دراسات قانونية
المدن الجديدة كنموذج جديد للحكامة الحضرية (بحث قانوني)
المدن الجديدة بالمغرب نموذج جديد للحكامة الحضرية
-دراسة حالة مدينة تامنصورت
الدكتور محمد البكوري
باحث في الحكامة والمجتمع المدني.
موضوع هام للقراءة : رقم هيئة الابتزاز
مقدمة :
هذا عصر المدن، وليس عصر الدول، والقرن الحادي والعشرون هو قرن المدن المعولمة، بعد أن كان القرن العشرون قرن الدول العظمى((1. بهذه الحقيقة المفرطة في البداهة، وكنتيجة ملموسة لمجموعة من التحديات الديمغرافية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية، أضحت المدن بمثابة الأفق الإستشرافي الفسيح الذي سيرتهن به مستقبل العالم بأسره . إن المدن لم تعد مرتبطة بمجال محلي أو وطني، بل أصبحت طرفا من أطراف الشمولية Globalisationوالعولمة Mondialisation والتنافسية أيضا((2 . فمدن اليوم، وفي شتى أرجاء المعمور، تعرف تغيرات سريعة على مختلف الأصعدة بسبب تزايد عدد قاطنيها وتوسع فضاءاتها وتعقد الحياة بها.
وهي التغيرات التي نجمت عنها مشاكل متعددة حتمت على صناع القرار ومتخذي السياسات العمومية التفكير العميق في إيجاد الحلول الناجعة لها. في هذا الصدد، ومن أجل تجاوز المشاكل التي أضحت تتخبط فيها المدن المعاصرة، ومنها أساسا الضغط المتزايد الذي ما فتئت تعاني منه نتيجة التمدن السريع وما يرتبط به من اكراهات جمة، أتت سياسة المدن الجديدة كبديل وجيه وناجح للقضاء على كل ما من شأنه إضفاء المزيد من الأعطاب والتشوهات على نمط الحكامة الحضرية أو حكامة المدن.هذه الأخيرة، التي أخذ يكتسي موضوعها حاليا أهمية بالغة على المستوى العالمي، حيث أصبح هذا الموضوع محط نقاش واسع داخل المؤسسات الدولية والهيآت الوطنية، وهي الحكامة التي أخذت توصف في العديد من دول العالم الثالث، خاصة منها دول العالم العربي ب”الحكامة السيئة “، حيث عرفت العديد من هذه الدول اختلالات كثيرة مست نمط حكامتها الحضرية، لم تتمكن النظم المتنوعة للتخطيط الحضري من إيجاد العلاجات الضرورية لها. وفي المقابل، حاولت أن توجد لها بعض الحلول المهدئة أو المسكنة Palliatives.وهي الحلول التي توخت أساسا البحث عن البدائل الممكنة للتعامل مع المدينة كتنظيم جد معقد ((3،ينتظر من الجميع الفهم الجيد لتحولاته المتلاحقة وتطوراته المتسارعة المرتبطة في شموليتها بمختلف السياقات المحلية والدولية، ومنها سياقات العولمة الجارفة والتنافسية المحتدمة. وفق هذا المعطى المتغير، أصبح لزوما على الدول إرساء نمط حكامة جديد لمنظومتها الحضرية، نمط يسائل في العمق المناهج التدبيرية المتعمدة، ويحاول تقويم الاعوجاجات المرصودة على مستواها، بغية تجاوزها وبناء مستقبل حضري مشرق.
وهي المسألة التي وعى بها المغرب تمام الوعي، في إطار حرصه على إعادة بناء مشهده الحضري المتصف ولمدة طويلة من الزمن، بكل أشكال الاختلالات، ولعدة أسباب جوهرية، وعلى رأسها غياب الرؤية الإستشرافية. الشيء الذي أثر سلبا على تنافسية مدنه وجاذبيتها، مما حتم ويحتم، على كل الفاعلين والمتدخلين في تدبير الشأن الحضري البحث المضني عن الصيغ الممكنة لجعل المدن المغربية أكثر بريقا وأكثر تناسقا. ففي خضم التحولات الحضرية العامة، والتي تخلفت السياسات السكنية لدول الجنوب عموما عن مواكبتها، عرف المغرب منذ بداية القرن الماضي موجات ضخمة وكبيرة من هجرة سكان القرى في إتجاه المدن، فارتفعت ساكنتها بشكل ملفت للنظر، وأصبحت غير قادرة على استيعاب تداعيات تحولاتها الديمغرافية والمجالية.
لقد ورث المغرب خلال فترة الاستقلال وضعية حضرية معقدة، تمثلت أساسا في نمو حضري مرتفع جدا يصل الى حوالي 5 ,4في المائة سنويا،وتنامي مدن الصفيح وارتفاع حدة الهجرة القروية التي اتجهت نحو المدن الكبرى،مما خلق للسلطات العمومية مشاكل كبرى على مستوى تأطير وهيكلة وتنظيم المجال الحضري، خاصة بعد تفاقم مشكل السكن وتطور الأحياء الهامشية والصفيحية .هكذا عرف المغرب كغيره من بلدان العالم الثالث حركة تمدين سريعة بتزامن مع ارتفاع النمو الديمغرافي وكثافة الهجرة القروية نحو التجمعات الحضرية. إنه، إذا كانت الدولة قد تدخلت في إطار السياسات السكنية المتبعة لما بعد 1956، عن طريق إعادة هيكلة بعض أحياء السكن غير اللائق، وتشييد التجزئات السكنية، بهدف مد سوق السكن بأنواع متعددة من المساكن، تستفيد منها شرائح اجتماعية مختلفة، فإن هذه السياسة أثبتت عدم فعاليتها، لذا بدأ المغرب يتجه نحو إحداث مشاريع كبرى أخذت طابع “مدن جديدة”. فلقد حاولت الجهات المكلفة بقضايا السكن والتعمير، في كل مناسبة يكون فيها تقييم السياسة العامة في هذا المجال، تطوير أشكال التدخل بما يتناسب مع الأولويات والإمكانيات وبالمقارنة مع ما أمكن تحقيقه في تجارب سابقة. غير أن هذا التطوير المتذبذب لآليات التدخل ظل يواجه تطورات هائلة في الرهانات الواجب تحقيقها، لاسيما منها ما يخص استئصال جميع أشكال السكن غير اللائق من المشهد الحضري بالمغرب، والذي لا يخرج عن قاعدة عامة يشترك فيها مع جل الدول النامية وهي سوء تدبير المجالات الحضرية .
ومن ثم فإن تزايد الصعوبات التي طرحتها المسألة الحضرية وضرورة البحث عن مقاربة لوضع حد للتدهور الذي تشهده عديد من المدن المغربية وضواحيها، ولهشاشة البنية الاجتماعية، وتعدد أشكال الإقصاء والتهميش، دفع الأمر بالسلطات العمومية إلى البحث عن مقاربات جديدة تسعى إلى إعطاء نفس جديد لتدبير التدخلات في مجال الحكامة الحضرية ومايرتبط بها من سياسات واستراتيجيات.وهنا، جاء تبني المغرب لسياسة المدن الجديدة. فلقد شكلت الدينامية الملحوظة التي عرفها قطاع العقار والسكن بالمغرب منذ سنة 2002، المنطلق الأساسي لفتح أوراش عقارية رائدة أهمها ورش “المدن الجديدة”، والذي تبلور كسياسة تعميرية تتغيا مواكبة التوسع العمراني والتطور المجالي اللذان ما فتئ يعيش على إيقاعهما السريع المغرب الحديث، وكذا التحكم “المعقلن” في التعمير بمحيط وأرجاء التجمعات السكنية الكبرى، من خلال التخفيف من حجم الضغط الذي أخذت تعرفه المدن الكبرى أساسا ( الدار البيضاء، الرباط، مراكش…) وامتصاص المستويات المختلفة للعجز السكني المرتبط بها، ثم إيجاد الإطار الملائم لنمط عيش الساكنة الحضرية، عبر تزويد فضاءات تمركزها بكل أشكال المرافق الأساسية والضرورية للحياة الكريمة.
إن سياسة المدن الجديدة كمقاربة حكامتية، كما وكيفا، هي نتاج تراكمي لتجربة أكثر من خمسة عقود، مر منها المغرب في مجال التنمية الحضرية، وهي التجربة، وإن كانت قد مكنت من تحقيق بعض المكتسبات، فإنها في الوقت ذاته أفرزت العديد من الاختلالات جعلت المدن المغربية مدن “مشوهة” عمرانيا. وبالتالي يظل الهدف الرئيسي من هذه السياسة، هو تجاوز هذه الاختلالات من أجل ضمان تمدن متوازن ومتجانس. هكذا، ومن أجل إيقاف نزيف الزحف المتزايد للتجمعات السكنية الكبرى والتوسع الفوضوي على حساب ضواحي المدن ومواكبة النمو الديمغرافي المتسارع في المجال الحضري وإعادة التوازن الحقيقي لتهيئة التراب وضبط إواليات السوق العقاري، أخذ المغرب- ومنذ السنوات الأولى من الألفية الثالثة – على عاتقه انجاز 15 مدينة جديدة((4، في أفق سنة 2020. في هذا الصدد، وبقرار ملكي في يوم 21 دجنبر 2004،شرع في تشييد مدينة “تامنصورت”، على بعد عشرة كيلومترات، من مدينة مراكش. لتشكل المنطلق التأسيسي لسياسة المدن الجديدة بالمغرب.
إن مدينة “تامنصورت”، والتي تم الشروع في انجازها فوق مساحة اجمالية قدرت ب 1200 هكتار، كنواة أولى لوعائها العقاري- والمنتظر تمديده مستقبلا- والمتواجدة بتراب الجماعة القروية “حربيل”، والمزمع استشرافيا أن تحتضن ساكنة تناهز 450 ألف نسمة، جاءت في وقت عرفت فيه مدينة مراكش، موجة ازدهار عمراني وعقاري منقطع النظير، خاصة في ظل التدفق السكاني الهائل، الذي ما فتئت تعرفه المدينة الحمراء. فمن بين الأسباب الوجيهة التي حفزت على التفكير في تبني خيار انجاز مدينة تامنصورت، نجد التصدي لإكراهات الضغط العمراني على مدينة مراكش والمحافظة على مكانتها السياحية والتاريخية الراقية. عموما، لقد تسبب تكاثف مجموعة من العوامل في ظهور أزمة حضرية حادة، أدت إلى تطور سريع لمشاكل المجال الحضري من جملتها: انتشار جميع أشكال السكن غير اللائق، أزمة التنقل ومشاكل البيئة والمشاكل الاجتماعية… ولهذه الأسباب كان من الضروري إيجاد حلول بديلة لتدبير مشاكل المجال والاستجابة للحاجيات الاجتماعية للساكنة الحضرية. وبناء على ذلك تبلورت إستراتيجية المدن الجديدة((5 .
ومن حيث المنطلق، تبرز سياسة المدن الجديدة، كإبداع مميز، يفترض توافر متطلبات تقنية وثقافية ويعول عليه لتحقيق رهانات عمرانية وبيئية واجتماعية، خاصة أن شكلها النهائي لم يكن ثمرة تطور عبر الزمن، وإنما تم تصورها كمشروع متكامل، وفق تخطيط تم إعداده مسبقا((6. وبصفة عامة، فإن تقييم أي مشروع حضري يتطلب التحديد الدقيق للعناصر التالية((7:ما الهدف من المشروع الحضري ؟ما هي الوسائل والإمكانيات المتاحة ؟ما حدود مساهمة الفاعلين في المشروع الحضري ؟ما هي نتائج المشروع الحضري وآثاره على المستفيدين وعلى المنطقة المستهدفة؟…الخ
على ضوء ذلك، فإن تصور المدينة الجديدة كمشروع حضري، يستوجب بالضرورة التوسل بهذه العناصر، للوقوف على مدى تمكنه من إواليات الحكامة الحضرية. ومن ثم تبلور المدينة الجديدة، كمدينة مندمجة ومنسجمة، ضمن مخطط شامل لتهيئة المدن، ومركزا حضريا قائما بذاته، معتمدا على مؤهلات هائلة اقتصادية ومرافق عمومية عصرية. كما تمثل مدينة للجميع، ولكل الفئات الاجتماعية، لخدمة تنوع اجتماعي مستدام، وتضمن في الآن نفسه للساكنة محيطا بيئيا متميزا، بالإضافة لمرافق القرب وتنوع الأنشطة. غير أن كل ذلك لايتم بين عشية وضحاها، كما لا يعني اطلاقا، أنه يمر دون مشاكل.فالاكراهات، تظل موجودة وبأشكال متعددة.الشيء الذي يستلزم على نمط المدن الجديدة، التفكير، وباستمرار، في إيجاد الحلول الناجعة للمشاكل التي قد تعترض طريقه .
أولا: “المدن الجديدة” ، مدخل حول إرهاصات النشأة:
لقد ظل تأسيس وبناء المدن محل اهتمام الحكام عبر التاريخ، وظهور المدن الجديدة ليس بالأمر الحديث .ففكرة المدن الجديدة رددت منذ أقدم العصور. ففي القديم، كان بناء المدن الجديدة، يعود أساسا إلى تطور الحضارات عمرانيا. فبنيت مدن بأكملها، كقلاع أثناء الحروب وبجانب المقالع و التوسع على الأراضي المستعمرة.
إلا أنه، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر للميلاد، بدأت في الظهور عدة مدن جديدة، لأسباب اقتصادية، لاسيما في المناطق التي تحتوي على المناجم الضخمة، مثل منطقة “Ruhr” بألمانيا، وذلك لاستيعاب العدد الكبير من العمال((8.
لقد برزت عدة نظريات تناولت موضوع “المدن الجديدة”وعالجته من عدة زوايا. وأهمها تلك التي تطرق إليها كتاب السوسيولوجي البريطاني Patrik Geddes والمعنون ب ” مدن في تطور”، والذي حاول أن يحلل فيه العلاقات الوسطية في الإقليم الوظيفي للمدن، وليعالجها مستقبلا في جدوله المشهور سكن lieu عملtravail سكانhabitants .
وغيديس هو أول من إستعمل مصطلح “إقليم المدينة”، كما حاول أن يحدد مجال نفوذ المراكز العمرانية في الوسط ويطور شبكة حضرية متزنة مستقبلا بإضافة مدن جديدة صغيرة الحجم لنشاط المدن الكبرى في الوظائف الحضرية، والتي تقلل من هيمنتها وتخفف عليها الضغط في مختلف مجالات الأنشطة الحضرية((9.
