دراسات قانونية
بحث متعمق يبرز الأهمية القانونية لإعلان قيام سلطة الشعب
القيمة القانونية لإعلان قيام سلطة الشعب
ورقة عمل في القانون الدستوري
إعداد : خالد عبد الرزاق البي
1999م
المحتويات
المقدمة
المطلب التمهيدي : ماهية الدستور
أولاً : مفهوم الدستور
1_ في اللغة
2_ في الاصطلاح
ثانياً : القوانين الدستورية والقوانين العادية
1_ الفرق بين القوانين الدستورية والقوانين العادية
ا_ من الناحية لموضوعية
ب_ من الناحية الشكلية
2_ نتائج التفرقة بين القوانين الدستورية والقوانين العادية
المطلب الأول : إعلان قيام سلطة الشعب والدستور المادي
أولاً: الموضوعات ذات الطبيعة الدستورية في إعلان قيام سلطة الشعب
1_ إعلان قيام سلطة الشعب والأساس القانوني للسلطة السياسية
2_ إعلان قيام سلطة الشعب والشكل القانوني للسلطة السياسية
ثانياً : إعلان قيام سلطة الشعب والدستور المادي
المطلب الثاني : القيمة القانونية لإعلان قيام سلطة الشعب
أولاً : سمو إعلان قيام سلطة الشعب
ثانياً : القيمة القانونية لسمو إعلان قيام سلطة الشعب
المقدمة
بتاريخ 2 مارس 1997م صدر إعلان قيام سلطة الشعب ، وبهذا الإعلان دخلت الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى مرحلة جديدة سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية ، وتميزت هذه المرحلة بنظام حكم جديد يجد أساسه في إعلان قيام سلطة الشعب .
والملاحظ أن إعلان قيام سلطة الشعب قد أثار إشكالاً فيما يتعلق بطبيعته الدستورية ، وقد ورد هذا الإشكال ضمن إطار أوسع تمثل بالتشكيك في وجود دستور من أي نوع في ليبيا .
وقد انتهى هذا الإشكال بالبعض إلى إنكار الطبيعة الدستورية لإعلان قيام سلطة الشعب ، ومع ذلك فهناك من يذهب إلى خلاف ذلك ليؤكد مثل هذه الطبيعة .
فهل يعتبر إعلان قيام سلطة الشعب دستورا أم لا ؟
وما هي القيمة القانونية لهذا الإعلان ؟
وهذا ما سنبحثه في ورقة العمل هذه .
وعليه سنقسم ورقة العمل هذه إلى :
مطلب تمهيدي : ماهية الدستور .
المطلب الأول : إعلان قيام سلطة الشعب والدستور المادي .
المطلب الثاني : القيمة القانونية لإعلان قيام سلطة الشعب .
المطلب التمهيدي
ماهية الدستور
سنبحث في هذا المطلب في مفهوم لدستور أولا ، ثم في تمييز الدستور عن القانون العادي ثانيا ، وذلك على النحو التالي :
أولاً : مفهوم الدستور .
1_ في اللغة : كلمة دستور ليست كلمة عربية الأصل ، بل هي من أصل فارسي تأخذ معنى الأساس أو القاعدة .
2_ في الاصطلاح : تواتر الفقه الدستوري في هذا الشأن على إبراز معنيين متمايزين للدستور :
ا_ الدستور وفقاً للمعيار الشكلي : يعتمد المعيار الشكلي في تحديد معنى الدستور على الشكل أو المظهر الخارجي للقاعدة أو الجهة التي أصدرتها ، وتبعاً لهذا المعيار يعنى الدستور :
(( مجموعة القواعد الأساسية المنظمة للدولة التي صدرت في شكل وثيقة دستورية من السلطة المختصة بذلك )) .
ويمتاز مثل هذا المعيار بالبساطة والتحديد والوضوح ، ولكن على الرغم من هذه المزايا تعرض هذا المعيار للعديد من الانتقادات وهي :
1_ إن الأخذ بالمعيار الشكلي من شأنه أن يؤدى إلى نتيجة غاية في الغرابة ، وهى إنكار وجود دستور في كثير من الدول التي لا توجد بها دساتير مكتوبة كإنجلترا .
وهذه النتيجة لا يمكن الأخذ بها ، إذ من المسلمات في الفقه الدستوري أن لكل دولة دستور يبين شكلها ونظام الحكم فيها وينظم الروابط التي تنشأ بين السلطات العامة .
