دراسات قانونية
الحجية المطلقة لقرار التحفيظ بين ثوابت القانون والدستور (بحث قانوني)
الحجية المطلقة لقرار التحفيظ بين ثوابت قانون التحفيظ العقاري المغربي ومستجدات دستور 2011
لزعر عبد المنعم
باحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري
جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق الرباط اكدال
يحتل المحافظ العقاري مكانة متميزة داخل نظام التحفيظ العقاري المغربي، مكانة يستمدها من طبيعة الأدوار التي يقوم بها في مجال تنفيذ مقتضيات القانون العقاري في مجال التحفيظ، وتثبيت الملكيات العقارية وضمان استقرارها، وتطويقها بالحماية القانونية اللازمة، انسجاما مع ما هو مقرر في التشريع المدني والعقاري بالمغرب.
هذه المكانة التي تجد أبرز تجسيداتها في مجموع القرارات الصادرة عنه والمنصبة أساسا على الملكية العقارية، والتي تجعل منه مؤسسة فوق إدارية، تضطلع في نظر الكثيرين ببعض الاعمال ذات السمة القضائية في مسطرة التحفيظ[[1]]url:#_ftn1 .
امتيازات المحافظ العقاري في مسطرة التحفيظ وحصانة قراره القاضي بتحفيظ العقار من كل الادعاءات اللاحقة، واقع يطرح اشكالية رئيسية تسائل ثوابت البنية التي يتأسس عليها قانون التحفيظ العقاري، خاصة في ظل المستجدات التي جاء بها دستور 2011 على مستوى الحقوق والحريات.
إن مقاربة حمولات هذه الاشكالية يجعلنا نفترض أن الاسس التي كانت تقوم عليها فلسفة قاعدة تطهير العقار أصبحت متجاوزة وتستدعي إعادة تقييم وظيفة المحافظ وتكييف أدواره موضوعيا مع مكانته عضويا، في إطار رؤية جديدة تقوم على مبدأ الفصل بين ما هو اداري وما هو قضائي انسجاما مع ما يقرره الدستور من مستجدات كرست استقلال السلطة وأسقطت الحصانة عن العديد من المؤسسات والقرارات.
بناء عليه سيكون معالجة الاشكالية المرتبطة بالدراسة وتحليل الفرضية المنبثقة عنها من خلال المحاور التالية:
أولا: مكانة المحافظ العقاري وحصانة قراراه القاضي بتحفيظ العقار
يعتبر المحافظ العقاري الجهة الادارية الوحيدة المخول لها صلاحية استصدار قرار تحفيظ العقار، وتحوليه من عقار غير محفظ أو عقار في طور التحفيظ إلى عقار محفظ، وذلك بعد التأكد من توافر الشروط القانونية المطلوبة في مطلب التحفيظ، و من عدم تقديم أي تعرض خلال الآجال المحددة من طرف ذوي المصلحة[[2]]url:#_ftn2 ، وتعتبر الحجية المطلقة لقرار التحفيظ تعبيرا حقيقيا عن المكانة المتميزة التي أفردها المشرع للمحافظ العقاري، والتي تتجلى أساسا في سلطته التقديرية الواسعة واستقلاليته في مجال تدبير مسطرة التحفيظ، وكذا حصانة قراره القاضي بتحفيظ العقار.
استقلالية المحافظ وسلطته التقديرية تكريس للحصانة التدبير:
يشير مفهوم السلطة التقديرية حسب المعنى الاشتقاقي الى فكرة الحكم وبالضبط الحكم المؤسس أو المبني، وفي معناه الاصطلاحي القانوني يشير الى استقلالية الحكم أو القرار، وبناء عليه فإن امتلاك السلطة التقديرية يعني التمتع بدائرة مستقلة يمكن من داخلها اتخاذ قرار يعود فيه التقدير والحكم لمصدره.[[3]]url:#_ftn3
ومن تم فإن الحديث عن السلطة التقديرية التي يتمتع بها المحافظ العقاري وفق هذا المعنى يفيد تلك الدائرة المستقلة التي تصنع فيها القرارات المنصبة على مسطرة التحفيظ، وتلك الضمانات التي تسيجها وتجعل المحافظ يملك قسطا من الحرية في تقدير منطوق قراراته وتحديد مسارها في اتجاه القبول أو الرفض سواء تعلق الامر بطلبات التحفيظ أو طلبات التقييدات أو التشطيبات المنصبة عليها.
