دراسات قانونية
التجربة التونسية وحقوق الإنسان (بحث قانوني)
التربية على حقوق الإنسان: تأملات في التجربة التونسية
د. محمد بالراشد، أستاذ مساعد في علم الاجتماع
مدير سابق بالتفقدية العامة لبيداغوجيا التربية –وزارة التربية –تونس
ملخص
تكتسي التربية على حقوق الإنسان أهميّة خاصة في نشر ثقافة مضادة لانتهاكات حقوق الإنسان التي ما فتئت تنتشر لتشمل مختلف أنواع الحقوق (المدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية…)، وذلك على الرغم من ترسانة النصوص الدوليّة والإقليميّة والوطنيّة الضامنة لتلك الحقوق. وبما أن التربية على حقوق الإنسان نصّ عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، وخصّتها الأمم المتحدة بعشرية (1994-2005)، فإنه من الضروري التأمّل في التجارب التي عاشتها دول العالم بمناسبة سبعينية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لما لها من معاني ودلالات. وضمن هذا الإطار تتنزل هذه الدراسة التي تهدف إلى تبيّن خصوصيّة التجربة التونسيّة في مجال التربية على حقوقالإنسان من خلال البحث في الأسس التي ارتكزت عليها، وفي الصعوبات التي واجهتها ولا تزال تواجهها، خاصة وأن هذه التجربة اتّسمت بنوع الفرادة باعتبارها اتّخذت من مادة التربية المدنيّة المادة القاطرة في التربية على حقوق الإنسان، وليست المادة الوحيدة.
مفاهيم الدراسة: التربية- حقوق الإنسان- التربية على حقوق الإنسان- التربية المدنية.
Abstract
Human rights education is particularly important in spreading a culture curbing human rights violationsthat has expanded to include various types of rights (civil, economic, social, cultural, environmental …) despite the arsenal of international, regional and national texts guaranteeing those rights and as human rights education is enshrined in the Universal Declaration of Human Rights (1984), the United Nations has singled out it by a special decade (1994 – 2005). On the seventieth anniversary of the Universal Declaration of Human Rights,it is necessary to reflect on the experiences of the world countries because of their meanings and connotations.Within this framework, this study aims at identifying the specificity of the Tunisian experience in the field of human rights education,through research on its foundations, the difficulties that it faced and it still continue to face, especially since this experiment was marked by a kind of uniqueness. In fact, it has taken the subject of civic education as the locomotive subject for education on human rights. However, it is not the only subject.
Key words: education, human rights, education on human rights, civic education.
مقدمة
تستعدّ الإنسانيّة بحلول 10 ديسمبر 2018 إلى الاحتفال بسبعينيّة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كأوّل وثيقة عالمية تقرّ كونيّة حقوق الإنسان، وكأوّل وثيقة تُصدرها الهيئة العالميّة الموكول إليها حفظ السلام في العالم ومنع انتهاكات حقوق الإنسان في مختلف أرجاء المعمورة ألا وهي الأمم المتحدة. ويمكن القول إن الاحتفال بهذه الذكرى يتّسم من ناحية بحضور كثيف وصريحللنّصوص الدوليّة والإقليميّة وحتى الوطنيّة الضامنة لحقوق الإنسان، لاسيّما وأن هذه التشريعات صارت من الثراء والتنوّع ما جعلهاتلامس فئات عديدة: المرأة والطفل والمسنّ وذو الإعاقة واللاجئ والمهاجر، كما شملت مجالات مختلفة من حياة البشر مثل البيئة والتضامن والتنمية، إضافة إلى تنامي أعداد المنظّمات المدافعة عن حقوق الإنسان الحكوميّة وغير الحكوميّة. ولكن في مقابل هذا الحضور الثري للنصوص الضامنة لحقوق الإنسان، تبدو من ناحية أخرى انتهاكات حقوق الإنسان منتشرة في مختلف أنحاء العالم، متخذة أشكالا مختلفة ومتباينة، بدءا من التعذيب وانتهاك الكرامة البدنيّة والمعنويّة للأفراد، وصولا إلى انتهاك الحق في التنمية وما انجرّ عنه من تبعات لفئات كثيرة تمّ تفقيرها وإجبارها على مغادرة أوطانها -حيث يظلّ البحر الأبيض المتوسط شاهدا على انتهاك ذلك الحق الذي أقرّته الأمم المتحدة سنة 1986 – ، وصولا إلى انتهاكات أخرى تتّصل بحق الشعوب في تقرير مصيرها، حيث لا يزال انتهاك هذا الحق حاضرا ولا أدلّ على ذلك من معاناة الشعب الفلسطيني ومعاناة أقلّيات كثيرة في العالم، فضلا عن عودة الاستعمار المباشر الذي يجسّد أرقى أشكال انتهاك حقوق الإنسان (احتلال أفغانستان والعراق)..الخ.