2_ إن هناك دولاً لا تعطى نصوص دستورها بذاتها فكرة صحيحة عن حقيقة نظام الحكم فيها ، وكيفية سير النظام السياسي فيها .
3_ يؤدى الاعتماد على المعيار الشكلي إلى أن يدخل في مدلوله موضوعات لا تعد دستورية بحسب طبيعتها ، كما يغفل عن موضوعات تعد دستورية بحسب طبيعتها .
ب_ الدستور وفقاً للمعيار الموضوعي : يعتمد المعيار الموضوعي في تحديد معنى الدستور على موضوع أو مضمون أو جوهر القاعدة ، وذلك دون النظر إلى شكلها أو مصدرها .
وتبعاً لهذا المعيار يعنى الدستور : (( الموضوعات التي تعد دستورية من حيث طبيعتها أو في جوهرها سواء وردت هذه القواعد في الوثيقة الدستورية المسماة دستور أو في القوانين العادية )) ، وبذلك يكون لكل دولة دستور ، إذ لا يتصور أن لا يكون لكل دولة قواعد تتعلق بنظام الحكم وسير سلطاتها العامة .
ثانياً : القوانين الدستورية والقوانين العادية .
ظهرت التفرقة بين القوانين الدستورية والقوانين العادية على يد فقهاء القرن السابع عشر والثامن عشر ، وكان يطلق عليها القوانين الأساسية ، ويطلق على السلطة التي تضعها السلطة المؤسسة .
1_ الفرق بين القوانين الدستورية والقوانين العادية :
ا_ من الناحية الموضوعية : فالموضوعات التي تعالجها القوانين الدستورية تختلف عن تلك التي تعالج بالقوانينىالعادية .
فالأولى تعالج المسائل المتصلة بنظام الحكم في الدولة ، والسلطات العامة فيها وطبيعة العلاقة بينها ، كما تبين الضمانات الأساسية للأفراد ، وإزاء هذه السلطات فهي مصدر جميع ما في الدولة من نشاط قانوني ؛ أما الثانية فتعالج ما عدا ذلك من موضوعات مثل قواعد القانون المدني والجنائي والإداري …الخ .
ب_ من الناحية الشكلية : والتفرقة من هذه الناحية لا تظهر إلا في ظل دستور يتبع في طريقة وضعه وتعديله إجراءات أشد تعقيداً من إجراءات وضع وتعديل القوانين العادية .
وهذه التفرقة لا يمكن القول بها إلا إذا كان الدستور جامداً ، أما الدول ذات الدساتير المرنة ، فلا تعرف التفرقة بين القوانين الدستورية والقوانين العادية ، فالإجراءات المتطلبة في وضع كل منهما ، وفى تعديلها واحدة ، كما أن السلطة التي تقوم بذلك واحدة .
ومن أبرز الدول التي لا تعرف التفرقة بين القانون الدستوري والقانون العادي المملكة المتحدة .
2_ نتائج التفرقة بين القوانين الدستورية والقوانين العادية :
ا_ القوانين الدستورية تكون أكثر ثباتاً من القوانين العادية : وهذا أمر بديهي يحتمه منطق الأشياء ، إذ مادامت القوانين الدستورية تتطلب لتعديلها إجراءات أشد وأقسى من تلك التي تتبع في شأن تعديل القوانين العادية ، فإن ذلك يؤدى بها حتماً إلى الثبات ويجعلها بالتالي أكثر استقراراً .
ب_ القوانين الدستورية لا تلغى إلا بقوانين دستورية مماثلة : لما كانت القوانين الدستورية أسمى من القوانين العادية وتعلوها ، فإنه لا يمكن تعديلها أو إلغاؤها إلا بقوانين لها ذات المكانة ونفس الدرجة ، ويعنى ذلك أن القوانين العادية أقل مرتبة من القوانين الدستورية ، فالقانون الأدنى لا يستطيع أن يعدل أو يلغى القانون الأسمى منه .
