الحرية لإبداء ملتمساتها أو مستنتجاتها أثناء المرافعات بتوقيع العقوبات أو تشديدها أو تخفيضها بحسب الأحوال.
– خضوع النيابة العامة لتسلسل السلطة: :فكل عضو من أعضاء النيابة العامة مرؤوس خاضع لرئيس الهيئة التي يتبعها في حدود الدائرة القضائية التي تختص بها هذه الهيئة.إذ نجد وزير العدل كرئيس للنيابة العامة يوجد على رأس الهرم ويعد الرئيس الأول لقضاة النيابة العامة الذين يعملون تحت سلطته[4]. فالتبعية هنا تقتصر على التقييد بالتعليمات الكتابية دون الملاحظات الشفوية التي تبقى النيابة العامة حرة في إبدائها أثناء الجلسة و التي يعبر عنها بالمقولة الفقهية ‘’ اللسان حر والقلم أسير’’
الفقرة الثانية: اختصاصات النيابة العامة
يختلف تدخل النيابة العامة من قضية إلى أخرى فتارة تتدخل كطرف منضم وتارة أخرى تتدخل كطرف رئيسي.
*حالات التدخل كطرف منضم:
تتدخل النيابة العامة كقاعدة أصلية في المادة المدنية كطرف منضم[5] وتمثل الأغيار في جميع القضايا:
-التي يأمر القانون بتبليغها إليها وهي واردة على سبيل الحصر في الفصل 9 من قانون المسطرة المدنية – المعدل والمتمم بمقتضى قانون 03-72[6].
– تلك التي تطلب هي التدخل فيها بعد الاطلاع على الملف متى وجدت أن انضمامها يعد ضروريا.
– كما تتدخل عندما تحال عليها القضية تلقائيا من المحكمة
ومن الآثار المترتبة عن التدخل الانضمامي للنيابة العامة:
-لا يحق لها الطعن في الأحكام الصادرة ولكن يمكن أن تبدي مستنتجاتها.
– يجوز تجريحها كما يجرح قضاة الأحكام.
– حضورها يعد إلزاميا طبقا للمادة 9 من قانون المسطرة المدنية.
*حالات تدخل النيابة العامة كطرف رئيسي[7].
تمارس النيابة العامة الدعوة المدنية في حالات متفرقة بمقتضى مجموعة من النصوص في قانون المسطرة المدنية على سبيل المثال:
التصريحات القضائية المتعلقة بالحالة المدنية وتصحيح وثائقها[8] وأهلية الدولة للإرث [9] وحل الجمعيات[10].
ويترتب عن تدخل النيابة العامة الآثار التالية:
-إلزامية حضورها الجلسات
-عدم جواز تجريحها من قبل الخصوم.
-أحقيتها في الطعن ضد الأحكام والقرارات القضائية بجميع طرق الطعن إلا التعرض نظرا لحضورها الجلسات.
المطلب الثاني: ماهية المرافعة وبناؤها
الفقرة الأولى: تعريف المرافعة وتطورها
أولا: تعريف المرافعة:
1- المرافعة في اللغة:
مصدر على وزن مُفـَاعَلـَة، وأصلها ثلاثي على وزن رَفَعَ يقال رفع فلاناً إلى الحاكم رفعاً ورِفعاناً أي قدمه إليه ليحاكمه[11]. ولقد جاء في القاموس المحيط للفيروزأبادي قوله: رافعه إلى الحاكم أي شكاه إليه ويقال أيضاً ترافعا إلى الحاكم تحاكما لديه، وترافع المحامي عن المتهم أمام القضاء أي دافع عنه بالحجة، ولقد ورد تعريف المرافعة بأنها ” الأقوال الشفوية التي يبديها الخصوم أو وكلاؤهم في جلسات القضاء
2-المرافعة اصطلاحا
تعريف المرافعة عند “ديكر سنيير”:
” التعبير الذي يضفى على واقعة النزاع ما ينير للقاضي طريق العدالة ويمكنه من إصدار حكمه على أساس سليم “.-ويضيــــف : “أن المرافعة تثير في القاضي من العوامل ما يجعلها تأخذ الألباب وتستقر في الأعماق فهي همزة الوصل بين الحقيقة الماثلة والعدالة المنشودة “.
