دراسات قانونية
الدفع بعدم دستورية القوانين (بحث قانوني)
الدفع بعدم دستورية القوانين والخيار الأنسب للمغرب -دراسة مقارنة-
خالد الدك باحث في العلوم القانونية
مقدمة
يعتبر الدفع بعدم دستورية القوانين آلية جديدة في منظومتنا القانونية نص عليها الفصل 133 من دستور يوليو 2011[1]، تمكن المواطنين منالمساهمة في تنقيح المنظومة التشريعية وتطهير الترسانة القانونية مما قد يشوبها من مقتضيات غير دستورية، عن طريق الرقابة البعدية على القوانين المنشورة بالجريدة الرسمية والسارية المفعول والتي يراد تطبيقها في القضايا الرائجة أمام المحاكم.
والدفع بعدم الدستورية هو عبارة عن سيلة قانونية تخول أطراف الدعوى إمكانية إزاحة أي قانون يمس بحقوقهم وحرياتهم التي يضمنها لهم الدستور، يراد تطبيقه في النزاع المعروض أمام المحاكم العادية والمتخصصة، والمحكمة الدستورية أثناء بتها في كل قضية تتعلق بانتخاب أعضاء البرلمان.
ومن خلال قراءة الفصل 133 المشار إليه أعلاه، يتضح أن الدستور خول للمحكمة الدستورية صلاحية البت في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية معروضة أمام محكمة الموضوع، إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، وتتم إحالةهذا الدفع بعد ثبوت جديته من قبل هذه المحكمةإلى المحكمة الدستورية، كما يعني كذلك إمكانية إثارة الدفع بعدم دستورية قانون في كل منازعة برلمانية معروضة أمام المحكمة الدستورية.
ليبقى التساؤل المطروح هل تحيل محاكم الموضوع الدفوع المثارة أمامها بعد ثبوت جديتها مباشرة إلى المحكمة الدستورية؟أم تصدر محاكم الموضوع في حال ثبوت جدية الدفوع أحكاما تمهيدية أو مقررات تخول مثيري الدفع من خلالها مهلة زمنية لتقديم دفوعاتهم أمام المحكمة الدستورية؟ أو يمكن أن تثير هذه المحاكم من تلقاء نفسها عدم دستورية قانون أثناء تطبيقه في قضية رائجة أمامها وتحيل الأمر إلى المحكمة الدستورية(المبحث الأول)، أم تحيل محاكم الموضوع الدفوع الجدية إلى محكمة النقض لتقوم هذه الأخيرة بتصفيتهاوإحالةالجدي منها إلى المحكمة الدستورية (المبحث الثاني). وما هو الخيار الذي يكفل حماية الحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، ويحد من تعسف بعض المتقاضين من إثارة الدفع، ويضمن صدور الأحكام في أجل معقول، وهو مبدأ مقرر بدوره في الدستور.
المبحث الأول: إثارة الدفع بعدم الدستورية أمام المحاكم وكيفية بت المحكمة الدستورية في الدفع الجدي
يعرف هذا النظام ثلاثة خيارات، الخيار الأول يتجلى في صلاحية المحكمةالتيأثيرأمامهاالدفعمن قبل أحد أطراف الدعوى، أنتتأكدمنجديته،وإذا تبت لها ذلك تتوقفعن البت في الدعوىالموضوعية الرائجة أمامها،وتحيلالدفع مباشرةإلىالمحكمةالدستورية، وهذا النظامأخذت به كل من ألمانيا[2]وإسبانيا[3]، وتركيا،وتونس[4](المطلب الأول).
والخيار الثاني يخول المحكمة التيأثيرأمامهاالدفعمن قبل أحد أطراف الدعوى في حال ثبوت جديته،إصدار حكم تمهيدي يخول مثير الدفع مهلة زمنية لتقديم دفعه أمام المحكمة الدستورية، فإن لم يقدمهداخل الأجل المحدد له من قبل المحكمة اعتبر هذا الدفع كأن لم يكن، وتواصل المحكمة البت في القضية الرائجة أمامها، وقد أخذت بهذا الخيار كل من مصر[5]، والبحرين[6]، وفلسطين(المطلب الثاني).