ج _ عدم جواز تعارض القوانين العادية مع القوانين الدستورية : يترتب على التفرقة بين القوانين الدستورية والقوانين العادية وإعطاء الأولى المنزلة العليا ومكان الصدارة على سواها من القوانين السائدة في الدولة ، أنه لا يجوز لهذه القوانين الأخيرة أن تخالف أحكام الدستور ، إذ يجب أن تصدر القوانين العادية في نطاق الأحكام التي تتضمنها القوانين الدستورية وإلا كان في ذلك خروجاً من السلطة التشريعية عن حدود سلطاتها ، وغدت القوانين الصادرة عنها في هذا الخصوص غير دستورية وباطلة .
المطلب الأول
إعلان قيام سلطة الشعب والدستور المادي
احتوت وثيقة إعلان قيام سلطة الشعب على ديباجة وأربعة مواد ، ولعل أهم هذه المواد هي الأولى والثانية والثالثة :
(( أولاً : يكون الاسم الرسمي لليبيا (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية ) .
ثانياً : القرآن الكريم هو شريعة المجتمع في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية .
ثالثاً : السلطة الشعبية المباشرة هي أساس النظام السياسي في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية ، فالسلطة للشعب ولا سلطة لسواه ، ويمارس الشعب سلطته عن طريق المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية والنقابات والاتحادات والروابط المهنية ومؤتمر الشعب العام ، ويحدد القانون نظام عملها . )) .
فهل هذه الموضوعات ذات طبيعة دستورية ؟
وعليه فسنبحث في الموضوعات ذات الطبيعة الدستورية في إعلان قيام سلطة الشعب أولا ، ثم في مدى توافق إعلان قيام سلطة الشعب مع الدستور المادي ، وذلك على النحو التالي :-
—
أولاً : الموضوعات ذات الطبيعة الدستورية فى إعلان قيام سلطة الشعب .
بالنظر بتمعن للمواد السابقة سنرى أن فيها مقومات الدستور فتبين لنا المادة الأولى شكل الدولة ، وتبين لنا المادة الثالثة جوهر النظام السياسي في ليبيا وكيفية ممارسة السلطة ، وإذا ما وضعنا هذه الموضوعات ضمن إطارها الحقيقي سنرى إنها تشتمل على موضوعين هما :-
1_ الأساس القانوني للسلطة السياسية .
2_ الشكل القانوني للسلطة السياسية .
وعليه سنبحث في الأساس القانوني والشكل للسلطة السياسية في إعلان قيام سلطة الشعب ، وذلك على النحو التالي :-
1_ إعلان قيام سلطة الشعب والأساس القانوني للسلطة السياسية : يقصد بالأساس القانوني للسلطة السياسية المصدر الذي تستمد منه السلطة التي يقوم على أساس منها كل نظام سياسي .
ولم يكن هذا الأساس واحداً في جميع المراحل التاريخية ، وكذلك لا يبدوا واحداً في الوقت الحاضر ، فبعض الدساتير تجعل من الأمة الأساس القانوني للسلطة السياسية ، بينما هناك دساتير أخرى تجعل من الشعب أساس قانوني للسلطة السياسية .
أما إعلان قيام سلطة الشعب فقد نص في المادة الثالثة على : (( السلطة الشعبية المباشرة هي أساس النظام السياسي في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية ، فالسلطة للشعب ولا سلطة لسواه )) .
ومن هذا النص يتضح بأن إعلان قيام سلطة الشعب قد أخذ بسيادة الشعب كأساس قانوني للسلطة السياسية .
ولكن هل هذا الأساس القانوني ذي طبيعة دستورية أم لا ؟
لقد ذهب العميد (كاره دى مالبرك ) إلى القول : (( إذا ما تم التساؤل من أين يستمد الماسكون بالسلطة مهما كان هؤلاء ، ……، سوف تتلخص الإجابة ، من الناحية القانونية ، بالقول بأنهم يستمدون هذه الصفة ، ويحصلون على اختصاصهم من النظام القانوني القائم بهذا الخصوص في كل دولة ، وهذا النظام القانوني يحتويه الدستور . فهم يستمدون اختصاصهم من الدستور ، فبمقتضى الدستور يمارس هؤلاء اختصاصهم )) .
ويرى الأستاذ ( بردو ) أنه : (( مند أن تم على المستوى العملي وضع الدساتير ، لم يغب عن بال أحد سبب وجودها ، فهي التي تقرر القواعد التي بموجبها تفرض السلطة العامة نفسها وتنتقل وتمارس )) ؛ فالأساس القانوني للسلطة السياسية لا يمكن أن يتقرر بمعزل عن الدستور ، مما يؤكد بأنه جزءاً أساسياً منه ليتمتع بالتالي بطبيعة دستورية .