إن فكرة المدن الجديدة ستعرف إنتعاشة مع المخطط الانجليزي أبنزر هوارد Howard Ebenezer والذي إقترح إنشاء “مدن الحدائق” بانجلترا في كتابهTomorrow Peaceful Path Ta real reform، والذي أعيد نشره بعنوان مدن حدائق الغد . Garden Cites Of tomorrow ورغم أن أفكار هوارد في هذا الصدد، ليست كلها من إبتكاره، بل كانت متأثرة بالإرهاصات السابقة لفكر اليوتوبيا التي نادى بها جملة من المفكرين خلال عصر النهضة((10،فإنها على الأقل قدمت نظرية مهمة في علم الاجتماع الحضري، حيث فكر هوارد –وفق هذه النظرية- في مدينة خالية من المشاكل،
تقدم لسكانها الخدمات الراحة. إذ كان الاعتقاد السائد من قبل، أنه لا يوجد في مجال المدن أو القرى، إلا أحد إحتمالين المدينة بكل مقوماتها وأنشطتها التجارية والصناعية والسكنية وكثافتها السكانية وحياتها الاجتماعية المفككة، أو القرية بمقوماتها الطبيعية وما فيها من هدوء الريف وجمال الطبيعة ونقاء الطقس وترابط الحياة الاجتماعية، إلا أن هوارد رأى إمكانية مزج القرية والمدينة، ليتخلص من سلبيات كل منهما. وكانت الدوافع لهذه الفكرة، هي ما فرضته الثورة الصناعية إبان أواخر القرن التاسع عشر على العمران الأوروبي والامريكي من توسع مفرط وتلوت بيئي. هكذا، إقترح هوارد، تخطيط كل مدينة، لتمثل مجتمعا متكاملا ،اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وأن يتوفر لسكانها الخدمات الأساسية.
وذلك من خلال شريطين، الشريط الأول جعله مركزا للصناعات، أما الشريط الثاني، فهو عبارة عن مناطق مزروعة على شكل بساتين، ويضم المناطق الخضراء التي تكون من ضمنها حديقة الحيوانات والمراكز الترفيهية((11. وقد لاقت نظرية “هوارد” هذه قبولا واستحسانا لدى الكثير من المخططين في انجلترا.حيث كانت ثمرة كتابه إنشاء أول مدينة حدائقية في “لتشورت”((12 Letch Worthفي العام 1903 على بعد 50 كلم من العاصمة لندن.
ثم بعد ذلك بنيت مدينة “ويلين”Welwyn ((13في العام 1920، على بعد30 كلم من شمال لندن، وأعقب ذلك إنشاء عشر مدن جديدة أخرى محيطة بحاضرة لندن، لفك الخناق عنها، وذلك سنة 1944، ولتنتشر بعدها هذه التجربة خارج بريطانيا،حيث وجدت لها نفاذا واسعا في جميع أنحاء العالم ،كفرنسا والتي أدرجت في البداية تسع مدن جديدة ،ثم إختزلتها إلى خمس مدن محيطة بالضاحية الباريسية خلال الفترة الممتدة من 1961 الى 1969 ((14ثم هولندا((15والولايات المتحدة.. وإمتدت الفكرة ، لتنتقل بعد ذلك إلى دول العالم النامي كمصر أو المغرب مثلا .
و بذلك تعتبر النواة الأولى للمدن الجديدة، تلك التي ظهرت في انجلترا بجوار المجمعات الحضرية، وبالأخص مدينة لندن، حيث بلغ مفهوم المدن الجديدة أوج تطوره وأصبح يمثل سياسة تخطيطية قائمة بذاتها، مما أعلن عن بداية عهد جديد((16في المشهد الحضري شمل العالم بأسره . إذ أصبحت المدن الجديدة في الوقت الحاضر نموذج معماري يقتدى به في التوسع العمراني في مختلف بلدان العالم المتطورة أو السائرة في طريق النمو. وهو النموذج، الذي يستوجب على هذه المستوطنات الحضرية الراقية توفير التجهيزات الحضرية المتنوعة وتأدية الوظائف والخدمات المتكاملة في إطار شبكة حضرية متزنة ومتناسقة((17.
عموما، إن فكرة المدن الجديدة، ليست حديثة، ولكنها اكتسبت مكانة خاصة وإهتماما عالميا خلال القرن العشرين، خاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تميزت بإحداث العديد من المدن الجديدة في الكثير من البلدان العالم.وقد بين العديد من الباحثين في دراساتهم، أن الأهداف من تشييد المدن الجديدة تعددت وتباينت.حيث أنه، وإن عممت التجربة في كل دول العالم، فقد اختلفت مع ذلك أسباب انشائها من دولة إلى أخرى.فأنشأت مدن لأسباب صناعية في البلدان الاشتراكية (الاتحاد السوفياتي سابقا، بولونيا رومانيا..) ،ومنها ما توخى تعميم التنمية الاقتصادية والتقليص من حجم الفجوات المرصودة على مستوى التنمية بين الأقاليم، كما هو الشأن بانجلترا، ومنها مااستهدف تخفيف الضغط الهائل عن المدن الكبرى ( فرنسا مثلا) .
في حين لجأت دول أخرى، لإنجاز المدن الجديدة، بغرض تجنب التمركز الشديد للسلطات الاقتصادية والسياسية وضمان توزيع عادل للسكان وخلق التنافس عبر بناء عواصم جديدة ، (كانبرا باستراليا، برازيليا بالبرازيل وانقرا بتركيا). ومنها المدن الجديدة التي كانت نواة توسعها وازدهارها المؤسسات التعليمية كمدينةLouvain – la neuve((18في بلجيكا، أو الخدمات الطبية المتقدمة (الولايات المحتدة الامريكية مثلا)، ومنها من أراد استغلال الموارد الطبيعية وزيادة القيمة المضافة. وبذلك يظهر بأن هناك مجموعة من الدوافع المحفزة لتبني فكرة إنشاء المدن الجديدة وتفضيلها عن غيرها من أنماط التنمية الحضرية الأخرى. حيث تؤكد التجارب العالمية بعض الدوافع المشتركة لتخطيط مدن جديدة، وهي الدوافع الديمغرافية، الدوافع الاقتصادية، ثم الدوافع البيئية…لكن تخطيط المدن الجديدة بخضوعه لهذه الدوافع، قد ينطوي على مشاكل كبيرة، فالأمر يتعلق بتوطين فئات مختلفة من السكان، بمجال أووسط جديد على مقاسها((19.
أما بالنسبة للعالم العربي، فتعتبر تجربته من أهم التجارب الرائدة في هذا الميدان. إذ رغم البداية المتأخرة والمتعثرة أحيانا، فقد حققت نجاحا مميزا .حيث أقيمت مدن جديدة متكاملة ومستقلة في المملكة العربية السعودية (المدينتين الصناعيتين ينبع و الجبيل) ((20والامارات العربية المتحدة والمغرب والجزائرومصروغيرها.
وبذلك شكلت المدن الجديدة سياسة مميزة لإعادة تهيئة التراب وتطويره وتنظيم المجال في العديد من البلدان-ومنها العربية – لاسيما مع تفاقم حدة المشاكل العمرانية، خاصة في ظل التضخم الناجم عن التمدن السريع والمرتبط بالنمو الديمغرافي والتدفق المتزايد لتيارات الهجرة، إلا أنه يظل من الصعب وضع تحديد دقيق وتعريف موحد للمدينة الجديدة .وذلك مرده أساسا إلى تباين الأهداف التي أنشئت من أجلها مختلف هذه المدن.
على هذا الأساس، نجد استخدام تيمات عديدة لوصف المجتمعات العمرانية الجديدة، ومن أهمها المدن الفلكية villes satellites ، المدن الجديدة villes nouvelles وغيرها..ومع ذلك وللضرورة المنهجية، يمكن تعريف هذا النمط الجديد من المدن بكونه تجمعات عمرانية جديدة مستقلة، تتوفر على مقومات الحياة الكريمة من مرافق أساسية وضرورية لإرساء نمط عيش ساكنة حضرية قائمة، مع لزوم التحديد التام للنطاق الوظيفي لهذا النمط من المدن الذي لا يحتوي على التجمعات البنائية فقط، ولكن أيضا على قطاعات جديدة تؤسس، بحيث تسمح بالنمو والامتداد وتظل متصلة بالمراكز الرئيسية للمدينة((21.
فإنشاء مدن متكاملة، يجب أن يتم ليس فقط على المستوى العمراني، وإنما أيضا على المستوى الوظائفي ومستوى النشاطات((22 ،فهي تبرز كمجموعات عمرانية مشيدة بأحدث التقنيات والوسائل، لتلبية حاجيات السكان المتزايدة وضرورات الحياة العصرية((23. كما يمكن تعريف المدن الجديدة بأنها “كل مدينة مبرمجة، يتم تصور إنشائها ضمن إطار السياسة الجهوية . وهي تجسد إرادة التهيئة العمرانية وتتميز بطرح متجدد للتنظيم العمراني”((24.
إن مختلف الإجتهادات التي حاولت تناول مفهوم “المدينة الجديدة” ،أتت مختلفة باختلاف المعايير والمبادئ المعتمدة في محاولة إرساء تعريف مضبوط، فبين رجل القانون وعالم الاجتماع قد يختلف التعريف.
لكن يمكن جرد أحد التعاريف الذي أتى واضحا ومركزا، إذ يعرف “هوس بيرولي” (HausBirouli) المدينة الجديدة بكونها ،تلك المدينة التي أنشأت تبعا لإرادة سياسية، اقتصادية، واجتماعية. وتتوفر على الخصائص التالية: موقع جغرافي مختار بدقة، هيئة محلية للإدارة مستقلة، مرافق عمومية، تنوع في الأنشطة، سوق واسع للشغل، ثم فضاء ثقافي معين.
بالنسبة للمغرب ووفق هذه المقاربة الشمولية، عملت السلطات العمومية، ومع بداية الألفية الثالثة، على تبني سياسة جديدة للتخطيط الحضري، مرتكزة على مفهوم “التنمية الجهوية” ،وهي سياسة انجاز المدن الجديدة أو المدن الفلكية على مستوى مجموع التراب الوطني لدعم وتنمية المراكز الصاعدة والمتواجدة في ضواحي المدن الكبرى وإحداث توازن جهوي والتخفيف من حدة الارتفاع الديمغرافي الشديد لهذه المدن.كما شكلت سياسة المدن الجديدة بالمغرب، جوابا سياسيا عن الاختلال الترابي.فتبعا للتعليمات الملكية للراحل الحسن الثاني، والمعلن عنها في الخطاب الملكي ل 9 يوليوز 1981، وكخلاصة من خلاصات الحوار الوطني حول تهيئة التراب، في أواخر التسعينيات، انبثقت فكرة إنشاء المدن الجديدة، لتتبلور كمبدأ محوري لتهيئة التراب،رسمت له جملة من الأهداف ومنها :
– ضمان التوزيع الجيد للساكنة والأنشطة.
– إنتاج السكن للتخفيف من الأزمة المرصودة على مستوى سوق العقار.
– إعادة هيكلة وتقوية الإطار الحضري الوطني والجهوي.
– توفير شروط التنمية المستدامة، مع ما تعنيه من احترام للبيئة والمجال الطبيعي، وما تستلزمه من مشاركة فعالة للمواطنين والفاعلين المعنيين((25.
في ظل هذا السياق، أتت مدينة تامنصورت كنموذج لمفهوم المدن الجديدة المبتكرة من طرف السلطات العمومية، والتي تدخل ضمن البرنامج الحكومي المعلن عنه سنة 2004 ،في إطار التوجه الجديد للدولة الساعي إلى إحداث مدن جديدة، لحل معضلة السكن والمساهمة في القضاء على السكن الغير اللائق، وكذلك لتخفيف العبء والضغط عن المدن الكبرى بصفة عامة ،وبصفة أخص استيعاب النمو الحضري لمدينة مراكش وضواحيها عبر إعداد نسيج حضري متماسك ينبني على الاندماج والتنوع من الناحية الوظيفية والاجتماعية وعلى الاستعمال الأمثل للمجال.
إن تعقب البحث في موضوع المدينة الجديدة تامنصورت، يقودنا إلى التعرف عن الأنماط التي قد تأخذها المدن الجديدة بصفة عامة، وحيث أن هذه الأخيرة تنقسم من خلال مواقع إنشائها إلى أنواع متعددة، ومنها المدن التابعة، المدن المنامية، والمدن التوأم، ثم المدن المستقلة((26.
وفي هذا الصدد، يمكن القول بأن مدينة “تامنصورت” جاءت مستقلة اقتصاديا واجتماعيا وعمرانيا، مع احتفاظها بعلاقة وطيدة مع مدينة مراكش في إطار شبكة حضرية متناسقة ومتكاملة، بحيث تؤدي كل وحدة خدمة للوحدة الأخرى. فمدينة تامنصورت، بموقعها الجغرافي المتميز، وبقربها من مدينة مراكش -حيث أنها لا تبعد عنها، إلا بحوالي 10كلم – يمكن لها أن تلعب دورا محوريا في بث دينامكية حديثة بالمنطقة، كقطب حضري متميز سيعمل على الربط الأساسي مابين المجالين(المدينة الجديدة والمدينة الأم) على مستوى الأنشطة الاقتصادية والخدمات الاجتماعية. ولهذا فالقطب الحضري لتامنصورت سيقوم بوظائف لن يستفيد منها لوحده فحسب، بل وستسعى كذلك لتلبية الحاجيات الضرورية لكافة مجال تأثيره((27. إذن، فإنشاء هذه المدينة على أبواب المدينة الحمراء جاء لهدفين اثنين مهمين:
أولا: تخفيف العبء عن مدينة مراكش وتنمية الجهة، اقتصاديا واجتماعيا.
ثانيا:تدارك الحاجيات وسد الخصاص الذي تعرفه الجهة، فيما يخص الأنشطة الاقتصادية والخدمات الاجتماعية.
ومن دون شك، يمكن للمدينة الجديدة تامنصورت، أن تكون متنفسا حقيقيا لمدينة مراكش والمدن المجاورة(اسفي، الجديدة… ) فيما يخص قضايا السكن كأولوية، ثم كمدينة جديدة بمختلف معالمها الحضارية تنضاف لتشكيل المشهد العمراني الحضري بالمغرب وإرساء معالم حكامة حضرية صاعدة في الأفق القريب .هذه الحكامة التي تتمظهر كنتاج تمفصل بين المؤسسات المركزية والمحلية، وتحيل على التدبير اليومي للشؤون العادية وكذا الحيوية، من قبيل إنجاز التجهيزات: المسالك، الإصلاح، توزيع الماء والنقل.. .
وإذا كان في المقام الأول، أن التواجد الحضري يظل مرتبطا ببناء المساكن، و إنجاز البنية التحتية والتجهيز، فإنه اليوم يشكل تدبير معاش المدينة عنصرا مركزيا في إطار دينامية الحياة الحضرية((28. وهنا، وعلى مستوى المدينة الجديدة، ينبغي بالضرورة تجميع ثلاثة حقول حضرية مرتبطة بالعمليات الكبرى للتنمية الحضرية : التعمير، التجهيزات والخدمات. وهي ثلاثة حقول مرتبطة بالحكامة((29.