ولعلّ هذه المفارقة التي تعيش على وقعها حقوق الإنسان اليوم هي التي تدفعنا إلى التركيز على التربية على حقوق الإنسان، لأن تبيئة هذه الحقوق وتجذيرها في أعماق البشر مسألة مركّبة وتحتاج إلى ما هو أكبر من القوانين الضامنة لها، إنّها تحتاج إلى توطين وتبيئة. وهو عمل عادة ما يوكل إلى مؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة وفي طليعتها المدرسة وآليتها في ذلك التربية على حقوق الإنسان.
الإشكالية:
إذا كانت التربية على حقوق الإنسان ضروريّة، وهي إحدى مكوّنات أي منظومة تربويّة في العالم ولاسيما في الدول التي تسير في اتّجاه إرساء النظام الديمقراطي، باعتبار أهميّة حقوق الإنسان في بناء ذلك النوع من الأنظمة السياسيّة، فإنّها لا تخلو من خصوصيّة، فما هي خصوصيّة التجربة التونسيّة في هذا المجال؟ بمعنى ما هي الأسس التي انبنت عليها تلك التجربة؟ وما هي التمشيّات المعتمدة في إنجازها؟. وما هي أبرز الصعوبات التي اعترضتها والتي جعلتها تقف عاجزة عن تحقيق أهدافها؟.
المنهجية:
تقوم منهجيّة هذه الورقة على تحليل المضمون، حيث سيتمّ تحليل مضامين البرامج المدرسيّة للمرحلتين الإعدادية والثانوية لمادة التربية المدنية، وذلك لأن هذه البرامج تعكس مقاربة المدرسة التونسيّة للتربية على حقوق الإنسان من حيث المضامين ومن حيث التمشي البيداغوجي وكذلك من حيث التقويم. فاعتماد التربية المدنيّة منطلقا لتناول مسألة التربية على حقوق الإنسان هو بسبب خصوصيّة هذه المادة التي تلعب دور القاطرة في التربية على حقوق الإنسان في المنظومة التربويّة التونسيّة منذ الإصلاح التربوي الثاني الذي عرفته البلاد سنة 1991.
مفاهيم الورقة
التربية
عديدة هي تعريفات التربية، ودون إطناب في تعداد تلك التعريفات، نورد التعريف الآتي: ” التربية هي فعل ممارس على ذات أو مجموعة ذوات بما هو موافق عليه أو مطلوب من هذه الذات أو الذوات. ويهدف هذا الفعل إلى إحداث تغيير عميق في الذات حتى تنشأ لديها طاقات حيّة جديدة، ويصير هؤلاء أنفسهم عناصر حيّة لهذا الفعل الممارس عليهم([1])”. بمعنى أن التربية فعل قصدي هدفه إحداث تغيير عميق في الذات أو الذوات بما يتيح لها القدرة على أن تكون فاعلة ومبادرة ومؤثّرة في واقعها وفي محيطها. ولكن التربية –في غالب الأحيان- تُحيل إلى التربية المدرسيّة (النظاميّة)، وإن كانت في الواقع أشمل من ذلك، ولعلّ المثل الإفريقي القائل “لتربية طفل واحد لا بد أن تتظافر جهود قرية بأكملها” دليل على أن التربية أشمل بكثير من التربية المدرسيّة. غير أن هذه الورقة ستركّز على التربية المدرسيّة بالأساس من خلال مثال مادة التربية المدنيّة لما لها من صلة وطيدة بالتربية على حقوق الإنسان في المنظومة التربويّة التونسيّة.
حقوق الإنسان:
لحقوق الإنسان تعريفات متنوّعة ومتعدّدة، من ذلك أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) تعرّفها بكونها “عبارة عن مبادئ يمكن للأفراد بحسبها أن يتصرّفوا، كما يمكن وفقها للدول أن تشرّع وتحكم. لكنّها أيضا عبارة عن قيم تطمح إليها الإرادات البشريّة. وحقوق الإنسان من حيث هي قيم تشكّل مثلا أعلى وأفقا لم يتمّ بلوغه على النحو الأكمل بدون شك، لكنه قادر على إعطاء معنى للحياة في المجتمع([2])” بمعنى أن اليونسكو تعتبر حقوق الإنسان قيما ومثلا عليا تعطي معنى لحياة الفرد، وهي بذلك مطمح كبير لم تستطع الإنسانية بلوغه إلى اليوم.
