دراسات قانونية

حق المواطنة والتربية ودوره في منظومة الحقوق والواجبات (بحث قانوني)

الحق في إدارة الشأن العام فضاء للتربية على المواطنة

(التجربة الجزائرية نموذجا)

د / خالد روشو – أستاذ محاضر “أ”-

مسؤول فريق ميدان التكوين ـــ حقوق وعلوم سياسية ــ

معهد العلوم القانونية والإدارية، المركز الجامعي – تيسمسيلت / الجزائر

ملخص:
إن التربية على المواطنة تعتبر من أهم المقاربات التي تلعب دورا هاما في تنشئة الأفراد تنشئة فعّالة ومنتجة، ذلك أنها الإطار الناظم لحياة الفرد اليومية وفق منظومة الحقوق و الواجبات، ومن ثّم فإن المشاركة الحقيقية في إدارة الشأن العام تعتبر بحق من صميم حقوق الإنسان، وتبعا لذلك فالمشاركة في الحياة اليومية للوطن هي بمثابة الفضاء الأمثل لممارسة المواطنة، و التي لم تعدّ تعني الانتماء للوطن فحسب، بل ينبغي أن يكون كل مواطن هو لبنة أساسية في بناء الوطن، بل إضافة إيجابية لتماسك وترابط أبناء المجتمع الواحد. وتأسيسا على ذلك فإن المواطن هو الركن الأساس الداعم لأي عملية تنموية، سواء من خلال مشاركته الفعلية، أو من خلال الآراء والاستشارات والنصائح التي يمكن له أن يقدمها، وهذا لا يكون منتجا إلاّ بمعية المجالس والهيئات الرسمية والتمثيلية، الأمر الذي يؤسس إلى استهدف تنمية محلية وإقليمية مستدامة .

Résumé:

L’éducation à la citoyenneté est l’une des approches les plus importantes qui jouent un rôle important, efficace et productif, dans l’éducation des individus, de sorte qu’ils gouvernent la vie quotidienne conformément aux droits et devoirs, ainsi la participation réelle à la gestion des affaires publiques est à la fois parmi les droits de l’homme.

donc la participation à la vie quotidienne de la nation est un espace idéal pour exercer la citoyenneté, qui ne signifie plus seulement appartenance à la patrie, mais chaque citoyen devrait être à la construction de la nation, et un ajout positif à la cohésion et l’interdépendance de la société.

En effet, le citoyen est la base essentielle de tous processus de développement, soit par sa participation active, ou par ses opinions et ses conseils qui les peuve fournir, et tout cela n’est productive qu’avec l’aide des assemblés et des établissements représentatifs et officiels, pour aboutir à un développement local et régional durable

مقدمة:

يعتبر الوعي بالمواطنة الحقيقية الركن الأساس في انطلاق أي عملية تطويرية تنموية، وينبغي على هذا المنظار أن تتم نظرة الفرد إلى نفسه، وإلى وطنه بمعية شركائه في صفة المواطنة، وتبعا لذلك تؤسس مشاركة الفرد في الحياة اليومية لوطنه، وذلك وفق نظام الحقوق والواجبات، فحقوق الموطنين هي وجبات على الدولة، وحقوق الدولة هي واجبات على المواطنين و بهذا نكون أمام مواطنة فعلية ومنتجة.16

فالمواطنة تبعا لهذا المفهوم هي منظومة من الحقوق الطبيعية والثابتة، إضافة إلى جملة من الالتزامات المتبادلة بين المواطن ودولته، ولا يكون ذلك منتجا وفعّالا إلاّ من خلال ديمقراطية تشاركية، مؤسسة على المشاركة في الإنتاج الاجتماعي وفي الشأن العام، والمساهمة في صياغة مستقبل الوطن والمواطن على حد سواء، في ظل مقاربة المواطنة الفعّالة.

وتأسيسا على ما سبق فإن المواطنة الحقيقية لم تعدّ ذلك المفهوم الذي يعني الانتماء للوطن وحسب، بل ينبغي أن يكون كل مواطن هو لبنة أساسية في بناء الوطن، بل إضافة إيجابية تعد بمثابة الإسمنت المسلح في تماسك وترابط أبناء الوطن الواحد، تستهدف ابتداء تنمية محلية وإقليمية مستدامة .

وعليه لم تعدّ التنمية المحلية و النظرة الاستشرافية التطويرية للأقاليم المحلية، حكرا على الهيئات الرسمية و لا على المجالس المنتخبة و خصوصا بعد تنامي الوعي الحسي الوطني لدى المواطن، إضافة إلى التعديلات التي شملت المنظومة القانونية الناظمة للشأن المحلي، بل أصبح المجتمع المدني يضطلع بمهام كثيرة، بل يستطيع أن يكون صاحب موقع تنطلق منه الرؤى و الأفكار البناءة، وفق إستراتيجية تشاركية بين الإدارة المحلية و المجالس المنتخبة، و كذا مجموع المجتمع المدني في فريق متكامل، من خلاله يتم إعداد القرارات، و رصد المشاريع، بل الأكثر من ذلك المساهمة الفعّالة في تنفيذها و تعميمها، وما على هذه المؤسسات و هذه السلطات إلاّ العمل على تنظيم هذه المشاركة وفق الأطر التي يسمح بها القانون.

و على اعتباره أن الديمقراطية التشاركية تسهم إلى حد كبير في التنمية المحلية كونها تعتبر الخلفية الحقيقية التي يستهدفها المشرع من خلال إدراج العديد من المواد و النصوص الناظمة لهذا الأمر، و من ثمّ جاءت الديمقراطية التشاركية لسدّ الفراغات الموجودة على مستوى التسيير المحلي من جهة، و من جهة ثانية لحل مشاكل المواطن عن قرب، ومن ثمّ ضمان انخراط الجميع في العملية التنموية، الأمر الذي ينتج عنه تطوير التفكير المحلي عن طريق التكامل بين الديمقراطية التشاركية و الديمقراطية التمثيلية، و عليه فإن الإشكالية الذي نراها جديرة بالبحث تتمثل في ما يلي :

إلى أي مدى تلعب الممارسة الحقيقية للمواطنة دورها في تحقيق تنمية محلية إقليمية مستدامة، ومن ثمّ إحداث توازن و تكامل في خلق ديناميكية فعّالة ومنتجة في البناء التنموي المحلي في ظل ديمقراطية تشاركية، إلى جانب الديمقراطية التمثيلية؟ وعليه فما المقصود بالمواطنة؟ وما أهم الأركان الناظمة لها؟ وما هي أهم المجالات التي ينبغي للديمقراطية التشاركية أن تتمثلها؟ و فيما تتجلى أهم تطبيقاتها؟ وما الدور الذي يرتجى من هذين المفهومين في خلق تنمية محلية مستدامة؟.