أما الخيار الثالث والأخير يتعلق بتمكين المحكمة من إثارة الدفع بعدم دستورية قانون تلقائيا أثناء البت في قضية رائجة أمامها وتحيله مباشرة إلى المحكمة الدستورية، وتتوقف عن البت في القضية إلى أن تصدر المحكمة الدستورية قرارها بشأن الدفع المحال إليها، وقد أخذت بهذا الخيار كل من إسبانيا[7]، ومصر[8]، والبحرين[9]، وتركيا[10] (المطلب الثالث)
والسؤال الذي يطرح في هذا الصدد ماهي إيجابيات وسلبياته كل خيار هذا ما سوف نناقشه من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: إحالة الدفع الجدي من قبل المحكمةمباشرة إلى المحكمة الدستورية
يمكن هذا النظام المحكمة التي أثير أمامها الدفع صلاحية التأكد من جديته، والتوقف عن البت في الدعوى الرائجة أمامها في حال ثبوت جدية الدفع، وإحالةهذا الدفع مباشرة إلى المحكمة الدستورية، فما هي إيجابيات هذا النظام (الفقرة الأولى)، وما هي سلبياته (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: إيجابيات هذا الخيار
إن العمل بنظام إحالة الدفوعالجدية من محاكم الموضوع إلى المحكمة الدستورية مباشرة، ينسجم وقراءة الفصل 133 من الدستور، على اعتبار أن المحكمة الدستورية هي صاحبة الاختصاص الأصيل للبت في الدفع بعدم دستورية القوانين، كما ينسجم وقراءة الفصل 120 من الدستور المتعلق بصدور الأحكام في أجل معقول، مما يساهم في تسريع الإجراءات، وعدم بطء المسطرة أمام محاكم الموضوع، وتحقيق النجاعة القضائية.
الفقرة الثانية: سلبيات هذا الخيار
يمكن لهذا الخيار أن يؤدي إلى كثرة تدفق الملفات المحالة من المحاكم إلى المحكمة الدستورية، خصوصا في حالة تعسف بعض المتقاضين في استعمال حق الدفع بعدم الدستورية، مما قد يترتب عنه “اختناق” المحكمة الدستورية، خاصة في ظل محدودية أعضائها وتشكيلها من هيئة واحدة، فضلا عن ممارستها لمهام أخرى كالبت فيا لطعون الانتخابية لمجلسي البرلمان.
ومن أجل الحد من الدفوعات الكيدية فإنه يقترح إحداث رسم قضائي أثناء تسجيل كل دفع بعدم الدستورية أمام محاكم الموضوع، على أن يتم استرجاعه في حالة قبول الدفع من قبل المحكمة الدستورية.
كما ينبغي التفكير في إحداث هيئة جماعية تتألف من ثلاثة قضاة، للبت في جدية الدفع بعدم الدستورية، لتفادي النظر في مثل هذه الدفوعالجديدة من قبل قضاة مبتدئين تنقصهم الخبرة والتجربة.
ضرورة تحديد أجل معقول للمحكمة الدستورية للبت في الدفوع المحالة إليها، وذلك نظرا لتوفرها على هيئة واحدة محدودة الأعضاء، فضلا عن ممارستها لمهام أخرى كالرقابة السابقة على دستورية القوانين.