ومن بين التعريفات الأخرى لحقوق الإنسان تلك التي تعتبرها” علما يتعلّق بالشخص ولاسيما الإنسان العامل، الذي يعيش في ظلّ دولة، ويجب أن يستفيد من حماية القانون عند اتّهامه بجريمة، أو عندما يكون ضحيّة للانتهاك، عن طريق تدخّل القاضي الوطني والمنظمات الدوليّة. كما ينبغي أن تكون حقوقه – أي الإنسان- ولا سيما الحق في المساواة متناسقة مع مقتضيات النظام العام([3])”. بمعنى أن حقوق الإنسان تتعلّق بالشخص (بالفرد)، وتحميها قوانين وآليات حماية من بينها ما هو وطني (القضاء) وما هو دولي (المنظمات الدولية).
ويعتبرها آخرون”مقولة من مقولات القانون الدستوري والقانون الدولي ومهمّتها الدفاع بطريقة ممأسسةعن حقوق الفرد الكائن البشري ضد تجاوزات السلطة المرتكبة من قبل أجهزتها وفي ذات الوقت هي تحسين ظروف الإنسان والنهوض بها وتنميته تنمية متعدّدة الأبعاد([4])”. بمعنى أن حقوق الإنسان هي “تلك الحقوق التي يتمتّع بها الإنسان لمجرّد كونه إنسانا، أي بشرا، وهذه الحقوق يُعترف بها للإنسان بصرف النظر عن جنسيّته أو ديانته أو أصله العرقي أو القومي أو وضعه الاجتماعي أو الاقتصادي، وهي حقوق يملكها الإنسان حتى قبل أن يكون عضوا في مجتمع معيّن، فهي تسبق الدولة وتسمو عليها([5])”. أي أن حقوق الإنسان هي “حقوق الإنسان الكوني المنظور إليه كغاية والذي أصبح مستقلاّ عن الرؤية الكسمولوجية التي يحتلّ فيها الإنسان موضع حلقة من سلسلة لا نهاية لها من الكائنات الحيّة الروحيّة والتي تجانب الإنسان وتعلوه، أو تراقبه حسب الحضارات([6])”. بعبارة أخرى تتعالى حقوق الإنسان عن الخصوصيّات، وتجعل الإنسان متساميا على غيره، لقد كانت حنا أرندت سبّاقة إلى القول إن ما يميّز الجنس البشري، هو أنه له الحق في أن تكون له حقوق. ومهمّة هذه الحقوق الرئيسيّة هي حماية كرامة الإنسان الماديّة والمعنويّة ومنع كل ضروب انتهاكها. ومن هذا المنطلق تسمو هذه الحقوق على ما عداها. وقد عبّر آلان توران (A.Touraine) عن ذلك بقوله إن “الحقوق الأساسيّة تسمو على كل شيء بما في ذلك القوانين([7])”(Les droits fondamentaux sont au-dessus de tout et même au-dessus des lois).
ومن هذا المنطلق، فهي ليست هبة ولا منحة، إنّها متأصّلة في الذات البشريّة باعتبارها ذاتا فاعلة قادرة على إنتاج وإعادة إنتاج نفسها، سواء كذات فرديّة (حقوق فرديّة) أو كذات جماعيّة (حقوق جماعيّة). فهذه الحقوق هي عنوان تاريخيّة البشر، فجلّ حركاتهم التاريخيّة الكبرى، كانت مدفوعة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بحقوق الإنسان. فلأجلها مات الكثيرون، وزُجّبالكثيرين في السجون ، ولا تزال إلى اليوم موضع تنازع، ومحرّك لتاريخيّة الإنسان أي محفّزة لحركته الذاتيّة نحو إعادة إنتاج ذاته. وبتعبير مغاير، يفتقد الإنسان قدرته على إعادة إنتاج ذاته، وعلى توجيه ذاته ومن ثم على صنع تاريخيته (son historicité) بحسب عبارة آلان توران بافتقاده لهذه الحقوق. وعليهتكمن أهميّة هذه الحقوق في أنّها تحمل تصوّرا للإنسان. بمعنى أنها تتّجه إلى الإنسان الذات الفاعلة فردا أو جماعة. وعليه تتنزّلالتربية على حقوق الإنسان في هذا السياق، سياق تصوّر الإنسان الفاعل، الذي له القدرة على ضبط اختياراته، والقدرة على إعادة إنتاج ذاته. فالإنسان بهذا المعنى هو مركز الكون، وكذلك المدينة، فهو “الكائن الإرادي من جهة والمصطنع من جهة أخرى([8])” وعلى هذا الأساس ينبغي أن تعكس التربية على حقوق الإنسان ذلك التصوّر للإنسان الفاعل المتحرّر، القادر على صنع تاريخيّته.