ومن ذلك أيضا أن “المرافعة هي شرح لوجهة نظر أساسها نزاع شاجر ينتهي إلى حل يتفق والحقيقة القانونية الماثلة “.
وعموما، هي:” خطاب يلقيه صاحب الحق أو وكيله بحضرة القاضي ليقضي له به، مجسداً بالعرض لوقائع الدعوى حسب ما خلص إليها ومفنداً ما يثار في الدعوى المعروضة من دفوع بالحجة البينة والاستدلال المنطقي مستخدماً قوة البيان ومحتكماً إلى الحق والصدق والقانون في وسيلته وهدفه، ومتفاعلاً مع ما يستجد في الدعوى أثناء عرضها على المحكمة، ومختتماً بالمطالبة بما يراه حق له أو بإنزال الموجب القانوني على المتهم سواء بالإدانة أم بالبراءة [12]
وهذا التعريف ينطبق على مرافعات المحامي، أما مرافعة النيابة العامة فهي ترافع تقوم به النيابة العامة بشرح أدلة الاتهام وسرد ظروف الدعوى وتنبيه المحكمة إلى مواطن الشدة أو الرأفة في القضية كما عرفها المحامي يسف وهابي بكونها” إدعاء شفوي عن حق عام”[13]
ثانيا: تاريخ تطور المرافعة
عُرفت المرافعات القضائية منذ عصور قديمة جداً، فلقد اشتهر بها البابليون والكلدانيون والفرس، وعرفها اليهود على زمن موسى عليه السلام، كما عرفها الإغريق واعتبروها من أسمى المهن ولا يتولاها منهم غير الشرفاء. وكذلك عند الرومان فقد بلغ من شأن المرافعة كفن من فنون الخطابة عندهم أن جعلوها المؤهل لتولي رئاسة الجمهورية، وعُرف منهم أقطاب في المرافعة مثل شيشرون ويوليوس قيصر وغيرهم ولقد تلقفها الغربيون وعلى رأسهم الفرنسيين في العصور الوسطى وبرعوا فيها أمثال رويير وباربو
أما عن المرافعة عند العرب، ففي الجاهلية كان يمكن للمتخاصمين أن يكلفوا شفهياً من يشاؤون لتمثيلهم أمام من يمارس القضاء سواء كان شيخاً أو ملكاً أو حكماً. وكان هؤلاء الوكلاء يعرضون قضية موكلهم بفصاحة وبلاغة فـَدُعوا (حُجَّاج) أي أقوياء الحجة،ولم تكن هذه المرافعة بالمعنى القانوني المعروف اليوم.
أما في ظل الإسلام فلم تتضح معالمٌ لمرافعات قضائية في التراث الإسلامي رغم أن البيان العربي مؤهل كل التأهيل للبلاغة القضائية. ورغم أن العرب في ظل الإسلام استفادوا من علوم الإغريق والرومان في الفلسفة والطب وغيرها من العلوم! إلا أن مفهوم المرافعة كان حاضرا، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته[14] من بعض،
فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما اقتطع له قطعة من النار” [15]
الفقرة الثانية: بناء المرافعة
إن الترافع في حرم القضاء لا يمكنه أن ينضبط إلا بتوافر بعض العناصر الأساسية؛ ذلك أن ممثل الحق العام مفترض فيه أن يكون ملما بموضوع القضية، ومستجمعا لحيثياتها، وهو حر في إلقاء ترافعه، فقد يرتجل الكلام، ويستند إلى نصوص القانون تارة، وبعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية تارة أخرى، وقد يستعين بعلوم أخرى، وقد يقرأ من الأوراق المعدة مسبقا لهذا الغرض.