المطلب الثاني: تمكين طالب الدفع من رفع دفعه الجدي إلى المحكمة الدستورية
يخول هذا الأسلوبلمحكمة الموضوع تقدير جدية الدفع المثار من قبل أحد أطراف الدعوى الرائجة أمامها، وإذا تبين لها جديته، فإنها توقف البت في الدعوى الرائجة أمامها، وتصدر حكما تمهيديا تحدد من خلاله لمثير الدفع مهلة زمنية معينة لتقديم دفعه أمام المحكمة الدستورية، فإن لم يقدمه خلال تلك المهلة اعتبر دفعه كأن لم يكن، وتواصل البت في القضية، فما هي إيجابيات هذا الأسلوب (الفقرة الأولى)، وما هي سلبياته (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: إيجابيات هذاالأسلوب
إن العمل بهذا الأسلوب، ينسجم وقراءة الفصل 133 من الدستور، على اعتبار أن المحكمة الدستورية هي صاحبة الاختصاص الأصيل للبت في الدفع بعدم دستورية القوانين، وتمكين أطراف الدعوى من الولوج مباشرة إلى القضاء الدستوري، كما هو الحال بالنسبة لإمكانية إثارة الدفع بعدم دستورية قانون مباشرة من قبل أحد أطراف النزاع المرتبط بالانتخابات البرلمانية أمام المحكمة الدستورية وفي هذا تكريس لمبدأ المساواة أمام القضاء الدستوري، وينسجم والمبدأ الدستوري المتعلق بصدور الأحكام في أجل معقول الفصل 120 من الدستور، كما ينبغي تحديد أجل معقول للمحكمة الدستورية للبت في هذه الدفوع المحالة إليها، وذلك نظرا لتوفرها على هيئة واحدة بمحدودية أعضائها، وتمارس مهاما أخرى كالبت في الطعون الانتخابية لمجلسي البرلمان، فضلا عن الرقابة السابقة للقوانين، وذلك انسجاما مع مبدأ المحاكمة العادلة.
إن تفعيل هذا الأسلوب يكرس مبدأ مساواة المتقاضين أمام القضاء الدستوري، من خلال تمكين المتقاضين أمامالمحاكم العادية والمتخصصة بواسطة حكم تمهيدي من تقديم دفوعاتهمالجدية أمام المحكمة الدستورية، كغيرهم من المتقاضين الذين يدفعون بعدم دستورية القوانين أمام المحكمة الدستورية مباشرة بمناسبة المنازعات المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان.
الفقرة الثانية: سلبيات هذا الأسلوب
يكرس هذا الأسلوب بطء الإجراءات أمام محاكم الموضوع، لأن المحكمة بعد تأكدها من جدية الدفع، تخول أحد أطراف النزاع مهلة لإيداع دفعه أمام المحكمة الدستورية مما يساهم في طول المسطرة.
كما يساهم في عدم ثقة المواطنين في القضاء، خصوصا في حالة عدم تقديم مثير الدفع لطلبه أمام المحكمة الدستورية داخل المهلة المحددة له، واعتبار المحكمة بأن دفعه عديم الأثر،وبتها في الدعوى الرائجة أمامها رغم تأكدها من عدم دستورية القانون المراد تطبيقه على القضية المعروضة أمامها، وهو أمر يتنافى مع المنطق وروح الدستور،ويمس بمبدأ المحاكمة العادلة، لذا يقترح في حالة تقاعس أحد أطراف النزاع عن إيداع طلب الدفع بعد ثبوت جديته من قبل محكمة الموضوع أمام المحكمة الدستورية،تمكين محكمة الموضوع من ممارسة إحالة الدفع مباشرة إلى المحكمة الدستورية، وذلك انسجاما مع الفصل 133 من الدستور، لأنه من صميم صلاحية القاضي في حالة ما إذا رأى بأن القانون الذي سيطبق في النزاع يمس بأحد الحقوق أوالحريات التي يضمنها الدستور للأطراف، أن يتوقف عن البت في النزاع المعروض أمامه، ويحيل الدفع إلى المحكمة الدستورية للبت في دستوريته.
المطلب الثالث: إثارة الدفع تلقائيا من قبل المحكمة وإحالته مباشرة إلى المحكمة الدستورية
إن هذا النظام يمكن المحكمة من أن تحيل من تلقاء نفسها أيقانون تراه غير دستوريسوف تطبقه في الدعوى الرائجة أمامها إلى المحكمة الدستورية،لكن هذه الإحالة مشروطة بأن يكون القانون المحال لازماً للفصل فيالقضية المعروضة عليها،وهذا الأمر متروك لسلطة قاضى الموضوع.