وللإحاطة بمعظم الجوانب التي تثيرها هذه الإشكالية فإننا نتطرق إلى ذلك وفق الخطة التالية:

المبحث الأول: قيمة المواطنة في ظل تنامي وعي المجتمع المدني.

المبحث الثاني: التربية على المواطنة في ظل مقاربة الديمقراطية التشاركية.

المبحث الثالث: دور المواطنة في استهداف الحق في التنمية المستدامة.

المبحث الأول: قيمة المواطنة في ظل تنامي وعي المجتمع المدني.

على اعتبار أن الديمقراطية التشاركية ساهمت إلى حد كبير في إعطاء دفع قوى للتنمية المحلية، و على وتيرة عمل تضامني تشاركي بين المجالس المنتخبة و المؤسسات الرسمية للدولة، و من ثمّ تحقيق مواطنة الأفراد في بناء وطنهم ، فإن ذلك يعطي الأهمية القصوى في إرساء قواعد جديدة للعمل الديمقراطي، على مستوى الهيئات المحلية ووفق آليات و أسس واضحة المعالم، و من خلال أهداف واعية، تعمل من خلالها الهيئات المحلية على نظر و رقابة المواطن الدائمة، وحتى نتبيّن ذلك نتطرق إلى المطالبين التاليين:

المطلب الأول: ماهية المواطنة.

مما لا شك فيه أن الإنسان لا يكون منتجا و إيجابيا إلاّ إذا كانت له قيمة في مجتمعه يحس و يشعر بها، و لا يكون ذلك إلا ّ إذا كان يتمتع بمجموعة من الحقوق، و عليه مجموعة من الواجبات، و منّ ثم تقوى الرابطة التي بينه و بين وطنه، ولعلّ ذلك هو أقل مواصفات المواطنة الحقّة التي ينبغي أن يتصف بها كل فرد في علاقته بوطنه، و حتى نبين المقصود بالمواطنة، والعناصر الأساسية التي ينبغي أن تتوفر فيها، والمقومات التي ترتكز عليها، نتطرق إلى ذلك في الفروع التالية:

الفرع الأول: المقصود بالمواطنة.

المواطنة الحقيقية و الفعّالة شغلت كثير من المحللين والساسة وكذا الحقوقيين، نظرا لقيمتها في تحديد علاقة الفرد بوطنه، ومن ثمّ فما المقصد بهذا المصطلح الذي ما إن تحققت أركانه وعناصره كنّا بحق بصدد بناء دولة عصرية، الكل يشارك فيها من موقعه، وحتى نبين أهم العناصر الداعمة لذلك نتطرق بداية تعريف المواطنة وذلك من خلال الفروع التالية

أولا: تعريف المواطنة.

لعلّ من أبسط معاني المواطنة هو انتماء الفرد إلى الدولة التي يحمل جنسيتها، و يكون مشاركا في الحكم فيها و يخضع للقوانين الصادرة عنها، و يتمتع بشكل متساو مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق، و يلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها.([1])

و لقد عرفها جمال الدين إبراهيم محمود على أنها :”مجموعة القيم و المبادئ و الاتجاهات التي تؤثر في شخصية الفرد إيجابيا يدرك ماله من حقوق و ما عليه من واجبات في الوطن الذي يعيش فيه، و قادرا على التفكير السليم في المواقف المختلفة. في حين عرفها فكري حسن ريان بأنها مجموعة من القيم التي تجعل الفرد يتفانى في خدمة وطنه بل و يضحي بنفسه في سبيل ذلك إن اقتضت الضرورة.([2])

في حين ذهب محمد عثمان الخشت في تعريفه للمواطنة بأنها “المواطنة تعني الانتماء للوطن انتماء يتمتع المواطن فيه بالعضوية و الأهلية على نحو يتساوي فيه مع آخرين الذين يعيشون في الوطن نفسه مساواة كاملة الحقوق و الواجبات أمام القانون، دون تمييز بينهم على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الفكر أو الموقف أو الانتماء السياسي، و يحترم كل مواطن المواطن الآخر كما يتسامح الجميع، رغم التنوع و الاختلاف بينهم. ([3])

و من هنا يتبين لنا أن المواطنة هي تلك الصفة التي تمنح للمواطن و التي تحدد بموجبها عدة أمور منها، الحقوق و الواجبات، فهي إذا تتضمن انتماء المواطن لوطنه النابع من حبه له، و خدمته له في كافة الأوقات، و هذا يستوجب احترام المواطنين الآخرين الذين يعيشون معه، و الذين يقاسمونه: الماضي، الحاضر، المستقبل، و من ثمّ فالمواطنة علاقة بين المواطن و وطنه وهي محددة ضمن قانون الدولة المعمول به.([4])

و هناك من ينظر إلى مصطلح المواطنة من الجانب السياسي على أنه مفهوم سياسي حي و متحرك يتطور مع التاريخ، فهو إذا يعني “المشاركة الواعية و الفاعلة لكل شخص دون استثناء و دون وصاية من أي نوع صلب الأطر السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية للدولة”.([5])

الفرع الثاني:الموطنة و بعض المفاهيم المتشابهة لها.