هذه الأخيرة، التي تبرز عموما، كتدبير نزيه وشفاف للشؤون العامة، انطلاقا من خلق نظام للقواعد المتوافق عليها والمؤسسة من طرف السلطة الشرعية، بهدف الإرتقاء بالقيم المجتمعية التي يسعى إلى تحقيقها الأفراد و الجماعات((30…وهي ترتكز في تدبير الشؤون العامة على مبادئ المسؤولية، الشفافية، المشاركة ودولة القانون((31.وعبرها تنبثق الحكامة الحضرية كنمط تدبيري للمسألة الحضرية يفترض تواجد هذه المبادئ، كما يستوجب تدخل الفاعلين المتعددين، سواء المركزيين منهم أوالمحليين((32، يتيح من خلاله للتدبير الحضري في عمقه توفير إمكانيات القدرة الإستراتيجية للفاعلين بشكل جيد((33. السلطة لاتعني فرض علاقة قهرية عمودية على السكان، بل توفير الشروط الأساسية لخلق مناخ حياتي جيد يسعى إلى توفير شروط مثلى لجودة الحياة، عن طريق خلق ثقافة القرب. ومن هذه الجدلية انبثق مصطلح الحكامة الحضرية ((34، وليرتبط بكل السياسات المهتمة بالمدينة، ومنها سياسة المدن الجديدة .
ثانيا : رهانات تجربة مدينة تامنصورت
يمكن اعتبار التطور الحضري العصري المثير للإعجاب أوضح مظاهر المجال العام الناشئ.فلم يقتصر الأمر هنا على انتشار فضاءات حضرية بصورة ساحات عامة وحدائق وطرق عريضة ومنتزهات ، وإلى ما هناك، بل إن المدن أيضا كانت تشهد الظواهر الحضرية: انتشار المقاهي، والجمعيات ، والمسارح، والنوادي والصالونات العلمية والأدبية، والثقافية وإلى ما هناك. ولذلك على المدن الجديدة أن تأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى من أجل الظفر بكل رهاناته((35. في هذا السياق، تعتمل داخل المدينة جملة من الأبعاد والرهانات، المرتبطة أساسا بمختلف الأدوار والوظائف المنوطة بها كوحدة متكاملة وكبنيان متناسق. ومن ثم، وباعتبار التنظيم الاجتماعي خاصية أساسية من خصائص المجتمع الحضري، لابد على هذا الأخير، و لكي يحافظ على استمراريته وجاذبيته، من تنويع وظائفه، مع ضرورة تشارك الجميع في تحقيق هذه الوظائف. فهناك اجماع للرأي حول تحديد وظائف المدينة في أربع : الترفيه والسكن والخدمات والنقل . وهي الوظائف التي تصب في خانة واحدة ، وهي وظيفة الاندماج ، سواء في الاقتصاد وغيره من المشاريع الكبرى كالسكن مثلا، الذي يتحكم في العلاقة الجدلية التي تربط بين الانسان والمجال الذي يحيى فيه((36 ،وهي وظائف تقليدية وطبيعية ينبغي أن تتماهى مع الوظائف الحديثة أو العصرية للمدينة ،والتي تزامن ظهورها مع تطور المنظومة الحضرية نتيجة تسارع وتيرة المدن((37. إن رهانات المدن الجديدة، تظل في نهاية التحليل، ذات الصلة الوثقى بأهمية هذه الوظائف، وكذا مختلف الدوافع التي كان وراء التفكير في إحداثها كبديل لحل مشاكل المدن الممتدة.
لقد ظهرت المدن الجديدة كرد فعل للازدحام، والكثافات العالية للسكان في المدن الكبيرة و نقص الخدمات، وزيارة مشاكل البنية الأساسية، والعجز الكبير في المساكن في المدن الرئيسية. فكانت من بين دوافع إنشاء المدن الجديدة التحكم في الاتساع غير المنظم للمناطق الحضرية، وإيجاد اتزان بين السكن والعمل، و تقليل الكثافات السكانية وتوفير الخدمات، وجذب الأنشطة الاقتصادية المتمركزة في المراكز الحضرية الكبرى، وتوزيعها في مختلف مناطق الإقليم. وبذلك اختلفت دوافع إنشائها من دولة لأخرى، بحسب المشاكل التي تحركها((38. و قد تجتمع هذه الدوافع كليا أو جزئيا، كما قد تكون بصفة شمولية أو بصفة فردية.وهي دوافع تتنوع بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي والعمراني، إلا أن نقطة إلتقائها جميعا، هو تفسير بعض أسباب إنشاء المدن الجديدة وإبراز بعض خصائص وظائفها، و سمات رهاناتها. و هو ما يمكن أن نستشفه من مختلف الرهانات الملقاة على عاتق تجربة مدينة تامنصورت.
أ – الرهان العمراني : يؤكد جل علماء الاجتماع على أن التخطيط الحضري، ليس وليد اليوم، حيث عرفت المدن اليونانية والرومانية والإسلامية كذلك تجارب متعددة لهندسة المدن. بيد أن هذه الهندسة أو ماسمي فيما بعد بالتخطيط الحضري، عرف أوج تطوره مع الثورة الصناعية، حيث تميزت المدن العصرية بتقسيم واضح للعمل (وجود تخصصات و مهن مختلفة، يترتب عليه ظهور طوائف و فئات من العاملين). و صاحب ذلك التقسيم تقسيم آخر واضح للمجال تجسد على شكل مناطق، تقوم فيها كل واحدة بوظائف معينة.
وإذا ما رجعنا إلى التجارب اليونانية في مجال التخطيط والهندسة، فإننا سنلاحظ أن كل الشوارع كانت مستقيمة وتصب في مساحة السوق الدائرية الكبرى. فكانت شوارع المدينة مستقيمة ومتوازية،تتقاطع مع بعضها البعض وبشكل يسهل الالتقاء والربط بين مختلف المناطق. و قد عرف المجال في هذا الشأن توزيعا يتماشى مع الوظيفة الدفاعية والأمنية ووظيفة التسيير السياسي والإداري ووظيفة الترف وكذا وظيفة الشعائر الدينية والتسوق والتجمع بوسط المدينة.
ومع تطور المجتمعات وتطور الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، عرفت المدن نموا سريعا، مما أدى إلى تدخل الدولة لتنظيم المجال وفق نظريات جديدة في مجال التخطيط للنمو الحضري. إذ أضحت ظاهرة التنطيق أو خلق المناطق المنسجمة من أولى العمليات التي قامت عليها سياسة التعمير في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد أصبح من شروط التخطيط الحضري تحديد مناطق للسكن وأماكن الأنشطة الاقتصادية والتجارية والمرافق الملتفة،مما جعل عملية التخطيط عملية شاملة ومنظمة لتوزيع الوظائف داخل المجال الحضري على ضوء خطة إستراتيجية محكمة، اقتصاديا واجتماعيا. وهو ما أصبح يطلق عليه سياسة التعمير القائمة على توزيع أنشطة المجتمع بشكل منسجم ومتوازن((39. وهي المسألة التي حفزت المخططين على التفكير في وضع سياسة المدن الجديدة. حيث عرفت هذه الأخيرة، نشأتها الجنينية الأولى بانجلترا مع أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كسياسة تخطيطية. وبذلك ووفق هذا المنظور، كانت المدن الجديدة هي السياسة التي اتبعتها الدول لتنظيم المجال أو التنظيم العمراني وإعادة التوزيع العادل للسكان في الأقاليم ،أي خلق توازن جهوي وتخفيض التركز الحضري. وهذا ما حدث في بريطانيا سنة 1944 ،حيث ثم إنشاء مدن جديدة حول العاصمة لندن لتخفيف الاختناق عنها، وامتصاص الفائض السكاني، كما تم إنشاء مدن جديدة في الضاحية الباريسية لنفس الغرض. وفي نفس السياق، شهدت الدول العربية عدة تجارب، كمشروع المدينة الجديدة “قاسيون” بسوريا((40والمدن الجديدة بالسعودية ومصر والجزائر والمغرب… وبذلك شكلت المدن الجديدة جوابا صريحا على الإشكاليات المرتبطة بالجانب العمراني والتخطيط الحضري ،خاصة أن عدم مراقبة النمو الحضري منذ الستينيات من القرن الماضي أنتج مشكلات خطيرة كأزمة السكن. الأمر الذي لفت انتباه الحكومات والمختصين في هذا المجال. فالظروف المعيشية والمرتبطة بالمحيط السكني تتدهور بسرعة كبيرة لمعظم السكان في العالم الحضري. وهي المشكلة التي تزداد قتامة في البلاد النامية نتيجة لظروفها الخاصة((41.
إن الرهان العمراني لسياسة المدن الجديدة بالمغرب عموما، يبرز من خلال الأهداف الأساسية المحددة لهذه السياسة على مستوى العمل المؤسساتي لمعالجة إشكاليات النمو الحضري، والمتمثلة فيمايلي:
خلق توازن الشبكة الحضرية الجهوية لتقويم الهيكلة الوطنية.
استشراف التنمية الحضرية المتوقعة.
احداث مرافق النقل ومناطق الأنشطة الاقتصادية لإنعاش الشغل.
توفير العرض السكني بأثمنة مناسبة للقدرة الشرائية لمختلف الشرائح الاجتماعية.
لذا، وعلى خلاف المشاريع السكنية التقليدية، فإن المدن الجديدة بحكم تنوع وظائفها، تهم جل القطاعات الحكومية من سكن وصحة وتعليم وتشغيل وتكوين مهني وترفيه وثقافة ورياضة وإدارة محلية… وبذلك فسياسة المدن الجديدة ،هي جزء لا يتجزأ من سياسة أعمق هي سياسة تدبير المجال، والقائمة على التخطيط الاستراتيجي الهادف إلى إشراك كل الفاعلين من أجل تلبية احتياجات الجميع وتحسين أنماط حياتهم وخلق مجال يسوده الأمن والديمقراطية والتنمية. إنها بمعنى آخر،وجه من أوجه الاعتناء الايجابي والفعال بالمجال. هذا الأخـــير، الذي يبـرز كإطار لممارسة أنشطة إنسانية متعددة ومتنوعة، اقتصادية وإدارية واجتماعية ودينية وعسكريـــة. وهو الإطار، الذي يدفع السلطات العمومية من أجل مواجهة مشاكل وإكراهات إلى تأسيس أدوات عمل منهجية، عبر اعتماد مخططات ووثائق توقعية واستشرافية ،هدفها التخطيط القبلي لتنمية المجال والبحث على سبل تحقيق التوازن بين مختلف أجزاءه وتنظيم الاطار الحضري.
من هذا المنطلق، فسياسة المدن الجديدة، تتضح كبديل ناجع لضبط فضاءات تدخل سياسة تدبير المجال.هذه الأخيرة، التــي تتمظهر كبحث عويص من الصعب الحسم من خلاله بوجود أهداف مكتسبة بشكل نهائي((42.
وهنا نجد أنفسنا أمام مفهوم “التهيئة الترابية aménagement du territoire “،ويقصد به جملة الاختيارات و التوجهات والإجراءات، التي يجرى ضبطها على المستوى الوطني أو الجهوي لتنظيم استعمال المجال والتراب، وهي التي من شأنها أن تضمن التناسق في تركيز المشاريع الكبرى للبنى الأساسية والتجهيزات العمومية والتجمعات السكنية((43.
إن الرهان العمراني على مستوى مدينة تامنصورت وفق الدوافع الفهمية السابقة، يتجلى أساسا في التخفيف من الضغط السكاني المهول الذي أخذت ترزح تحت نيره مدينة مراكش وكذا تقديم عرض سكني بديل يجمع بين التنوع الاجتماعي والتناسق العمراني. ومن شأن كل ذلك في نهاية المطاف، تحسين إطار عيش ساكنة مدينة تامنصورت وتعزيز قدراتها التمكينية على الاندماج و الانصهار. حيث تجسد مدينة تامنصورت فضاء عمرانيا من شأنه توفير حياة أفضل للساكنة عبر الاستجابة الفعالة لها للطلب على السكن((44. إن مدينة مراكش عرفت كسائر التكتلات العمرانية الكبرى تطورات هائلة على مستوى تركيبتها السكانية.وقد أدت هذه التطورات إلى ظهور أزمة سكنية تجلت من خلال الإختلالات المجالية الهائلة بالمنطقة: خصاص في السكن وتردي وضعية سكن المواطن وتفاقم المشاكل الاجتماعية ثم تدهور البيئة… ويمكن تفسير ذلك بتمركز السكان في المدارات الحضرية المعروفة بجاذبيتها،حيث توفر مقومات الحياة الحضارية، وما يعنيه ذلك من إمكانيات الاستفادة من مختلف التجهيزات والمرافق الحيوية وفرص الشغل. وهذا الأمر يظل ناتجا، بفعل عوامل عدة، كالهجرة والفقر في الدول المتخلفة اقتصاديا((45، إن من أهم المشاكل التي تواجهها سياسة التعمير في مختلف المجتمعات المعاصرة هي ميول الأفراد إلى العيش بالمدن. فهم يعتبرون المدينة المكان الأنسب لتحقيق رغباتهم في ميادين الشغل والسكن والتمدرس ومختلف الخدمات التي تقدمها المرافق الاجتماعية. لكن تعدد الوافدين على المدينة يؤدي بالضرورة إلى تعدد الحاجيات والمشاكل((46. فالمعدلات الديمغرافية العالية الملاحظة على مستوى مجموع المنطقة هي مؤشر على قوة الجذب (Taux d’Attractivité)الممارس من قبل هذا التكتل العمراني. وبه تتحول الساكنة المحتاجة لسكن إلى أداة ضغط على المجال ويتقوى هذا الضغط بزيادة الحاجيات من السكن.