2_ إعلان قيام سلطة الشعب والشكل القانوني للسلطة السياسية :
إن الكلام عن الشكل القانوني للسلطة السياسية لا يعنى الكلام عن النظام السياسي ، وإنما الكلام عن جانب معين منه ، فالشكل الذي تتخذه المؤسسات الحكومية يكون عنصراً من عدة عناصر تساهم في تكوين النظام السياسي ، ولكنه لا يشكل كل النظام السياسي .
والشكل القانوني للسلطة السياسية يتحدد بموجب الإجابة على التساؤل التالي الذي يطرحه الدكتور محسن خليل ، وهو كيف تمارس السلطة ؟ هل تتركز في يد هيئة واحدة أم توزع على هيئات متعددة ؟ .
كما نعلم أن للحكومة العديد من التعريفات ، إلا أن ما يعنينا منها في هذا الخصوص هو تعريفها بأنها (( طريقة استخدام السلطة وممارسة الحكم )) .
ومن هذا التعريف يمكن القول أن السلطة تمارس عن طريق الحكومة ، إلا أن الحكومة لها عدة صور أو أشكال ، فهي من حيث الخضوع للقانون ، تنقسم إلى حكومة استبدادية وحكومة قانونية ، ومن حيث الرئيس الأعلى ، تنقسم إلى حكومة ملكية يستمد رئيسها الأعلى حقه من الوراثة ويسمى ملكاً أو أميراً أو سلطاناً أو قيصراً .
وحكومة جمهورية يعين رئيسها الأعلى بطريق الانتخاب لا الوراثة .
وهى من حيث مصدر السيادة (1)، تنقسم إلى حكومة فردية يتولى فيها السلطان فرد واحد يعتمد على نفسه وغير مستند إلى الشعب ، ولها عدة صور فقد تكون _ملكية استبدادية _ ملكية مطلقة _ دكتاتورية .
وحكومة أرستقراطية يكون السلطان مركزاً في يد فئة قليلة من الأفراد .
وحكومة ديموقراطية تكون السلطة فيها بيد الشعب ، ولها عدة صور _ديموقراطية مباشرة يباشر الشعب الحكم بنفسه _ ديموقراطية نيابية ينتخب فيها الشعب برلمان يمارس السلطة نيابة عنه _ ديموقراطية شبه المباشرة يشارك فيها الشعب البرلمان النيابي بعض مظاهر التشريع .
ومن استقراء المادة الثالثة من إعلان قيام سلطة الشعب يتبين لنا أن إعلان قيام سلطة الشعب قد اعتمد الديموقراطية المباشرة وهى سلطة الشعب كشكل قانوني للسلطة السياسية ، ولكن هل الشكل القانوني للسلطة السياسية ذا طبيعة دستورية أم لا ؟ .
بالنسبة للشكل العام للسلطة السياسية فالملاحظ أنه لا ينفصل في وجوده عن الأساس القانوني للسلطة السياسية ، فقد أكد العميد ( موريس هوريو ) قائلاً : (( إن الحكومة التمثيلية ( كشكل عام للسلطة السياسية ) تقود بشكل غير مباشر نحو سيادة الأمة ( كأساس قانوني للسلطة السياسية ) ، وذلك عن طريق الممارسة الطويلة للنظام الانتخابي )) .
إن هذا الترابط ما بين الأساس القانوني للسلطة السياسية وشكلها القانوني ربما يسمح بالقول بالطبيعة الدستورية للأخير ، ولكن الطبيعة الدستورية للشكل القانوني للسلطة السياسية تتجلى بشكل أكثر إذا ما تذكرنا أن الشكل القانوني للسلطة السياسية يستمد وجوده من نص الدستور ، فالدستور هو الذي يتكفل بتعيين الشكل القانوني للسلطة السياسية ، فمثلاً تنص المادة الثانية من دستور المملكة الليبية على : (( ليبيا دولة ملكية وراثية ونظامها نيابي وتسمى المملكة الليبية )) .
ثانياً : إعلان قيام سلطة الشعب والدستور المادي .
الدستور المرن أو المادي هو الذي يوضع و يعدل بنفس الإجراءات اللازمة لتعديل القوانين العادية ، وعن طريق السلطة ذاتها التي تتولى تعديل القوانين العادية ، دون آي إجراءات إضافية تميز الدستور عن غيره من القوانين العادية .