يمكن هذا الخيار محكمة الموضوع من الإثارة التلقائية بعدم دستورية قانون أثناء البت في قضية رائجة أمامها، إثرها تتوقف عن البت في الدعوى الرائجة أمامها، وتحيل الأمر إلى المحكمة الدستورية للبت في دستورية هذا القانون، فما هي إيجابيات هذا النظام (الفقرة الأولى)، وما هي سلبياته (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: إيجابيات هذا الخيار
إن من إيجابيات هذا النظامهو تمكين قاضى الموضوع من البت في القضية وهو يعلم أن القانون المراد تطبيقه في الدعوى الرائجة أمامه مطابق للدستور، إذ يمكن أن يوجد نص غير دستوري ولم ينتبه إليه الأطراف وإن حرمان القاضي من هذه الإمكانية، من شأنه إرغام القاضيتطبيقالقانون وهو يعلم عدم دستوريته، مما يكرس مبدأ عدم ثقة المواطنين في القضاء.
إن هذا النظام يكرس أن دعوى عدم الدستورية دعوى عينية، والقول بغير ذلك يجعل دعوى عدم الدستورية دعوى شخصية، فلا يتصور أن يجد القاضي نفسه أمام مقتضى قانوني يعتقد تماماً بعدم دستوريته ثم يلتزم به ويطبقه على النزاع المعروض لمجرد أن صاحب الشأن لم يرفع الدعوى في الموعد المحدد، أو لم يدفع بعدم دستورية قانون يمس بأحد حقوقه التي يضمنها له الدستور.
إن أطراف النزاع قد لا يستطيعون الوقوف على ما يشوب النص التشريعي من عيب بعدم الدستورية، فتقوم المحكمة بهذا الدور بهدف تثبيت مبدأ التزام الأحكام القضائية بالقواعد الدستورية الصحيحة[11].
الفقرة الثانية: سلبيات هذا الخيار
لا ينسجم وقراءة الفصل 133 من دستور يوليو 2011 الذي خول لأطراف الدعوى صلاحية إثارة الدفع بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية معروضة أمام محكمة الموضوع، بأن القانون الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها لهم الدستور، وحدد اختصاص محاكم الموضوع فقط في البت في هذا الدفع، وإحالته في حال ثبوت جديته إلى المحكمة الدستورية.
المبحث الثاني: إحالة الدفع بعدم الدستورية من قبل محاكم الموضوع إلى محكمة النقض كجهة لتصفية الدفوع
يتعلق هذا النظام ببتمحكمة الموضوع في جدية الدفع المثار في القضية الرائجة أمامها، وإذا تبين للمحكمة جديته، توقف النظر في الدعوى وترفع الأمر إلى محكمة النقض التي تبت هي الأخرى في جدية هذا الدفع، وتحيل الدفع الجدي إلى المحكمة الدستورية، هذا الخيار معمول به في فرنسا[12]، والأردن[13]، فما هي إيجابيات هذا النظام (المطلب الأول) وما هي سلبياته (المطلب الثاني).
المطلب الأول: إيجابيات هذا النظام
من إيجابيات هذا النظام أنه يضبط تدفقات الدفوعات بعدم الدستورية نحو المحكمة الدستورية، من خلال إحالتها إلى محكمة النقض كجهة لتصفية الدفوع، وهو ما يمكن المحكمة الدستورية من أن تنصرف إلى جوهر عملها الأساسي الذي هو مراقبة دستورية القوانين، مما سيحول دون إغراق المحكمة الدستورية بالدفوعات الكيدية بحيث لا تحال إليها إلا الدفوعات الجدية، مما سيساهم في ضبط وعقلنة الدفوعات بعدم الدستورية، ومن تم تحسين جودة الولوج إلى القضاء الدستوري، وهو النظام المعمول به حاليا بفرنسا في إطار نظام التصفية الخارجي الذي يسمح لمحكمة النقض ومجلس الدولة إذا أحيل لأي منها الدفع بعدم دستورية قانون يتعين عليهما إحالة الأمر إلى المجلس الدستوري خلال مدة ثلاثة شهور على الأكثر إذا تبين لهما جدية الدفع بعدم الدستورية، وإذا انقضت هذه المدة دون صدور قرار في شأن الإحالة يعتبر الموضوع محالاً قانونًا للمجلس الدستوري.
