دراسات قانونية

دور الشرطة القضائية في تكريس أصول المحاكمة العادلة (بحث قانوني)

دور الشرطة القضائية في تكريس أصول المحاكمة العادلة: البحث التمهيدي نموذجا

بوشعيب فهمي
باحث بكلية العلوم القانونية
و الاقتصادية و الاجتماعية
بأكدير

إن تقاطع الإجراءات الجنائية بفكرة حقوق الإنسان ليس بالأمر المستغرب. ذلك أن الهدف الأسمى لما نسميه الإجراءات الجنائية هو صيانة جملة من الحقوق التي أتت بها القوانين الوطنية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، من حيث كونه إنسان. فمنذ أن حرم الأفراد سلطة إقامة عدالة خاصة، حرم المجني عليه من حقه في الانتقام الفردي، أخذت الدولة على عاتقها الالتزام بتطبيق العدالة في المجتمع و حسن توزيعها على المواطنين، وهو التزام لا يمكن للدولة أن تفي به إذا لم تمكن الأفراد من الحقوق المقررة قانونا.
و الحق أن هذا التلاقي يخلق أوجه من التصادم و التعارض. على اعتبار أن التدابير الجنائية قد تعطل ممارسة الحقوق الأساسية للفرد بغية الحفاظ على كيان المجتمع و توقيه خطر الجريمة. فإلقاء القبض و الاعتقال و التفتيش و مراقبة المراسلات و الاتصالات الهاتفية إجراءات تمس بطائفة كبيرة من الحقوق الأساسية و هذا أمر لا محيد عنه لضمان الاستقرار الاجتماعي.

و في السياق ذاتهن يعد الحق في محاكمة العادلة من الحقوق الأساسية للإنسان، حيث توافق المجتمع الدولي مع مجموعة متنوعة من المعايير لضمان المحاكمة العادلة التي تهدف من جهة إلى محاكمة مرتكب الفعل على ما اقترفه بالتحديد، وفقا للضوابط القانونية. و من جهة جبر الأضرار المباشرة و غير المباشرة اللاحقة بضحايا الجريمة، و المحيط الاجتماعي بسبب الاضطراب و تصدع النظم الاجتماعية الذي تسبب فيه الفعل الإجرامي.
و تبعا لذلك، فقد تضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المؤرخ في 10 دجنبر 1948، تأكيدا للحق في المحاكمة العادلة، حيث تنص المادة العاشرة منه على ما يلي ” لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين الحق في أن تنظر قضية محكمة مستقلة و محايدة، نظرا منصفا و علنيا للفصل في حقوقه و التزاماته و في أية تهمة جزائية توجه إليه”.

موضوع هام للقراءة :  رقم هيئة الابتزاز

كما تضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية الحق في ضمان المحاكمة العادلة للأشخاص، و اعتبره معيارا من معاير القانون الدولي الإنساني. و يهدف إلى حماية الأشخاص من انتقاض حقوقهم الأساسية و حرمانهم منها بصورة غير قانونية أو تعسفية، و أهمها الحق في الحياة و الحرية. و نصت المادة 14 منه على أنه ” من حق كل فرد أن تكون قضيته محل نظر منصف و علني من قبل محكمة مختصة مستقلة و حيادية منشأة بحكم القانون”.

و مواكبة للمواثيق الدولية في مجال حقوق الإنسان، فقد تضمن الدستور المغربي سنة 2011 اعترافا كاملا للحريات العامة و الحقوق الفردية و من بينها الحق في المحاكمة العادلة.
غير أن القانون رقم 22.01 المتعلق بقانون المسطرة الجنائية لم يتضمن بشكل صريح النص على الحق في المحاكمة العادلة. و إن كان قد أورد مجموعة من التدابير الإجرائية هدف من خلالها تقرير هذا الحق وترسيخه طيلة أطوار التحقيق و المحاكمة، بل حتى أمام الشرطة القضائية خاصة في مرحلة البحث التمهيدي.
و تتجلى أهمية الموضوع المتمثل في ” دور الشرطة القضائية في تكريس ضمانات المحاكمة العادلة” في الارتباط البالغ بين حقوقه المشبوه فيه الذي تم إيقافه على ذمة التحريات التي تجريها الشرطة القضائية عندما يصل إلى علمها خبر وقوع جريمة، إما بناء على تعليمات النيابة العامة أو بمبادرة مباشرة. و واجب هذا الجهاز في ضمان التحرك الفعال لمحاصرة نتائج الفعل الإجرامي وردعه، و محو الأثر الاجتماعي للجريمة الذي يسببه بقاء مجرم في حالة فرار.

لذا نتساءل حول كيفية إيجاد هذا التوازن و الانسجام بين شيئين متعارضين بشكل يبرز من خلاله دور إيجابي لجهاز الشرطة القضائية في ضمان إجراءات المحاكمة العادلة و احترام الإجراءات القانونية المنصوص عليها في مرحلة البحث التمهيدي التي طالما كانت مطالب ملحة للهيئات الحقوقية الدولية و الوطنية المهتمة بمجال الحقوق الأساسية للإنسان.
و للإجابة على هاته الإشكالية، يتطلب الأمر تقسيم هذا البحث إلى مطلبين:
المطلب الأول: خصوصية الإجراءات الجنائية في مرحلة البحث التمهيدي.
المطلب الثاني: نجاعة الشرطة القضائية و واجب احترام مشروعية الإجراءات تعارض أم تكامل.

المطلب الأول: خصوصية الإجراءات الجنائية في مرحلة البحث التمهيدي
أوكل قانون المسطرة الجنائية للشرطة القضائية[1] صلاحية التثبت من وقوع الجرائم و جمع الأدلة عنها و البحث عن مرتكبيها[2]، و في سبيل هذه المهمة يتلقون الشكايات و الوشايات و يجرون بشأنها الأبحاث التمهيدية طبقا لما هو منصوص عليه في القانون[3]، و تسعى الشرطة القضائية من خلال مباشرة هذه التحريات إلى الوصول إلى الحقيقة و جمع الأدلة المادية للفعل الإجرامي، لذلك و صونا لحقوق الأفراد وضع المشرع إطارا قانونيا و تنظيميا يحدد مسار الأبحاث في الزمان والمكان و تكريسا لأهمية مرحلة ما قبل المحاكمة في قيام محاكمة عادلة، ذلك من خلال تقييد صلاحيات الشرطة القضائية في الحد من الحريات الفردية (الفقرة الأولى) و تأكيد الضمانات القانونية الممنوحة للأشخاص الموقوفين و الضحايا أثناء مرحلة البحث التمهيدي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تقييد صلاحيات الشرطة القضائية في الحد من الحريات الفردية
لم يعرف المشرع المغربي الشرطة القضائية، و اكتفى بالتعرض إلى أهميتها و الأعمال التي تطلع بها في الفصل 18 من ق.م.ج. و في هذا الصدد فأعمال هذا الجهاز تنبر الطريق أمام النيابة العامة أو قضاء التحقيق في أحوال محددة لاتخاذ القرار المناسب في اتجاه المتابعة أو الحفظ، لذلك غالبا ما يتم الاعتماد بشكل كبير على النتائج المحصل عليها من قبل الشرطة القضائية حور ظروف ارتكاب جريمة معينة و عن مرتكبيها[4].