إن الضابط الحاكم لتدخل القاضي الواقف هو إحاطة الحق العام بالرعاية اللازمة، وتقدير توكيل المجتمع له لتحقيق الأمن العام، وهو في ذلك يبحث وراء الحقيقة العارية بغير تنميق في العبارات، أو استعانة بالألفاظ الجوفاء.
وعموما، فالترافع يتطلب عناصرَ محددةً نوردها كالآتي:
افتتاح الترافع:
يجب افتتاح الترافع بمقدمة مثيرة وبشيء يثير الانتباه في الحال، والخطيب الذي يتمتع بالذكاء والفطنة يحفظ المقدمة أولا والتي يُستحسن أن تكون قصيرة ومفيدة من حيث المعنى والمضمونُ، لأن ذلك يتطابق مع مزاج القاضي في هذا العصر الذي يجب أن يستخلص الحقائق[16].
إن مقدمة الترافع تتطلب بلاغة معتدلة لا أثر فيها للتكلف ولا للتعلم، بل تفترض اعتدالا في الألفاظ، وقصدا في الإشارات، وتناسبا في الصوت، وابتعادا عن كل ما هو تمثيل.
وبقدر ما تكون الألفاظ سهلة بسيطة، تثمر ثمارها لأنها تدخل الأذن غير منتظرة الإذن كما يقال، وذلك لأن عقل القاضي لا يشتغل بحل معقد اللفظ عن فهم الفكرة[17].
ومن نماذج مقدمات الترافع وقوف أحد المدعين في قضية قتل، وقال: “من المعلوم أمن المريض إذا أشرف على الهلاك أتوا له بأشهر الأطباء، وأعلمِهم، وأغزرِهم. وبالتالي فحضور أساطين القانون مع المتهم دليل دامغ على إدانته، وعلى إشرافه على الهلاك”[18].
موضوع الترافع:
يفترض في المترافع سواء كان من جهة الدفاع أم ممثلا للحق العام أن يلتزم موضوع الترافع، وذلك بإتباع تركيب إنشائي، وتسلسل منطقي وفق حيثيات نازلة الحال.
ويجب ألا يبحث المترافع عن الكلمات، ولكن يبحث فقط عن الحقيقة، والفكرة عندئذ تدفق الكلمات دون أن تسعى إليها، ويلزم كذلك التزام الترابط والتناسق بين الأفكار حتى لا تضيع فكرة أو مبدأ الترافع.
ختام الترافع:
إن الخاتمة هي أكثر النقاط استراتيجية في فن الترافع، فما يقوله الإنسان في النهاية هو ما يبقى يرن في الآذان، وعالقا بالذهن.
ولأهميته، فإن الخطباء المشهورين يقرون بأنه من اللازم كتابة، وحفظ الكلمات المناسبة في الذهن، وقد تكون الخاتمة واضحةً مثل طلب براءة المتهم، أو الحكم عليه بأقصى العقوبة.
ومن أهم شروط الخاتمة ما يأتي:
-ألا تكون بعيدة عن الموضوع ولا مجدِّدة لأدلة أو آراء جديدة؛
-أن تكون قوية في تعبيرها وإلقائها؛
-أن تكون قصيرة وحاسمة.
ومن الأمثلة التي نسوقها في ختام المرافعات:
“أنتم قضاة الحق، وأيضا مربو الخُلق، وكلمة العدل التي بها تنطقون يتجاوب صداها في نفوس ناشئة ونفوس ثائرة، ونفوس فزعة حائرة فاجعلوا حكمكم رسالةَ عدل، وبلاغ عبرة، وبشرى سلام، فإذا جنحتم إلى الرحمة فاشملوا بها النشْءَ، وقد أوشك أن يلتوي والبلاد، وقد دب فيها ذلك الداء الوخيم”[19].