إن هذه الارتفاعات الديمغرافية بمنطقة مراكش تؤشر على اكراهات سكانية مستقبلية.وفي حالة العجز، فلقد عودنا الواقع على ظهور جيوب متناثرة من دور الصفيح، وبصفة عامة السكن غير اللائق الذي لا تجد له الأجهزة المكلفة بالقطاع أي حل جذري بإمكانه القضاء على انتشار الظاهرة التي تستشري كل يوم بجل مناطق المغرب، وخاصة بالمدن التي تمارس استقطابا كبيرا للمهاجرين الباحثين عن تطوير مستويات العيش خارج مسقط الرأس. ولعل هذا الأمر يحيل على إشكال كبي،ر وهو ضعف التنمية ببعض المدن المغربية والتي تلفظ كل يوم أعدادا هائلة من المهاجرين الباحثين عن العمل والسكن والاندماج. وهنا نجد أن تقطيع المجال ارتكز أساسا -إن لم نقل حصرا -على هاجس معين، ألا وهو محاصرة ومجابهة الضغط الديمغرافي الناتج عن الهجرة((47. وهذا يحصل بالمغرب في الوقت الذي تشهد فيه دول العالم المعاصر، تطورا ملموسا في وظائفها، بتحملها لمسؤوليات كبيرة في ميدان التنمية، حيث تزامن هذا التطور مع إدخال تغييرات شاملة ومتلاحقة، شملت دواليب الجهاز الإداري، كما شملت وسائله وأساليبه، كأساس لتقسيم السلطة بين الدولة والجماعات المحلية. وفي غياب تنمية محلية، قد يتعذر وقف الهجرة، كما قد يصعب وقف العديد من تابعاتها السلبية على المجال الحضري.فالقدرة الاستقطابية للمدن تمثل أبرز عوامل هيكلة المجال، وتعكس تيارات الاستقطاب الحضري البنيات الجهوية الأساسية التي هي بمثابة الترجمة المجالية لمظاهر الحياة الجهوية((48. لكن الأخذ بالواقع الترابي المعاش للمجموعات البشرية، يطرح في الحقيقة مسألة احترام الكيان المجالي للمجتمع. وهذا يحيل في آخر المطاف على مبادئ أساسية كمبدأ “العدالة المجالية”. وتعتبر منطقة مراكش من بين أهم الحواضر بالمغرب، والتي تمارس قوة جذب واستقطاب كبيرة على سائر ساكنة ربوع المملكة((49. والواقع أن هذا المعطى جعل من المنطقة تكتلا حضريا وازنا بكل ما له وما عليه. كل هذا سبب ضغطا على المجالات العمرانية لمدينة مراكش وليطرح عليها بذلك تحديات سكنية كبرى . ومن ثم، صارت الوضعية تفرض البحث عن آليات فعالة لأجل الحرص على مقومات التنمية المجالية بهذا التكتل العمراني الحيوي، واستيعاب مختلف التطورات السكانية المعاصرة. وعلى هذا الأساس، تم خلق المدينة الجديدة تامنصورت، كتجربة رائدة وصيغة لتدبير الظغط الحضري المرصود على مستوى مدينة مراكش.
ب- الرهان البيئي: تظل نشأة المدن الجديدة نشأة بيئية بامتياز. وهنا يمكن الحديث عن نظرية مدينة الغد الحدائقيةgarden-city لصاحبها الانجليزي أبنزر هوارد Howard Ebenezer لسنة 1898 ،والذي نادى بفكرة جديدة لتخطيط المدن، من حيث بنائها على أساس جديد. وهي الفكرة القائمة على التساؤل التالي: أي من النمطين ( المدينة أو القرية) الأكثر قدرة على توفير ظروف الحياة الكاملة للإنسان؟ وليصل إلى حقيقة مفادها، أن الحياة اللائقة لا تتوفر إلا في ظروف تجتمع فيها مزايا المدينة والقرية معا ،وفي ذات الوقت تنتفي فيها عيوبهما. وعلى ضوء ذلك، اقترح إنشاء مدينة جديدة لتحقيق هذا الغرض، سماها مدينة الغد الحدائقية((the garden city of tomorrow ((50، التي تسعى إلى توفير السكان كل احتياجاتهم لحياة لائقة، دون الحاجة إلى الانتقال أو الهجرة نحو المدينة. وذلك بحكم أن السكن موجود والعمل موجود والطبيعة أيضا موجودة.
إن الإنسان اليوم، من وجهة نظر علم الاجتماع الحضري، يرغب في السكن بعيدا عن المصانع في المدينة، وذلك بخلق فضاء طبيعي في المبنى / الفضاء ككل أو داخل المنزل((51.فداخل أي إنسان رغبة تواقة للعيش بين أحضان الطبيعة، مع التوفر على نصيب من الحياة العصرية. وهو ما يبدو أن المدينة الحدائقية تفي بغرض تحقيقه، بحكم أن المدينة تبقى خالية من المشاكل التي قد تحملها اكراهات الحياة المعاصرة.هذا من جهة ،ومن جهة أخرى، فإنه بحلول عام 2050، سيتحول ثلاثة أرباع سكان الأرض للعيش في المدن، مما سيجعل المدن في جميع أنحاء العالم في مواجهة تحديات متنوعة ومعقدة، منها ما هو بيئي مرتبط بعوامل اقتصادية واجتماعية وبشرية، تهدد مستقبل الكرة الأرضية ككل. ولا أدل على ذلك، ظاهرة الاحتباس الحراري والتقلبات المناخية وارتفاع نسبة التلوث ( حيث تنتج المدن حاليا ما نسبته 80%من انبعاثات الكربون المسبب للتلوث)، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات مباشرة على صحة الإنسان، مما يحتم على الفاعلين المحليين، المبادرة بخلق آليات تفكير جماعي حقيقي حول المتطلبات الأساسية الواجب اعتمادها في إنشاء وخلق المدن الجديدة، وفي جميع المشاريع الحضرية والعمرانية، حفاظا على المجال والمحميات والغابات والموارد الطبيعية وذلك ضمن رؤية شمولية مستدامة((52،خاصة مع اتساع رقعة التجمعات السكانية الكبيرة((53،والتي ستساهم كما ساهمت بشكل كبير وفظيع في استنزاف البيئة((54.
إن المدن، تواجه اليوم أكثر من أي وقت مضى، تحديات جسام فيما يخص نوعية البيئة الحضرية ( المياه ، النفايات، الضجيج، المساحات الخضراء…) حيث تزدحم المدن الكبرى بشتى أنواع وسائل النقل وكذلك تموقع القاعدة الصناعية بها،مما أدى إلى تدهور البيئة وهشاشة النسيج الحضري داخل المدن((55.فمن أسباب استنزاف البيئة، نجد ارتفاع نسبة التلوث بسبب النفايات التي تسببها التجمعات السكانية في المدن الكبيرة وازياد الصناعات الثقيلة المختلفة والازدياد الهائل في وسائل النقل((56.
في هذا الصدد، أصبحت مشكلة البيئة مطروحة وبحدة بالمدينة المغربية، رغم أننا بلد غير صناعي بالمعنى الدقيق للكلمة. والملاحظ أن قضايا البيئة، لم يتم التعامل معها بشكل جدي، إلا في السنوات الأخيرة، بعدما تعالت أصوات عدد كبير من جمعيات المجتمع المدني والدولي، محذرة من مخاطر إهمال البيئة على حاضر ومستقبل المدينة المغربية. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولعل أبرزها ما أصبحت تمثله الصناعات المتمركزة بوسط المدن من مخاطر حقيقية،كمعامل الصناعات الكيماوية التي تسببت بالإضافة إلى تلوث الهواء والفرشاة المائية في قتل أزيد من ثلث الكائنات المتواجدة بالأنهار بسبب النفايات السامة التي تقذف فيها يوميا. ناهيك، عما يسببه انعدام قنوات الصرف الصحي ببعض مدن الصفيح من خطرهائل للفرشاة المائية، وتلويث الهواء بالروائح الكريهة المنبعثة من المجاري المائية.
ولذلك فالمدينة المغربية، وفي ظل غياب الادراك المسؤول بالمشاكل الحقيقية التي تنجم عن إهمال البيئة، مازالت تفتقد لمخططات متكاملة ومندمجة في هذا المجال، كتوفير المياه الصالحة للشرب، وتصريف الملوثة منها وحفظ النظافة في الأماكن العامة وكذا تأمين نقل القمامات بانتظام… وبصفة عامة، غياب الحزم في مراقبة مستويات التلوث، التي تمس الماء والهواء والأرض. ولعل هذا ينم عن غياب الوعي الحقيقي بأهمية تدبير المخاطر البيئية، الصناعية منها، خاصة في المجالات السكنية. فالتحولات البشرية والصناعية المعاصرة للعالم ككل، أظهرت بأن غضب البيئة نتيجة تلوثها، قد يأتي بالأعاصير والفيضانات وكل مشاكل التغيرات المناخية التي تسبب فيها الإنسان. وعليه، ينبغي وضع سياسة شاملة ومندمجة بغية ضمان مقاربة مستقبلية لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، إضافة إلى تشخيص جميع مشاكل هذا القطاع((57. فوضع القواعد البيئية الصارمة لمختلف المساكن والتقيد بها، ثم العناية بوسائل النقل والسير على الطرقات وفق مستويات بيئية متعارف عليها دوليا، إلى غير ذلك من مظاهر وأشكال الاهتمام البيئي، ومنها ذات الصلة بالنجاعة الطاقية، كلها أمور ينبغي ايلائها العناية اللازمة.
وهنا نجد أن كل من التقلبات المناخية المتكررة والارتفاع الملحوظ في عدد السكان، ساهما معا، في توفير الظروف المواتية لوضعية الشح المائي بالمغرب ( أقل من 500 متر مكعب للفرد في السنة بالنسبة لجميع الاستعمالات )، ومن ناحية أخرى تشير التوقعات بأن استهلاك الطاقة سيتضاعف بأربع مرات إلى غاية سنة 2030 (حسب أدنى تقدير )،مع الأخذ بعين الاعتبار كون المغرب يعتمد بنسبة 97 في المائة على المنتوجات البترولية، التي غالبا ما تعرف أثمانها ارتفاعا مستمرا. إنه، إذا علمنا أن المدن بصفة عامة هي عبارة عن فضاءات مهمة للاستهلاك بكميات مرتفعة للموارد المائية ومصادر الطاقة، فإن من شأن الاختيارات المعتمدة في ميدان التهيئة والتعمير، إما أن تؤدي إلى التخفيف من استهلاك هذه الموارد والمصادر أوعلى العكس من ذلك إلى الزيادة في الاستهلاك ( بسبب التنقلات). ومن ثمة ،فمن الواجب إدماج هذا الانشغال في إطار استراتيجيات المدن على المدى المتوسط وكذا البعيد((58.
من هذا المنظور البيئي، تظل الدوافع البيئية أحد الدوافع الكامنة وراء ظهور المدن الجديدة، وأبرز رهاناتها في العديد من دول العالم، إذ تعتبر المدن “جديدة”، بخصائصها وملامحها العمرانية المتميزة بوجود حزام أخضر محيط بها، بالإضافة إلى تواجد مساحات خضراء بداخلها واتسامها بانخفاض الكثافة السكانية . كل هذا من شأنه، أن يشكل بيئة صحية لسكانها عكس المدن الكبرى((59.
في هذا الشأن، تقترح سياسة المدن الجديدة معايير مثالية جديدة في الهيئة والمعمار، تضمن جودة معمارية وعمرانية أكثر احتراما للبيئة، مع إلزامية دراسة التأثيرات البيئية((60. هكذا، يعتبر ترسيخ أسس التنمية المستدامة المرتكزة على البعد الايكولوجي أحد أبرز اهتمامات برنامج المدن الجديدة بالمغرب،وذلك من خلال التأكيد على التدخلات الآتية:
الاندماج في المحيط البيئي : بالبحث عن إطار أفضل لتهيئة ملائمة لاكراهات موقع المشروع.
المحافظة على الموارد الطبيعية : بإعطاء الأولوية لاقتصاد الموارد النادرة. وذلك عن طريق معالجة المياه العادمة وإعادة استعمال مياه الأمطار.
التخطيط للمناطق الخضراء: عبر اعتماد مبدأ تنمية وتهيئة المناطق الخضراء الموجودة داخل وخارج المدن، لتساهم في التوازن الايكولوجي المحلي.
استعمال الطاقة المتجددة : للاستجابة للحاجيات اليومية، فيما يخص الإنارة المنزلية وإنارة الفضاءات وممرات النزهة والمساحات الخضراء.
اعتماد شبكة فعالة للنقل الجماعي لمواجهة إشكالية تنقل السكان داخل وخارج المدن((61. على هذا الأساس، ومن منظور ايكولوجي صرف، تبرز المدن الجديدة كخيار لامحيد عنه لإرساء تنمية خضراء مستدامة،تواجه كل التحديات المطروحة بيئيا بكل الوسائل المتاحة
للظفر بهذا الرهان الذي أصبح يشكل في الوقت الحالي عماد التنمية بكل تجلياتها وأبعادها. في هذا الإطار، لم تقتصر إقامة مدينة تامنصورت، على الجانب العمراني فقط، بل خصصت لها مساحات خضراء للحفاظ على الجانب البيئي ،سواء من خلال الاهتمام بالفيلات الاقتصادية((62أو السكن الاجتماعي((63. إذ حظيت المسألة البيئية بالعناية اللازمة في مخططات النهوض بهذه المدينة والإقلاع بجوانبها المتعددة،حيث أن مشروع مدينة تامنصورت ظل طموحا منذ انطلاقته الأولى،وهو الشيء الذي تبلور في أخذه بعين الاعتبار، كل مكونات المدينة المتكاملة، ومنها المكون البيئي، من خلال تخصيص مساحات مهمة للحدائق والمساحات الخضراء((64. وبذلك سيساهم هذا الرهان البيئي – وكما أعلن عن ذلك أغلب المسؤولين – في جعل مدينة تامنصورت تتموقع كمدينة بيئية بامتياز، حيث تم التخطيط لاعتمادها على نسبة كبيرة من الطاقات المتجددة، لتغطية حاجياتها من الطاقة في مختلف المرافق و الخدمات((65. وهي المسألة التي ينبغي استحضارها من طرف المدن الجديدة من أجل بلوغ مرامي الرهان البيئي. هذا الأخير، الذي يتكرس بمدينة تامنصورت كذلك عبر تخصيص أكثر 320 هكتار من أصل 1200 هكتار ،وهي مساحة المدينة بأكملها للمناطق الخضراء، عبر وضع كل هذه الهكتارات الشاسعة لانجاز الحدائق وزرع مختلف الأشجار على طول الطرقات الرئيسية بمختلف أحياء المدينة((66.ومن ثم، تنمو مدينة تامنصورت كمدينة حدائقيةcité-jardin، وفق فهم نظرية هوارد.