و تتمتع الشرطة القضائية بصلاحيات واسعة للتحرك في مجال الوقاية من الجريمة و زجرها عند الاقتضاء، ينفع في ذلك كون جهاز الشرطة القضائية يمارس في غالب الأحوال مهام الشرطة الإدارية[5] و لخطورة هذا الوضع و ضمانا للحريات الفردية كإحدى ركائز دولة الحق، كان لزاما أن يتدخل المشرع لوضع الإطار القانوني لعمل الشرطة القضائية و ذلك من خلال تعزيز الإشراف القضائي على سير إجراءات البحث التمهيدي من قبل ضابط الشرطة القضائية (أولا)، و التوجه نحو دعم الأدلة المادية و العلمية في الإثبات الجنائي (ثانيا)، و ترسيخ قرينة البراءة و حقوق الدفاع أثناء مرحلة البحث التمهيدي (ثالثا).

أولا: الإشراف القضائي على سير الإجراءات.
اتبع المشرع المغربي خطوات هامة في سبيل ضمان حقوق و حريات الأفراد إزاء إجراءات السلطة العامة، و دعم مبدأ شرعية الإجراءات المسطرية، كقاعدة أساسية لحماية الحريات الفردية التي قد يتم خرقها في سبيل ضمان نجاعة التدخل الأمني لمحاصرة الآثار السلبية للفعل الإجرامي، فإذا كانت الشرطة القضائية مطالبة بحل لغز الجرائم المرتكبة و الوصول إلى ظروف و ملابسات ارتكابها، و هي بذلك ملزمة بالتحرك الفعال تحت ضغط عامل الزمن و الرأي العام، فإن ذلك لا يغني عن الالتزام بالضوابط القانونية في البحث و التحري تحت إشراف النيابة العامة المختصة أو قاضي التحقيق حسب الأحوال، في هذا الاتجاه تنص المادة 16 من ق.م.ج على ما يلي ” يمارس مهام الشرطة القضائية القضاة و الضباط و الأعوان المبينون في هذا القسم.
يسير وكيل الملك أعمال الشرطة القضائية في دائرة نفوذه”.

و تنص المادة 45 من ق.م.ج على ما يلي ” يسير وكيل الملك في دائرة نفوذ محكمته أعمال ضابط الشرطة القضائية و يقوم بتنقيطهم في نهاية كل سنة…”. حيث يظهر جليا من خلال هاته النصوص حرص المشرع المغربي على تعزيز الرقابة القضائية على عمل ضباط الشرطة القضائية أيا كانت الجهة الإدارية التي ينتمون إليها، لذلك فكل إجراء يهم البحث و التحري و التثبت من وقوع الجرائم و البحث عن مرتكبيها، يجب أن يتم إشعار النيابة العامة به و اخذ التعليمات بشأنها.

و في هذا السياق، يعد إشراف النيابة العامة على أعمال الشرطة القضائية ضمانة أساسية لسلامة الإجراءات المتخذة و صونا للحق في المحاكمة العادلة و إن كان ذلك لا ينبغي أن يأتي بانعكاس سلبي على فعالية و أداء ضباط الشرطة القضائية، فعلى المستوى العملي هناك تقارب في طريقة الأداء، فشخصية الباحث الجنائي لها دور كبير في تيسير مهمة الإشراق القضائي على أعمال البحث التمهيدي، حيث ينعكس ذلك علة جانب الثقة في موضوعية الإجراءات المتخذة و وحدتها[6].

ثانيا: الاعتماد على الأدلة العلمية و المادية في الإثبات الجنائي.
تنص المادة 286 من ق.م.ج على أنه ” يمكن إثبات الجرائم بأي وسيلة من وسائل الإثبات، ما عدا في الأحوال التي يقضي فيها القانون بخلاف ذلك، و يحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم…”.
لذلك فحرية الإثبات في المادة الجنائية، تفسح المجال أمام ضباط الشرطة القضائية، و في إطار ممارسة مهام التحري و التثبت من وقوع الجرائم، أن يقدموا كل دليل ينسب الجريمة إلى مرتكبها، فضابط الشرطة القضائية أصبح مطالب أكثر من أي وقت مضى من البحث عن الأدلة المادية التي يقدمها إلى النيابة العامة لإدانة الشخص الموقوف، فاكتفاء الشرطة القضائية باعترافات المشبوه فيهم و اعتبارها سندا في إدانة الأشخاص، لم يعد أمرا مجديا في غياب أي دليل مادي يعضده و يسنده[7].

و بناء على ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن الاعتماد على الوسائل العلمية سعيا للإحاطة بملابسات وقوع الجرائم، بات أمرا ملحا، لذلك نلحظ انكباب المصالح المعنية بتأهيل الشرطة العلمية والتقنية لمواكبة الأساليب الجديدة في تنفيذ الجرائم، فالمختبرات العلمية و التقنية التابعة للأمن الوطني و إدارة الدرك الملكي، لها دور رئيسي في فك طلاسم أفعال إجرامية معقدة في التنفيذ و مساعدة العدالة الجنائية في الوصول إلى الحقيقة و معاقبة الفاعل الحقيقي.
و في سبيل ذلك عزز المشرع المغربي هذا التوجه حيث ذهبت المادة 57 من ق.م.ج إلى أنه ” يجب على ضابط الشرطة القضائية الذي أشعر بحالة تلبس بجنحة أو جناية أن يخبر بها النيابة العامة و أن ينتقل إلى مكان ارتكابها لإجراء المعاينات المفيدة.
و عليه أن يحافظ على الأدلة القابلة للاندثار و على كل ما يمكن أن يساعد على إظهار الحقيقة و أن يحجز الأسلحة و الأدوات التي استعملت في ارتكاب الجريمة أو التي كانت معدة لارتكابها و كذا جميع ما قد يكون ناتجا عن هذه الجريمة.

… يقوم ضابط الشرطة القضائية بأخذ البصمات من مكان ارتكاب الجريمة و له أن يستعين بأشخاص مؤهلين لذلك. كما يمكنه أن يطلب إجراء خبرات عليها و على بقية أدوات الجريمة والأشياء التي العثور عليها و حجزها بمكان ارتكاب الجريمة أو لدى المشتبه فيهم بارتكابها”.