وهكذا وانسجاما مع القواعد المؤطرة لتشريعات التحفيظ العقاري فإن المشرع متع المحافظ باستقلالية كاملة في اتخاذ القرارات المنصبة على الملكية العقارية،[[4]]url:#_ftn4 ويترتب عن هذه الوضعية استحالة ممارسة أي سلطة رئاسية عليه من طرف المحافظ العام في ما يخص القرارات التي يمكن لهذا الاخير أن يتخذها.[[5]]url:#_ftn5
فكل ما يملكه المحافظ العام في هذا الباب من الناحية القانونية هو حق التصدي أي أن يحل محل المحافظ في اتخاذ قرار التحفيظ أو التقييد أو التشطيب وتحت مسؤوليته الشخصية، وذلك لتلاؤم هذا التوجه مع استقلالية المحافظ في اتخاذ القرارات المنصبة على الملكية العقارية، ولتوافقه مع المسؤولية التي يتحملها في هذه القرارات.[[6]]
وخارج هذه الامكانية فإن قرارات المحافظ تعتبر من صميم الصلاحيات المخولة له وحده دون غيره، ولا يمكن حتى للمحكمة أن تأمره مثلا باتخاذ قرار التحفيظ أو أن تحل محله في ذلك، وإن كان البعض يعطي تأويلا خاصا لمثل هذه الحالة ويعتبر أن الحكم الصادر عن المحكمة والقاضي بإلغاء قرار المحافظ برفض التحفيظ يعتبر بمثابة أمر ضمني يدفع المحافظ الى التحفيظ، وهو تأويل في غير محله إذ لا ينبغي في نظر الاستاذ محمد خيري الخلط بين قرار قبول التحفيظ أو رفض مطلب التحفيظ القاضي بفتح مسطرة التحفيظ وهو الذي يمكن أن يكون موضوع طعن وقرار التحفيظ المؤدي الى إنشاء الرسم العقاري والذي يكون بمناى عن أي طعن، فالمحكمة يكون من حقها الغاء قرار رفض التحفيظ و أمر المحافظ بفتح مسطرة التحفيظ من جديد في وجه طالبه ولكن ليس بإمكانها أن تأمره باتخاذ قرار التحفيظ وتأسيس الرسم العقاري.[[7]]
ومن هنا يتضح أن المحافظ هو سيد نفسه داخل مسطرة التحفيظ حيث تسعفه سلطته التقديرية وصلاحياته الواسعة في التقرير بدون ضغط أو توجيه في الطلبات الواردة عليه، فالمحافظ ليس مجرد موظف إداري يستقبل طلبات التحفيظ ويعالجها وفق شكليات مسطرة التحفيظ، ويصدر بناء عليها قرار يقضي بتحفيظ العقار أو رفض تحفيظه، كما أنه ليس بعون للتنفيذ يكتفي بتلقي الوثائق والسندات المدعمة للحقوق ليقوم بتقييدها او التشطيب عليها، بل له سلطة خاصة تلزمه بأن يتحقق من كل عملية على حدة قبل اتخاذ أي قرار بالتقييد من عدمه، ويتحمل في ذلك مسؤولية جسيمة، باعتباره المختص وحده دون غيره بالنظر في الحقوق التي يطلب تقييدها مستوفية لكل الشروط التي يتطلبها القانون سواء من حيث الشكل أو من حيث الجوهر[[8]] .