هناك عدة مفاهيم مشابهة للمواطنة و التي قد يختلط معها المصطلح، لذا وجب علينا تبيان هذه المفاهيم و التي منها الهوية، الجنسية، الوطنية، و غيرها و ذلك فيما يلي:

أولا: الهوية: إن مصطلح الهوية ينصرف إلى تلك الأبعاد المشتركة للحماية المكونة للأمة، و من ثمّ تميزها عن غيرها من الأمم، و لعلّ أهم تجليات الهوية تتمثل في الدين، اللغة ،التاريخ ،المرجع الثقافي، البعد الاقتصادي، و الإدارة و الدولة و غيرها من الأبعاد.([6])

ثانيا: الوطنية: و تعني الوطنية الولاء للوطن كعاطفة تنمو مع المواطن من البدايات الأولى التي يشعر فيها بصلته الاجتماعية بالشعب الذي يشاركه وطنا واحدا، و من ثمّ الروابط التي تربطه بهذا الشعب و بالحكومة القائمة، و ذلك لما يعود عليه من حماية و نفع و عدالة اجتماعية بسبب انتمائه لهذا الوطن.([7])

ثالثا: الجنسية : قد يتداخل مصطلح المواطنة مع مفهوم الجنسية، إلاّ أن كل واحد منهما يحمل دلالاته و مضامينه فالجنسية تعني ” الرابطة القانونية التي تجمع الفرد (المواطن) برقعة جغرافية معينة و محدّدة، و يتمتع بها هذا الأخير أصلا بالولادة أو يكتسبها بعد ولادته بمقتضى التشريعات و القوانين ذات الصلة، لذلك تمنح الجنسية لحاملها: “مركزا قانونيا يخوله مجموعة من الحقوق و يلزمه بمجموعة من الواجبات”.([8])

و من هنا يتبين لنا أنه إذا كانت المواطنة تعني تلك العلاقة التي تربط الفرد بوطنه و التي ترتب مجموعة من الحقوق و الواجبات في إطار الهوية و الانتماء فإن الجنسية هي المركز القانوني للفرد في وطنه.

و إجمالا نستطيع القول أن للمواطنة ثلاث عناصر أساسية:

عنصر المعلومات (عنصر قانوني).
عنصر المشاعر(ما يؤمن به الفرد و يحس به).
عنصر السلوك( الآثار الظاهرة في المجتمع).
المطلب الثاني: مقومات المواطنة.

حتى نكون بصدد مواطنة حقيقية ضمن الأطر المحددة و فاعلة من حيث الآثار و النتائج ضمن مجموعة الوطن الواحد، لا بد من توافر مجموعة من المقومات و التي هي في الحقيقة أساسات لا يمكن الحديث عن ما يسمى بالمواطنة بدون هذه الركائز، من ذلك المساواة، المناخ الديمقراطي، التمتع بكافة الحقوق و غيرها، و هذا ما سوف نتناوله من خلال النقاط الأتية:

الفرع الأول: المساواة.

إن المساواة أمام القانون شرط لازم و ضروري، بل أحد أهم مقومات الدولة، إذ بدونها تنهار الكثير من القيم، فعدم المساواة لا تتيح الفرصة الكافية لنمو المواطنة بل تقدم هذه القيمة.

ذلك أنها تحرم فئة من المجتمع في المشاركة في الحياة اليومية للوطن، بل الأكثر من ذلك تعمل عدم المساواة على ظهور فئة قليلة استبدادية متسلطة تتحكم في ثروات الأمة.الأمر الذي يدفع بالفئة المقابلة إلى التخلي عن القيام بواجباتهم و التزامهم الأساسية، و هذا ما يؤدي حتما إلى تقلص المواطنة لديهم، و ذلك لحرمانهم من حقوقهم و هذا ما يفسر أن نمو الدولة ووصولها إلى مرحلة العدالة يتماشى و نمو المواطنة لدى المواطن.

و من ثم فالمساواة تعتبر حجر الأساس للمواطنة لأنها تعني تنظيم العلاقة بين المواطنين في الجماعة السياسية و الاجتماعية و بين الحكام و المحكومين، و لعلّ من أهم صورها.

المساواة أمام القانون : و نعني بذلك خضوع الجميع للقانون بنفس الدرجة و دون استثناء، و هذه قاعدة موجودة في جميع المواثيق سواء الدولية أو الوطنية.([9])
المساواة في الحقوق و الواجبات:و نعني بذلك التمتع بكافة الحقوق المخولة قانونا و عدم التهاون فيها، و في المقابل الالتزام بالواجبات دون التميز في أدائها، فالكل متساوٍ أمام القانون حقوقا وواجبات.([10])

الفرع الثاني: التمتع بكافة الحقوق.

ونعني بذلك تمتع المواطنين بكافة الحقوق المخولة له قانونا كالحقوق السياسية و الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية، ولأن المواطنة هي مصدر كل الحقوق و الالتزامات، و ترتيبا على ذلك عدم التحيّز في هذه الحقوق سبب اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة و غيرها من المضامين، التي ما إن أسيئ تطبيقها فقد عرقلة نمو المواطنة الفعالة.

الفرع الثالث:العدل:

إن العدل قيمة ضرورية و مفصلية لإقامة دولة القانون، و لا يكون ذلك إلاّ من خلال تنامي المواطنة لدى المواطن، و لأن بدون العدل لا مساواة بين المواطنين، كما أن العدل يضمن أداء الواجبات و التمتع بالحقوق، و من ثمّ شعور المواطن بالمساواة و تكافؤ الفرص، الأمر الذي ينتج عنه تكون روح المواطنة، و من ثمّ الثقة في ذلك.([11])

الفرع الرابع: التعايش في إطار أهداف الأمة:

إن انتماء الفرد إلى الدولة يعني خضوعه لعملية النشأة الاجتماعية و الثقافية و السياسية، و التي تقوم بها مؤسسات المجتمع المختلفة، و يكون ذلك بإشراف الدولة نفسها في إطار أهداف و غايات مخططة مسبقا، و من ثمّ ما على الفرد إلاّ أن يستوعب هذه الأهداف و هذه المرامي، الأمر الذي يستوجب منه ضرورة التعايش مع الجماعة لإنجاح هذه المخططات، و هذا ما يعبر عنها بالمواطنة الفعالة.

الفرع الخامس: إشباع الحاجات الأساسية للمواطن.

يعد إشباع الضروريات المرتبطة بحياة المجتمع و الفرد اليومية في أبعادها الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية ، أحد أهم المقومات الرئيسية للمواطنة، و بمفهوم المخالفة لا يمكن الحديث عن المواطنة المنتجة و الفعالة في حالة تخلي الدولة عن هذه الأساسيات، الشيء الذي يولد اليأس لدى الموطن، و من ثم تآكل في المواطنة التي تعدّ في هذه الأحوال منقوصة، الأمر الذي قد ينتج عنه استقالة جماعية للمواطن، و حتى الهروب من المجتمع و البحث عن مواطنة جديدة، وهذا ما يحدث في كثير من الدول حالة تخلي الدولة عن توفير الحاجات الأساسية للمواطن، و التي بدورها يبقى المواطن في حاجة ماسة إلى تحقيق مواطنته.