أنتم أطباء النفس كما أنكم قضاة العدل، والطبيب البصير لا يتردد ولا ينأى عند الضرورة الحاكمة والقضاء الحازم يهذب بالزجر الحكيم[20].
المطلب الثاني: بعض مبادئ الترافع
– ارتجال الترافع: جرت العادة على تقسيم الترافع إلى مقدمة أو تمهيد ثم عرض للموضوع يليه المناقشة، وهي لب المرافعة وجوهرها؛
– عدم إرهاق المحكمة: ما من محكمة تستطيع الإصغاء لرجل بانتباه أكثر من ساعة واحدة، فلا يكثرُ من الاستمرار في الكلام إذا كان ذلك من شأنه أن يرهق المحكمة، وهنا يجب على المرء أن يحرص على شرح النقاط الأساسية للقضية، فلا يحيد عنها. وبناءً عليه، فممثل الحق العام عليه أن يجعل المحكمة تشعر بأن المجتمع محظوظ لأنه اختاره نيابة عنه؛
– سعة الاطلاع: إن الترافع مهنة تحتاج إلى اطلاع واسع وإلمام بشتى العلوم والفنون لأن قوامها الحديث وسرد الحجج، وضرب الأمثال وتشويه ما هو سيء، وتفضيل ما هو حسن، وكل هذا لا يتأتى لمن يريد الظهور، والنجاح في هذا الفن إلا لمن كانت بضاعته وافرة غنية بمختلف القراءات. وأول ما يجب على المترافع أن يلم بها لغتُه، وعليه أن يتقن أساليبها، وتعابيرها، ويعرف شاردَها وواردَها، وأن يعودَ نفسَه على التعبير بها بما يمر به من أفكار. ولا مناص لممثل الحق العام في توخي الدقة، والعناية المطلوبتين.
المبحث الثاني: أسس المرافعات عند النيابة العامة
تحتل مرافعة النيابة العامة دورا هاما سواء في القضايا المدنية أو الزجرية باعتبارها جهاز أوكل له القانون مهمة الدفاع عن الصالح العام، فهي تهدف إلى توفير حماية أكبر للمجتمع ككل من خلال موجهة كل من سولت له نفسه الإضرار بمصالح الغير بالتماسها لهم الإدانة.
وتنفرد النيابة العامة ببعض الأسس الفنية للمرافعة تميزها عن الدفاع لأن هذا الأخير يدافع عن المصلحة الخاصة بخلاف النيابة العامة تدافع عن المصلحة العامة.
المطلب الثاني : مرافعات النيابة العامة في الواقع العملي
إن دورَ النيابة العامة في المسطرة الشفوية هو الأهم، فتدخلها يكون شفويا عن طريق الترافع، يكون الهدف منه توضيح المسطرة وظروف الاعتقال، والأفعال المرافقة للجريمة، غير أن ثمة تساؤل يطرح يتعلق بمبدأ “القلم المقيد واللسان الحر”، وهذا التساؤل مفاده هل النيابة العامة في ترافعها تبقى مقيدة بما هو مسطري أم يمكن لها أن تنحو إلى غير ذلك؟
الفقرة الأولى: أسس ترافع النيابة العامة في الدفوع الشكلية
جاء قانون المسطرة الجنائية بمجموعة من الإجراءات الشكلية واجبة الإتباع أمام المحاكم الزجرية، والهدف منها ضمان سير عمل هذه الأخيرة، إضافة إلى تبيان طرائق إنجاز المحاضر، والأشخاص المكلفين بها، وغيرها من الإجراءات الشكلية الدقيقة.