ج)التربية على حقوق الإنسان:
يقصد بها “كل نوع من التعليم يساعد على بناء المعارف والمهارات والمواقف والسلوكات المتعلّقة بحقوق الإنسان([9])”. وهذا النوع من التربية ليس “تربية معرفيّة بل هي تربية قيميّة بالدرجة الأولى، فاهتمام هذه التربية بالجانب المعرفي لا يعدّ قصدا نهائيا من هذه التربية، فهي تتوجّه إلى سلوك المتعلّمين([10])”.وبعبارة أخرى ليس هاجس التربية على حقوق الإنسان تحويل المتعلّمين إلى حفظة للمواثيق الدولية الضامنة لحقوق الإنسان، وحشو أذهانهم بها، بمعنى أنها “لا تكتفي بحشد الذهن بمعلومات حول الكرامة والحرية والمساواة والاختلاف، وغير ذلك من الحقوق، بل إنها تقوم أيضا على تمكين المتعلّم من ممارسة تلك الحقوق وأن يؤمن بها وجدانيّا وأن يعترف بها كحقوق للآخرين، وأن يحترمها كمبادئ ذات قيمة عليا. إنّها ليست تربية معارف فقط، وإنّما هي تربية للقيم وللحياة وللمعيشة([11])”.
وانطلاقا مما سبق، يمكن القول إن التربية على حقوق الإنسان مسألة مركّبة بحسب عبارة إدغار موران، فهي تربية تستهدف بالأساس المجال الوجداني – السلوكي، أي البعد المتّصل ببناء المواقف والميول التي تتجسّد لاحقا في السلوك، وما المعارف إلا سبيل لتحقيق ذلك. ولعلّ هذه الخصوصية التي تتّسم بها تجعلها فعلا عمليّة مركبّة. وبعبارة أخرى تجعلها غير قابلة للاختزال في تقديم مجموعة معارف متّصلة بأصناف حقوق الإنسان، وبأعداد انتهاكاتها وأنواعها، إنها تروم إكساب المتعلّمين مواقف إيجابيّة داعمة للتصوّر الإنساني القائم على محوريّة الإنسان وعلى قدرته على إعادة إنتاج ذاته، وصنع تاريخيته. وضمن سياق الخصوصيّة هذا حاول المهتمّون بالمسألة الوجدانيّة وضع صنافاتTaxonomies لأهدافها تميّزها عن الصنافات التي وضعت للمعارف([12]) ومن أبرز تلك الصنافات الخاصة بالمجال الوجداني نذكر صنافةكراوثولالتي تقوم على مجموعة من المراقيتبدأ بالاستقبال وتنتهي بالتمييز عن طريق قيمة أو مركب قيم([13]). ومن بين الصنافات كذلك ما يعرف بهرميّة تيبتزTibbits التيتبدأ بالتحسيس(التوعية) ثم التكفّل والالتزام وتنتهي بالتغيير([14])
ومن خلال هذه الخصوصيّة تستمدّ التربية على حقوق الإنسان هويّتها، التي هي تربية تنشد “الإنماء الكامل للشخصيّة (le savoir être et vivre)([15])، ومن ثمة يغدو دور المدرسة “تكوين عقول حرّة ومبدعة ومتسامحة، وليس فقط تكوين عقول مواطنين ووطنيين([16])” أو بعبارة أخرى إن التربية على حقوق الإنسان تجعل من المدرسة أو “ينبغي أن تجعل من المدرسة أولا وبالأساس في خدمة الحريّة والمساواة لكل كائن بشري. وبالتالي قبل كل شيء في خدمة إبداع وحياة كل فرد([17])”. بمعنى لا يجب على المدرسة أن توكل لنفسها كمهمّة أساسيّة تكوين مواطنين وعمّال بل زيادة قدرة الأفراد على أن يكونوا ذواتا فاعلة([18])” بمعنى أن التربية على حقوق الإنسان هي تربية على الحريّة والإبداع وعلى المسؤوليّة، وهو ما يتطلّب القطع مع ممارسات تربويّة وبيداغوجيّة كثيرا ما طبعت نشاط المدرسة الأمر الذي جعلها تشتغل وفقا لمبدأ الشيخ والمريد، ولعلّ من أبرز هذه الممارسات التلقين. فبالقطع مع التلقين تتّجه المدرسة إلى بناء الذات الفاعلة (le sujet). وبتعبير مغاير، التربية على حقوق الإنسان تجعل المدرسة مدرسة الذات الفاعلة (l’école du sujet) لا مدرسة التنشئة الاجتماعية (la socialization) بالمعنى التقليدي الذي تطغى عليه النزعة الكليّة الشاملة. بمعنى أنها تربية تتّجه إلى تفريد (individuer) المتعلّم وليس إلى تنمية النزعة الفردية لديه (individualiser) بحسب عبارة فيليب ميريو (Ph. Meirieu).