المطلب الثاني: سلبيات هذا الخيار
تتجلى سلبيات هذا الخيار في تصاعد وثيرة الملفات المسجلة والمحكومة والرائجة بمحكمة النقض (الفقرة الأولى)، وتضارب الاجتهاد القضائي بخصوص إحالة أو عدم إحالة الدفوع إلى المحكمة الدستورية (الفقرة الثانية)، وإمكانية تحول محكمة النقض إلى محكمة دستورية (الفقرة الثالثة)، وإشكالية ارتباط الرقابة الدستورية بمجال السياسة مما يتنافى واختصاص محكمة النقض بتصفية الدفوع الجدية واستقلال القضاء(الفقرة الرابعة)، كما أن نظام التصفية لم ينص عليه صراحة الفصل 133 من دستور يوليو 2011 (الفقرة الخامسة).
الفقرة الأولى: تصاعد وثيرة الملفات المسجلة والمحكومة والرائجة بمحكمة النقض
يستشف من خلال الإحصائيات المشار إليها أدناه، تصاعد وثيرة القضايا المسجلة بمحكمة النقض، مما قد يصعب معه تكليفها بمهام تصفية القضايا المتعلقة بالدفع بعدم الدستورية المحالة إليها من محاكم الموضوع لإحالتها إلى المحكمة الدستورية، وفي هذا الإطار نستعرض هذه الإحصائيات وذلك خلال الفترة مابية 2011 و2015 وهي كالآتي:
إحصاء عام للقضايا المسجلة والمحكومة والرائجة أمام محكمة النقض من سنة 2011 إلى 2015[14]
السنة | المسجل خلال السنة | نسبة التغيير مقارنة مع السنة الماضية | المحكوم خلال السنة | الرائج في نهاية السنة |
2011 | 26531 | 4% | 28945 | 16107 |
2012 | 31595 | 19 % | 29442 | 18314 |
2013 | 34908 | 10 % | 27695 | 25519 |
2014 | 36080 | 3 % | 32698 | 28901 |
2015 | 41374 | 14.6% | 37878 | 32292 |
إن التفكير في إضافة اختصاص جديد لمحكمة النقض المرتبط بتصفية الدفوع بعدم الدستورية المحالة إليها من قبل محاكم المملكة، من شأنه إغراق محكمة النقض بهذه الدفوع، الشيء الذي سوف يؤدي إلى إبعادها عن هدفها الرئيسي الذي أحدثت من أجله وهو توحيد الاجتهاد القضائي.
الفقرة الثانية: تضارب الاجتهاد القضائي بخصوص إحالة أو عدم إحالة الدفوع إلى المحكمة الدستورية
إن محكمة النقض منذ إنشائها تعرضت لانتقادات عديدة تتعلق بالتضارب الكبير الذي تعرفه قراراتها، والتي تعكس توجهات قضائية مختلفة في قضايا متشابهة، بحيث تبدو معها عاجزة عن ترسيخ توجه قضائي موحد ومتواتر، خاصة أن وظيفة محكمة النقض فيتوحيد الاجتهاد القضائي[15]عرفت نوعا من التعثر لتعدد الغرف ولتعدد الهيئات القضائية المتعاقبة على الغرفة الواحدة، ولتدفق سيل القضايا عليها، مع تعذر تتبع ما يصدر عنها من قرارات، وتناقض المواقف المتخذة أحيانا من قبل غرفتين، وهي عوامل إلى جانب عوامل مادية وبشرية، اعترضت سير محكمة النقض في أداء رسالتها لتأمين توحيد الاجتهاد القضائي وتقوية الأمن القانوني.
ولا يخفى أن إضافة اختصاص جديد يتعلق بتصفية طلبات الدفع المحالة إليها من محاكم الموضوع سيسهم في تفاقم الوضع وإرباك سير عمل محكمة النقض، مع ما يمكن أن ينجم عن تضارب الاجتهاد المرتبط بإحالة أو عدم إحالةالدفوع إلى المحكمة الدستورية من مساس بحقوق وحريات المتقاضين التي يضمنها الدستور.