المبحث الثاني: التربية على المواطنة في ظل مقاربة الديمقراطية التشاركية.

لعل من أهم المقاربات التي تبنتها التشريعات الوطنية للدول هو ضرورة إشراك المواطن في الحياة اليومية للوطن، ذلك أنه لا نجاح لأي تجربة ديمقراطية أو أي خطة إنمائية إلا إذا كان المواطن هو العمود الفقري الداعم لها سواء من خلال مشاركته الفعلية، أو من خلال الآراء والاستشارات والنصائح التي يمكن له أن يقدمها، وهذا لا يكون منتجا إلا بمعية المجالس والهيئات الرسمية والتمثيلية، وعليه فنجد الكثير من مشرعي القوانين الداخلية تبني فكرة الديمقراطية التشاركية لما لهذه المقاربة من تداعيات على الخطط الإنمائية، وحتى نحيط بهذه المسألة نتطرق إلى ذلك في المطلبين التاليين:

المطلب الأول:ماهية الديمقراطية التشاركية.

لتبيان ماهية الديمقراطية التشاركية وجب علينا التعريج عن المقصود من هذا المفهوم، ثم تبيان أهم الأسس التي تستمد هذه الأخيرة مشروعيتها منها، و غيرها من النقاط التي تسهم في تحديد هذا المفهوم، و ذلك وفق الفروع التالية:

الفرع الأول: المقصود بالديمقراطية التشاركية.

تعرف الديمقراطية التشاركية من عدة زوايا حسب القيمة المستهدفة من خلال هذا المصطلح، و عموما فهي “مشاركة المواطنين في القرارات و السياسات التي لها تأثير مباشر على حياتهم بدل الاعتماد الكلي في هذه القضايا على الأعضاء المنتخبين، و بالتالي فإن هذه المشاركة من جانب المواطنين تتسم بالتفاعل المباشر و النشاط، و تتم في إطار مجتمعات صغيرة بحيث تكون فرص التواصل بين الجماهير أكبر.([12])

كما يمكن تعريف الديمقراطية التشاركية على أنها جملة من الآليات و الإجراءات التي تمكن من اشتراك المواطنين و المجتمع المدني عموما في صنع السياسات و الاستراتيجيات العامة، و من ثمّ تمتين الدور الذي يمكن أن يقوم به هؤلاء في اتخاذ القرارات التي لها علاقة مباشرة بالشأن العام، و هي إذا لا تلغي الديمقراطية التمثيلية كلية، بل تكون إلى جانبها لتسد أوجه العجز و القصور بقصد تلبية حاجيات المواطنين، و من ثم فهي “شكل جديد لتقاسم و ممارسة السلطة المرتكز على تقوية مشاركة المواطنين في اتخاذ القرار السياسي” كما تعني أيضا “مواطنة نشطة و مطلقة و عارفة” أو أنها” تكوين مواطنين نشطين قادرين على تصريف قدراتهم في التنقيب و البحث بأنفسهم عن حلول ملائمة لقضاياهم”.[13]

الفرع الثاني: الأساس القانوني للديمقراطية التشاركية.

تجد الديمقراطية التشاركية أسسها في عدة نصوص قانونية وفي مقدمة الدستور في حدّ ذاته و ما تفرع عنه من قوانين، إذ استطاعت هذه المنظومة التأسيس لهذا المبدأ، و هذا ما سنتطرق إليه في النقاط التالية:

أولا: القانون الأساس.

لقد أسس الدستور الجزائري لمشاركة المواطنين في الحياة الديمقراطية و الحياة السياسية، ومن ثم عملية البناء في عدة نصوص فلقد أشارت المادة 52 على أن حق إنشاء الأحزاب السياسية معترف به ومضمون[14]“

وهذه إشارة واضحة للمشاركة التعددية الديمقراطية على غرار دستور 1989 في مادته 40، كما أشار إلى تأطير المجتمع المدني وفق جمعيات و تجمعات تعمل الدولة على ازدهارها[15]، فمن خلال هذا النص يتبين لنا و بوضوح أن المشرع الجزائري فتح الباب على مصرعيه للمواطنين في تأطير أنفسهم، سواء في جمعيات ذات طابع سياسي، أو من خلال جمعيات المجتمع المدني، و ذلك للمشاركة في العملية التنموية من جهة، و لتفعيل الرقابة على الأنشطة التي تقوم بها الهيئات الوصية من جهة ثانية، أو حتى من خلال المشاركة في صنع القرار و تنفيذه يعتبر من قبل الرقابة على تنفيذ هذه القرارات بالصيغ و الأشكال التي تم الاتفاق عليها، و في تقديري أن مشاركة المواطن في العملية السياسية أو الجمعوية أو التنموية هو في حد ذاته ضمانة على شفافية هذه العمليات، و من ثم تعتبر هذه الضمانة كآلية جد فعالة في تحسين الأداء المحلي، من خلال تنمية واعية وهادفة .

ثانيا: قانون 10-11

ركز المشرع الجزائري على مسألة الديمقراطية التشاركية من خلال نصوصه[16] التي بيّن فيها أنه على المجلس الشعبي البلدي اتخاذ كل التدابير لإعلام المواظبة بشؤونهم و استشارتهم حول خيارات و أولويات التهيئة و التنمية الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية، و عليه في هذا المجال استخدام كل الوسائط الإعلامية.[17]

كما على المجلس و في إطار تحقيق أهداف الديمقراطية المحلية من خلال التسيير الجواري وضع إطار ملائم للمبادرات المحلية التي تحفز المواطنين و حثهم على المشاركة في تسوية مشاكلهم و تحسين ظروف معيشتهم[18]، و في نفس السياق يمكن لرئيس المجلس الشعبي أن يستعين بكل الكفاءات و الخبرات المتواجدة على مستوى إقليمية أو غيره بقصد تقديم النصح و الإرشاد، كما أنه في إطار الديمقراطية التشاركية، و ضمان حق المواطن في الحصول على المعلومات التي هو في حاجة إليها يستطيع كل مواطن أن يتحصل نسخة جزئية أو كاملة من مداولات المجلس الشعبي البلدي.[19]

الفرع الثالث: مرتكزات الديمقراطية التشاركية.