ج- الرهان الاجتماعي :وهو المرتبط بالدوافع الاجتماعية التي حفزت على إنشاء المدن الجديدة عموما ،والتي تتمثل في مشاكل النمو الديمغرافي من حيث التوزيع والكثافة ومشاكل أخرى مرتبطة بتحسين معيشة السكان وتوفير المرافق الضرورية،أي أن اللجوء إلى سياسة المدن الجديدة يكون بدافع ضبط وتصحيح النمو الزائد لمدينة قائمة وذلك للتخفيف من تفاقم عدم التوازن فيها بين متطلبات الحياة اليومية للسكان وقدرة هيكل المدينة على إشباعها. فارتفاع عدد السكان وتدفق تيارات الهجرة من الريف إلى المدينة أدى إلى ارتفاع نسبة نمو المدن أوما يعرف بالتركز الحضري، لاسيما في المدن الكبرى بما فيها العواصم((67 ،والمتوفرة على كل أصناف الاستقطاب وأنواع الجذب لحياة كريمة. وبالنسبة للمغرب، لعل من أبرز نتائج التمدن المتسارع الذي مافتئ يعيش على إيقاعه ، خاصة منذ العقود الثلاثة الأخيرة، هو انبثاق مناطق شبه حضرية جديدة تفتقد للجودة والسكينة والهوية. وهي مناطق غالبا ما تتميز بالهشاشة والسكن الغير اللائق والإقصاء، مما يساهم بالضرورة في ترسيخ مظاهر الضعف الحضري((68. إن النمو السريع للساكنة الحضرية هو نتيجة التوجه المفرط نحو التمدن((69. فمعدل التمدن انتقل بالمغرب من 29,3في المائة سنة 1960 إلى 51,4 في المائة سنة 1994 وليبلغ 54 في المائة سنة 2004، ومن المنتظر أن يصل إلى 70 في المائة في غضون سنة 2025، وهو المعدل الذي كثيرا ما تعمل الهجرة القروية على تغذيته((70، مع ماتركز عليه كظاهرة في وجهتها المفضلة على المدن الكبرى،وخصوصا منها الساحلية، لأسباب عدة ،من أبرزها توالي سنوات الجفاف وقلة أو انعدام فرص الشغل بالبوادي وعدم التوفر على إمكانيات العيش الكريم من تمدرس وتطبيب،علاوة على هشاشة أوغياب التجهيزات الاجتماعية والبنى التحتية، الشيء الذي خلق وضعية حضرية كارثية، حرمت المدن من أن تصبح مكونا أساسيا للمواطنة والاندماج والتعايش والتماسك الاجتماعي. وفي المقابل بروز مدن تفتقر إلى أدنى شروط الكرامة الإنسانية وتحتضن جملة من الظواهرالمشينة من قبيل ،انعدام الأمن، تفشي الدعارة، تعاطي المخدرات، انتشار العنف…وذلك كرد فعل لواقع التردي الاجتماعي ولسياسات التهميش. كما أنه، وفي ظل سياق عام تسوده التنافسية أصبح من المحتمل أن تزداد حدة الفوارق ما بين الفئات القادرة على الاندماج في قطاعات الأنشطة الواعدة (الفئات الشابة والمتعلمة والمكونة) والفئات الأخرى ( الفئات المسنة، وغير المتمدرسة وبدون تكوين مهني) وبالموازاة مع ذلك، من تزايد الطلب على السكن وانخفاض في الولادة وارتفاع في سن الزواج، وحركية دائمة للسكان وتراجع المشاركة في السكن، وتعميم أوقات العمل… مما سينعكس سلبا على التماسك الأسري والانفصال ما بين الأجيال .وبهذا، فإن السؤال المطروح وبحدة، يكمن في كيفية وضع استراتيجيات حضرية قادرة على استباق هذه التحولات الاجتماعية؟((71
إن الرهان الاجتماعي الموكول على عاتق المدن الجديدة تحقيقه مراميه، هو تحفيز المخططين والمهندسين والقائمين بصفة عامة على تدبير شؤون المدينة، وعلى تبني رؤية شمولية ترتكز على قيام سياسة التهيئة الحضرية على مبادئ التخطيط السليم والمتوازن للمدن، والذي عليه أن يراعي متطلبات التعمير القويم والتدبير العقلاني، على أساس تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين في مجال التجهيزات الضرورية والبني التحتية والسكن الملائم. ففيما يخص هذا الأخير، فإنه لا يعتبر السكن ملائما، مالم تتوفر فيه شروط الحياة العصرية من مرافق ضرورية وتجهيزات اجتماعية،وأن يكون مصدرا للسعادة وليس منبعا للجريمة والانحلال… ولذا، ينبغي أن يكون السكن مريحا بتوفير عدة شروط ومستلزمات ضرورية، داخله وخارجه، من مرافق اجتماعية وثقافية واقتصادية وترفيهية، رئيسية للإنسان، وخاصة التجهيزات الجماعية كالطرق وحظائر السيارات وشبكة المياه والغاز والكهرباء والمصالح البلدية والإدارية التابعة للدولة ومكتب البريد ومراكز الهاتف والدرك والتجهيزات المدرسية والصحية والرياضة والتجارية والفضاء الأخضر((72. إن البنيات التحتية داخل المدن، هي التي تجعلها تتدفق بالحياة، ومنها تصريف الشـــوارع .هذه الأخيرة، التي تشكل التنظيم الهيكلي للحياة الاجتماعية الحضرية، والسطح الظاهر الــــذي يسمح بحركة الأجساد والآليات والأشياء((73.على هذا الأساس، ينبغي توفير كل من شأنه جعل المدينة حافز ايجابي على العيش وتحسين نمط هذا العيش، حيث أن انخفاض مستوى المعيشة ومشكلة المساكن والحياة المملة، هذه كلها عوامل طرد من ناحية الريف. وعكس ذلك، هناك عوامل جذب في المدن، كارتفاع مستوى المعيشة وتوافر الخدمات والطلب على العمل خاصة في الصناعة، وهذا يدعو للرغبة في الاستقرار في المدن .
ومما يزيد الأمر تعقيدا على المستوى الاجتماعي، أن النمو الحضري ورغم أنه ساهم في تقدم صناعة المدن من حيث تقسيم العمل و الزيادة في الإنتاج، فإن التدفق على المدن كان بأعداد لاتستطيع معها الصناعات استيعابهم وتوفير الأعمال اللازمة لهم. كما أن استمرار ارتفاع عدد السكان بالمدن زاد في الطلب على السكن، ونتيجة لذلك نشأت أوضاع جديدة في المدن الآخذة في النمو بسرعة، بسبب قيام الأحياء الفوضوية، والبيوت القصديرية التي تنعدم فيها شروط الحياة وزحف العمران على المساحات الخضراء وتدني مستوى الخدمات((74. وعموما، لقد أدت الزيادة في الكثافة السكانية للمدن العتيقة وظهور مدن الصفيح بأعداد كبيرة وإبعادها عن التجمعات العمرانية تدريجيا، مع توسيع المدار الحضري إلى صعوبة أو استحالة الحصول على الخدمات الأساسية بها((75. في هذا الإطار، نجد أن سياسة التهيئة التي تم نهجها بالعديد من المدن المغربية تعبر بشكل جلي عن مقاربة تجزيئية، تعتمد أساسا على منطق الاستهلاك والربح. فخلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، شرع القطاع الخاص بالمغرب في إنتاج تجمعات سكنية لاتتلاءم مع الخصوصيات الاجتماعية والثقافية لشريحة عريضة من السكان. وأبرز نموذج عن ذلك، هو ظهور مجموعة من الأحياء السكنية من فئة السكن الاقتصادي أوالاجتماعي بعدد من المدن ذات أحجام صغيرة((76، وتفتقر إلى المساحات الخضراء والمرافق الترفيهية. فضلا عن ذلك، ظلت سياسات الدولة الحديثة في مجملها تتسم بطابعها الجزئي والقطاعي. وقد زاد من تعميق الأزمة، ضعف وتيرة النمو الاقتصادي وسياسة التقويم الهيكلي التي أدت إلى ظهور اختلالات بنيوية في المجتمع، كتنامي حدة الفقر والتهميش والإقصاء والبطالة والهشاشة الاجتماعية .هذه الآثار السلبية كانت لها نتائج وخيمة على المدن، لاسيما تفاقم مشكل السكن وتطور الأحياء الهامشية والصفيحية. إن مسألة الاقصاء تأتي من كون الاختيارات التي أطرت تطور المدن المغربية، لم تكن اختيارات تسير في طريق توفير شروط حقيقية وفعلية لادماج السكان في المدينة. بمعنى آخر، إن مدننا أصبحت بالفعل، مشاتل حقيقية لإنتاج آليات الاقصاء، فهي لاتتوفر على الحد الأدنى من التجهيز المرتبط بالحاجيات المباشرة لقضايا الناس، وأساسا المرافق الحيوية، سواء تعلق الأمر، بالميدان السوسيوثقافي أو الميدان الصحي أو الرياضي أو التعليمي. فكل المدن،أضحت تعرف عجزا على مستوى هذه الميادين((77 .
كما زاد من تفاقم الأزمة الحضرية في المدن، نقص فرص التكافؤ الاقتصادي والاجتماعي بين المناطق الريفية والحضرية، وتمركز النشاطات الثقافية والخدمات الإدارية والحكومية وسط المدن((78. لدرجة معها أصبحت المدينة المغربية اليوم، بمثابة “غول” ،نظام حياتي مجحف، منغلق عن نفسه، بعيد عن المجتمع. فالمدينة أضحت اليوم لافظة أو مبعدة Un repoussoir.إن المدينة، صارت تعيش وسط دوامة دائرة” العنف” وتعمل على ترسيخه، أكثر من عملها على تطوير علاقات الاندماج، باقرار مبدأ المساواة في التعامل والعدالة في توزيع شبكة التجهيزات وولوج المرافق العمومية((79.
في هذا الإطار، وبغية تحقيق أهداف الرهان الاجتماعي المرتبط بالمدن الجديدة، تم اعتبار العنصر البشري ركيزة أساسية من ركائز اهتماماتها، والتي تقوم على إستراتيجية تتخذ هدفا لها، هو تفضيل التمازج الاجتماعي. فالمبدأ المعتمد بهذا الخصوص، يعطي الأولوية لتنويع عرض الوحدات السكنية، بالموازاة مع إعداد تجهيزات منسجمة سوسيوجماعية مهيكلة، تستجيب لتطلعات الساكنة وملائمة لتساكن متوازن ودائم بين مختلف الفئات الاجتماعية. وتنبني هذه المنهجية على عمليات لتحسيس وتأطير السكان، تساير وتيرة إسكانهم وتأقلمهم مع المحيط الجديد من أجل ” العيش جميعا”. الأمر الذي يتيح استشراف تنمية بشرية مستدامة((80.
إن المدن الجديدة هي مجالات متعددة الوظائف. فبجانب الوظيفة السكنية، حرصت الدولة على أن تشكل المدن الجديدة أقطاب جديدة للأنشطة الاقتصادية، لتساهم في إنعاش الشغل وخلق الثروات. حيث من المرتقب أن تبلغ المساحة الإجمالية المخصصة لتهيئة المناطق المتعلقة بهذه الأنشطة، ما يناهز 600 هكتار على مستوى المدن الجديدة الأربع ( تامنصورت، تامسنا، لخيايطة، الشرفات).
و بالنسبة لمدينة تامنصورت، فقد كان المشروع طموحا منذ انطلاقته، إذ إبتغى استقطاب 450 ألف نسمة وانجاز 90 ألف مسكن، منها 28500 مسكن في إطار شراكة مع القطاع الخاص،مع تخصيص مساحة تفوق 260 هكتار للأنشطة الاقتصادية، حتى لا تتحول تامنصورت إلى مدينة شبح يلجها السكان قصد النوم فقط ،كما برمجت العديد من التجهيزات والمرافق العمومية على مساحة 197 هكتار و320 هكتار من الحدائق والمساحات الخضراء((81. إن مدينة تامنصورت التي تميزت بتنوع المنتوج السكني، يمكن أن تحد من تبعيتها لمدينة مراكش فيما يخص الخدمات الأساسية والسوسيواقتصادية، إذا ما تم انجاز كل المرافق المبرمجة ضمن تصميم تهيئة المدينة،خصوصا منها المرافق المرتبطة بالأنشطة الاقتصادية. ولمواكبة تطور المدينة وخلق فرص الشغل لتثبيت الساكنة المحلية، تم خلق مجموعة من المناطق لاستقبال هذه الأنشطة الاقتصادية في قطاعات مختلفة((82.
وقد أنجزت إلى حدود سنة 2011، 22500 قطعة أرضية و16500 شقة، مع خلق 15000 صك عقاري. وتقطن بهاعندئذ ساكنة تزيد عن 30 ألف نسمة. ولإضفاء طابع المدينة على هذا التجمع كان من الضروري السهر على انجاز المرافق العمومية الضرورية لحياة السكان. وقد قامت شركة العمران في هذا الصدد، بانجاز العديد من هذه المرافق((83.
كما أنجز من طرف القطاعات الحكومية المعنية مستوصف ومدرستين. وقام بعض الخواص ببناء مسجد وحمامين ومقاهي ومحلات تجارية، بالإضافة إلى العديد من التمثيليات البنكية .وتجدر الإشارة، أن شركة العمران تامنصورت، أخذت على عاتقها تدبير هذه المدينة، من حيث جمع النفايات وصيانة المساحات الخضراء والإنارة العمومية، وغيرها من الخدمات التي تعود عادة إلى المجالس المنتخبة((84.
إنه إذا كانت إرادة المخططين ترنو أن تكون تامنصورت مشروعا مندمجا، تتوفر فيه كل شروط المدينة الحقيقية، كان لزاما – لتقوية ودعم الرهان الاجتماعي- الاشتغال على المحاور التالية:
المحور الوظيفي: وأول عناصره السكن. لذا يجب الاشتغال على تنويعه والعمل على تحفيز الطبقة الوسطى والعالية على السكن في هذه المدينة، حتى لا تصير مآلا للفئات المعوزة من مرحلي دون الصفيح وغيرها . هذا بالإضافة إلى أن، ما يجب أن تحققه كل مدينة كوظيفة أساسية لها، هي توفير مناطق الشغل. وفي هذا الباب، يجب التفكير جديا في خلق مناطق أنشطة تحد من تبعية سكان هذه المدينة الجديدة لمدينة مراكش((85 أوغيرها من المدن المتاخمة. كما أنه، من الوظائف الرئيسية للمدن، تسهيل تنقل السكان ما بين أجزاء المدينة وكذلك مع محيطها. لذا يجب تنويع وسائل النقل الداخلي والربط السريع مع المدينة الأم. وهذا من شأنه، أن يزيد من جاذبية تامنصورت كبديل للسكن في الهوامش حول مراكش((86.
المحور الجمالي : إن أهم عناصر جاذبية المدن جانبها الجمالي. وإذا كانت مدينة تامنصورت تتميز ببنايات ذات جودة عالية ،فإن الجمالية لا تقتصر على البنايات بل تتعداها إلى الملك العام والمناطق الخضراء والأثاث الحضري وكلها محاور يجب التفكير في تطويرها.