وتبعا لذلك فإن تمتيع المحافظ بحرية تقدير التصرف بدون قيود وبدون رقابة تنصب على مشروعية قرار التحفيظ الصادر عنه، يمكن أن يحوله الى سلطة استبدادية قد تجنح للتعسف على حساب جوهر القانون وروح فلسفة العدالة، وبالفعل فقد أبان الواقع العملي عن وجود حالات عديدة، تضيع فيها الحقوق وتهدد فيها العدالة خاصة عندما يقع خطأ من المحافظ وأعوانه، في حين يصعب على القضاء الوصول إلى إمكانية ارجاع الحقوق إلى أصحابها، بل يمنع على أي كان أن ينازع في مضمونه أو أن يشكك في قوته الاثباتية.[[9]]
الحجية المطلقة لقرار التحفيظ تكريس لحصانة التقرير
يعتبر القرار الاداري القاضي بتحفيظ العقار الدليل الوحيد القاطع على حق الملكية والحقوق العينية والتحملات العقارية المنصوص عليها،[[10]]url:#_ftn10 وهو قرار لا يمكن أن يكون محل أي تعديل أو مراجعة لا من طرف المحافظ ولا حتى من أعلى سلطة عامة مهما تعددت الأسباب واختلفت الظروف، و يحظى القرار بحصانة مطلقة ضد أي طعن اداري أو قضائي،[[11]]url:#_ftn11 إلا في حالات استثنائية جد ضيقة،[[12]]url:#_ftn12 وهو قرار نهائي ويصدر بدون تعليل،[[13]]url:#_ftn13 ومعنا ذلك أن المحافظ غير ملزم بالإشارة في الرسم العقاري الى جميع الاجراءات التي اتبعت لتأسيس هذا الرسم،[[14]]url:#_ftn14 حيث يستنتج من صلب القرار بأن جميع الاجراءات القانونية قد احترمت،[[15]]url:#_ftn15 وذلك بخلاف الحالات التي يرفض فيها المحافظ طلبات التحفيظ[[16]]url:#_ftn16 أو طلبات تقييد حق عيني أو التشطيب عليه و الذي استوجب المشرع ضرورة تعليل قراراته وتبليغها للمعني بالأمر،[[17]] وقراراته في هذا الشأن تقع تحت رقابة القضاء وسلطته.[[18]]
وتجد الحصانة المطلقة التي يتمتع بها قرار التحفيظ سندها في ما نص عليه الفصل 62 من ظهير التحفيظ العقاري الذي جاء فيه:” إن الرسم العقاري نهائي ولا يقبل الطعن، ويعتبر نقطة الانطلاق الوحيدة للحقوق العينية والتحملات العقارية المترتبة على العقار وقت تحفيظه دون ما عداها من الحقوق الغير المقيدة”، وما نص عليه الفصل 64 من قانون التحفيظ الذي أكد أنه لا يمكن اقامة أي دعوى في العقار بسبب حق وقع الاضرار به من جراء تحفيظ.[[19]]url:#_ftn19
ويترتب عن ذلك أن المحكمة ليس بإمكانها الغاء قرار التحفيظ القاضي بتأسيس الرسم العقاري، وإنما فقط بإمكانها الحكم بتعويض لفائدة المتضرر من تأسيس الرسم العقاري،[[20]]url:#_ftn20 وكأن حق الملكية أو أي حق عيني لا يقاس سوى بقيمة مادية بدون أي ارتباط بالواقع الاجتماعي والظروف الحياتية لفاقد الحق.[[21]1
وينتج عن كون قرار التحفيظ يتصف بالنهائية وعدم قابليته للطعن”… تأسيس رسم عقاري وبطلان ما عداه من الرسوم، وتطهير الملك من جميع الحقوق السالفة غير المضمنة به”،[[22]]url:#_ftn22 ومعنى هذا أن قرار المحافظ يعتبر نقطة البدء الوحيدة لجميع الحقوق والتكاليف المنصوص عليها في الرسم العقاري، والوسيلة الوحيدة التي تضمن تطهير العقار من جميع الحقوق غير الظاهرة وقت التحفيظ ولو كانت فعلية ومشروعة، يعترف بالوجود القانوني للحقوق الظاهرة وقت التحفيظ فقط، ويضفي عليها الصبغة القانونية ولو كانت غير مشروعة أساسا.[[23]]