كما سبق و أشرنا أن الديمقراطية التشاركية جاءت أساسا لتكميل و تفعيل الديمقراطية التمثيلية، و من ثم المساهمة الفعّالة في عملية التنمية المحلية و الرقابة على الهيئات و الوصيات التي تسند لها أعمال النهوض بالمخططات التنموية، أو مهمات تقديم الخدمات، و هذا ما ذهب إليه المشرع الجزائري أساسا، و لعلّ من أهم ركائز الديمقراطية التشاركية نذكر:

أولا: المجالس المنتخبة:

تعتبر هذه الأخيرة الفضاء الأمثل لتحقيق الديمقراطية التشاركية من خلال تعاون الجميع و تحت رقابة الجميع، و لعلّ الاختصاص الأصيل لهذه المجالس هو التخطيط والتنفيذ، و كل ما يرتبط بالسياسات الخاصة بالمجال المحلي، و لها القدرة على محاسبة اللجان التابعة لها، و يكون ذلك طبعا من خلال تعاون كل الفئات التي يمكنها أن تلعب دور فعّال في هذا المجال.[20]

ثانيا: المجتمع المدني:

و نقصد بذلك مجموع المواطنين المهيكلين في نوادي و جمعيات تنشط على الساحة، و التي يكون لها دور فعّال في تسيير الشأن العام عبر مجموع الاستشارات و الآراء البناءة التي تقدم من طرف هذه الجمعيات، ومن ثمّ المشاركة في تحسين ظروف معيشتهم، و نوعية الخدمات المقدمة للمواطن.[21]

ثالثا: المواطن:

ونقصد بذلك أنه حتى المواطن بصفته المنفردة يمكن أن يكون مرتكز رئيس في الديمقراطية التشاركية، لأنه وببساطة يمكن له أن يساهم ويراقب في نفس الوقت، فهو إذا شريك في كل ما يخص حركة التنمية المحلية.

المطلب الثاني: تطبيقات الديمقراطية التشاركية

تعتبر الجماعات الإقليمية المحلية و خصوصا البلدية الفضاء الأمثل لمشاركة المواطن في كل الشؤون العامة، و من ثم فهو يستطيع أن يراقب كل الإجراءات التي تمت بمشاركته و التي مكّن له المشرع من ذلك، فبمفهوم المخالفة أن للمواطن حيث يشارك من خلال إبداء الرأي، أو تقديم الاستشارة، أو من خلال المبادرات التي يمكن أن يقدمها فهو يستطيع أن يراقب لأنه على علم بما تم تقديمه، و خصوصا أن المشرع منحه حق الحصول على المعلومة، بل حتى نص المداولة في حدّ ذاته يستطيع المواطن الحصول عليه، بل الأكثر من ذلك فقد حث المشرع المؤسسات المحلية و في مقدمتهم البلدية بإطلاع المواطنين بكل مجريات التسيير المحلي، وذلك باستخدام كل الوسائط المتاحة، و حتى يمارس المواطن مشاركته و من ثم رقابته عن طريق الديمقراطية التشاركية نتطرق إلى ذلك من خلال الفروع التالية:

الفرع الأول: مشاركة المواطن في التسيير المحلي

كما سبق وأشرنا أن المواطن يستطيع أن يشارك المجالس المحلية في التسيير بالقدر الذي منحه له المشرع بقصد خلق ديناميكية تنموية يكون للمواطن فيها نصيب ، سواء من خلال المبادرات التي يمكن أن يقدمها ، أو من خلال الاستشارات التي يراها مناسبة ، أو حتى في إطار الجلسات التي يستطيع هذا الأخير حضورها، ومن ثم إبداء الرأي فيها، وحتى نستطلع ذلك كله، نتطرق إلى النقاط التالية:

أولا: المبادرات المحلية.

ونقصد بذلك أن المبادرة الشعبية هي آلية متاحة لكل مواطن يستطيع أن يقدم من خلالها ما يراه مناسبا للهيئات الوصية، ولقد نص المشرع الجزائري على هذه الآلية في قانون البلدية على أنه: (قصد تحقيق أهداف الديمقراطية المحلية في إطار التسيير الجواري،.. يسهر المجلس الشعبي البلدي على وضع إطار ملائم للمبادرة المحلية التي تهدف إلى تحفيز المواطنين وحثهم على المشاركة في تسوية، مشاكلهم وتحسين ظروف معيشتهم). [22]

وهذه الآلية تختلف من نظام إلى أخر فمثلا في سويسرا حتى تكون هذه المبادرة مقبولة تتطلب عدد معين من التوقيعات الموثقة، و لقد بدأ العمل بهذا المبدأ في سويسرا منذ عام 1891، و يعمل بها حتى في أدق الأمور، و تضمّن حتى في أعلى القوانين أي الدستور، و من ثمّ فهذه الآلية تتضمّن كل المسائل التي قد تغفل في أجندة الأحزاب السياسية أو جدول أعمال الهيئات المحلية.[23]

ثانيا: تقديم النصح و الإرشاد:

و تستخدم هذه الآلية الموضوعة بيد المواطن عندما يرى شأنا هاما يستطيع أن يشرحه و يقدمه للمجالس المحلية، أو لرئيس البلدية شخصيا، و تعتبر هذه مبادرة فردية تشاركية في الشأن العام، و لقد حثّ المشرع الجزائري على هذه الوسيلة بأن يترك الباب مفتوحا لكل مشاركات المواطن الفعالة.

ثالثا: تقديم الاستشارات من قبل ذوي الخبرة و الكفاءات.

و تعتبر هذه وسيلة أخرى جعلها المشرع في يد فئة من المواطنين، بل الأكثر من ذلك حث مسيري البلدية على الاستعانة بصفة استشارية بكل شخصية محلية و كل خبير، أو كل ممثل جمعية محلية معتمدة قانونا الذين من شأنهم تقديم أي مساهمة مفيدة لأشغال المجلس أو لجانه بحكم مؤهلاتهم أو طبيعة نشاطهم.[24]

رابعا: حضور جلسات المداولات.