ثالثا: دعم قرينة البراءة و حقوق الدفاع أثناء البحث التمهيدي..
مبدأ البراءة هي الأصل:
يظل الشخص الموقوف لدى الشرطة القضائية على ذمة الأبحاث والتحريات التي تباشرها بفعل وقوع جريمة معينة مشتبها فيه، و يجب أن يعامل على هذا الأساس، و يبقى كذلك إلى أن يصدر حكما في حقه بالإدانة من أجل تلك الأفعال، و يكتسب هذا الحكم قوة الشيء المقضي به بناء على محاكمة عادلة. و سعيا من المغرب لمواكبة التطورات اللاحقة في مجال منظومة حقوق الإنسان، فقد نص الفصل 23 من الدستور على ما يلي “… قرينة البراءة و الحق في محاكمة عادلة مضمونان…” و ذلك تماشيا مع المواثيق الدولية المنظمة لمجال حقوق الإنسان[8].

و لم يخرج المشرع الجنائي عن هاته القاعدة، حيث ضمن هذا المبدأ في المادة الأولى من ق.م.ج، و يفترض إقرار هذا المبدأ وسيادته أن ينعكس على إثبات الجريمة، فيتحول إلى سلطة الاتهام التي أصبحت ملزمة بتقديم دليل تورط شخص معين في اقتراف الأفعال الإجرامية بشكل لا يستطيع معه الشخص الموقوف إنكار تلك الوقائع، و يركن إليها القاضي في تكوين قناعته حول الحجج المعروضة أمامه.

دعم حقوق الدفاع في مرحلة البحث التمهيدي:
لم يكن ممكنا الاستعانة بالمحامي خلال مرحلة البحث التمهيدي الذي تجريه الشرطة القضائية، إلا أن دعم و تكريس حقوق الدفاع حتى في هذه المرحلة أضحى ركيزة أساسية لمحاكمة شخص معين محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية. و بالرجوع للمادة 80 من قانون المسطرة الجنائية، يمكن القول أن حقوق الدفاع قد كلفت بموجب ما ورد في المادة السابقة ضمانا لمحاكمة عادلة، و إن كان ذلك لم يلب طموح الهيئات المعنية بمجال حقوق الإنسان التي عبرت عن تمكين المحام من الزيارة للشخص الموقوف منذ توقيفه إلى حدود تقديمه أمام النيابة العامة، خاصة في القضايا الكبرى و المعقدة.

الفقرة الثانية: الضمانات القانونية الممنوحة للأشخاص الموقوفين و الضحايا.
يحدث الفعل الإجرامي اضطرابا في المحيط الاجتماعي، بفعل الآثار السلبية التي يخلفها في مواجهة الضحية أو الضحايا و بقية المجتمع، لذلك فعند الحديث عن ضمانات المحاكمة العادلة، فلا ينبغي أن نستثني ضحايا الجرائم و نبسط الحديث عن حقوق الفاعلين لذلك كان لزاما في هذه الفقرة أن نستعرض حقوق المشبوه فيهم في مرحلة البحث التمهيدي (أولا)، و نخصص حيزا كذلك لحقوق ضحايا الجرائم (ثانيا).

أولا: حقوق المشتبه فيهم أثناء مرحلة البحث التمهيدي.
لا حاجة للتذكير أن الشخص الموقوف من طرف الشرطة القضائية على خلفية الأبحاث والتحريات التي تباشرها في شأن فك لغز جريمة وقعت يبقى مشتبها في أمره، و يعامل على هذا الأساس، فلا يمكن اعتباره متهما إلا بعد إدانته من طرف هيئة المحكمة بحكم اكتسب قوة الشيء المقضي به. آنذاك يعامل على أنه متهم بارتكاب أفعال إجرامية و يجبر على قضاء العقوبة المناسبة لها في مؤسسة سجنية معدة لذلك. و تظهر أهمية مرحلة ما قبل المحاكمة في كون أن لها اتصال بجريمة الأشخاص بالمشتبه فيهم الموضوعين تحت الحراسة النظرية، حيث خول لهم القانون مجموعة من الحقوق تصب في مجال تمكينهم من الدفاع عن براءتهم أمام القضاء و منع كل إمكانية للاعتداء على حقوقهم، لذلك سنحاول مقاربة هذه الحقوق و علاقتها بالمحاكمة العادلة.

الحق في معرفة دواعي الاعتقال و إخبار عائلة المقبوض عليه:
ألزم المشرع المغربي في المادة 66 من ق.م.ج ضابط الشرطة القضائية بإخبار كل شخص سيخضعه لتدبير الحراسة النظرية بأسباب اعتقاله و وضعه تحت الحراسة النظرية بمخافر الشرطة بكيفية فورية دون تأخير[9] و بكيفية يفهمها، أي أن يكون الإشعار حقيقيا و ليس صوريا، و أن يهدف إلى تنبيه المعني بالأمر إلى خطورة الأمر و تأثيره على حريته و حقوقه. و يفترض أن يتم إشعار المشبوه فيه بكيفية تتحقق معها الغاية من تقرير ذلك كما سبق ذكره أي باللغة التي يفهمها مع الاستعانة بمترجم أو كل شخص يستطيع تبليغه فحوى ذلك، و يجب تضمين هوية المترجم في المحضر أو أي شخص استعان به ضابط الشرطة القضائية لتنفيذ هذه المهمة[10].

وفي ذلك السياق يجب على ضابط الشرطة القضائية أن يعمل على إبلاغ الشخص المقبوض عليه بحقوقه التي تتمثل فيما يلي:
حقه في معرفة الأفعال المنسوبة إليه.
حقه في معرفة مدة الحراسة النظرية الخاضعة لهذا الفعل.
حقه في عرضه على طبيب.
حقه في الاتصال و إشعار أحد أقربائه.
حقيه في التخابر مع محاميه.
حقه في التزام الصمت.
الحق في التزام الصمت:
يقصد بالحق في الصمت، أن يقوم ضابط الشرطة القضائية بإبلاغ الشخص الذي وضعه تحت الحراسة النظرية عند الاستماع إليه في محضر أقواله، بحقه في عدم الإجابة على الأسئلة المطروحة عليه، و عدم الإدلاء بأي تصريح متسرع أو متهور يورطه في الأفعال المنسوبة إليه، لكن يكون هذا الشخص ملزما بالإدلاء بالمعلومات المطلوبة منه و التي تهم هويته الكاملة، زيادة على أنه لا يمكن للمشبوه فيه أن يلوذ بالصمت بشكل متواتر إنما يتعين عليه الإخبار عما يعرفه بخصوص ما هو منسوب لغيره و إلا تعرض للعقوبة الواردة في الفصل 378 من ق.ج، خاصة إذا كان يعلم وجود دليل براءة متهم معتقل، و في ذلك يتعين من جهة أخرى على ضابط الشرطة القضائية إنجاز المحضر، و يضمنه الأسئلة التي وجهها للشخص المذكور، و يشير في الجواب أنه التزم الصمت، كما يجب أن يعرض عليه أدوات الجريمة و غيرها، و عليه لا يمكن لضابط الشرطة الباحث أن يجبر الشخص المذكور على الإدلاء بإفادات بالقوة و الإكراه، بل يجب عليه استخدام تقنيات البحث الجنائي عبر إعداد إطار الاستجواب يعتمد الذكاء و المباغتة و المحاصرة بالأسئلة المنصبة حول وقائع الجريمة و عناصرها التكوينية بحيث لا يعتد بأي تصريح أو اعتراف انتزع من صاحبه بالإكراه و ممارسة الضغط المادي و المعنوي[11].