ويطرح التساؤل القانوني في هذا الصدد والمتمحور حول موقع النيابة العامة بين هذه الإجراءات الشكلية؟ وكذا ما هو الجزاء القانوني المنصوص عليه في قانون المسطرة الجنائية؟
تنص المادة 751 من قانون المسطرة الجنائية بما يأتي: “كل إجراء يأمر به القانون ولم يثبت إنجازه على الوجه القانوني يعد كأن لم ينجز …”
والتحليل القانوني لهذا الفصل يفيد كون الأشخاص المخاطبين بتطبيق مقتضيات المسطرة الجنائية يجب عليهم احترام جميع مقتضياتها بما فيها النيابة العامة والتي تسهر على التطبيق السليم للقوانين الإجرائية الزجرية،
وللإشارة فإن النيابة العامة تسير عمل الضابطة القضائية، وتعمل على تطبيق القانون أمام المحاكم الزجرية حسب ما هو منصوص عليه في المواد 36 – 37 – 38 – 39 و 40 من قانون المسطرة الجنائية.
والتساؤل الذي يطرح والمتعلق بدور النيابة العامة في حالة إثارة دفوعٍ شكلية متعلقة بإخلالاتِ المسطرة أمام المحكمة؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، نوضح أن الدفوع الشكلية تتم إثارتها قبل مناقشة الموضوع بمعنى قبل أي دفع في الموضوع، أو بعبارة أخرى قبل اعتبار القضية جاهزة للمناقشة من قِبل المحكمة، وغالبية الدفوع التي تثار من قبيل عدم احترام مدة الحراسة النظرية، أو عدم احترام مقتضيات المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية المتعلقة بالحق في التـزام الصمت أو خرق إجراءات التفتيش، والساعات المحددة لذلك، أو وجود حالة من حالات التلبس. كل هذه الدفوع تكون المحكمة ملزمة بها من الناحية القانونية للإجابة عنها باعتبارها من سطرت المتابعة وتبنت محضر الضابطة القضائية في جميع مقتضياته.
وتكون إجابة النيابة العامة على الدفوع عن طريق الترافع بمفهومه القانوني، وذلك ببيان أوجه الدفاع من لدن النيابة العامة وتفسير القانون وفق منظورها باعتبارها تمثل المجتمع، وتهدف إلى تحقيق الردع العام باعتبار الجريمة تمس استقرار المجتمع، إلا أنه تطرح مجموعة من التساؤلات حول اكتفاء النيابة العامة بملتمسات تهدف من خلالها برد الدفوع لعدم جديتها دون بسط ذلك قانونا، والذي تعمل المحاكم على تضمين هذا الملتمس في محضر الجلسة، وتضم هذه الدفوع إلى حين البث في الجوهر، إلا أن السبب في ذلك هو كثرة الملفات الجنحية والجنائية وتشابههما وكذا تشابه الدفوع الشكلية المثارة هو ما يجعل النيابة العامة تلتمس في بعض الحالات رد الدفوع إلا أنه من الناحية القانونية يجب أن يكون تدخل النيابة العامة بَنَّاءًا وهادفا، يكون المغزى منه تطبيق القانون واحترام الحريات.
الفقرة الثانية: أسس ترافع النيابة العامة في الموضوع
أفرد القانون المغربي وخاصة قانون المسطرة الجنائية مجموعة من المقتضيات تنظم تدخل النيابة العامة أثناء المحاكمة، وهو ما سنوضحه من خلال جملة من النقاط القانونية:
1- التطرق إلى صك المتابعة والجريمة المرتكبة: إن النيابة العامة هي الموكول إليها تطبيق المتابعة، وتحديد وضعية المتابَعين أمام المحاكم، هل في حالة اعتقال أم صراح، وتتابع النيابة العامة إما وفق فصول القانون الجنائي أو وفق النصوص الخاصة المجرمة، والمعاقبة للأفعال سواء بالعقوبات السالبة للحرية أم الغرامات أم كليهما، وتوضح النيابة العامة في تدخلها اسم الأفعال المرتكبة، والفصول التي تنطبق عليها ومدى اختصاص المحكمة في هذا الجانب سواء من حيث طبيعةُ القضية أهي جنائية أو جنحية، أو تابعة لاختصاص المحكمة العسكرية.