والدستور الجامد ذلك الدستور الذي لا يمكن تعديله إلا بإجراءات خاصة تختلف عن تلك التي تتبع في شأن تعديل القوانين العادية ، والإجراءات المتعلقة بوضع الدستور وتعديله هي ما يعرف بالشكلية الدستورية ، حيث يفترض وجود جهة خاصة متميزة عن السلطة التشريعية تقوم بوضع الدستور وتعديله .
ويطلق على هذه الجهة السلطة التأسسية ( الدستورية ) ، ومن الملاحظ أن الشكلية الدستورية ، وهى تقترن بوجود سلطة تأسسية متميزة عن السلطة التشريعية سوف تنتهي إلى افتراض وجود عدة مستويات للسلطة ، كل مستوى يرتبط بجزء معين من أجزاء السلطة ، لتبدوا السلطة التأسسية في القمة من هذه المستويات بقدر ما تكون متفوقة بالقياس إلى السلطة التشريعية ليكون الدستور الذي تقوم بوضعه والتعديل الذي تدخله عليه متفوقاً بالقياس إلى القانون العادي .
وحيث أن إعلان قيام سلطة الشعب اعتمد سلطة الشعب الذي لا سلطة لسواه ، والذي يمارسها عن طريق المؤتمرات واللجان الشعبية ، فإنه يكون قد اعتمد مبدأ وحدة السلطة ، وبذلك سوف لن تكون هناك إمكانية للكلام عن سلطة خاصة بالتشريع وسلطة خاصة بالتنفيذ ، وقياساً على ذلك سوف لن تكون هناك إمكانية للكلام عن سلطة خاصة بوضع الدستور ، وهى السلطة التأسسية ( الدستورية ) .
فبهذا الشكل يتم الخلط بين السلطة التأسسية والسلطة التشريعية ، وبذلك فإن النصوص الوضعية التي تشكل دستوراً بالطبيعة سوف توضع من قبل الشعب ، وهو يقوم بوضعها في نفس الوقت الذي يقوم فيه بوضع القوانين العادية ، وبنفس الإجراءات .
وعليه فإن الشكليات الدستورية لن يكون لها وجود ، وعندما يفتقد الدستور لمثل هذه الشكليات ، فإنه سوف يتخذ صيغة القانون العادي ، ويمثل نموذجاً أخر ، وهو نموذج الدستور المادي ، وهو يتخذ مثل هذا النموذج إذا ما تم افتراض وجود موضوعات معينة بالذات يختص بها الدستور دون غيره من القوانين الأخرى على اعتبار أن مثل هذه الموضوعات تشكل ميدانه الخاص به .
المطلب الثاني
القيمة القانونية لإعلان قيام سلطة الشعب
لقد تبين لنا مما تقدم إن إعلان قيام سلطة الشعب دستور ، ولكنه كذلك في حدود المعيار المادي للدستور ؛ فهل إعلان قيام سلطة الشعب باعتباره دستور وهو يخضع للمعيار المادي للدستور يتمتع بالسمو بالقياس إلى القوانين العادية ؟ وإذا كان كذلك فما هي القيمة القانونية لهذا السمو ؟
وعليه سنبحث في سمو إعلان قيام سلطة الشعب ، ثم في القيمة القانونية لهذا السمو ، وذلك على النحو التالي :-
أولاً : سمو إعلان قيام سلطة الشعب :
يقصد بسمو الدستور اعتبار الدستور القانون الأعلى في الدولة ، فيعلوا على ما عداه من قوانين وأعمال ، وسموا الدساتير نوعان ، سمواً شكلياً وسمواً موضوعياً ، فما المقصود بكل منهما :-
1_ السمو الشكلي للدستور : لا يتحقق السمو الشكلي للدساتير إلا إذا كان تعديل الدساتير يتطلب إتباع إجراءات خاصة ( أكثر تعقيداً ) تختلف عن إجراءات تعديل القوانين العادية ؛ ولا يظهر هذا المبدأ واضحاً إلا في الدستور الجامد ، دون سواه ، فالدستور الجامد هو الذي يتطلب في تعديله إجراءات شديدة ومعقدة ، وهذا الجمود هو الذي يجعل للقاعدة الدستورية مكانة أسمى من القواعد القانونية العادية ؛ ونتيجة لهذا السمو فإنه يوجد نوعان من التشريع ، تشريع أعلى وهو الدستور وتشريع يليه درجة وهو القانون ، أي قوانين دستورية وقوانين عادية .