وقد كرس الاجتهاد القضائي على مستوى المجلس الاعلى هذا التوجه، في العديد من قراراته منها ما جاء فيه: “…وحيث إن الفصل 62 من ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بتحفيظ العقار ينص على أن الرسم العقاري يثبت الملكية بصفة نهائية ويحسم مادة كل نزاع بشأنه ولا يمكن مطلقا الاحتجاج بحقوق غير مسجلة”[[24]]url:#_ftn24 ومنها ما جاء فيه:” لكن حيث إن المقتضيات المنصوص عليها في الفصلين 2 و 62 من ظهير التحفيظ التي بنى عليها المجلس قضاءه وكذا المنصوص عليها في الفصل 64 الذي يمنع اقامة اية دعوى بحق عيني تطهر منه العقار بالتحفيظ ولا يبقى للمتضرر إلا ان يطالب بالتعويض تتضمن قواعد آمرة لها صلة بالنظام العام العقاري يجب أن تثيرها المحكمة تلقائيا، كلما تبين لها أن الحق المدعى به تطهر منه العقار بالتحفيظ…”[[25]] .
وفي تعليق هذا التوجه يرى جانب من الفقه بأن خضوع مطلب التحفيظ لمسطرة طويلة ومعقدة بغاية تطهير العقار من كل النزاعات قبل الاقدام على تحفيظه يعتبر مبررا كافيا لإسباغ الصفة القطعية والنهائية على قرار التحفيظ،[[26]]url:#_ftn26 في حين يرى جانب آخر من الفقه أن هذه القطعية لا يجب أن:” تصل إلى إضفاء المشروعية على تصرف غير مشروع، ولا الى إضفاء الأهلية على شخص لا يتوفر عليها”.[[27]]
ورغم أن المشرع قد قرر استثناءات كما سبق الاشارة الى ذلك على قاعدة التطهير ونهائية قرارات التحفيظ، من أجل التخفيف من قاعدة الحجية المطلقة لقرار التحفيظ، فإن قاعدة خضوع قرارات المحافظ لرقابة المشروعية مع ذلك يجب أن تكون هي الاصل والحصانة هي الاستثناء وليس العكس، لأن تمتيع قرارات التحفيظ بحجية مطلقة مع استثناءات غير مؤثرة يتناقض مع جوهر القرارات الإدارية وطبيعتها، وهو تناقض يمكن أن يشجع على تواطؤ المحافظ مع طالب التحفيظ، لأن المحافظين العقاريين غير ملزمين بتعليل قراراتهم القاضية بتحفيظ العقار، وغير خاضعين لأية رقابة في ذلك.[[28]]
ثانيا: الحجية المطلقة لقرار التحفيظ وتأثيره على صلاحيات السلط واستقلالها
تعتبر الرقابة القضائية الضمان الحقيقي والفعال لمبدأ المشروعية، الذي يقتضي خضوع الادارة لحكم القانون و إرادة القضاء، وتمكين جميع الاطراف من الوسائل الضرورية لمقاضاة الادارة كلما ثبت تعسف أو انحراف في استعمال السلطة.
من هذا المنطلق فإن قرارات المحافظ بدون استثناء يجب ان تخضع مشروعيتها لرقابة القضاء، خلافا للواقع الذي يكرس الحجية المطلقة لقرار التحفيظ، والذي يعكس وضعا معيبا يتجلى في هامشية دور القضاء في مسطرة التحفيظ وهشاشة الفصل بين السلطة القضائية والإدارية.