حق الاستفادة من المساعدة القانونية و الاتصال بالمحام
يقصد بحق المشتبه في الاستفادة من المساعدة القانونية، أن يمكنه ضابط الشرطة القضائية المشرف على وضعه تحت الحراسة النظرية من كل ما يساعده في إبراء ذمته و ما يسعفه في الرد عما نسب إليه، كتحصيل و جلب وثائق ممسوكة لدى غيره، او طلب الاستماع إلى كل من يمكنه الإفادة في البحث و القيام بالتفتيش في أماكن معينة أو إجراء خبرة على المحجوزات أو الاستعانة بتقني مسرح الجريمة لرفع بصمات و آثار جنائية، لما لذلك من تأثير على حقه في المحاكمة العادلة و دعم حق الدفاع الذي ينبغي كذلك على إشعاره بحقه في تعيين محام لمؤازرته طبقا للشروط المقررة في المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية، أو تعيين محام لمساعدته في إطار المساعدة القضائية بعد إشعار السيد نقيب المحامين، و في ذلك حرصت المديرية العامة للأمن الوطني تجسيدا للتوجه الوطني في مجال حماية حقوق و حريات المواطنين على تسهيل اتصال المحامين بمؤازريهم أثناء فترة الوضع تحت الحراسة من خلال تهيئة مكاتب خاصة معدة لذلك قريبة من أماكن الاحتفاظ بالأشخاص ضمانا لسرية البحث و سير الإجراءات.

حق المشتبه فيه في الاتصال بأحد أقربائه و عرضه على طبيب
يجب على ضابط الشرطة القضائية أن يخبر كل شخص سيوضعه تحت الحراسة النظرية أو المراقبة القضائية (إذا تعلق الأمر بقاصر) بحقه في ربط الاتصال بأحد أقاربه لإخباره بمكان تواجده و سبب الاحتفاظ به لدى مصالح الشرطة أو الدرك الملكي، حيث يقوم بتحديد هويته و رقم هاتفه وتضمين ذلك في محضر أقواله، و يتأكد في الحين من وجود القرابة و درجتها، و يشعر النيابة العامة في حالة الشك ما إذا كان الاتصال بقريب سيؤثر على سير البحث و يتلقى التعليمات بشأنه. ويتم الاتصال تحت مراقبة ضابط الشرطة المسؤول، و لا يحق للموقوف تلقي الاتصالعبر هاتفه النقال، فغالبا ما يتم الإخبار من هاتف المصلحة.

و يمكن التأكيد أن أهم ضمانة للحق في المحاكمة العادلة تبقى حق المشتبه فيه في عرضه على طبيب لإجراء فحص طبي للتأكد من مصدر الجروح البادية عليه أو آثار العنف الذي يظهر على جسده إذا طلب ذلك أو عاين السيد الوكيل العام تلك الآثار بنفسه. و يقوم ممثل النيابة العامةلذلك قبل الشروع في الاستنطاق إذا تعلق الأمر بحدث و ذلك تماشيا مع ما هو مسود في المواثيق الدولية[12]، لذلك يكون ضابط الشرطة القضائية ملزما بعرض الشخص المشتبه فيه الذي أصيب أثناء تدخل عناصر القوة العمومية لإيقافه أو إبداء مقاومة عنيفة لقوات الأمن أو الدرك بعد إشعار النيابة العامة على طبيب مختص لإجراء فحص طبي عليه، و تضمين فقرة بذلك في محضر إيقاف المعني بالأمر و المعاينة لدحض أي مزاعم قد تؤثر سلبا على سير الأبحاث و شفافيتها، حيث يكون الأمر جليا.

و بناء على ذلك و لتفادي و محاصرة كل تصرف فردي يصدر عن موظف مكلف بإنفاذ القانون يمس السلامة الجسدية للشخص المشتبه فيه خول القانون إمكانية العرض على طبيب للتأكد من ذلك، و تم بدل مجهود كبير من طرف المديرية العامة للأمن الوطني في سبيل تنزيل هذه المقتضيات على أرض الواقع و وقاية موظفيها من إمكانية السقوط في براثين هذه الأفعال[13].

ثانيا: حقوق ضحايا الجريمة.
تحدث الجريمة اضطرابا اجتماعيا في المحيط الخارجي، يصعب محو آثاره السلبية وتداركها، رغم صدور أحكام قاسية أحيانا في حق مرتكبيها. لذلك إسوة بمطالب الهيئات الحقوقية في مجال ترسيخ ضمانات المحاكمة العادلة للمتهمين، كان لازما معالجة الوضعية المأساوية التي تصيب ضحايا الجرائم، سواء جرائم الأموال أو الأشخاص. و في سبيل ذلك وجب التذكير ضمانا للمحاكمة العادلة لإنصاف ضحايا الجرائم و رد اعتبارهم.
و يمكن القول أن الإنصات الجيد لصحية الجريمة و الاستماع إلى شكايته، و تهدئة روعه من طرف ضابط الشرطة القضائية كفيل بتحسيس هذه الضحية بالمسار الجيد لقضيته، و ليس الجفاء والتنكر و التماطل حلا، فإذا تطلب الأمر الانتقال للمعاينة يجب على ضابط الشرطة القضائية ومساعديه التحلي بقواعد السلوك المهني الرصينة، و طمأنة المتضرر من الأفعال الإجرامية وإبداء الجدية في اقتضاء حقوقهم، فيقوم بالمعاينات و المشاهدات اللازمة و رفع الآثار التي تظهر الحقيقة والحفاظ على ممتلكاتهم، و قد أفرد قانون المسطرة الجنائية مقتضيات خاصة بحماية الضحايا والشهود، حيث أوجبت المادة 82/4 إشعار الضحية بحقه في الانتصاب كمطالب بالحق المدني أمام قاضي التحقيق أو هيئات الحكم و يشار إلى ذلك في محضر الاستماع من طرف ضابط الشرطة القضائية. و يمكن لوكيل الملك إصدار تعليمات للضابطة القضائية من أجل اتخاذ تدابير الحماية الكفيلة بتأمين سلامة الضحية أو أفراد أسرته أو أقاربه أو ممتلكاته من كل ما قد يطاله جراء تقديم شكايته[14]. كما يمكن أن يأمر السيد وكيل الملك أو الوكيل العام للملك أو قاضي التحقيق حسب الأحوال بعرض الضحية على طبيب مختص أو تمتيعه بكل الرعاية الاجتماعية اللازمة عند الاقتضاء.

المطلب الثاني: نجاحة الشرطة القضائية و واجب احترام مشروعية الإجراءات القانونية تعارض أو تكامل؟
يحتم وقوع جريمة التحرك الفعال لجهاز الشرطة القضائية، سواء في المجال الحضري أو القروي لجمع الأدلة و معرفة وقائع هذه الأفعال الإجرامية لإيقاف مرتكبيها و تقديمهم إلى العدالة.