2_ السمو الموضوعي للدستور : يكمن السمو الموضوعي للدستور في طبيعة ومضمون القواعد الدستورية ،وكذلك في طبيعة الموضوعات التي يقوم على تنظيمها ، إذ تحدد قواعده أسس نظام الحكم فيها ، وتحديد السلطات العامة بها وكيفية ممارستها لوظائفها ، هذا فضلاً عن تحديد الفلسفة أو الأيديولوجية التي يقوم عليها نظام الحكم سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية .
ويظهر السمو الموضوعي للدستور في المظهريين التاليين (4) :-
ا _ فالدستور يعتبر السند الشرعي لوجود الهيئات الحاكمة في الدولة وهو الذي يحدد اختصاص كل منها ، وعليه فيجب على هذه الهيئات أن تخضع فيما تمارسه من اختصاصات لأحكام الدستور ، وإلا أنها ستهدم السند القانوني لوجودها ، وأساس شرعية تصرفاتها .
ب _ إن الدستور هو الذي يحدد فكرة القانون السائدة في الدولة ، فهو الذي يحدد الفلسفة أو الأيديولوجية التي يقوم عليها النظام القانوني المطبق ، ولما كان الدستور هو الذي يحدد الإطار القانوني العام للدولة ، فيكون على الهيئات الحاكمة الالتزام بما رسمه الدستور في هذا الخصوص ، والتقيد بالفلسفة أو الأيديولوجية التي يستلهمها الدستور ويقوم مرتكزاً عليها ، وإلا كان باطلاً كل إجراء أو نشاط صادر عنها يتعارض مع الفلسفة أو الاتجاه السائد في الدولة .
ولسمو الدستور من الناحية الموضوعية عدة نتائج أهمها :-
_ يؤدى السمو الموضوعي إلى منع إمكانية التفويض في الاختصاص ، فالدستور حين يمنح إحدى الهيئات الحاكمة في الدولة اختصاصاً معينا ، فهو يمنعها في ذات الوقت من تفويض ذلك الاختصاص إلى هيئة أخرى ، إلا إذا نص الدستور على خلاف ذلك وأباح التفويض .
_ يؤدى إلى تدعيم وتأكيد مبدأ المشروعية ، وأتساع نطاقه ، بحيث يشمل إلى جانب احترام القواعد التشريعية الصادرة عن السلطة التشريعية ، احترام القواعد الدستورية ، فيصبح التصرف المخالف للدستور تصرفاً غير شرعي ، حتى ولو صدر عن سلطات الدولة ، فلا تملك هذه السلطات أن تخرج على أحكام الدستور ، لأنها إن فعلت ذلك فقدت شرعيتها في التصرف وتجردت أفعالها من قيمتها القانونية .
وإذا ما عدنا إلى إعلان قيام سلطة الشعب باعتباره وثيقة دستورية ، استناداً للمعيار المادي ، سوف يتمتع بمثل هذا السمو – السمو الموضوعي – بقدر ما جسد المشروعية الدستورية من خلال اعتماده لمبادئ عليا ، وكشف عن الفلسفة والأيديولوجية التي تحكم النظام القائم وذلك من خلال تأكيده على الأخذ (( بالنظام الديموقراطي المباشر )) و (( الإقرار بسلطة الشعب )) والإعلان عن (( التمسك بالاشتراكية تحقيقاً لملكية الشعب )) ، و ((التمسك بالقيم الروحية ضماناً للحقوق والحريات بالنص على القرآن الكريم شريعة المجتمع وما تحتويه هذه الشريعة من مبادىء عامة مثل – الشورى – العدل – المساواة – الحرية )) .
ومما تقدم يمكن القول بأن إعلان قيام سلطة الشعب يتمتع بالسمو إلا أن هذا السمو موضوعي وليس شكلي ذلك أن السمو الشكلي لا يتحقق إلا للدستور وفقاً للمعيار الشكلي ، غير أنه يلاحظ أن النتائج المترتبة على السمو الموضوعي تصبح هباءً منثوراً إذا لم تنظم رقابة جدية على دستورية القوانين ، ولا يمكن تنظيم هذه الرقابة ما لم يتحقق للدستور السمو من الناحية الشكلية .