الدور الهامشي للقضاء في مسطرة التحفيظ
يجمع الفقه بأن وضعية المحافظ العقاري تتميز بخصوصية واضحة مقارنة بوضعية باقي الموظفين، هذه الخصوصية تتجلى في الدور الواسع الذي يلعبه المحافظ في مسطرة التحفيظ العقاري، وهو يكتسب فعليته على حساب دور القضاء الذي أصبح ضيقا و هامشيا في هذه المسطرة، حيث عمد المشرع منذ البدء الى ضرب حصار تشريعي على القضاء حتى لا يلعب دوره الاساسي في مسطرة التحفيظ، وهو حصار تم تدعيمه بحصار واقعي تمثل في عدم استيعاب المغاربة لمسطرة التحفيظ من بدايتها، وهو ما أثر على عدد التعرضات التي تصل الى القضاء.[[29]]
وتعود جذور هذا التوجه الى توجهات سياسة المستعمر الفرنسي التي عملت منذ البداية الى توسيع دور المحافظ وتقليص مساحة تدخل القضاء في مسطرة التحفيظ من أجل تمكين الجالية الفرنسية من السيطرة على أراضي المغاربة،[[30]]url:#_ftn30 لأن سلطات الحماية كانت تدرك منذ البداية أن تمكين القضاء من سلطة المراقبة على عملية نقل الملكية لن يكون في صالح سياستها وأهدافها الاستعمارية، وهي سياسة ظهرت بوادرها الاولى مع اتفاقية مدريد لسنة 1880 واتفاقية الجزيرة الخضراء سنة 1906.[[31]]
ورغم حصول المغرب على الاستقلال السياسي والتشريعي ظل المشرع وفيا لثوابت الفلسفة التي أرسى سلفه الاستعماري أسسها بشكل جعل دور القاضي قاصرا على البت في حدود التعرضات وليس له أن يقرر بشأن مطلب التحفيظ،[[32]]بل يكتفي في منطوق حكمه بصحة أو عدم صحة التعرض بذكر العبارة التقليدية والمتكررة في جميع الاحكام الصادرة في قضايا التحفيظ العقاري، “وبإحالة الملف على السيد المحافظ للقيام بالمتعين وارجاعه لنا في حالة وجود صعوبة”،[[33] كما اصبحت يده مغلولة تجاه قرار التحفيظ الذي أكسبه المشرع حجية لا تمس ولا تجادل ولا تضاهيها في ذلك سوى حجية القرارات الصادرة عن المحكمة الدستورية.[[34]]
ورغم أن الاجتهاد القضائي حاول مع توالي السنين فك هذا الحصار، بمحاولة خلق قواعد جديدة والتعامل مع القواعد المتواجدة من جهة ثانية تعاملا ايجابيا بهدف تفعيل دور القضاء كحارس للحقوق في المجال العقاري،[[35]]
ونذكر من هذا القبيل ما ذهب إليه المجلس الاعلى في قراره الصادر بتاريخ 29 دجنبر1999 والذي اعتبر أن أثر التطهير الناتج عن التحفيظ لا يسري في مواجهة الخلف الخاص الذي سبق أن اشترى العقار الذي تم تحفيظه من طرف البائع وباسمه وحده،[[36]]
إلا أن هذا الموقف الجريء لم يكن كافيا لدفع المشرع و القضاء للزيغ عن الثوابت العامة لفلسفة نظام التحفيظ العقاري، والتي تتجلى في الارضية المتينة للبنية العقارية وتطهيرها وإعطائها الحجية التي تستحقها.
وعليه، ومن أجل تعزيز دور القضاء وإعادة السلطة إليه في مجال التحفيظ، طرح البعض مسطرة جديدة لاستصدار قرار التحفيظ تتم عبر حكم قضائي و بحضور المحافظ العقاري باعتباره الساهر على عمليات التحفيظ من بدايتها الى غاية تأسيس الصك العقاري.[[37]]
هشاشة الفصل بين السلطة القضائية و والسلطة الادارية
كما سبق الاشارة الى ذلك، فإن قرار المحافظ العقاري القاضي بتحفيظ العقار هو قرار محصن لا يمكن مراجعته، مقارنة ببعض القرارات الاخرى الذي يتخذها المحافظ والتي تكون قابلة للطعن[[38]] ومعنى ذلك أن القضاء لا يملك أي سلطة لمحو قرار التحفيظ، حتى وان ساوره يقين أن قرار المحافظ يجانب الصواب، وهو ما يجرنا الى التساؤل هل في صلاحيات المحافظ اعتداء على سلطة القضاء؟ وهل تفعيل مبدأ الفصل بين السلطة الادارية و والسلطة القضائية يتوقف عند مؤسسة المحافظ؟.