إن الأخذ بنظام التصفية عن طريق محكمة النقض كأعلى هيئة قضائية بالمغرب سيفرض حوارا بينها وبين المحكمة الدستورية وتعاونا متبادلا لضمان الاشتغال الجيد لهذه الأخيرة ولتحقيق التوازنات، غير أن ما يخشى منه هو حدوث تعارض في المواقف بينهما في بعض الأحيان، وهو ما حصل بالفعل في بعض التجارب المقارنة كالتجربة الفرنسية والإيطالية[16].
إن ضغط الملفات المتعلقة بالدفع بعدم الدستورية التي قد تحال إلى محكمة النقض يستلزم إيجاد منهجية موحدة لمراقبة جدية الدفع بعدم الدستورية، وبالرجوع إلى النظام الفرنسي يلاحظ أن هذه التجربة أبانت عن تضارب الاجتهاد القضائي بين مجلس الدولة ومحكمة النقض حول إحالة أو عدم إحالة ملفات الدفع إلى المجلس الدستوري، لذا فإنه يخشى أن يقع نفس الأمر بين الغرفة الإدارية وباقي غرف محكمة النقض بالمغرب، ولتدارك هذه المعضلة فإن جانبا من الفقه الفرنسي فضل إحداث غرفة للتصفية بالمحكمة الدستورية لكن قضاتها لا يجب أن يشاركوا فيما بعد في البت في الدفع[17].
الفقرة الثالثة: إمكانية تحول محكمة النقض إلى محكمة دستورية
قد تميل محكمة النقض إلى رفض إحالة الدفع إلى المحكمة الدستورية، فتتحول بذلك إلى محكمة دستورية وتتحول المحكمة الدستورية إلى محكمة تنتظر ما تتفضل محكمة النقض بإحالته إليها، فتصبح محكمة النقض عبارة عنمحكمة دستورية من درجة أولى تختص بفحص دستورية القوانين والمحكمة الدستورية كدرجة ثانية تفحص دستورية القوانين بشكل استثنائي[18]، ويساهم في تقوية وضع قضاة محكمة النقض وجعلهم قضاة دستوريين، وأن من شأن التفسير الذي تعطيه محكمة النقض لقرارها بعدم إحالة الدفوع بعدم الدستورية سيؤدي إلى أخذه بعين الاعتبار من قبل محاكم الموضوع.
كما اعتبر Nicolas Maziau[19]أن نظام التصفية يسير بالمجلس الدستوري إلى التنازل عن جزء من وظيفته في المراقبة الدستورية، فمن خلال تقدير جدية المسائل الدستورية المحالة إليه، سيتحول قضاة محكمة النقض ومجلس الدولة إلى قضاة دستوريين، يمارسون نوعا من المراقبة الدستورية القبلية.
لقد انتقد [20]Nicolas Zinamsgvarov اختيار المشرع الفرنسي لآلية التصفية تسمح بالإحالة إلى المجلس الدستوري بمبادرة مطلقة من مجلس الدولة أو محكمة النقض، واعتبر Yves Gaudmet[21]أن هذا النظام لا يوجد في أي دولة تمارس الدفع بعدم الدستورية في أوروبا، فقد تمت ممارسته بشكل مؤقت في ألمانيا قبل التخلي عنه سنة 1956، ولا يوجد لا في إيطاليا ولا في بلجيكا ولا في إسبانيا، حيث المحاكم الدستورية نفسها تبت في قبول الدعاوى وفق مساطر خاصة بها.
الفقرة الرابعة: إشكالية ارتباط الرقابة الدستورية بمجال السياسة
إن الرقابة الدستورية تقتضي الموازنة بين الدستور والقانون وهو عمل سياسي[22]، والقاضي الدستوري هو الحارس الأمين للشرعية الدستورية، وحامل لواء الأمن القانوني داخل الدولة، وهي مهمة قانونية بحتة تعود في طبيعتها لوظيفة القاضي الدستوري نفسه، وهناك من الفقه من اعتبر القاضي الدستوري أثناء قيامه بهذه المهام يمارس وظيفة سياسية وليست قانونية[23]، ومادام عمل القاضي الدستوري يختلط بين ما هو قانوني وسياسي، فإن محكمة النقض لا يمكنها ممارسة الرقابة على الدفع بعدم الدستورية عن طريق التصفية، لأن هذا المجال له اتصال وثيق بالسياسة ومن شأن ممارستها للتصفية المساس باستقلالها.