ثانياً : القيمة القانونية لسمو إعلان قيام سلطة الشعب .
كما رأينا أن السمو الموضوعي للدستور يكمن في طبيعة ومضمون القواعد الدستورية وكذلك في طبيعة الموضوعات التي يقوم على تنظيمها .
إلا أن مبدأ سمو الدساتير لا ينتج أثره ما لم تنظم طرق أو وسائل تكفل احترامه -حتى يمكن تقرير إبطال كل ما يصدر في الدولة من أعمال بالمخالفة لهذا المبدأ – أي بتنظيم رقابة على دستورية القوانين ، ولا يتصور تنظيم هذه الرقابة ما لم يتحقق للدساتير السمو الشكلي بجانب سموها الموضوعي .
وعليه فالسمو الشكلي للدساتير وعلوا القواعد الدستورية على القواعد الأخرى المطبقة في الدولة لا يمكن أن يتحقق بالنسبة للدساتير المرنة ، ذلك أن السلطة التشريعية تستطيع تعديلها بذات الإجراءات التي تتبع بشأن تعديل القوانين العادية الصادرة عنها ، فتستطيع هذه السلطة أن تخرج على الدستور فتخالف أحكامه فيما تسنه من قواعد قانونية ، دون أن يترتب على هذا الخروج أو تلك المخالفة أية آثار قانونية ، إذ تعد القواعد المخالفة في هذا الخصوص لأحكام الدستور معدلة له .
وبذلك فأن السمو الموضوعي للدساتير والنتائج المترتبة عليه تظل أهميتها مقصورة على المجال السياسي المحض ، دون المجال القانوني ، بمعنى أن إغفال هذا المبدأ قد يؤدى إلى آثار سياسية واجتماعية دون أن يؤدى إلى أية آثار قانونية ، كإبطال الأعمال القانونية الصادرة بالمخالفة لأحكام الدستور .
وحيث أن إعلان قيام سلطة الشعب يعتبر دستوراً ، إلا أنه كذلك في حدود المعيار المادي للدستور ، أي أنه بعبارة أوضح دستور مرن ، أي أنه سيكون قابل للتعديل عن طريق إجراءات مماثلة لتلك المستخدمة في القانون العادي .
وبقدر ما يكون إعلان قيام سلطة الشعب دستوراً مرناً ، فإنه سيتمتع بالسمو ، إلا أن هذا السمو سيكون موضوعياً ذلك أن السمو الشكلي للدساتير لا يمكن أن يتحقق بالنسبة للدساتير المرنة، وكما سبق وأن رأينا أن السمو الموضوعي أو المادي للدستور لا يتمتع إلا بقيمة سياسية واجتماعية محضة .
فمبدأ سمو الدساتير لا ينتج أثره القانوني ما لم يتحقق للدساتير السمو الشكلي بجانب السمو الموضوعي وهذا ما يفتقده إعلان قيام سلطة الشعب .
الخـــاتمة
إن وثيقـة إعـلان قيـام سـلطة الشـعب قد تضمنت عدة مبادئ أساسية للنظـام الجماهيري ، وبـذلك لا يـمكن اعتبارها تشريعاً عادياً ، وعليه يمكن تكييفها من الناحية الموضوعية على أنهــا وثيقـة ذات طبيعة دستورية .
أما من حيث الشكل فلا تختلف عن التشريع العادي ، حيث أن هذه الوثيقة قد أقرت وتمت صياغتها من قبل المؤتمرات الشعبية الأساسية ، ولكن المعيار المادي ليس من شأنه أن يسمح بالتمايز بين إعلان قيام سلطة الشعب والقوانين العادية ، ذلك أن المعيار المادي ينتهي بالقوانين الدستورية إلى أن تتمتع بالسمو المادي أو الموضوعي فقط ، والسمو الموضوعي لا يوفر بالنسبة للقوانين الدستورية إلا قيمة سياسية ، وبالتالي فإن مثل هذا السمو لا يقترن بنتيجة قانونية لا سيما فيما يتعلق بتقدم القوانين الدستورية بالقياس إلى القوانين العادية ، وبالتالي عدم تقدم أو سمو إعلان قيام سلطة الشعب بالقياس إلى القوانين العادية .