اختلف الفقه في حيثيات هذا الإشكال، حيث ذهب جانب من الفقه الى القول بأن المحافظ يمارس اختصاصات تدخل عادة في تلك المخولة للقضاء،[[39]] بل هناك من اعتبره قاضيا على المستوى الإداري من صنف خاص،[[40]]0 وهي فكرة ترجع جذورها الى العهد الاستعماري وقد تم تكريسها اداريا[[41]] و قاضيا،[[42]] حيث جاء في المذكرة الجوابية للمحافظ العقاري في اطار منازعة قضائية: “انني قاضي على المستوى الإداري والمحكمة عليها أن تنظر الى قراري بوصفها محكمة استئناف، وبصفة انتهائية باعتبار أنني قررت فيها ابتدائيا. ولن أكون مسؤولا عن قراري ازاء طالب التحفيظ “.[[43]]
في حين اعتبر رأي مخالف أن المحافظ ليس سوى مجرد موظف لا يتمتع بأي استثناءات عن غيره من الموظفين، فهو معين بقرار إداري، ويمارس وظيفته الإدارية في نطاق الشرعية وفي حدود القانون،[[44]]معتمدين في ذلك على مقتضيات الفصل الثالث من القرار الوزيري المؤرخ في 4 أكتوبر 1915 والمتعلق بتعيين نظام مصلحة المحافظة على الأملاك العقارية، [[45]] و وهو بذلك ليس منزها عن الخطأ ولا هو سلطة فوق السلطات العامة ومنها السلطة القضائية، وليست قراراته دستورا ولا قانونا ولا عملا من أعمال السيادة بل هو قرار كسائر القرارات يخضع إلى رقابة السلطة القضائية[[46]] .
ورغم أن الممارسة على المستوى الإداري[[47]]url:#_ftn47 والقضائي، قد أصبحت مستقرة على ضرورة الفصل في حدود معينة بين مجال تدخل السلطة القضائية والسلطة الادارية خاصة على مستوى التثبت من صحة الاحكام القضائية[[48]]url:#_ftn48 ، بما يتماشى مع مبدأ الفصل بين السلط، وكون المحافظ مجرد موظف إداري وليس سلطة قضائية، حيث جاء في قرار المحكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 23 يونيو 1956 ” أما من حيث الجوهر فيقتصر واجب المحافظ على التحقق من تمتع القرار القضائي المطلوب تسجيله بالقوة التنفيذية أو النهائية وبعبارة أخرى فإن دوره في هذا المجال مجرد دور سلبي أي أنه لا صلاحية له في تدقيق صحة الأسباب الموجبة للحكم، ولا ما قد يشوبها من أسباب البطلان”[[49]]، فإن هشاشة الفصل بين السلطة القضائية و الادارية مازالت تنتج آثارها عبر الدور المزدوج الذي يقوم به القاضي دور إداري يتمثل في تلقي الوثائق في سجل الإيداع، ودور قضائي يتمثل في مراقبة الشروط القانونية لكل عقد وتصرف على حدة.
ثالثا: مدى دستورية الحجية المطلقة لقرار التحفيظ
إذا كان نواب الامة أجمعوا أمرهم على اعتبار مشروع التعديلات المدخلة على قانون التحفيظ العقاري تعتبر كافية لملاءمة قانون التحفيظ العقاري مع الواقع الحالي، بدليل الاجماع الذي حضيه النص داخل مجلسي البرلمان[[50]] ، وهو الاجماع الذي يكشف ضعف الثقافة الدستورية لأعضاء مجلسي البرلمان، وتجاهلهما لأبرز المستجدات التي جاء بها نص دستور2011، والتي تجعل النص المذكور بالصيغة التي أقرها المشرع البرلماني مشوب بعيب دستوري ولا يتلاءم مع الواقع الدستوري الحالي.