مكّن المشرع الجزائري المواطن من حضور جلسات المداولات بل الأكثر من ذلك جعل هذا الأمر علني و مفتوح لكل مواطني البلدية، و ذلك من خلال النص :”جلسات المجلس الشعبي البلدي علنية، و تكون مفتوحة لمواطني البلدية و كل مواطن معني بموضوع المداولة”[25] و في تقديري أن السماح للمواطن حضور جلسة المداولة هو عين الرقابة لهذا الأخير على تسيير الشأن العام ابتداء من طرح المشاريع و المخططات و انتهاء بالتنفيذ و التقييم، و هي صورة أخرى من صور الديمقراطية التشاركية في المجالس المحلية، و آلية أخرى من آليات الرقابة على تسيير الشأن العام.

الفرع الثاني:إشراك المواطن في رقابة تسير الشأن العام.

إن إشراك المواطن في تسيير الشأن العام و إعلامهم بكل الإجراءات المتخذة فيما يتعلق بالتنمية المحلية يعطي له فرصة جدّ هامة في ممارسة الرقابة على أنشطة الهيئات المحلية، ذلك أن مشاركته و علمه و ربما حتى اقتراحه يؤهله لأن يكن على دراية بما هو كائن و موجود، و ما سيكون و ينجز، فإذا ما توفر لديه دليل على انحراف أو تجاوز السلطات المؤهلة فإن ذلك يعطيه الحق بان يراقب و يبدي رأيه فيما تم رصده.

أولا: إعلام المواطنين بالخيارات و الأولويات.

حثّ المشروع الجزائري المجالس الشعبية البلدية باتخاذ كل التدابير التي من شانها إعلام المواطن بشؤونهم واستشاراتهم حول الخيارات و أولويات التهيئة و التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، كما حثّ من جهة ثانية المنتخبين على ضرورة التقرب من المواطنين و إشراكهم في الحياة البلديةّ و لا يكون ذلك إلا من خلال اطلاعهم على مشاريع التنمية و كيفية صرف الأموال التي من شانها تساعد في ذلك.[26]

و باستقرائنا النصوص قانون 11-10 نجد أن المشروع الجزائري دعا المجالس المنتخبة إلى إعلام المواطنين بكل ما يتعلق بالشأن العام، و ذلك باستعمال كل الوسائل التي من شأنها اطلاع المواطنين بإجراءات التسيير المحلي للهيئات المحلية، و لعل من أهم هذه الوسائل تذكر :

-الوسائط و الوسائل الإعلامية المتاحة.[27]

-عن طريق النشر أو الملصقات.

-الإعلام بتواريخ المداولات و الجلسات.

ثانيا : الحق في الحصول على المعلومات

تبعا لما جاء به المشرع الجزائري فإن للمواطن الحق بأن يتحصل على المعلومات التي يريدها من خلال طلب جزئي للمداولة أو طلب كلي لها، كما له الحق في الحصول على مستخرجات مداولات المجلس، و كذا القرارات البلدية.[28]

إن إشاعة الحق في الحصول على المعلومة يعتبر من الحقوق الأساسية للمواطنين، و من ثم وجب وضع خطة واضحة للحصول على هذا الحق دون عراقيل، بل الأكثر من ذلك وجب تهيئة منظومة قانونية متكاملة لحفظ هذا الحق.[29]

غير أن هناك من ربط بين جدلية الحق في الحصول على المعلومات و حماية المعطيات الشخصية، لذا وجب تفعيل قانون ناظم لهذه المسالة يبين الأطر التي تحفظ أطراف هذه المقاربة، و من تم وضع آلية ناظمة لحماية المعطيات الشخصية بمنظور أو في إطار تثبت الحق في الحصول على المعلومة.[30]

ثالثا: إرساء تقاليد للبناء الديمقراطي المحلي.

المقصود بذلك أنه ينبغي للهيئات المحلية الاهتمام بالجانب التوعوي للمواطن بحيث تساعده على تأطير نفسه في أطر قانونية مهيكلة ضمن مساحة المجتمع المدني، بصيغ: لجان ،أندية ،جمعيات، تجمعات مؤطرة ، و في المقابل وضع سياسة واضحة في كيفية إبلاغ هذه الهيئات بفاصل تسيير الشأن العام، بل الأكثر من ذلك على الوصاية الاستماع إلى هؤلاء، و الأخذ بأفكارهم و أرائهم و انشغالاتهم و العمل على حلها.

المبحث الثالث: دور المواطنة في استهداف الحق في التنمية المستدامة.

على اعتبار أن الديمقراطية التشاركية لها إسهامات جدّ هامة في تحقيق التنمية المستدامة، ولأن ذلك يعتبر بحق أحد التطبيقات التي من خلالها نستطيع قياس مدى فعالية الموطنة في بناء الوطن، هذا من جهة ومن جهة أخرى يستطيع المواطن أن يحقق اندماجه الكلي في دولته، وحتى نوضح هذه المسألة نتطرق إلى ماهية التنمية المستدامة في المطلب الأول، ثم نحاول تبيان أهم تطبيقات الديمقراطية التشاركية كآلية في التنمية المستدامة المطلب الثاني .

المطلب الأول : ماهية التنمية المستدامة.

من المفاهيم التي نالت الكثير من جهد الباحثين وكذا الساسة إلى جانب الخبراء في شتى المجالات و خاصة المجال البيئي و الاقتصادي و الاجتماعي ما يسمى بالتنمية المستدامة، و عليه سنتطرق في هذا المطلب إلى المقصود بهذا المصطلح، و ما الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، و ما هي المبادئ و الركائز التي يستند عليها، و ذلك من خلال الفروع التالية:

الفرع الأول: المقصود بالتنمية المستدامة.

تعددت التعاريف الناظمة لمفهوم التنمية المستدامة تبعا لتتعدد زاوية المنطلق التي من خلالها يراد تحديد هذا المفهوم، و أيًا كان من الأمر فإنها تعني ذلك النشاط الذي يؤدي إلى الارتقاء بالرفاهية الاجتماعية أكبر قدر ممكن، مع الحرص على الموارد الطبيعية المتاحة و بأقل قدر ممكن من الأضرار و الإساءة إلى البيئة، و يوضح ذلك بأن التنمية المستدامة تختلف عن التنمية في كونها أكثر تعقيدا و تداخلا فيما هو اقتصادي و اجتماعي و بيئي[31].