و في سبيل ذلك، لا يمكن للشرطة القضائية أن تتصرف دون حدود، بل هي محاطة بالكثير من القيود سعيا لضمان الحريات الفردية و حماية الأفراد من الشطط و التعسف، فإذا كانت نجاحة الشرطة القضائية ضمانة لمكافحة الجريمة و الوقاية منها (الفقرة الأولى)، فإن مبدأ احترام مشروعية الإجراءات ضمانة لتكريس المحاكمة العادلة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: نجاحة الشرطة القضائية ضمان لمكافحة الجريمة.
تبني السياسة الجنائية في معالجة الظاهرة الإجرامية بالمغرب على مرتكزين أساسين، أولا تعزيز سبل الوقاية من مسبباتها، و ذلك بتقوية الدور الإيجابي للشرطة القضائية في القيام بالدور الوقائي و الزجري (أولا)،و تأهيل قدرات هذا الجهاز على رصد الأساليب المستجدة في تنفيذ الأعمال الإجرامية حفاظا على أمن المجتمع (ثانيا).

أولا: دور الشرطة القضائية في الوقاية من الجريمة و زجرها.
تسعف الهيكلة التنظيمية لجهاز الشرطة القضائية سواء التابع إداريا إلى الأمن الوطني أو الدرك الملكي في ضمان التغطية الأمنية المستمرة لنفوذها الترابي، حيث يتم تخصيص فرق للبحث الميداني مؤهلة للتدخل و ردع كل السلوكات الإجرامية و لو تلك الموصوفة بالبسيطة، وصولا إلى اقتفاء آثار الشبكات الإجرامية المتخصصة و المشعبة التي تزعزع استقرار المجتمع بما تقترفه من اعتداءات على الأشخاص و الأموال، و يتأتى ذلك من خلال مباشرة مهام الشرطة الإدارية التي تتحول لعناصر الأمن الوطني و الدرك الملكي، التجوال بالقطاع الأمني المخصص و المراقبة الشاملة للممرات و الطرق و توقيف الأشخاص للتحقق من هوياتهم، و القيام بدوريات في عمق الأماكن الهامشية و الضواحي و الأماكن الساخنة التي تعد مرتعا لكل أنواع السلوكات الانحرافية[15].

لذلك فمهام الشرطة الإدارية تسعف كثيرا في جمع المعلومات الكافية عن الأحوال الأمنية، من خلال رصد تحركات تجار المخدرات و مقترفي أعمال السرقة و اللصوصية و دس المخبرين بينهم لتتبع خطواتهم و إلقاء القبض عليهم في حالة تلبس، لذلك فهي مهام جسيمة ينبغي مراعاة الضوابط القانونية في ممارستها، و الاضطلاع بكل هاته الصلاحيات.
و في نفس السياق، يتطلب وقوع فعل إجرامي تحرك كل مكونات جهاز الشرطة القضائية وأعوانها لإيقاف مرتكب الفعل الإجرامي، و تحت ضغط الرأي العام، تكون الشرطة القضائية مدعوة لمباشرة الأبحاث و التحريات و مقيدة بالضوابط القانونية.

و يمكن القول أن نجاعة تدخل الشرطة القضائية لزجر الأفعال الإجرامية لا يقابله بسط يد هذا الجهاز لانتهاك حرمة و حقوق الأفراد و الجماعات، بدعوى فك لغز جريمة ما، أو محاصرة اضطراب معين، و إنما تكريسا لما ورد في الدستور المغربي ينبغي أن تكون جميع الإجراءات التي قامت بها الشرطة القضائية في إطار قانوني و تحت الإشراف المباشر للنيابة العامة أو قاضي التحقيق، فالتزام المغرب بالمعاهدات و المواثيق الدولية التي تهم حقوق الإنسان، يجعل الدولة ملتزمة بتنزيل هذه المقتضيات على أرض الواقع، و إلزام مؤسساتها الأمنية، بقواعد الحكامة الأمنية و حقوق الإنسان.

ثانيا: الشرطة القضائية أمام تحدي تنامي و تطور الجريمة.

في رأينا في غياب مراكز متخصصة للبحث و التفكير حول أبعاد الظاهرة الإجرامية كظاهرة اجتماعية لتوفير قاعدة للبيانات تسعف السلطات العمومية في رسم الاستراتيجية الأمنية الملائمة للوقاية من الجريمة و حفظ استقرار المجتمع، تبقى المصادر الوحيدة المعتمدة، هي الإحصائيات التي تنشرها مديرية الشرطة القضائية التابعة للمديرية العامة للأمن الوطني و تلك الخاصة بإدارة الدرك الملكي.
لكن أمام ظهور أنماط مستجدة من الأفعال الإجرامية تميل إلى التنظيم و النوعية يتفرع نشاطها من اقتراف السرقات العادية إلى السطو المسلح على الوكالات البنكية و الاتجار الدولي في المخدرات، إلى اقتراف أعمال إرهابية شأنها التخريب و القتل[16] زيادة على الإجرام الإلكتروني الذي أصبح يشكل تحديا مستمرا للمصالح الأمنية ببلادنا و العالم كله، أصبح التوجه واضحا أملا في تأهيل القدرات الذاتية للقوات الأمنية و مدها بكل الوسائل المادية و البشرية المؤهلة لتسهيل مهمتها الحسمية، و تغيير منهجية العمل في إطار البحث عن الأدلة و التثبت من خلال اعتماد الوسائل العلمية المتطورة في الرصد و التحليل و الاتصال و تداول المعلومات.

الفقرة الثانية: احترام مشروعية الإجراءات ضمان لتكريس المحاكمة العادلة.
تنص المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 على ما يلي” لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة و محايدة نظرا منصفا و علنيا…”
و المحاكمة العادلة هي أن يشهد لها الناس بالعدل، و لكي توصف كذلك يتطلب الأمر أن تسترشد إجراءات المحاكمة من بدايتها إلى نهايتها بمواثيق المحاكمة العادلة التي وضعها المجتمع الدولي، و أن تقوم سلطة قضائية مستقلة و محايدة بتنفيذ هذه المواثيق.

أولا: التبعية الوظيفية لجهاز الشرطة القضائية.
يتبع جهاز الشرطة إداريا إلى جهات مختلفة، فمن جهة هناك إدارة الأمن الوطني و إدارة مراقبة التراب الوطني و مصلحة الدرك الملكي[17].