إن الفقه في الولايات المتحدة الأمريكية يعنى عناية خاصة بفهم الرؤى السياسية والقانونية لأعضاء المحكمة الاتحادية العليا، واعتبر أن الرقابة تعالج أمورا بالغة التعقيد تتصل بمبادئ سياسية واجتماعية[24]، لذا فإن دور محكمة النقض هو مراقبة مدى تطبيق المحاكم للقانون ليس إلا، ولا يمكنها ممارسة رقابة سابقة عن طريق التصفية لأنه عمل يدخل ضمن اختصاص المحكمة الدستورية.
الفقرة الخامسة: نظام التصفية لم ينص عليه صراحة الفصل 133 من دستور يوليو 2011
إن نظام التصفية لا ينسجم وقراءة الفصل 133 من الدستور، على اعتبار أن الفصل 133 من الدستور لم ينص صراحة في حالة إثارة الدفع من قبل أطراف الدعوى بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، على وجوب إيقاف المحكمة النظر في الدعوى وإحالة الدفع الى محكمة النقضكجهة مختصة بالبت في الدفع وإحالته إلى المحكمة الدستورية[25] كما هو منصوص عليه صراحة في الدستور الفرنسي[26].
إن الفصل 133 من الدستور المغربي يؤكد صراحة على أن المحكمة الدستورية هي المختصة بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، الأمر الذي يقتضي أن محكمة الموضوع المثار أمامها الدفع هي المعنية بصراحة الفصل 133 من الدستوري بالبت في جدية الدفع وإيقاف النظر في الدعوى وإحالة الدفع مباشرة بعد ثبوت جديته الى المحكمة الدستوريةكجهة مختصة بالبت في الدفع (تونس وتركيا وإسبانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ)، أو تحدد المحكمة لمن أثار الدفع مدة معينة لرفع دعواه أمام المحكمة الدستورية(الإمارات العربية المتحدة[27]، مملكة البحرين، المملكة العربية السعودية، قطر، فلسطين ومصر[28]).
كما أن نظام التصفية لا يمكن تفعيله في حالة تقديم الدفع مباشرة أمام المحكمة الدستورية من قبل أحد أطراف المنازعة المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان الرائجة أمام المحكمة الدستورية،حيث يستحيل على المحكمة الدستورية إيقاف البت في الدعوى الرائجة أمامها، وإحالة الدفع إلى محكمة النقض للبت فيه كدرجة أولى ثم تحيله بعد ذلك إلى المحكمة الدستورية كدرجة ثانية للبت.
استنتاجات
إن الفصل 133 من الدستور المغربي ينص صراحة على أن المحكمة الدستورية هي المختصة بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، سواء تم الدفع من قبل أحد أطراف النزاع المعروض أمام محكمة الموضوع وإحالة الدفع الجدي إلى المحكمة الدستورية، أو تم الدفع من أحد أطراف النزاع البرلمانيالمعروض أمام المحكمة الدستورية،بأن القانون الذي سيطبق في القضية الرائجة أمام هذه المحاكم، يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور.
ولم ينص الفصل 133 من الدستور أعلاه، على وجوب إحالة الدفع بعدم الدستورية الى محكمة النقضكجهة مختصة لتصفية الدفوع الجدية وإحالتها إلى المحكمة الدستورية كما هو منصوص عليه صراحة في الدستور الفرنسي.
ناهيك أن هذه التجربة الأخيرة تأخذ بها دولتان في العالم هما فرنسا والأردن، وهجرتها كل من النمسا وألمانيا، وهي تجربة منتقدة من قبل الفقه الفرنسي.
لذا نقترح أن يأخذ المشرع المغربي بالخيار المتعلق بإحالة الدفع الجدي من قبل المحكمة العادية والمتخصصة إلى المحكمة الدستورية، وهذا الخيار ينسجم وقراءة الفصل 133 من الدستور، ويساهم في تقريب القضاء من المتقاضين، ويحقق النجاعة القضائية.
(محاماة نت)