كما عرفتها اللجنة العالمية للتنمية المستدامة على”أنها تلبية احتياجات الحاضر دون أن تؤدي إلى تدمير قدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة“[32]

و باستقراء المعاني الواردة في هذا التعريف نجدها تركز على أمرين هما :الحاضر و المستقبل، حيث تكمن قيمة التنمية في هذين البعدين، و أساس ذلك كيفية إحداث التوازن بين طريقة استغلال مقدرات الأمة بعقلانية دون أن يكون ذلك على حساب الأجيال القادمة.

و من التعاريف التي قيلت بشأن التنمية المستدامة تبعا للزاوية الاقتصادية[33]، نذكر على أنها “استخدام موارد اليوم ينبغي ألا يقلل من الدخل الحقيقي في المستقبل” و يقع هذا التعريف دائما في معادلة التوازن بين الحاضر و المستقبل و نفس الشيء تعرف على أنها “الحصول على الحد الأقصى من المنافع التنمية الاقتصادية بشرط المحافظة على خدمات الموارد الطبيعية و نوعيتها ” .

وتبعا لما سبق تبيانه فإن التنمية المستدامة مصطلح يشير إلى المجالات التي ينبغي لهذا المفهوم الاشتغال عليها، و هي المجال الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي، و البيئي ومن ثمّ هناك من يعرف التنمية المستدامة على أنها “عملية شاملة مستمرة و ثقافية و سياسية تهدف إلى تحقيق تقدم مستمر في حياة الأفراد و رفاهيتهم، و ذلك من خلال مساهمة جميع أفراد المجتمع و على أساس التوزيع العادل لعائداتها“[34].

و من ثمّ فهذا التعريف يفيد الشمول و الاستمرارية في التفكير و التخطيط على أساس الاستغلال العقلاني العادل، و عليه فهي تعني أيضا “استمرارية الموارد الطبيعية لأجيال الحاضر و المستقبل والمحافظة على خصائصها”[35]

و تأسيسا على ما سبق فإن التنمية المستدامة كمفهوم جديد يفرض نفسه في سياسات و استراتيجيات الدول، إذ من خلاله تسعى الدول إلى تحقيق معادلة التوازن في استغلال الموارد الطبيعية، و مقدرات الأمة بطريقة عقلانية بين ما هو لازم و ضروري للأجيال الحاضرة، دون المساس بحق الأجيال القادمة في هذه الثروات، و لا يكون ذلك إلا من خلال إدخال عامل الزمن المبني على أساس الاستشراف و التخطيط. لما هو كائن و ما ينبغي أن يكون.

الفرع الثاني : أهداف التنمية المستدامة

من الأهداف التي تسعى سياسة التنمية المستدامة إلى استهدافها نذكر ما يلي:

أولا : الاستغلال العقلاني للثروات في إطار تحديد الأولويات

ومعنى ذلك لا بد للأجيال الحاضرة أن تتبني فكرة رفع التحدي أثناء التخطيط، أثناء التنفيذ، أثناء الرقابة على النتائج، ولا يكون ذلك إلاّ من خلال الاستغلال المعقول للثروات الحالية في إطار تحديد أهم المجالات التي ينبغي الاشتغال فيها حتى لا نهدر الجهد و الوقت و المال فيما لا ينفع على حساب ما ينفع حاضرا و مستقبلا.

ثانيا : اشتراك المواطن في التنمية

إن المواطن شريك أساسي و فعّال، بل هو محور كل عملية تغيرية، و إن المراهنة على مدى وعي المواطن بمقدرات الأمة لهو ضمانه في الاستغلال الرشيد، بل نستطيع من خلالها خلق مساحات و فضاء يساعد إلى حد كبير في عملية التنمية ضمن أطر الجماعات المحلية و دورها في إحداث التوازن المطلوب.

ثالثا: التخطيط و الاستشراف.

إن التخطيط المسبق المبني على أساس استشراف المستقبل من شأنه تحقيق معادلة التوازن، ذلك أن العمل المبني على أسس عملية ذات كفاءة عالية من شأنه تحقيق الكثير من البرامج و الاستراتيجيات التي ترشد المال العام، و تحفظ الأجيال الحاضرة حقوقها دون تجاوز الحدود المطلوبة في ذلك .

رابعا: التركيز على البعد البيئي.

لعلّ البيئة بمختلف مكوناتها تعتبر أحد أهم الضمانات التي ينبغي للباحث أو السياسي التركيز عليها، بل لا بد و أن تكون في صلب أي بناء تنموي، ذلك أنها تمثل المساحة الكبرى التي تشتغل فيها و بها كل معاني التنمية المستديمة، مع الأخذ في الحسبان كيفية التعامل مع الأضرار البيئية من تلوث و نفايات.[36]

خامسا: الاستغلال الأمثل لكل مقومات التنمية

لا يخفى علينا أن التنمية في الأساس تركز على مجموعة من المقومات يتقدمها المقوم المالي، العقاري، الديمقراطية التشاركية …و لكل ما له علاقة بالتنمية.

المطلب الثاني: التنمية المستدامة في ظل دستور 2016

إن المشرع الجزائري ومن خلال دستور مارس 2016 حاول أن يعطي لمقاربة التنمية المستدامة أساسها القانوني وبعدها الإستراتيجي، ذلك أنه أسس لها في ديباجة الدستور بداية، والديباجة تعتبر جزء من الدستور، وهو بذلك يبين أن تبني مثل هذه المقاربات إنما هو خيار إستراتيجي، حفظا لحقوق الأجيال القادمة، ثم أعاد المشرع التنصيص على هذا المفهوم من خلال نصوص الدستور في عديد المواد إبرازا لمكانة وقيمة التنمية في حياة الدولة، وفي ما يلي نحاول تبيان ذلك من خلال الفرعين التاليين:

الفرع الأول: التنمية المستدامة من خلال ديباجة الدستور.

ما أود الإشارة إليه بداية هو أن المشرع الجزائري و من خلال التعديل الدستوري الأخير قفز قفزة نوعية نحو تضمين نصوص الدستور مقاربات جديدة، من ذلك مصطلح التنمية المستدامة حيث نص في الفقرة 14 من الديباجة على أن “يظل الشعب الجزائري متمسكا بخياراته من أجل الحد من الفوارق الاجتماعية و القضاء على أوجه التفاوت الجهوي، ويعمل على بناء اقتصاد منتج و تنافسي في إطار التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة “[37].