بحيث تشرف الجهات الإدارية على سير جهاز الشرطة القضائية، و تحديد طريقة و منهجية العمل المناسبة طبقا لما هو مسطر في اللوائح التنظيمية الخاصة بكل إدارة (الدوريات – المذكرات- البرقيات)، والوسائل المادية و البشرية المتوفرة، و من جهة ثانية تتبع إلى الجهات القضائية المختصة حسب الأحوال أثناء القيام بالأبحاث و التحريات طبقا للتعليمات الصادرة عن هاته الجهات، و في انتظار الحسم في إمكانية فصل النيابة العامة عن وزير العدل و ربط جهاز الشرطة القضائية بالنيابة العامة، يبقى من الضروري مراعاة دواعي هذه التبعية الوظيفية المزدوجة و ما تأثيرها على مشروعية الإجراءات التي تقوم بها الشرطة القضائية تنفيذا لتعليمات النيابة العامة. طبعا التنسيق المصلحي و الوظيفي يبقى مستمرا من خلال الاجتماعات الدورية التي يدعو إليها السيد الوكيل العام للملك أو وكيل العلك السادة ضباط الشرطة القضائية لتبليغ فحوى ما رسمته وزارة العدل فيما يخص السياسة الجنائية، و يتلقى ملاحظاتهم كمتمرسين في الميدان لتوحيد نطاق العمل و وجهات النظر وتسهيل عملية التواصل، حيث أن النيابة العامة مطالبة من جهتها بإصدار تعليمات قابلة للتطبيق وتصب في اتجاه مدهم بصلاحيات تسعف في البحث و التحري و جمع الأدلة الجنائية.

و نرى أنه لا مجال لجعل الشرطة القضائية بالمغرب تابعة لوزارة العدل على الأقل في الوضعية الراهنة، نظرا لممارستها كذلك مهام الشرطة الإدارية الشيء الذي يسهل مهمة الشرطة القضائية عند وقوع جريمة.

و يسوق مؤيدو إلحاق جهاز الشرطة القضائية بالهيكلة التنظيمية للنيابة العامة، حيث تبقى تحت إشراف جهة واحدة أساسا تصب في اتجاه عدم إمكانية النيابة العامة مراقبة أعمال الشرطة القضائية بفعل الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها، و انتماؤها لجهات إدارية مستقلة عن وزارة العدل، و كذلك إعطاء الأبحاث التي تقوم صبغة قضائية زيادة في الضمانات الممنوحة للأشخاص المشتبه فيهم الموضوعين تحت الحراسة و تحقيقا لمحاكمة عادلة.

إلا أن الأمر لا يستقيم له حال في الوضعية الراهنة التي تتسم بضعف الهيكلة التنظيمية لقطاع العدل و عدم وضوح الرؤية في الإصلاح، بحيث تتبلور مكانة الشرطة القضائية ضمن هذه التركيبة. لذا عزز المشرع المغربي الإجراءات القانونية المنظمة لمجل الحريات الفردية و أضفى حماية قانونية عليها، و ربط ممارسة أعمال الشرطة و الضبط بالمسؤولية و المحاسبة. في انتظار إيجاد الأرضية المناسبة لإصلاح جدرييرمي إلى ضمان التوازن المطلوب عبر تفعيل الأداء الإيجابي لجهاز الشرطة القضائية حماية للاستقرار الاجتماعي، و حماية الحريات الفردية كمقوم أساسي لدولة الحق و القانون.

ثانيا: النجاحة الشرطية و احترام المشروعية، مدخل لضمان المحاكمة العادلة.
يبقى الهدف الأساسي للأبحاث و التحريات التي تباشرها الشرطة القضائية سواء عند توصلها بمعلومات تفيد أن هناك مخططات إجرامية تهدف إلى المس الخطير بالأمن و النظام العام، أو استهداف أرواح و ممتلكات المواطنين، حيث يتطلب الأمر إنجاز هذه الأبحاث لجمع الأدلة عن هذه الجرائم وعن مرتكبيها لاستباق وقوعها و الوقاية من أخطارها، أو بعد وقوع هذه الأفعال الإجرامية- هو الإلمام بوقائع الجريمة المقترفة و جمع كل الأدلة المادية و المؤشرات العلمية عنها، بغرض مساعدة الجهاز القضائي على معرفة الحقيقة و تكوين قناعة خاصة.
و تقديم المشتبه فيهم أمام العدالة لمحاكمتهم، لذا فصمام الأمان عند إنجاز هذه الإجراءات بالسرعة اللازمة، و الفعالية المطلوبة في احترام كامل لمشروعية هذه الإجراءات سواء من حيث مرجعها أو هدفها، فلا يمكن بناء على أسس محاكمة عادلة، تتوفر فيها كل الضمانات القانونية على إجراءات باطلة من حيث الشكل أو الموضوع، خاصة عند وقوع جرائم تهدد بشكل كبير النظام العام، و يكون محتما على جهاز الشرطة القضائية القيام بدوره فورا، و لا مجال للتأخر و الانتظار ويمكن إجمال هذا التصور في النقط الآتية:

– وضوح التعليمات الصادرة عن النيابة العامة أو قاضي التحقيق.

تشرف النيابة العامة قانونا على كل أعمال ضباط الشرطة القضائية، بحيث توجه الأبحاث التي تنجزها الضابطة القضائية، و تقيم العناصر التكوينية لجريمة معينة من خلال الوقائع التي أخبرت بها من طرف ضباط الشرطة القضائية أو ميدانيا عند حضور المعاينات، و تحدد التكييف القانوني لهذه الأفعال، و بالتالي إصدار التعليمات الواضحة إلى ضباط الشرطة القضائية الذين يشرفون على الأبحاث، من خلال المواكبة المباشرة للأبحاث يستطيع وكيل الملك أو الوكيل العام للملك ضبط مشروعية الإجراءات القانونية التي تقوم بها الشرطة القضائية و توحيد الرؤيا بين مكونات هذا الجهاز و متطلبات الوصول إلى الحقيقة و بناء قناعة في اتجاه الاتهام أو الحفظ [18].

لذلك و من جهة أخرى، تكون النيابة العامة مدعوة بحكم الصلاحيات المخول لها لتسهيل مهمة ضباط الشرطة القضائية في الوصول إلى مرتكبي الجرائم، عبر مساعدتهم إجرائيا من خلال إصدار أوامر آنية كإجراء تفتيش حالي بالأماكن المفترض أن يعثر فيها على أدلة مادية مفيدة في البحث، أو الانتقال خارج الدائرة الترابية لتعقب آثار أحد الجناة و إلقاء القبض عليه عبر التنسيق الميداني مع ضابط الشرطة القضائية المختص مكانيا، أو اتخاذ تدابير إغلاق الحدود في وجه أحد الأشخاص المحتمل أنه ارتكب جريمة معينة و منعه من السفر[19]، و بنشر مذكرة بحث في حقه على الصعيد الوطني أو الدولي[20].

– إقرار المسؤولية القانونية لضباط الشرطة القضائية.
يعد الشخص الموقوف لدى الشرطة القضائية في سياق البحث التمهيدي مشتبها فيه، و لو توفرت قرائن قوية و متناسقة ضده، بل حتى لو ضبط متلبسا بالجريمة. فالاتهام ىلا تملكه إلا السلطة القضائية (النيابة العامة و قضاء التحقيق)، و يقتصر دور الشرطة القضائية على البحث عن الأدلة وجمعها تشهيلا لأعمال التحقيق الذي تقوم به من قبل السلطة القضائية[21].