2- الوقائع وظروف النازلة: توضح النيابة العامة ظروف النازلة من خلال أول إجراء قامت به الضابطة القضائية في حالة وجود حالة التلبس أو من خلال الشكاية المقدمة وأطوار البحث التي رافقتها إضافة إلى الحجج التي وجهتها الضابطة إلى المتهم، ويكون هذا السرد للوقائع متناسقا من حيث الزمانُ ومنطقيا من حيث الفهمُ.
3- مدى انطباق وقائع النازلة مع المتابعة: يكون الهدف من شرط هذه النقطة هو التدخل الذي تقوم به النيابة العامة للتفسير ومدى انطباق الأفعال المقترفة من قِبل المتهم مع الفصول الخاصة للقانون الجنائي، وذلك بتبيان الأركان العامة للجريمة سواء القانونية أم المادية أم المعنوية، ومدى تلازمها مع الوقائع.
4- وجود ظروف التشديد من عدمه: لكل قضية ظروفُها وقد تكون هذه الظروف إما مشدِّدة أو مخفِّفة طبقا للقانون الجنائي المغربي، فالنيابة العامة تقوم بشرح هذه الظروف هل تتمثل في السوابق القضائية أو وجود حالة العود هل كان الأمر يتمثل في الدفاع الشرعي[21] وزمن الواقعة والظروف المادية لارتكابها وهل تشكل جناية أو جنحة، وللظروف الاجتماعية أيضا دخل في ارتكاب الفعل المجرم، وكذا الجانب المهني للمتهم، و تقوم النيابة العامة بتوضيح هذه الأمور كلِّها لأن دورَها ينصرف إلى الردع وليس إيقاع العقوبات القاسية على الأفراد.
5- المطالبة بتحقيق الردع العام في مواجهة المتهم: إن الهدف من العقوبة هو تحقيق الردع العام، وهذا هو الدور الذي وجدت من أجله النيابة العامة من خلال حماية إحساس الأفراد من وقع الجريمة ومحو آثارها في نفوس المواطنين عن طريق إيقاع العقوبات الملائمة والتي بدورها تكون سببا في تقويم سلوك المتهم، وإرجاعه إلى حالته العادية من أجل إدماجه في المجتمع والتعايش معه.
المطلب الثاني: إشكالات الترافع في الواقع العملي
هل صحيح أن المرافعة المغربية بدأت تضمحل وتفقد بريقها؟ إن أكثر ما يهدد الترافع في الواقع العملي، هو التقلص المستمر لدور المسطرة الشفوية لصالح المسطرة الكتابية. والمرافعة ترتبط بالمسطرة الشفوية وجودا وعدما إلى حد كبير خصوصا وأن وفي السنين الأخيرة شهد مجال المسطرة الشفوية تقلصا[22].
كما أن فن المرافعة أصبح يوما بعد يوم يفقد كثيرا من آدابه و أوصوله وفنونه كما يقول المحامي يوسف وهابي:”وأصبحت الكثير من المرافعات عبارة عن صراخ وعويل، وأداء ضحل هزيل، غاب فيه البيان وغابت فيه الفصاحة…”[23].
ومن هنا لا يمكن أن نعيد لهذا الفن مكانته داخل ساحات القضاء إلا من خلال العناية به وإعادة تلقين مبادئه وأصوله وفنونه وقواعده وأسسه، ولا يمكن أن يتأت ذلك إلا من خلال تلقين قضاة النيابة العامة لهذه القواعد وتخصيص دورات تكوينية مخصص لهذا الغرض وكذلك إدراج تكوينات في هذا المجال لطلبة المعهد العالي للقضاء.