إن التربية على حقوق الإنسان، تربية تنشد بناء المواقف والميولات، فهي تربية لتنمية الذات الفاعلة في فرادتها وليس في فردانيتها، فالفرادة تجعل من صاحبها ثمينا، قادرا على الإبداع ومن ثم يغدو ذاتا فاعلة وهو أمر ليس باليسير تحقيقه. وهكذا نخلص إلى القول إن التربية على حقوق الإنسان “تتّجه في مفهومها العام والشمولي، إلى ترسيخ مجموعة من المبادئ والقيم، والتي تتميّز بأنها قيم يسمح امتلاك الفرد لها بتشبّعه بثقافة تمجّد شخصيّته وتعلي منها، من حيث هي شخصية “إنسان” إذ يتحقّق لدى الفرد الوعي والإيمان بضرورة تحقيق ذاته، كما يكتسب إحساسه ب “الأنا” لديه… وبهذا يمكن التفكير في تنمية الشخصيّة كمقصد أساسي في التربية المدرسيّة الحقوقيّة من خلال استهدافها للوعي بالذات والإحساس ب”الأنا”([19])
د. التربية المدنية:
للتربية المدنية تعريفات عديدة منها أنها “الدراسة الصريحة والمنتظمة للمفاهيم والمبادئ السياسيّة التي تمثّل الأساس للمجتمع السياسي الديمقراطي والنظام الدستوري([20])”. وتتضمّن هذه التربية “مهارات تنمية صنع القرار حول القضايا العامة والمشاركة في الشؤون العامة([21])”. بمعنى أنّها تربية تنشد تنمية مهارات صنع القرار عبر الاشتغال على المفاهيم والمبادئ السياسيّة للمجتمع الديمقراطي.
ومن التعريفات الأخرى للتربية المدنيّة تعريف مركز التربية المدنيّة (Center for Civic Education)الأمريكي من أن التربية المدنيّة في المجتمع الديمقراطي تعني الإعداد لحكم الذات الديمقراطي (Democratic self Gouvernment) المستدام والقوي، وهو ما يعني دعم مشاركة المواطنين السياسيّة والمدنيّة على أساس تأمّل واع وناقد([22])”. بمعنى أنّها تربية تهدف إلى تنمية ثقافة المشاركة من ناحية ومهارة المشاركة من ناحية أخرى وذلك عبر التركيز على تنمية مهار النقد. وهي بذلك تربية يندرج هدفها العام ” في الميدان السلوكي العام والمحكوم بمبدأ الحقوق والواجبات، أي الحياة الاجتماعيّة مع الآخرين، وهذا يعني أولا، أن للفرد حقوقا يحدّدها اعتراف الآخرين بها وبواجب احترامها، وبذلك تكون متبادلة في ما بينهم بحيث تثبتها القوانين وتضمنها أجهزة الدولة. وثانيا، إن القوانين تعبّر عن الإرادة العامة وعلى الجميع إطاعتها والتقيّد بمقتضياتها. وثالثا، إن على المواطن أن يشارك في تحمّل المسؤوليات في المجتمع بحسب الطاقات والقدرات التي يتمتّع بها([23])”. فهي تربية تؤسّس للعيش المشترك القائم على الحق والواجب. وقد حدّدت البرامج الرسميّة التونسيّة الأهداف الآتية للتربية المدنيّة([24]):
– اعتزاز المتعلّم بذاته تجسيدا لانتماءاته الثقافيّة والحضارية في أبعادها المختلفة.
– تبنّي قيم المواطنة والمدنيّة وحقوق الإنسان استعدادا للمشاركة في الحياة العامّة.