مدى دستورية الحجية المطلقة لقرار التحفيظ
يعتبر قرار التحفيظ اذن هو القرار الاداري الوحيد الذي لا يكون محل طعن أو مراجعة لا من طرف المحافظ ولا حتى من أعلى سلطة عامة، وما دام أنه لا يجوز دستوريا تحصين أي قرار أو عمل إداري من الرقابة القضائية فقد تم التشكيك في دستورية الفصل 62 من ظهير التحفيظ العقاري[[51]] ، خاصة وأن هذه الحصانة يمكن أن تكون سببا في نزع ملكية الغير والتعدي على حقوقه[[52]] ، وهو ما جعل مضمون هذه المادة بصيغتها القديمة والجديدة في مرمى نيرات العديد من الباحثين والمهتمين بقضايا التحفيظ العقاري بالمغرب.
صحيح أن القانون يضمن حق الملكية،[[53]]ويمكن الحد من نطاقها وممارستها بموجب القانون إذا اقتضت ذلك متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد[[54]] وهو ما يتأسس عليه القول بأن المشرع يملك الصلاحية في تقرير الضوابط التي يراها مناسبة لتنظيم حق الملكية ونقلها في اطار من التوازن بين الحقوق الخاصة للأفراد والحقوق العامة للدولة، لكنه ليس من المسوغ تحصين أي قرار اداري يتم اتخاذه افي اطار الضوابط المنظمة لحق الملكية أو تلك التي تحد من نطاقها.
وبناء عليه فإذا كان المحافظ موظفا عموميا، معين بقرار إداري ويمارس وظيفته الإدارية في نطاق الشرعية وفي حدود القانون،[[55]]
ولا يفصل في النزاعات بمناسبة القيام بعمله مقارنة بالقاضي،[[56]] ويمارس سلطاته بموجب قرارات إدارية، فإن المحافظ بالتالي يبقى مقيد في قراراته بقواعد جوهرية وشكلية يتعارف عليها الفقه والقضاء ويشكل الاتفاق على مخالفتها انتهاك صريحا لمبدأ الشرعية.
ومن ثم فإن استثناء قرار التحفيظ من خضوعه لرقابة القاضي[[57]]url:#_ftn57 ، بشكل يجعله محصنا ضد أي طعن قضائي أو مراجعة إدارية، يجعله من الناحية القانونية مشوب بعيب دستوري، لأن المشرع الدستوري عبر الوثيقة الدستورية لسنة 2011 عمل من خلال المستجدات التي أقرها على اسقاط الحصانة عن كل القرارات الإدارية بدون استثناء، عندما قرر فتح مجال الطعن ضد كل القرارات التي تصدر في المجال الاداري، حيث نصت الفقرة الثانية من الفصل 118 من الدستور على أن » كل قرار اتخذ في المجال الاداري سواء كان تنظيميا او فرديا، يمكن الطعن فيه امام الهيئة القضائية الادارية المختصة«، ومعناه أن جميع القرارات التي تصدر في المجال الاداري يمكن الطعن فيها من طرف ذوي المصلحة وذوي الحقوق، ويدخل من مشمولاتها قرار التحفيظ، لأنه قرار ذو طبيعة ادارية ويهم موضوع اداري ويصدر عن مؤسسة ادارية، وبالتالي فإن ما يقرره الفصل 62 من ظهير التحفيظ العقاري من حجية مطلقة لقرار التحفيظ وعدم قابليته للطعن يعتبر مخالفا لمقتضيات الفصل 118 من الدستور.