المحور الدلالاتي: إن أي نسيج حضري لا يحمل بين طياته دلالات ومرجعية ثقافية لا يمكن اعتباره إلا تجمعا سكانيا لا يرقى إلى مصاف المنشآت الإنسانية. فحتى الجانب الثقافي، ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في التخطيط الحضري. فالمدينة ليست جسدا ماديا فحسب، بل إنها قبل هذا جسد اجتماعي ورمزي، جسد من النصوص الاجتماعية التي تخاطبنا ونخاطبها، نتخاطب من خلالها وفيها وعنها، تقيم فينا ونقيم فيها، تسكننا ونسكنها((87. فالمخطط والمدبر الذي يواكب تطور المدن، يجب أن يؤطر تطور المجال، لتمكينه من هوية متميزة وواضحة المعالم. وقد وصلت مدينة تامنصورت في تاريخها القصير إلى مرحلة تحديد الهوية ((88.
ثالثا: تقييم تجربة مدينة تامنصورت
بعد مرور أكثر من عشر سنوات على انطلاق تجربة المدن الجديدة بالمغرب كجيل جديد من المشاريع العمرانية الكبرى، ورغم أن هذه المدة الزمنية في نظر العديد من الدراسات المقارنة((89،تظل غير كافية لانجاز تقييم مضبوط وشمولي لمختلف النتائج التقنية والاقتصادية المرتبطة بهذا الورش الحيوي، وبالتالي يصبح من الصعوبة بمكان، الحديث وبشكل قطعي ونهائي عن مآلات تجربة المدن الجديدة –خاصة من حيث الانجازات –وعلى النقيض من ذلك، يبدو الوقوف على بعض المؤشرات الايجابية بخصوص هذه التجربة، منطلقا أساسيا من منطلقات غرس الأمل القوي في الرهانات المعقودة من أجل إنجاحها وجعلها تتجاوز اكراهات النشأة والتبلور. فكيف يمكن الحكم على كون تجربة مدينة تامنصورت، باعتبارها الثمرة الأولى من سياسة المدن الجديدة بالمغرب، قد حققت مكتسبات هامة في مجال نظرتها الاستشرافية؟ و بالتالي الحديث عن المآلات الايجابية لتجربة أريد لها أن تتموقع ضمن خريطة الأوراش الكبرى كتجربة رائدة في بناء مدينة للمستقبل أو مدينة الحكامة المستدامة؟ ومن ثم، عبر تجاوز العقبات و المثبطات وتقديم الاقتراحات و الحلول، التأسيس لتجربة دينامية في الأفق المنظور على مستوى الحكامة الحضرية بالمغرب؟
أ- المكتسبات والطموحات:
لقد توافقت أغلب الدراسات الإستراتيجية التي قامت بها جهات مختلفة، أن مدينة تامنصورت من بين الحلول البديلة للتطور الأفقي لمدينة مراكش((90، ضمن مجموعة من المراكز تكون الدائرة الأولى حولها وتعتبر امتدادها الطبيعي الذي لا يخل بالتطور العمراني المحكم للمنظومة العمرانية((91. وهنا يتبلور الهدف الأول المتوخى من انجاز مدينة تامنصورت على أبواب مدينة مراكش، وهو التخفيف من حجم الضغط السكاني المرصود على مستوى المدينة الحمراء، هذا دون الاخلال بطبيعة الحال، بمعالمها العمرانية التاريخية والسياحية. علاوة على أهداف أخرى مرتبطة بتحسين وتجويد نمط عيش الساكنة والحد من تداعيات الهجرة والتخفيف من انعكاساتها السلبية وتوفير عروض سكنية ملائمة لجميع الشرائح الاجتماعية .فهل تمكنت الانجازات الملحوظة في هذا الصدد، من أن تحقق هذه الأهداف، أم أن حجم الاكراهات حال دون ذلك؟ هكذا، نجد أنه مرور السنوات الخمس الأولى من عمر تجربة مدينة تامنصورت، وحسب تصريح المسؤولين((92تم انجاز البرامج السكنية بهذه المدينة بوتيرة جيدة. حيث أن هناك – في حدود سنة 2009- 4 آلاف مسكن جاهز، وستة آلاف و500 وحدة سكنية في طريق الانجاز. كما أن عدد السكان –في نفس الفترة- الذين يقطنون المدينة الجديدة تامنصورت قد وصل إلى أكثر من 20 ألف نسمة، علما أن الهدف الاستشرافي يظل – كما سلفت الإشارة- هو استقطاب 450 ألف نسمة. لقد خطط استراتيجيا لانجاز مختلف مشاريع و برامج مدينة تامنصورت، من حيث اقتراح مساحة إجمالية لتشييدها قدرت ب 1200 هتكار، كما رصد بشأنها غلاف مالي استثماري ناهز 24.5 مليار درهم، من بينها 20.3 مليار درهم، خصصت فقط لأشغال التهيئة والبنيات التحتية، وذلك من أجل توفير 58 ألف سكن في مختلف الأصناف ،سيساهم إلى حد كبير في امتصاص حجم العجز السكني والتخفيف من حدة الضغط الديمغرافي الذي أخذت تعيش تحت وطأته مدينة مراكش خصوصا، وتغطية النقص الحاصل الذي قد يرصد على مستوى المرافق الأساسية للمدينة الأم. ومن ثم يمكن الحديث عن تامنصورت كمدينة بديلة. إذ أن توسع المدن غالبا ما يخلق مشاكل اضافية على مستوى التجهيزات الضرورية، مما يجعل المدن الجديدة حلا مجديا إلى أبعد الحدود لمستويات النقص المرتبطة بالمدن الممتدة.
في هذا الصدد، وكمرحلة أولى، برمجت شركة العمران مراكش 160 هكتار لانجاز المرافق العمومية الأساسية من مؤسسات تعليمية ومراكز صحية وأسواق تجارية… زيادة على تخصيص مساحة 70 هكتار لإحداث مناطق للأنشطة الاقتصادية المتنوعة، بما فيها حظيرة صناعية تم الشروع في انجازها لتخفيف العبء “الصناعي ” عن مدينة مراكش، ولتكون بمثابة الحاضن الأساسي لمختلف الاستثمارات الصناعية، وبالتالي تحويل مدينة تامنصورت إلى أحد الروافد المعول عليها لتنمية الاقتصاد الوطني . كما أنه، وفي إطار دعم الشراكة مع القطاع الخاص، ومن أجل تحفيز المنعشين العقاريين الخواص للمساهمة الفعالة في الرفع من وتيرة الإنتاج الوطني للسكن عموما ودعم تجربة هذه المدينة الجديدة خصوصا، تم منحهم تفضيليا مساحة 170 هكتار لانجاز مشاريعهم.هكذا نجد، أن شركة العمران مراكش -وإلى حدود سنة 2009 -أصبحت تدبر مايناهز 40 برنامج، يهم 35.367 منتوج، علاوة على مجموعة من المرافق ذات الأهمية القصوى بالنسبة للمدينة الجديدة((93. كما تم، ومن أجل المزيد من التنمية الحضرية الفضلى بالنسبة لتامنصورت، التوقيع على عدة اتفاقيات مع مختلف المؤسسات العمومية وإدارات الدولة والفاعلين المحليين، تتعلق أساسا ببناء مختلف المرافق العمومية الضرورية لسكان المدينة من جهة والتدبير الحضري لها من جهة ثانية.
كما أنه، وبمناسبة الاحتفاء بالذكرى الخامسة لانطلاق أشغال بناء مدينة تامنصورت، تم تدشين وإعطاء انطلاقة مجموعة من المشاريع بقيمة مالية إجمالية تزيد عن 135 مليون درهم ،وتتعلق أساسا بالمرافق المصاحبة وحماية البيئة وكذا المشروع الوطني للسكن بقيمة 140 ألف درهم، ومنها ثانوية جديدة بغلاف مالي قدره 15 مليون درهم ومسبح بغلاف مالي يقدر ب7مليون درهم، يندرج في إطار اتفاقية التعاون المبرمة بين وزارة الشباب و الرياضة ومدينة تامنصورت،بالاضافة إلى مركز صحي، سيتم انجازه من طرف وزارة الصحة ، والمركز البيداغوجي المندمج بغلاف مالي يقدر ب 17 مليون درهم على مساحة إجمالية تقدر ب 3270 متر مربع. وفي نفس السياق، وبمناسبة الاحتفاء بالذكرى الخامسة على انطلاقة مدينة تامنصورت ومن أجل بلورة رؤية اجتماعية للمنتوج السكني، تم إعطاء انطلاقة عمليتين في إطار البرنامج الوطني للسكن بقيمة 140 ألف درهم لتوفير سكن لائق للفئات المحرومة وذات الدخل المحدود، وتهم العمليتان 576 وحدة سكنية بمبلغ استثماري إجمالي يناهز 78 مليون درهم، وكذا إعطاء انطلاقة برنامج غرس أزيد من 50.000 شجرة باستثمار مالي يفوق 106 مليون درهم((94. وبذلك يتطلب التوسع العمراني السريع على مستوى مدينة تامنصورت إعمار أراضي شاسعة لإيواء الساكنة الحضرية المتزايدة، وتزويد المناطق السكنية بما تحتاجه من تجهيزات تحتية وفوقية وما يستلزمه التعمير كذلك من توفير خدمات أساسية كالماء والكهرباء والتطهير الصلب والسائل والمناطق الخضراء، والنقل الحضري، ومن مرافق عمومية ضرورية كالتعليم والصحة والثقافة والرياضة((95.
كما أنه، وفي إطار الرؤية الجديدة لسياسة المدينة، المرتكزة على مبادئ تنمية المدن الجديدة الدامجة والمنتجة والمتضامنة والمستدامة، بهدف إعطائها دينامية جديدة، و بالتالي تعزيز وتقوية جاذبيتها والارتقاء بأسس التنمية المندمجة بها وإرساء تصور شمولي للمجال الترابي المتوازن والتنافسي، تم يوم 9 ماي 2014 ،تقديم الخطوط الكبرى لما سمي ب “برنامج إقلاع مدينة تامنصورت” وذلك خلال الأربع السنوات القادمة- فيما بين 2014 و2018- والذي عبئت له كلفة مالية مهمة ناهزت 1.3 مليار درهم. وتشمل المكونات الرئيسية لهذا البرنامج الطموح، مشاريع كبرى مهيكلة، ومنها إنشاء مركب جامعي((96ومستشفى محلي وقاعة مغطاة ومركب ثقافي ومركب للأنشطة الاقتصادية والصناعية، وأيضا إنشاء 21 مشروعا من تجهيزات القرب، تضم 3 دور للشباب ودار نسوية و3 مراكز صحية و 15 ملعب رياضي و3 مساجد ومصلى وقاعات متعددة الاستعمالات ضمن مشاريع السكن الاجتماعي. هذا فضلا، عن تهيئة المشهد العمراني والعقاري والحضري ودعم أنشطة النسيج الجمعوي بالمدينة في إطار نهج المقاربة التشاركية والتشاورية مع جميع الفاعلين بما فيهم مؤسسات المجتمع المدني، والتي بإمكانها الانخراط الايجابي في تشييد المعالم الكبرى لمدينة المستقبل. ومن منطلق أن القرن الحالي، هو قرن المعرفة بامتياز، وبالنظر إلى رغبة متخذي القرار في جعل مدينة تامنصورت مدينة من المدن المربية أو مدن المعرفة، وبهدف ايلاء الاهتمام اللازم بالأجيال الصاعدة والمقبلة وجعل التعليم والتربية والثقافة من أبرز الرهانات الكبرى المعول عليها لبناء المغرب المأمول، ومادام أن المتطلب الأساسي لتحقيق ما هو متعارف عليه بمسمى “التنمية المتواصلة أو المستدامة” هو الحرص على تجويد تربية وتعليم المواطن وجعله يتسلح بالأخلاق والمعرفة ويمتلك المهارات التكنولوجية والحياتية، ما يؤهله للمشاركة الفعالة في التخطيط وصنع القرار وفي تنفيذ عمليات التنمية، فإن برنامج إقلاع مدينة تامنصورت رسم من بين أولوياته إحداث المركب الجامعي كامتداد لجامعة القاضي عياض بمراكش وكفضاء معرفي جديد، ساهمت فيه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر بما مجموعه مليار و 100 مليون درهم، وسيتيح فرص جديدة للتعليم والدارسة والتكوين، إذ من المرتقب أن يوفر 10 آلاف مقعد كل سنة، موزعة على ثلاث كليات وأربع مدارس للمهندسين، ستتوخى تلبية الطلبات السوسيواقتصادية، علاوة عن حي جامعي و مجموعة من خدمات القرب لفائدة الطلبة.
إن الهدف الأساسي من برنامج إقلاع مدينة تامنصورت، هو بعث الروح أكثر في هذه المدينة الجديدة ،حتى تصبح أكثر جاذبية واستقطاب، و بالتالي اعطائها هوية صورة متسمة بالتألق، من خلال إحداث عدد من الأنشطة المستقلة، حتى تتمكن المدينة من أن تعيش بذاتها كقطب حضري متميز ورائد. كل ذلك في اطار مندمج ومنصهر مع مدينة مراكش والتشكل كآلية حقيقية للتهيئة والتنمية الحضرية.