إن المشرع الجزائري أورد مقاربة التنمية المستدامة ديباجة الدستور ليعطيها مكانة متميزة و قيمة، إضافة لما لها من تأثير على التخطيط و الاستشراف إذ ربط التنمية ببعدين هامين هما:

1- البعد الاقتصادي المنتج المبني على أساس التنافس .

2- البعد البيئي لما له من ترابط قوي بالتنمية .

لا يخفى على أحد أن الديباجة في التعديل الدستوري الأخير أصبحت جزء لا يتجزأ من الدستور للنص على ذلك “تشكل هذه الديباجة جزءا لا يتجزأ من هذا الدستور”[38]

الفرع الثاني: التنصيص على التنمية المستدامة.

كما عاد المشرع الجزائري مرة أخرى للحديث عن التنمية المستدامة استنادا على مضمونها و ذلك بالنص على أن “تضمن الدولة الاستعمال الرشيد للموارد الطبيعية و الحفاظ عليها لصالح الأجيال القادمة…”[39] المادة 19

فمن خلال هذا النص يتبين لنا و بوضوح نية المشرع في الحث على الاستغلال المبني على أسس، بل يقع على عاتق الدولة ترشيد استغلال الموارد الطبيعية، دون المساس بحق الأجيال القادمة في هذه المقدرات، كما ركز المشرع الجزائري على مجالين هامين مرتبطين أساسا بالتنمية المستدامة هما[40]:

الأراضي الفلاحية.
الأملاك المائية العمومية .

إن المشرع الجزائري لم يكتفي بتبيان المجالات التي ينبغي العمل فيها تحقيقا للتنمية المستدامة فحسب، بل الأكثر من ذلك فقد رتب التزاما يقع على عاتق الدولة في تسخير كافة الطاقات العلمية و الأبحاث المنجزة في هذا المجال خدمة للتنمية المستدامة للأمة، و هذا ما جاءت به الفقرة 5 من المادة 44 بالنص على أنه “تعمل الدولة على ترقية البحث العلمي، و تثمينه خدمة للتنمية المستدامة اللازمة”.[41]

في تقديري أن جعل الأبحاث و الدراسات العلمية في خدمة التنمية المستدامة من شأنه أن يعطي دفعا قويا في كيفية استغلال مقدرات الأمة بعقلانية، الأمر الذي يخلق فرص و مساحات معتبرة تعمل الدولة من خلالها على تحقيق معادلة التوازن خدمة للأجيال الحاضرة و ضمانه لحق الأجيال القادمة.

خاتمة:

تلعب المواطنة الحقيقية والفعّالة من خلال الديمقراطية التشاركية دورا هاما و مفصليا فيما يتعلق بتسيير الشؤون المحلية، كما لها أيضا دورا مفصليا في ممارسة الرقابة على جميع العمليات التي تجرى على المستوى المحلي، وإلى جانب ذلك نجدها حاضرة في المشاركة الفعالة و المنتجة برفقة المجالس المنتخبة المحلية من خلال إبداء الرؤى و تقديم المبادرة و كل ماله قيمة إسهاميه في البناء المحلي، كما لها أيضا دور جد هام فيما يتعلق بالرقابة على تسيير الشأن العام، ومن ثمّ يكون للمواطن قيمة تشاركية، إذ يستطيع أن يراقب كل المخططات و المشاريع و المقترحات التي قد علم بها من خلال حضوره لجلسات المداولة أو من خلال العرض الذي ينبغي لرئيس المجلس الشعبي أن يقدمه في فترات معلومة، أو من خلال الوسائط الإعلامية، المهم في ذلك يستطيع المواطن أن يراقب و يبلغ صوته عن ما يراه مناسبا كما سمحت الهوامش المتاحة له .

و تبعا لذلك فقد أولى المشرع الجزائري من خلال قانون 2016 المتضمن التعديل الدستوري أهمية للتنمية المستدامة، في ظل التغيرات الداخلية التي تفرضها ظروف العيش للمواطن، غير أن ذلك يبقى دون المستوى المطلوب في غياب سياسة واضحة تستهدف الاستغلال الأمثل للثروات الوطنية، و لا يقف الأمر عند ذلك، بل يتعدى إلى التخطيط المسبق المبني على رؤى استشرافية فاعلة في إطار الاستخدام الأمثل للتقنيات الحديثة ، و لا يكون ذلك إلا بحشد كافة القوى المادية، المعنوية،والبشرية من أجل بناء تنمية مستدامة.

وتبعا لما تمّ تبيانه فإننا نسجل النتائج التالية:

أولا: يعتبر الحق في إدارة الشأن العام المحلي الفضاء الأمثل لممارسة المواطنة الحقيقية.

ثانيا: التربية على المواطنة أحد أهم الركائز التي تبنى عليها الدولة القانونية، بل يقع على تنشأة الأفراد على ذلك سياسيا واجتماعيا

واقتصاديا وثقافيا.

ثالثا: الديمقراطية التشاركية ركن أساس في أي تنمية تستهدفها الدولة، ذلك أن مشاركة المواطن في حد ذاته ضمانة هامة في نجاح أي عملية إنمائية.

رابعا: التنمية هي مطلب كل جيل، لكن دون الإخلال بحق الأجيال القادمة في مقدرات الأمة، وذلك في إطار مقاربة التنمية

المستدامة، خدمة للحاضر وحفاظا على المستقبل.

ومن الاقتراحات التي نراها جديرة بالتسجيل في هذا المقام نذكر:

ضرورة إدماج مقاربة التربية على المواطنة وحقوق الإنسان في البرامج الرسمية للتدريس.
العمل على إيجاد المزيد الفضاءات التي يحقق فيها الفرد مواطنته، حقوقا وواجبات.
تعديل المنظومة القانونية بما يتماشى والتربية على المواطنة، خصوصا في إدارة الشأن العام.
ضبط معادلة التوازن والتكامل في منظومة الحقوق والواجبات، وذلك من خلال توسيع دائرة الحقوق في مقابل أداء الالتزامات.

 

(محاماه نت)

إغلاق