و في سبيل دعم منظومة حقوق الأفراد في مواجهة تدابير السلطة الصارمة، فقد أثر القانون المسؤولية القانونية لضباط الشرطة القضائية عما يرتكبونه من الإخلالات بسبب ممارستهم لمهامهم، التي قد تتدرج من إقرار المسؤولية الإدارية و التأديبية التي يتولىإنفاذها الرؤساء الإداريين لضباط الشرطة القضائية و تطبيق العقوبات الواردة في الأنظمة الأساسية لكل فئة من الضباط[22] ، و تمتد إلى المساءلة عن الأفعال التي عدها القانون جرائم، و يعاقب طبقا لما هو منصوص عليه في القانون الجنائي.

و من بين الجرائم التي قد يرتكبها ضابط الشرطة القضائية، نجد ما يلي:
العمل التحكمي في حق شخص إذا كان هذا الإجراء ماسا بالحريات الشخصية أو الحقوق الوطنية لمواطن أو أكثر (الفصل 225 ق.ج).
رفض الاستجابة إلى طلب إثبات حالة اعتقال تحكمي (الفصل 227 ق.ج).
دخول المساكن دون رضا أصحابها في غير الحالات المحددة قانونا ( الفصل 230 ق.ج).
استعمال العنف ضد الأشخاص أو الأمر باستعماله دون مبرر شرعي (الفصب 231 ق.ج).
ممارسة التعذيب في حق شخص موقوف على ذمة التحريات (الفصل 231-1 ق.ج).
لذلك فإقرار المسؤولية الشخصية المباشرة لضابط الشرطة القضائية عن الإجراءات التي قام بها بمناسبة إنجاز الأبحاث دون الرجوع إلى النيابة العامة، و تبين عدم مشروعيتها، سيدعم دون شك عملية تخليق المرفق العام، و يكرس الضمانات الممنوحة أثناء مرحلة ما قبل المحاكمة. و تبعا لذلك، تبقى الفعالية المتوقعة لأعمال الشرطة القضائية في مجابهة التحول المشهود لطبيعة و حجم المخططات الإجرامية، رهين بالتنسيق المحكم مع الجهات القضائية لدعم هذه المجهودات و توجيه عملية الزجر و الردع إلى الوجهة الصحيحة، فالهدف أن تسعف الإجراءات المتخذة بعد وقوع فعل إجرامي إلى إيقاف الفاعل الحقيقي و تمتيعه بالضمانات القانونية التي خولها القانون و تقديمه للمحكمة في احترام تام للمبادئ و الحقوق التي أقرها الدستور المغربي و المواثيق الدولية.

[1] – يراد بالشرطة القضائية المفهوم الضيق الذي يشمل من يحمل صفة ضباط الشرطة من رقباء الدرك و الأمن الوطني و مراقبة التراب الوطني كما هو مضمن في المادة 20 من قانون المسطرة الجنائية.
[2] – المادة 21 من قانون المسطرة الجنائية.
[3] – يقصد بالبحث التمهيدي “التحريات التي تنجز قبل التحقيق و المحاكمة لضبط و جمع الأدلة عن وقائع الجريمة، و عن الأشخاص المشبوه فيهم، تنجزه أساسا الشرطة القضائية طبقا لما هو منصوص عليه في المسطرة الجنائية و النصوص المنظمة للشرطة القضائية في أنواع من الجرائم الخاصة” أحمد الخمليشي: شرح قانون المسطرة الجنائية: الجزء 1 ص 247.
[4] – عبد السلام بنحدو: الوجيز في شرح المسطرة الجنائية المغربية، دار ليلى للطباعة و النسر- مركش ط 1997 ص 79.
[5] – يجب التمييز بين الشرطة القضائية و بين الشرطة الإدارية، حيث توكل لهذه الأخيرة المحافظة على الأمن و النظام العام و السهر على الصحة العامة، وينصرف الحديث هنا عما تقوم القوات العمومية المخولة قانونا عمل الشرطة الإدارية عندما يتصل ذلك بمحاربة الجريمة و الحد من امتدادها في المجتمع، و تفعيل الدور الوقائي لتفادي وقوعها من قبيل إجراء التحقيق من الهوية، مراقبة المجرمين ذوي السوابق و جمع المعلومات عنهم، القيام بجولات مكثفة في الطرق و المسالك والممرات و الأماكن المأهولة و الضيعات، و خول المآوي و الملاهي و الحانات المفتوحة للعموم، و تأطير التجمعات الشعبية كالمعارض و المواسم و الأسواق والأعياد و الحفلات العمومية (راجع المواد 62 و 77 إلى 104 من ظهير 14 يناير 1958 المنظم لمصلحة الدرك الملكي).

[6] – يبدو أن التواصل المستمر على مستوى النيابة العامة و جهاز الشرطة القضائية من خلال الاجتماعات الدورية يسهل كثيرا مهمة توحيد الرؤيا و التوجهات فيما يخص منهجية العمل.
[7] – لم تعد مقولة ” الاعتراف سيد الأدلة” لها أهمية كما كان الأمر في السابق، فالاعتراف المجرد عن كل دليل مادي، يبقى خاضعا لسلطة محكمة الموضوع، لها أن تستبعده أو تأخذ به كليا أو جزئيا، لذلك فالقيمة الإثباتية للاعتراف تتعلق بالشروط الواجب توفرها فيه، حيث ذهبت المادة 293 من ق.م.ج إلى القول أنه ” يخضع الاعتراف كغيره من وسائل الإثبات للسلطة التقديرية للقضاة. لا يعتد بكل اعتراف ثبت انتزاعه بالعنف أو الإكراه”.
[8] – في نفس التوجه تنص المادة 11/1 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ” كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن يثبت ارتكابه لها قانونا في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه”، و تضمنته المادة 14(2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية.
[9] – المقصود بالفورية في الإشعار أن يعمل ضابط الشرطة القضائية على إبلاغ الشخص الذي سيضعه تحت الحراسة طبقا لتعليمات النيابة بسبب إيقافه و اعتقاله ووضعه تحت الحراسة النظرية، وتضمين ذلك في المحضر، إذا كان هو من ألقى عليه القبض، أما إذا كان أحيل عليه من طرف جهة أخرى فإنه يشعره و يضمن ذلك في المحضر، و يمكن إشعاره شفويا إلى حين تحرير المحضر إذا كانت هناك ظروف استثنائية.
[10] – تنص المادة 9/2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية على أنه ” يجب إبلاغ كل شخص يقبض عليه بأسباب القبض عليه لدى وقوعه، ويجب إبلاغه على وجه السرعة بأي تهمة توجه إليه”.