-بناء موقف إيجابي في ضوء ممارسة الفكر النّقدي.
ويمكن أن نعرّف التربية المدنية – في ضوء ما تقدّم- بأنّها مادة تعليميّة “تعمل على إشاعة وتركيز وتعميق أنماط سلوكيّة منظمة لشكل العلاقة بين الأفراد كأفراد، وما بين الجماعة وما ينبثق عنها من مؤسسات اقتصاديّة واجتماعيّة، سواء كانت حكوميّة أو أهليّة، فهي تهدف في جوهرها إلى بناء هذه العلاقة على مبدأ الحوار واحترام الرأي الآخر، والحقوق الفرديّة كافة التي يجب أن يتمتّع بها الفرد ويمارسها، من حريّة اعتقاد وتعبير، وهذا كلّه على أساس التكامل، وليس على أساس الانصهار مع رأي الأغلبيّة…([25])”.
في الحاجة إلى التربية على حقوق الإنسان:
يبدو الاهتمام بالتربية على حقوق الإنسان مبرّرا، فالتعليم ومثلما نصّ على ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)مطلوب منه أن “يعزّز احترام حقوق الإنسان والحرّيات الأساسيّة([26])”. بمعنى أن من أهداف العمليّة التربوية نشر حقوق الإنسان بما يؤهّل الناشئة لعيش جماعي يقوم على نبذ العنف وحلّ الخلافات بطرق سلمية، وتفادي كل ما من شأنه أن يؤثّر سلبا في العيش المشترك.
إن الاهتمام بالتربية على حقوق الإنسان يتأتّى، إذا، من كونها سبيلا لمقاومة ظواهر تؤثّر سلبا في العيش معا، وهي ظواهر لا تزال منتشرة في بقاع كثيرة من الأرض من قبيل التمييز بسبب اللّون أو العرق أو الدين أو الجنس…ويعدّ العالم العربي مثالا عن الفضاءات التي تنتشر بها تلك الظواهر، حيث بلغ منسوب التعصّب والتقوقع على الذات والانكفاء عليها في السنوات الأخيرة شكلا غير مسبوق، فانتشر القتل على الهويّة وتراجع التسامح وبدا تدبير التنوّع في هذه المنطقة من العالم أمرا مستعصيّا.
تبدو اليوم الحاجة ملحّة إلى التربية على حقوق الإنسان في زمن طغت عليه نظرة نفعيّة للمدرسة وصفها أحد الباحثين بالنظرة المقاولاتية([27]) التي جعلت وظيفة المدرسة تكاد تُختزل في تكوين اليد العاملة وفي تأقلم مُخرجات المؤسّسة التربويّة مع متطلّبات سوق الشغل. فتراجع الاهتمام بمسألة الإنسان وبحقوقه والتي هي أساس تحرير طاقاته وقدراته. وبعبارة أخرى في عصر صارت المؤسّسة التربويّة تصارع لأجل مواكبة تغيّرات المجتمع المختلفة ولاسيما منها الاقتصادية بات من الضروري أكثر ممّا مضى أن تولي اهتماما أكبر للإنسان وحقوقه. فالأمر يتعلّق ببناء الإنسان الفاعل المتحرّر والمبادر والواثق من نفسه والقادر على تغيير واقعه.
ضمن سياق مواكبة تغيّرات المجتمع، والقدرة على إعادة إنتاج الذات، تتأتّى علاقة التربية على حقوق الإنسان بإرساء الممارسة الديمقراطيّة. فالديمقراطيّة ليست مجرّد آلية للحكم، أو بالأحرى للتداول على الحكم، ولو اختزلت في هذا المعنى لانتهت إلى فشل ذريع، ولكنّها ثقافة بمعنى قيم استبطنت فصارت موجّهة لسلوكيات الأفراد في حياتهم اليوميّة. ولا تتحقّق هذه الثقافة إلا بتربية ناجعة على حقوق الإنسان، تربية تقرّ الاختلاف والتنوّع، وتمكّن من اكتساب المهارات الأساسيّة التي تتطلّبها تلك الثقافة. أي أن إرساء الديمقراطية يقتضي أكثر من إجراءات قانونيّة، إنه يستدعي بيئة متصالحة مع حقوق الإنسان ومحترمة لها.
وبناء على ما سبق، يمكننا القول إن “التربية على حقوق الإنسان واجبة ابتداء ولازمة انتهاء لأنها المدخل إلى تكوين المواطن المتشبّع بقيم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان القادر على ممارستها في سلوكه اليومي من خلال تمسّكه بحقوقه وحقوقه واحترامه لحقوق غيره، الحريص على حقوق المجتمع ومصالحه بقدر حرصه على حقوقه ودفاعه عنها([28])”.