ب-المثبطات والاكراهات:
بعد مرور أكثر من عشر سنوات على إنشاء مدينة تامنصورت كمدينة كوكبية مبرمجة ضمن التصميم المديري للتهيئة العمرانية المصادق عليه سنة 1995،والتي كانت -ومنذ الانطلاقة – الآمال والطموحات الكبيرة معقودة عليها لانجاز العديد من المكتسبات وتحقيق الكثير من الغايات، احتدم النقاش مؤخرا حول أهمية وجداوئية هذه التجربة في سياق ” إنعاش” الحكامة الحضرية بالمغرب. حيث، وحسب أغلب الدراسات المنجزة في هذا الصدد، وكذا من خلال استقصاء آراء المستفيدين من هذا المشروع، فإن هذه التجربة لم تحقق المأمول منها، ولم تصل بشكل كامل إلى المبتغى المرسوم لها، بسبب ظهور العديد من المشاكل البنيوية والهيكلية، التي أضحى يتخبط فيها هذا النموذج من المدن، وعلى شتى المستويات.ومنها:
غياب التنصيص التشريعي:
إن 60 في المائة من تحقيق مشروع سياسة المدينة رهين بوضع ترسانة قانونية ومؤسساتية جديدة تواكب التحولات الاقتصادية والاجتماعية، فمن أبرز العوائق التي تعترض تجربة المدن الجديدة، بصفة عامة، وبالتحديد في التجربة المغربية، نقف عند غياب نص تشريعي خاص بهذا النمط من المدن. هكذا نجد أن قانون 12.90 المتعلق بالتعمير لم يتطرق إلى إحداث المدن الجديدة. بل اكتفى بالإشارة العرضية إلى ما يسمى بالمناطق العمرانية الجديدة((97. ومن ثم ، فمسألة هذا الفراغ التشريعي((98، تطرح إشكاليات قانونية عميقة بالنسبة للمدن الجديدة في إطار التعامل معها كتجمعات سكنية ليس إلا. في حين أن جوهرها العميق، يفرض وضع إطار قانوني ملائم يوضح المسارات التنظيمية لتدبيرها. وعلى النقيض من ذلك، يلاحظ بأن مشروع قانون رقم 07.30 المتعلق بمدونة التعمير((99،والذي جاء لتدارك فراغ تشريعي مهم في ميدان التعمير بالمغرب، أورد تعريفا ل” المدينة الجديدة”، حاول أن يبرز جوهرها القانوني والوظيفي. هكذا جاء في المادة 183 من مشروع المدونة، يراد بالمدن الجديدة، المراكز الحضرية الجديدة المتعددة الوظائف والمتوازنة، بالنظر إلى إمكانيات التشغيل والسكن والتجهيزات التي تعتزم توفيرها والمنتجة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويجب أن تتميز المدينة الجديدة بطابع خاص، دون أن تقتصر عليه،كما يمكن الرفع من الإمكانيات والقدرات المحلية، وتوسيع أنشطة القطاع الثاني والثالث. ويجب أن تدمج المدينة الجديدة أيضا مفهوم التنمية المستدامة، وأن تلعب دورالمحرك للتنمية الجهوية والوطنية، وذلك في إطار توزيع المكان عبر مجموع التراب الوطني وتركيز السكان الحضريين لمحاور التنمية ذات الأفضلية”.
النقص الحاد في المرافق والتجهيزات :
حيث يسجل عدم ايلاء العناية اللازمة بالبنيات التحتية والتجهيزات الضرورية. وذلك باعتراف المسؤولين أنفسهم((100. فهناك الخصاص الهائل في المنشآت الثقافية والترفيهية، رغم الدور الذي مافتئت تلعبه مؤسسة العمران تامنصورت، المكلفة بالاشراف على هذه المدينة الجديدة ، فيما يخص تحفيزها على تأسيس جمعيات ثقافية محلية لتغطية هذا الخصاص.
ومن بين النواقص الواجب التفكير فيها أيضا، توفير الأمن اللازم بإحداث مؤسسات الدولة الخاصة لذلك. فمن بين المشاكل المرصودة في هذا الشأن، والتي ينبغي التفكير العميق في معالجتها، و إيجاد حلول آنية لها، نجد الارتفاع الملحوظ في نسب الإجرام، وغياب أو شبه غياب لأحد أهم المرافق الأساسية بالنسبة للمواطن، وهو مرفق الأمن. إذ، نجد هنا أن مهمة توفير الأمن لساكنة تامنصورت، التي أخذت ترتفع يوما بعد يوم، موكولة لمركز للدرك الملكي لجماعة حربيل القروية، وهي ذات المهمة التي تشمل كل من مدينة تامنصورت، بالاضافة إلى الدواوير التابعة لهذه الجماعة القروية((101. ومما يعمق من حدة هذا المشكل، هو وجود بعض جيوب المساكن العشوائية بأحواز تامنصورت .فالمعروف أن شروط السكن تؤثر بطريقة مباشرة على سلوك الأشخاص، فقد أثبتت الدراسات بأن الأحياء السكنية الهامشية التي لا تتوفر على الشروط الضرورية لإطار عيش سليم، تعرف نموا في الجريمة أكثر من الأحياء التي تتوفر فيها كل شروط السكن السليم((102،الشيء الذي ينطبق على بعض الأحياء الهامشية المجاورة لمدينة تامنصورت،والتي تشكل تهديدا أمنيا لهذه الأخيرة.
كما أن من الاكراهات التي ترزح تحت ويلاتها مدينة تامنصورت أيضا، نجد عدم تملكها لمرافق صحية. حيث أن المدينة لازالت تفتقر إلى بعض التجهيزات الأساسية الصحية، التي هي من الضروريات الملحة للساكنة الحالية التي تقارب90.000 نسمة. كما أنها تعاني من هشاشة بيئية، إذ تقع بالقرب من مطرح عمومي للنفايات متواجد على الطريق الرابطة بينها وبين مراكش، والذي يتسبب في تلوت البيئة المحيطة، الناتج عن انتشار الدخان والروائح الكريهة المنبعثة من هذا المطرح. كما تعاني أيضا من غياب الإنارة العمومية أو وجودها الضعيف، على مستوى المحور الرئيسي للطريق الرابط بين تامنصورت المدينة الجديدة ومراكش المدينة الأم. وعلاوة على ذلك، ارتفعت الأصوات والحناجر عبر تقديم الشكايات المختلفة من القاطنين المتضررين للمسؤولين حول بعض مشاكل المرافق الأساسية، كمرفق الماء الصالح للشرب، حيث أنه وبمجرد ارتفاع درجة الحرارة، كثيرا ما تعرف التجمعات السكنية بتامنصورت إنقطاع مستمر لهذا المرفق الحيوي ولفترات عدة وطويلة الأمد، مما يجعل المدينة تعيش تحت وطأة أزمة خانقة. هذا دون إغفال إشكالية النقل الحضري ما بين هذه المدينة الجديدة ومدينة مراكش. وعموما، فإن النقص الحاد في المرافق والتجهيزات يعتبر من أهم الإشكاليات التي تعاني منها المدن المغربية بصفة عامة، وهو ما يتبلور في عجز المؤسسات المتدخلة في ميدان التدبير الحضري على الاستجابة للطلب المتزايد على التجهيزات الضرورية، وكذا عدم قدرة السلطات العمومية على ايجاد حلول ناجعة لمشاكل معيشية مرتبطة بالحياة اليومية للمواطنين (كالنقل والماء الشروب والكهرباء وجمع النفايات…) إن السبب في ذلك يكمن أساسا، في كون تدخلات الدولة بالمغرب بصفة عامة على مستوى المدينة ظلت متعددة ومتنوعة . إذ أنه،ومنذ بداية القرن العشرين، تمركزت الدولة في صلب نظام الإنتاج الحضري، فهي “البانية” والمزودة الأولى للمرافق الحضرية((103. وقد شكل ذلك مشكلا في حد ذاته، من حيث احتكار الدولة للمسألة الحضرية.وبالتالي غياب النجاعة والفعالية اللازمتين.
لقد كان مشروع مدينة تامنصورت مقنعا في بدايته، حيث حصل على توافق المنعشين العقاريين الذين استثمروا في هذا المشروع،ولكن عدم التزام الفرقاء بانجاز التجهيزات العمومية أصبح يهدد في العمق مصير المدينة، التي قد تتحول إلى مجرد تجزئة سكنية، في غياب إستراتيجية واضحة المعالم ومضبوطة البرمجة((104.
الاتسام بصفات الضاحية “المقرونة”
: بالإضافة إلى ماسبق نلاحظ أن هذه المدينة – تجاوزا للوصف الدقيق لمفهوم المدينة – مازالت تعاني من هشاشة “حضرية” هائلة. من حيث ارتفاع نسبة الترييف أوالقرونة Ruralisation ،إذ مازالت تغلب عليها سمات الطابع القروي وعلى جميع الأصعدة، وذلك بالرغم من تواجد مشاهد توسعها العمراني ومظاهر لنموها الديمغرافي السريع ، لدرجة معها يحق لنا طرح التساؤل التالي:هل مدينة تامنصورت مدينة بالمعنى الدقيق للكلمة، أم أنها تبقى مجرد تجمع سكني حضري كبير؟ إن الجواب على هذا السؤال، يفرض علينا التعامل مع تامنصورت كمدينة ضاحوية لمدينة مراكش. مفهوم” الضاحية ” عبر ذلك، يطلق على المجال الانتقالي بين المجالين الحضرى والقروي الذي يخضع لجاذبية المدينة ولاستقطابها والتي تعرف تحولات عميقة في وظائفها ومكانتها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية. إن تحول المجال والمجتمع الحضري القروي فيما يخص مدينة مراكش الكبرى، اتخذ اليوم شكلا من أشكال أزمة حادة، تتجلى في تفككها إلى وحدات سوسيو مجالية شبه مستقلة عن بعضها البعض ،وفي وجود نطاق ضاحوي بالمدينة يتميز بدوره بالتفكك، وبعدم انسجامه الوظيفى، مما ينعكس على التدبير العقلاني لهذه المدينة في ميدان الخدمات والتجهيزات ومن حيث المحتوى والفعالية اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا ،وهو ما تعكسه تامنصورت كتجمع عمراني ضاحوي، يضم في طياته الدواوير المحيطة بمدينة مراكش، والتي ترجع مسؤولية معاناتها إلى معضلة المدينة في حد ذاتها، حيث لم تستطع أن توفر لساكنتها السكن اللائق ولاالبنيات الضرورية، وبالأحرى ظروف عيش أفضل، بالنظر لهشاشة اقتصادها وإلى طريقة تسييرها الاداري غير العقلانية، وإلى تهافت المضاربين الخواص على الأراضي، مما أدى إلى تفاقم البناء غير اللائق باستدراج ذوي الدخل المحدود للحصول على سكن يفتقر إلى أدنى شروط الفن المعماري وسلامته، ومن ثم تتوسع ظاهرة مجالية تشكل مكونا أساسيا وهامشا غير صحي للمدينة. إنه، على صعيد الأحياء الهامشية أو البعيدة عن مركز المدينة نجد مستوى الخدمات مترديا. وهذا التردي سيزداد بشكل أكبر، في حالة إذا ما انتزعنا عن هذه المناطق الهامشية صفة البلدية((105،وهو مايبدو ينطبق، بشكل أو بآخر، على مدينة تامنصورت ويعمق من جراحها، خاصة أن المدن المغربية المعاصرة أخذت تتسم بظاهرة تجاور الفضاءات الحضرية الناتجة عن تنظيمها الطبقي المكرس تاريخيا واقتصاديا((106.
غياب الالتقائية
:إن مشروع المدينة يظل مشروعا طموحا، إلا أنه لا يخلو من نقائص عند افتقاده إلى انسجام مختلف المتدخلين، من قطاعات حكومية ومؤسسات عمومية وجماعات محلية، في إطار سياسة المدينة الجديدة والقائمة على مرجعية متوافق حولها، محددة الأهداف ووسائل التمويل والتنفيذ، بعيدا عن الارتجالية والاعتباطية .وكمثال عن الخلل الذي قد ينتج عن غياب الالتقائية ، ما تشهده المدن الجديدة اليوم، من عجز في البنيات التحتية والتجهيزات والمرافق الأساسية ووسائل النقل. إذ وصل حجم الانجاز في الشطر الأولى إلى 50 في المائة فقط .علما أن عقودا وشراكات وبرامج وقعت على هذا المستوى من طرف الوزارات والقطاعات المعنية لتسليم هذا العمل في وقت محدد. إن غياب الالتقائية مرده أساسا، كون سياسة المدينة بالمغرب، تظل “هزيلة”على مستوى الادراك والبناء المؤسساتي.وعليه، من الواجب مأسسة هذه السياسة، مع ضمان مشاركة موسعة للمواطنين .فالمتدخلين في مجال التخطيط لتنمية المدن تخطيطا شموليا، يضم في طياته الاقتصاد والتعمير والبنيات التحتية والمرافق العمومية الأساسية، يتميزون بكثرة عددهم ويوجدون على مستويات ترابية مختلفة. كما يلاحظ ضعف التنسيق الترابي، بحيث يتبين بأن مشاركة السلطات الترابية، تتم بكيفية ضعيفة في تحديد وبلورة التصورات المتعلقة بالمشاريع القطاعية. ثم تشتت المهام وغياب التنسيق وتداخل الاختصاصات بين كل الفاعلين في ميدان التسيير الحضري والتعمير من جهة ،وبين البرامج والمخططات القطاعية من جهة أخرى ، مما أدى الى تعثر الجهود المالية والبشرية، وبالتالي تعثر المشاريع والاستثمارات وعدم انجازها في الوقت المطلوب. إنه، من الصعب استباق المستقبل، في غياب وضوح الرؤية، الأمر الذي يشكل عائقا أمام المستثمرين الخواص على جميع المستويات ( الأسر والمقاولات) الذين يضطرون بذلك إلى الانتقال نحو المراكز الحضرية الكبرى ذات مستقبل ووظيفة واضحة المعالم. من هنا، يطرح السؤال التالي: ما هي الأسباب الكامنة وراء صعوبات التنسيق ووضع رؤية ترابية مشتركة؟ وبأي وسيلة يمكننا معالجة هذه النقائص؟((107
على هذا الأساس أضحت “تامنصورت” تعيش عدة أزمات متعددة الأبعاد والمظاهر،حالت دون أدائها لوظائفها التنموية. حيث أنها تتجلى كمدينة متخبطة في جملة كبيرة من المشاكل ذات الصلة بهشاشة المظاهر الحضرية. فرغم أنه ولحدود سنة 2013، بلغ تعداد ساكنتها ما يقارب 90 ألف نسمة، فإنها مازالت تعاني من مشاكل جمة، ومنها النقص الحاد في مؤشرات التأهيل الحضري la mise à niveau urbaine ، من حيث ضعف تواجد المرافق الادارية والاجتماعية والاقتصادية والرياضية، وما إلى ذلك من المرافق الرئيسية والحيوية الكفيلة بإضفاء الصبغة الحضرية على هذا النموذج من المدن، وبالتالي غياب أحد أهم مبادئ الحكامة، وهو مبدأ الاندماج الاجتماعي. هناك كذلك خصاص كبير فيما يخص وسائل النقل وعدم انتظامها. إنه إذ أردنا القيام بتقييم مرحلي لمدينة تامنصورت، يمكننا الجزم، بأن هذه المدينة الجديدة قطعت أشواطا كبيرة، ولكن مع ذلك يبقى أمام هذه التجربة ولتكمل مساراتها الايجابية، الشيء الكثير، خصوصا ما يتعلق بالتجهيزات العمومية المختلفة.
ج-الحلول الممكنة والآفاق المستقبلية:
سياسة المدن الجديدة بالمغرب، هي جزء أساسي من سياسة المدينة. ومن ثم فالبحث عن حلول للمشاكل، التي يمكن أن تتخبط فيها كل واحدة من هاتين السياستين، هو بحث يخدم مصلحتهما معـــا. في هذا الصدد، يبقى أحد أهم الأهداف التي سعى إلى تحقيقها الحوار الوطني حول سياسة المدينة((108، هــو صياغة وثيقة مرجعية ومشتركة تؤسس لسياسة المدينة وتبلور الأفكـــار والأهداف والانتظـــارات الملحة من هذه السياسة، وذلك بما يمكن من معالجة الاختلالات المسجلة، وتعزيز البنية العمرانية والاقتصادية والاجتماعية للمدن المغربية، حتى تصبح قادرة علـــى ربح رهــان التنافسية واستقطاب الاستثمارات المنتجة والكفيلة برفع وتيرة التنمية.