ينضاف إلى هذه الإشكاليات مشكل تراكم الملفات في الجلسات التي تعقدها المحاكم دون تحديد السقف الأعلى لعدد الملفات المسموح بإدراجها في الجلسة الواحدة مما يفقد القضية حقها في الدراسة والمناقشة والترافع، مع ضرورة احترام قضاة الحكم لحقوق الدفاع العام في المرافعة[24].
ومن مظاهر الإشكالات التي يطرحا الواقع القضائي بشأن المرافعة في الدفوع الشكلية نجد:
– ظاهرة ضم الدفوع الشكلية إلى الجوهر، وذلك من خلال تأجيل البث في الدفوع الشكلية المثارة من قبل الدفاع إلى حين البث في الجوهر[25] رغم وضوح مقتضيات المادة 323 من ق.م.ج
– ظاهرة ندرة إثارة الدفوع الشكلية، حتى أصبح البعض يعتقد على أن هذه الدفوع لا تثار إلى في محاكمات الرأي أوالمحاكمات ذات الطابع السياسي، ومنهم من يجد فيها مجرد “نوع من المشاكسة الدفاعية الثقيلة التي يدعون لها بالهلاك”[26] .
-ظاهرة عدم الرد على الدفوع الشكلية، فكثير من الدفوع مايكون مصيرها الرفض أو عدم القبول كما أن الجواب الناقص يوازي عدم الرد في كثير من الأحوال[27].
خاتمة
إن التأثير المباشر للمرافعة في حقوق المتخاصمين، يفرض على ممثل الحق العام أن يتحلى بقدر كبير من الخبرة والمعرفة بأصول المرافعة ومبادئها. وذلك بالتركيز على نقاط النزاع التى تشكل أهمية بالغة في إبراز الحقيقة واحترام قواعد المرافعة وآدابها وتقاليدها وفنها، وأن يعمل على جودة المرافعة لأداء دورها داخل المنظومة القضائية وصولا لتحقيق العدالة بين الناس، وذالك دفاعا عن الحق العام.
*ومن بين ما يمكن أنؤاخذ به دور النيابة العامة -في بعض الحالات الإساثنائة الغير قابلة للتعميم- ما يلي:
– ترافع ممثل النيابة العام وهو جالس وهذا يتعارض مع مع التوصيف التي تنعت به: القضاء الواقف .
– تكبيل مجال المسطرة الشفوية في السنوات الأخيرة مقابل توسيع مجال المسطرة الشفوية.
– في غالب الأحيان أن ممثل النيابة العامة لا يدلي بأي متسنتجات حيث عندما يسأله قاضي الموضوع عن مستنتجاته في القضية/ يختزل ممثل الحق العام المرافعة في كلمة واحدة” الإدانة”.
– نلاحظ أن فن المرافعة أصبح يفقد يوما بعد يوم الكثير م آدابه وأصوله وتقاليده، وساهم في ذلك كثرة الملفات التي تعرض على المحاكم المدرجة في الجلسة الواحدة مما نتج عنه ضعف التجربة المغربية في تراكم إرث فقهي وتشريعي يميز فن المرافعة المغربية وينهل من عمق الخصوصية اللغوية والثقافية للمغرب ويختلف عن التجربة المشرقية في فن المرافعة.
ومن هنا فلابد:
– من التفكير الجدي في تجاوز مشكلة المرافعة والحد وذلك بإعادة الاعتبار لفن الترافع، ولن يتأت ذلك إلا بتلقين مبادئه وأصوله وقواعده لقضاة النيابة العامة وتخصيص دورات تكوينية لهدا الغرض.
– ضرورة إعادة النظر في الملفات المدرجة في كل جلسة بتحديد سقف أعلى لكل الملفات المسموح بإدراجها في الجلسة الواحدة .
– يجب على المشرع أن لا يكبل المسطرة الشفوية لما تلعبه من ادوار للترافع المباشر وذلك عن طريق التقليص من دور المساطر الكتابية لأنها تساهم في القضاء على فن المرافعة.
(محاماه نت)