3. تأمّلات في التجربة التونسيّة:
من المهمّ الإشارة بداية إلى أن الورقة ستركّز على حقوق الإنسان ضمن مادة التربية المدنيّة فحسب، وإن كانت ليست المادة الوحيدة التي اهتمّت بحقوق الإنسان في المنظومة التربويّة التونسيّة، ذلك أن مواد أخرى من قبيل الفلسفة والتاريخ والتربية التفكير الإسلامي واللّغات([29]) تتضمّن بدورها في برامجها وكتبها مسائل حقوقيّة وفي ذلك انسجام منها مثلا مع ما جاء في القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي (جويلية 2002) وتحديدا مع ما جاء في فصليه الثالثوالثامن([30]). ولكن ما تنفرد به مادة التربية المدنيّة عن غيرها من المواد، هو انفرادها بالاشتغال على الموارد الحقوقيّة، أي على المادة الحقوقيّة التي تضمّنتها النّصوص الدوليّة والإقليميّة والوطنيّة الضامنة لحقوق الإنسان من قبيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدان الدوليان، وكذلك الاتّفاقيات الدوليّة (الاتّفاقية الدوليّة لحقوق الطفل، والاتّفاقية الدوليّة لمناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة) إضافة إلى النّصوص الوطنيّة من قبيل الدستور التونسي ومجلّة حماية الطفل (1995)، وكذلك بعض النّصوص الإقليميّة (الميثاق الافريقي لحقوق الإنسان والشعوب (1981). بمعنى أنه مع مادة التربية المدنيّة بدأت المادة الحقوقيّة في التحوّل من معرفة عالمة إلى معرفة مدرسيّة، أي أن برامج التربية المدنيّة أخضعت تلك المادة الحقوقيّة لعمليّة النقل التعليمي –التعلّمي (la transposition didactique)، ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن ما يميّز التربية المدنيّة عن غيرها من المواد الدراسية الأخرى في المقاربة التونسيّة هو نوعيّة المدخل. فهي تتبنى المدخل الحقوقي صراحة.
على خلاف بقيّة المواد الدراسيّة الأخرى انفردت التربية المدنيّة بميزة أساسيّة ألا وهي المدخل الحقوقي الذي يجعل من المادة الحقوقيّة المنطلق، فهو مدخل متميّز عن بقية المداخل الدينيّة والتاريخيّة والفلسفيّة والأدبيّة، حيث يتمّ الاشتغال على سندات وموارد حقوقيّة مثلما أسلفت الإشارة إلى ذلك، ولذلك نجد حضورا واضحا لهذه النصوص بشكل خاص في المرحلتين الإعداديّة والثانويّة. ولعلّ هذه النقلة النوعيّة في مقاربة التربية على حقوق الإنسان تجعل من هذه المادة قاطرة لنشر ثقافة حقوق الإنسان، وهي الثقافة التي تنزع عن حقوق الإنسان ذلك الطابع النخبوي الذي كثيرا ما حوّلها إلى مسألة تتنازع حولها النخب السياسيّة على وجه التحديد. وبتعبير مغاير، لقد مكّنت التربية المدنيّة المنظومة التربويّة التونسيّة من تنزيل حقوق الإنسان إلى المستوى العمري والذهني للمتعلّمين، فاسحة بذلك المجال لهم لتبادل الآراء بشأنها ومن ثم بناء مواقف تعزّز احترامهم لها، وتدعوهم إلى الالتزام بالدفاع عنها.
ولحضور حقوق الإنسان في برامج التربية المدنيّة خلفية وأبعاد. أما الخلفية فهي أنّها تزامنت في مولدها بالمنظومة التربويّة التونسيّة سنة 1989 (حين حلّت محلّ التربية الوطنية) مع الحملة التي أطلقتها الجمعيّة العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1988 والمسمّاة بالحملة الدوليّة للمعلومات لحقوق الإنسان (القرار43/128)والتي استهدفت “تطوير برامج التربية والتعليم والمعلومات في مجال حقوق الإنسان بشكل تأصيلي وعلى المستوى الدولي([31]) “. وقد أدّت الحملة إلى توجّه دول العالم إلى إعطاء حقوق الإنسان أهميّة خاصة من خلال إدراجها في البرامج التربويّة وإن بطرق مختلفة (التربية على حقوق الإنسان، التربية المدنية، التربية على المواطنة…). وهو توجّه تعزّز بعقد الأمم المتحدة للتربية على حقوق الإنسان الذي امتدّ بين سنتي 1995 و2004 .وعليه لا غرابة أن يكون حضور حقوق الإنسان في المنظومة التربويّة التونسيّة من خلال التربية المدنيّة حضورا صريحا، فالسياق الدولي كان ملائما لذلك.