إن المشاكل التي تعاني منها المدن الجديدة، هــي ذاتها المشاكل التي تعاني منها جميـــع المدن بصفة عامة. هذا، مع إضافة مشاكل أخرى مرتبطة بطموح التجربة وعدم طول الحيز الزمني الـذي تنشأ في خضمه، وعليــه فالتفكير فــي الحلول المجدية لهـا يتطلب انتظار بعض الوقت، وكذا عــدم فصلها عن الحلول المقدمة لمشاكل مختلف المدن((109.ويبقى السؤال الرئيسي المطروح اليوم على المدن المغربية : كيف ندير وننظم بشكل أحسن مسألة التمدن؟ حيث يظل “العيش الأفضل” الانشغال الأول للساكنة الحضرية. ويمكن الإجابة في كون التنمية الاقتصادية والاجتماعية تجد جذورها في المدن وأن نجاعة نشاط المدينة، تظل خاضعة قبل كل شيء لتنظيمها((110.
إن المغرب ليس في حاجة إلى ميثاق وطني لسياسة المدينة((111، بل إلى حكامة حضرية جيدة، تستحضر فرص التنسيق الواعي بين مختلف فاعلــي ومتدخلي هذه الحكامــة، مــن مكونات حكومية وهيآت الحكامة المحليــة والجهويـة – خاصة بعد تبني خيار الجهوية المتقدمـة والشروع في تنزيل بعض مقتضياته عبر إحداث المجالس الجهوية – ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات المانحة، وطنيا ودوليا. ومن ثم ينبغي ضرورة إرساء مقاربـة تشاركية لتجاوز التحديات الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تعرفها جل المدن المغربية، بما فيها المدن “الناشئة” أو الجديدة . فالانتقال إلـى مشروع الجهويـة المتقدمـة يطرح تحديـات عميقة مـن نـوع آخـر فـي مجال التعمير والعقار والتخطيط وتدبير المجال. وبذلك يظل الطموح، هو إرساء سياسة للمدينة وفق رؤية إستراتيجية متعاقد حولها، ووضع قواعـد حكامـة ناجعـة تضمن الالتقائيـة والتكامـل والفعاليـة، دون إهمـال آليــات التتبـع والتقييــم والافتحاص الدوري((112.
إن الاهتمــام المتزايد بالمجــال بصفة خاصة وبالتعميــر بصفة عامــة، جـــاء كضرورة للمشاكل التي أصبحت تعرفها بعض القطاعات، خصوصا الاقتصادية منها والاجتماعية، وذلــك بالبحث عن الحلول الممكنة والناجعة للخروج من بوتقة هذه المشاكل، التي أضحت مع مرور الوقت تتسم بالصفة المستعصية، حيث أخذت تفرض تواجدهـــــا، وبالتالي ضرورة تدبير أزمة التعمير،في إطار ما يصطلح عليه اليوم بالحكامة الحضرية المحلية. في هذا الاطار المتعلق بالحكامة الحضرية المحلية. يمكن أن نقف عند أهمية البرامج المواكبة والمدعمة لتجربة مدينــــة تامنصورت، والقادرة على جعلها تتخطى العقبات والمثبطات، التي يمكن أن تعترض سبيل تبلورها وكذا تطورها، خاصة البرامج ذات الصبغة الرسمية، والتي أنيطت بوزارة “سياسة المدينة” مهمة الإشراف عليها ، وذلك في إطار تشاركي مع مختلف الفاعلين والمتدخلين في الحكامة الحضرية. فالمشاكل الحضرية المطروحة اليوم، لا يمكن حلها بناء على مقاربة أمنية محضة أو على سياسة مغرقة في الاتصال، بل الحاجة الماسة، تدعو إلـى وضع مقاربــة تشاركيــة مندمجــة ومنسقــة وعقلانيـة بين الفاعلين، والقائمين علـى الشأن المحلي والعمرانـي ،أو مـا يصطلح عليـه اليـوم بالتعمير التشاركـي Urbanisme participatif ، وهـو المبني علـى التعـاون بين كـل الأطـراف والفاعليـن مــن سلطات محلية ومؤسسات عمومية وقطاع خاص ومجتمع مدني، من أجل النهوض بميدان التعمير فـي اتجـاه إعــادة إنتـاج مدن ذات وظائف هادفــة نحو تطويـر الاقتصاد والمجتمع. الشـيء الـذي يتطلب اليـوم تصـورا شموليا في إدارة وتدبير المدن، من أجل الظفر بكل رهاناتها . هكذا، ومن أجل تعزيز الرهان الاجتماعي للمدينة الجديدة تامنصورت، وبغية القضـاء علــى السكن الصفيحي، تم التنصيص على برنامج مشترك مع الولاية، بهدف إيجاد الحـل للسكن غيـر اللائق، الذي تطور بشكل لافت بعد سنة((2004. ((113إن عدم التناسب بين العرض والطلب على مستوى السكن، ساهم في الرفع من العجز المرصود على هذا المستوى، مع انتشار مظاهر السكن الغير القانوني وما يرتبط به من سكن عشوائي ومدن الصفيح وسكن غير لائق. فوعيا من الدولة، بالمخاطر المتصاعدة لمدن الصفيح، على توازن المدن، أعلنت ومنذ سنة 2004 عن برنامج “مدن بدون صفيح”، والمتعلق ب 67 مدينة، تشمل 201.000 أسرة،بمافيها مدينة مراكش.
لقد كانت لهذا البرنامج الطموح انعكاسات كبرى في مجال التدبير الحضري، من خلال التشجيع على مشاركة أكبر قوامها إذكاء روح المواطنة والمسؤولية. وهو البرنامج الذي أكد على أن يكون البعد الإنساني حاضرا في قلب سياسات تخطيط المدينة و تدبيرها((114،مما جعله يحقق نتائج ايجابية ،خاصة بعد قيامه بالموازاة مع برنامج المدن الجديدة .إذ حرصت هذه الأخيرة،على اعادة اسكان قاطني أحياء الصفيح ،وجعلهم بالتالي ينخرطون في ديناميتها الحضرية.
ومن أجل دعم الدينامية الحضرية لتامنصورت، تم الاهتمام بالنقل، باعتباره عامل حاسم فـي عملية النمـو والتوسـع الحضري للمـدن، وذلك عبر الحرص على تعزيز شبكة النقــل Transport net Work ، لما لها مـن أهمية قصوى فــي أداء وظــائف المدينـة، مــن خلال خلق الترابطات الممكنة بين أرجاءها ونقل الحركية La mobilité من مركزها إلى محيطها الخارجي. كما أنه، وفي اطار البعد التشاركي لسياسة المدن الجديدة ،ولتجاوز بعض مشاكل مدينة تامنصورت، تم خلق تجمع للنفع الاقتصادي خـــاص بها،((115 وهـــو التجمع الذي تم الإعلان عن تأسيسـه بموجب اتفاقيـة شراكـة، موقعـة يــوم 26 فبراير مـن سنـة 2009، والتي حددت أهداف إنشاء هذا التجمع – وفق تصريح رئيس جمعية المنعشين والمجزئين العقاريين بمراكش((116- كما يلي :
* تحسين صورة المدينة التي أخذت تلاحقها العديد من الإشاعات المرتبطة بغياب عملية التواصل بين المسؤولين والسكان. الشيء الذي ساعد على انتشارهــا وتناسلها السريـع، وذلك مـن قبيل قلـة وجود الماء الكافي بها، مما خلق العديد من التخوفات )الدور التواصلي التحسيسي(.
* الوقوف على التجاوزات التي يمكن أن تعرفها بعض أوراش البناء )الدور الرقابي( .
* التتبع المستمر للمرافق العمومية الأساسية الجديدة من مدارس و مستشفيات)الدور الهيكلي(.
* الحرص على التطبيق الحرفي والسليم لكناش التحملات الممنوح إلى المنعشين) الدور القانوني. (
* التواصل مع المسؤولين في المدينة الأم )مراكش( لتوفيـر خدمات أساسيــة لا تدخل فــي أعمـــال البناء مثل، النقل والإنارة العمومية والصرف الصحي، خاصة في ظل عدم وجود جماعـة حضريـة تسهر على انجاز ذلك)الدور الاجتماعي(. على هذا الأساس التشاركي،ينبغي على مدينة تامنصورت، أن تبرهن بالملموس عن قدرتها الفائقة على اللحاق بركب مدن المشاريع Villes des Projets. فمدينة القرن الواحد والعشرين، هي مدينة المشاريع. إنه كلما انعدمت المشاريع، إلا وكثر الصراع والانقسامات بين المواطنين والانحرافات بين الفاعلين ،وكلما كثرت المشاريع دخلت المدينة في حركية اقتصادية ورواج اجتماعي ، وأيضا تنافسية محلية ووطنية ودولية. لقد حان الوقت في المغرب كذلك للانتقال من المدينة السياسية إلى المدينة الاقتصادية المحضة((117. فالمدينة لم تعد مجرد مصلحة للدولة Service de l’Etat، بل يجب أن تصبح مجالا للمواطن ، يفتح له الباب على مصراعيه ، للانتاج والتبادل والتنافسية والابتكار والتنوع((118. إن المدن لم تعد كذلك مجالا للتسيير العشوائي التقليدي ، بل أصبحت تأخذ من الفكر المقاولاتي كل الصفات، وبالتالي يجب أن يسند تسييرها لمن يسمون بمدبري المقاولات Managers ،الذين عليهم تصريف اشكالاتها المعقدة بانسجام وتكامل مع كل مكوناتها، وفي إطار بعد تنموي، توقعي، يتوخى دائما وأبدا المردودية. فطريقة تدبير المدن اليوم أصبحت متهالكة ومتجاوزة، ويجب من الآن فصاعدا، خلق نموذج جديد للتدبير((119. إن التعمير الحالي، مطالب بالاستجابة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية الملحة((120،ومطالب أيضا بتحقيق مدن جديدة تراعي الجانب الانساني للمواطن (أنسنة المدن) ورغبته للعيش في وسط لائق كريم، به كل مايحتاج من مرافق ووسائل ترفيه، له ولأولاده ،وليس مدينة تستعمل من أجل النوم فقط. في هذا الصدد، فإن ما تسعى إليه سياسة اعداد التراب بمفهومها الجديد، هو أنسنة التنمية، مع ما يرتبط بها من نجاعة اقتصادية وتماسك اجتماعي((121.
ومن الآفاق المستقبلية التي ينبغي التفكير بخصوصها على هذا الصعيد، بالنسبة لمدينة تامنصورت، نجــد ضرورة خلق هوية خاصة لهذه المدينة الجديدة. وبغية ذلك، فإن انجاز مدن جديدة – بصفة عامة – للتخفيف مـن الضغط العمرانـي عـن المدن الكبـرى – فـي هذه الحالـة مدينــة مراكـش- يعـد ضمـن انشغـالات الفاعليـن السياسييـن.. ومن ثم ضرورة التفكير حول آليات تنظيمها وعـدم التسرع فــــــي انجازها حتى لا تولد إكراهات أخرى جــراء قربها مــن المدن الكبـرى. فالمدن الجديـدة، عليهـــا أن تكـون جزءا من الحل وليس جزء من مشكل. ولهذا، ينبغـي إعطـاء سكـان هذه المـدن الهويـة اللائقـة بهم، بهدف تمكينهم من العيش الكريم، والتفكير في البنيات التحتية الضرورية، خاصة تلك المرتبطة بالنقل والتمدرس والرياضة والثقافة من أجل توفير الإطار الملائم والمحترم لحياة الساكنة.
خاتمـة
بعد فشل السياسات المتبناة من طرف الدولة لمواجهة التمدن السريع، خاصة في المدن الكبرى ، وما نجم عنه من انعكاسات وخيمة على المشهد الحضري بالمغرب، كتراجع مساحة الأراضي الزراعية بسبب التوسع العمراني “المجحف” و الغير المتحكم فيه وانتشار كل أشكال التعمير الفوضوي( الغير القانوني، الغير المنظم ، الغير المهيكل، الغير اللائق) ونقص الخدمات الضرورية والمرافق الأساسية أو كثرة الضغط عليها، وبالتالي عدم قدرتها على الاستجابة لجميع المتطلبات وتشوه النسيج العمراني وصورة المدينة بصفة عامة. نظرا لكل ذلك تم تبني سياسة المدن الجديدة، كمقاربة ناجعة لمواجهة مختلف الاشكاليات المرتبطة بظاهرة التمدن. بيد أن مختلف الإجراءات والمبادرات المتخذة على هذا الصعيد، ظلت على أهميتها وطموحاتها، غير كافية لمعالجة الاشكاليات الحضرية المطروحة في بلادنا،كما أبرزت ذلك العديد من التقارير الوطنية والدولية. الشيء الذي يفرض التفكير الملي والمسؤول في كيفية معالجة التدهور الحضري، الذي أخذت تشهده بعض المدن الجديدة رغم حداثة نشأتها.
هكذا، تواجه المدن في ظل العولمة تحديات اقتصادية وبيئية واجتماعية وثقافية متعددة، تجعل من التنمية الحضرية مسألة معقدة ومتشابكة. فالمدن اليوم، تعتبر فضاءات لكسب رهان التنمية على الصعيد الوطني. وبالتالي فكل مدينة غير مؤهلة لمجابهة التحديات المطروحة، ستعاني لامحالة من تبعاتها الوخيمة وآثارها السلبية. وتبقى الوسيلة الفضلى للخروج من هذا النفق، هو اعتماد استراتيجيات ومناهج تعتبر المدينة كوحدة شمولية ومنها، سياسة المدن الجديدة بالمغرب، والتي للأسف الشديد، وعوض أن تحقق أحد أهم أهدافها، والمتمثل في الحد من التوسع الحضري الغير المتوازن، فإنها على النقيض من ذلك –كما أشار التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لسنة2013_ ساهمت في تفاقم عوامله .الشيء الذي جعلها سياسة محدودة الأفق،على الأقل على المستوى المنظور. إن الإشكالية المركزية للمدن المعاصرة تدور حول ضرورة تجديد الفعل العمومي الحضري والبحث عن الوسائل الممكنة لتدبير المسائل الكبرى للمدينة.كل ذلك يجب أن يتم هي اطارسياق جديد، هو سياق الحكامة الحضرية، والتي على سياسة المدن الجديدة التوسل بآلياتها ومبادئها، إن هي أرادت أن تجد لها موطأ قدم على مستوى سياسات تدبير الفعل العمومي.
(محاماه نت)