امكانية الدفع بعدم دستورية الفصل 62 من قانون التحفيظ العقاري
اذا كانت مقتضيات الفصل 62 من قانون التحفيظ العقاري غير دستورية وتخالف منطوق الفصل 118 من دستور2011، والذي يتأسس عليه القول بضرورة استبعادها من التطبيق في مجال التحفيظ العقاري، وهي مسؤولية تقوم على عاتق الحكومة والبرلمان معا[[58]] والقاضي باعتباره حامي الحقوق والحريات[[59]]، فهل يملك المتقاضي وسيلة لاستبعاد الفصل 62 المذكور من التطبيق إذا واجهه به خصم من الخصوم أو اثارته المحكمة في قضية من القضايا المتعلقة بالتحفيظ العقاري؟.
بالرجوع الى مقتضيات دستور 1996 نجد أن المتقاضي كان يعدم أي وسيلة تمكنه من الدفع بعدم تطبيق نص قانوني غير دستوري، اللهم اذا اثارت المحكمة من تلقاء نفسها المخالفة وقررت ابعاد النص المشوب بعيب دستوري من التطبيق والاعتماد النص الدستوري محله عند الفصل في نزاع معين.[[60]]url:#_ftn60
لكن الوضع الآن أصبح مختلفا، فحتى ولو تقاعس المشرع في إصلاح العيوب الدستورية اللصيقة بنص قانوني معروض عليه، وامتنع أصحاب الاختصاص في تحريك آلية الطعن في دستورية القوانين أمام المحكمة الدستورية،[[61]]فإن هناك آلية جديدة لإثارة دستورية القوانين حتى بعد إصدار القوانين ونشرها في الجريدة الرسمية، حيث أصبح بإمكان المتضرر من نص مشوب بعيب دستوري أن يدفع بمناسبة نزاع قضائي بكونه يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور.
وتعتبر هذه الامكانية من الضمانات الجديدة الممنوحة للمواطنين والمتقاضين، والتي تم تكريسها من أجل تعزيز قيمة الحقوق والحريات وصد أية محاولة لانتهاكهما تحت أي مسوغ ولو كان هذا المسوغ نصا قانونيا صدر عن البرلمان واصبح معبرا عن ارادة الأمة، ويجد هذا التوجه شرعيته فيما نص عليه الفصل 133 من الدستور الذي جاء فيه: » تختص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير اثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الاطراف بأن القانون، الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور«.
انطلاقا من هذا النص وعلاقة بالإشكالية موضوع الدراسة فإنه متى تمسك المدعى عليه بأن الحق تطهر منه العقار بالتحفيظ، أو أن الحق المدعى به أصبح محصنا بموجب صدور قرار التحفيظ أو غيرها من الحالات الاخرى التي تثار مقتضيات الفصل 62 من ظهير التحفيظ العقاري، يحق للمدعي أن يدفع بعدم دستورية قانون التحفيظ ويتمسك بأن الفصل 62 منه يمس بحق الطعن المقرر في الفقرة الثانية من الفصل 118 من الدستور، عندها فإن القاضي ملزم بايقاف البت في القضية وانتظار صدور قرار المحكمة الدستورية وفق شروط و اجراءات يحددها قانون تنظيمي.[[62]]
ويترتب عن تصريح المحكمة الدستورية بعدم دستورية مقتضى بناء على مقتضيات الفصل 133 من الدستور نسخ المقتضى المذكور ابتداء من التاريخ الذي حددته المحكمة الدستورية في قراراها.[[63]]
وخلاصة القول وإذا كان من شأن إثارة دستورية الفصل 62 من ظهير التحفيظ العقاري، أمام المجلس الدستوري بتشكيلته الحالية والذي ما زال يعمل وفق مقتضيات دستور 1996 سيواجه بعدم الاختصاص، مادام تفعيل المقتضيات المذكورة سالفا يستلزم تشكيل المحكمة الدستورية واستصدار القانون التنظيمي الذي يحدد شروط وإجراءات تطبيق الفصل 133 من الدستور، فإنه مع ذلك تبقى إثارت الموضوع فرضا ضروريا لضمان التنزيل السليم لمقتضيات الدستور وروحه.
(محاماه نت)