[11] – توجب المادة 293 من قانون المسطرة الجنائية، لا يعتد بأي اعتراف تبث أخذه بالعنف و الإكراه، بحيث يتعرض مرتكبه للعقوبات المنصوص عليها في المادة 231/2 و يعد مرتكبها لجريمة التعذيب، أي أن يشكل هذا الفعل ألما أو عذابا جسديا أو نفسيا شديدا و يتحقق ذلك بالتحريض على ذلك و الموافقة عليه و السكوت عنه إذا كان الغرض من ذلك تخويف الشخص المذكور و إرغامه على الإدلاء بالمعلومات أو بيانات أو اعتراف يهدف معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص آخر أو عندما يلحق مثل هذا الألم و العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه.
[12] – نص الدستور المغربي لعام 2011 في الفصل 22 على ما يلي ” لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص في أي ظرف و من قبل أي جهة كانت خاصة أو عامة.
لا يجوز لأحد أن يعامل الغير تحت أي ذريعة معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطة من الكرامة الإنسانية.
ممارسة التعذيب بكافة أشكاله و من قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون”.
في هذا المبدأ الذي قررته المادة 13 من اتفاقية مناهضة التعذيب ” على السلطات أن تضمن إجراءات التحقيقات المحايدة عل وجه السرعة في جميع مزاعم التعذيب”.
[13] – أحمد ايت الطالب: حول التكوين و التحسيس على مكافحة جريمة التعذيب. مجلة الشرطة، عدد 95 عام 2013ن ص 26
[14] – يمكن في نفس الصدد أن نعزز هذه الحماية حسب ما ورد في المادة 82/5 من ق.م.ج بالتدابير التالية: تزويد المعني بالأمر برقم هاتفي خاص بالشرطة القضائية أو بالمصالح الأمنية يمكنه من طلب النجدة و التدخل و الحماية في أي وقت، و تأمين الحماية الجسدية للضحية و أفراد أسرته من طرف عناصر القوة العمومية، أو تغيير مكان الإقامة و كتمان المعلومات التي تخص الهوية.
[15] – بمقتضى الفصل الثاني من الظهير الشريف رقم 1.09.213 الصادر بتاريخ 23 فبراير 2010 ج.ر عدد 5817 يتعلق بالمديرية العامة للأمن الوطني و النظام الأساسي لموظفي الأمن الوطني ” مع مراعاة الاختصاصات والصلاحيات المسندة إلى إدارات أو مؤسسات أو هيئات أخرى، تناط بالمديرية العامة للأمن الوطني، المحدثة بموجب الظهير الشريف رقم 1.56.115 الصادر في 5 شوال 1375 (16 ماي 1956) المشار إليه أعلاه، مهمة المحافظة على النظام العام وحماية الأشخاص والممتلكات”
و يعرف الفصل الأول من الظهير الشريف رقم 1.57.280 بتاريخ 14 يناير 1958 الدرك الملكي بكونه قوة عمومية مكلفة بالشهر على الأمن العمومي و المحافظة على النظام و تنفيذ القوانين…. و يسهر بصفة خاصة على الأمن بالبوادي و طرف المواصلات.
[16] – تشير الأرقام إلى وجود عمليات نوعية اقترفتها عصابات إجرامية منظمة كالسطو المسلح على بعض الوكالات البنكية، و الأعمال الإرهابية التي شهدتها الدار البيضاء في 2003 و 2007 و مدينة مراكش 2011، ناهيك عن العدد الكبير من الخلايا النائمة التي تم تفكيكها من طرف المصالح الأمنية التي تسعى إلى تفجير بعض المصالح الحيوية الغربية بالمغرب، حيث نجمت العمليات الاستباقية في إجهاضها.
و في نفس الصدد لعب العالم الافتراضي دورا حاسما في بث الخوف في نفوس المواطنين عندما قام بعض الشباب بتداول صور عبر شبكة الفايسبوك تظهر هؤلاء بالملابس الرياضية من ماركات عالمية يستعرضون محصلات أعمال السرقة و النهب متوشحين بأسلحة بيضاء من الحجم الكبير عبارة عن سيوف، ويعمدون إلى التهديد و بث الرعب، مرة أخرى كانت الأجهزة الأمنية مدعوة للقيام بالأدوار المنوط بها و إعادة الحالة إلى ما كانت عليه بعد تحديد هوية أغلب هؤلاء و التحري والتثبت من ذلك، و إنجاز مساطر قانونية في حقهم و تقديمهم إلى العدالة، رغم حصول بعض التجاوزات جعلت الجمعيات حقوقية تثير الانتباه إلى هاته الانقلابات ومحاسبتها كحالات فردية و لا علاقة لها بسير المرافق العامة الأمنية.
[17] – تلبية لمطالب العديد من الهيئات الحقوقية تم منح الصفة الضبطية لرتباء إدارة مراقبة التراب الوطني (D.S.T) بموجب القانون 35.11، بحيث اعتبر كل من المدير العام للإدارة و ولاء الأمن و المراقبون العامون للشرطة و عمداء الشرطة و ضباطها فيما يخص الجرائم. ذلك لبسط الرقابة القضائية على أعمال هاته الهيئة و ملاءمة جزء من مهمتها مع التزام المؤسسات الأمنية بالحكامة الجيدة.
[18] – بمقتضى المادة 45 من ق.م. يسير وكيل الملك في دائرة نفوذ محكمته أعمال ضباط الشرطة القضائية، و يسهر على احترام إجراءات الوضع تحت الحراسة النظرية أو آجالها، و تفقد الحالة التي توجد عليها الأماكن المعدة الاحتفاظ بالأشخاص المشبوه فيهم و السهر على احترام التدابير الكفيلة بأنسنة ظروف الاعتقال هاته، و ذلك من خلال الزيارة الميدانية و المفاجئة للوقوف على ظروف الاعتقال و مراقبة السجلات المعدة للوضع تحت الحراسة و رفع تقارير حول هاته العمليات.
[19] – نصت المادة 40 من ق.م.ج “… يحق له كلما تعلق الأمر بجنحة يعاقب عليها بسنتين حبسا أو أكثر- إذا اقتضت ذلك ضرورة البحث التمهيدي- سحب جواز سفر الشخص المشتبه فيه و إغلاق الحدود في حقه لمدة لا تتجاوز شهرا واحد، و يمكن تمديد هذا الأجل إلى غاية انتهاؤ البحث التمهيدي إذا كان الشخص المعني بالأمر هو المتسبب في تأخير أو إتمامه”
[20] – نصت المادة 49 من ق.م.ج على أن الوكيل العام ” يحق له لضرورة تطبيق مسطرة تسليم المجرمين إصدار أوامر دولية بالبحث و إلقاء القبض”.
[21] – أحمد الخمليشي، م.س ص 260
[22]- في هذا الاتجاه تنص المادة 20 من الظهير الشربف رقم 1.09.213 بتاريخ 23 فبراير 2010 على مجموعة من العقوبات التأديبية تمتد من الإنذار إلى العزل حسب درجة الخطأ المرتكب من طرف الموظف، زيادة على المتابعة القضائية الناجمة عن ارتكابه لأفعال تعد جرائم بمقتضى القانون الجنائي.

 

(محاماه نت)

إغلاق