ويمكن أن نضيف أن تأثير السياق العالمي في التسعينات من القرن الماضيفي تبنّي حقوق الإنسان في المنظومات التربويّة كان كبيرا. فقد أدى تفكّك الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الاشتراكيّة بأوروبا الشرقيّة إلى تحوّلات كبرى في العالم، وإلى انتشار مفاهيم حقوق الإنسان والمجتمع المدني والديمقراطية والتعدّدية. ومن ثم أمكن القول إن بروز التربية على حقوق الإنسان في المنظومة التربويّة التونسيّة جاء في سياقات عالميّة ملائمة لنشر ثقافة حقوق الإنسان. كما أن التغيّرات التي عرفتها البلاد على الصعيد الداخلي سنة 1987 كان لها هي الأخرى دور في تبنّي ذلك التوجّه التربوي، لاسيّما وأنّ قادة البلاد السياسييّن راحوا يبحثون عن شرعيّة جديدة لحكمهم باعتبار أنّهم لا يستندون إلى شرعيّة النضال والتحرّر الوطنييّن التي ارتكز عليهم سابقوهم وخاصة الرئيس الأوّل للجمهوريّة الحبيب بورقيبة، فكان تبنّي خطاب حقوق الإنسان سبيلا لاكتساب تلك الشرعيّة([32]). لكن يظلّ التساؤل قائما حول الأبعاد التي حكمت حضور حقوق الإنسان في المنظومة التربويّة التونسيّة.
لفهم هذه الأبعاد تمّت العودة إلى البرامج الرسمية لمادة التربية المدنيّة بالمرحلتين الإعداديّة والثانويّة، حيث نقف على حضور محكوم بأبعاد أربعة وهي:
البعد الخاص بأصحاب الحقوق، فالبرامج المدرسيّة وإن أقرّت الطبيعة الشاملة لحقوق الإنسان، فإنّها لم تستغن عن التفاصيل، فتناولت الحقوق من منظور أصحاب الحق (حقوق الطفل/ حقوق المرأة/ حقوق المسنّين/ حقوق اللاّجئين…)
البعد المتّصل بفضاءات العيش معا، ففي كل فضاء يعيش فيه الإنسان توجد حقوق الإنسان (الأسرة/ المدرسة/ المجتمع الوطني / المجتمع الدولي)
البعد المتعلّق بالطبيعة التراكميّة لحقوق الإنسان، ويتجلّى من خلالتناول الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان.
البعد الخاص بآليات الحماية، فمن المعلوم أنه لا معنى لحقوق الإنسان في غياب آليات حماية لها، بل إن العالم اليوم، وعلى الرغم من وجود آليات حماية دوليّة وإقليميّة ووطنيّة إلا أن انتهاكات تلك الحقوق تظلّ منتشرة في أنحاء العالم. وقد اتّخذ هذا الحضور شكلين أولهما مباشر وصريح عندما يتم التطرّق في البرامج إلى حقوق الطفل وإلى حقوق الإنسان بين الكونيّة والخصوصيّة، وثانيهما غير مباشر عندما يتمّ التطرّق إلى حقوق الإنسان ضمن مسائل من قبيل العيش في الأسرة والعيش في المدرسة وكذلك ضمن محاور من قبيل الديمقراطيّة والمجتمع المدني ودولة القانون. بمعنى أن المسألة تلامس بعدا أعمق بكثير من عرض الحقوق، أي أنها تعرّف بآليات الحماية، وتبيّن أهميّتها بالنسبة إلى المتعلّمين.
وبنوع من الاختصار، يساعدنا الجدولان الآتيان على تبيّن شبكة حقوق الإنسان مثلما تضمّنتها برامج مادة التربية المدنيّة في محطتيها الكبيرتين: إصلاح 1991 وإصلاح 2002.
الجدول رقم1
الحقوق | الفضاءات |
الحقّ في الصحة |
الحقّ في التعليم
الحقّ في الانتخاب
الحقّ في الترشّح
الحقّ في الإعلام
الحقّ في بيئة سليمة
الحقّ في المشاركة في الحياة العامة
الحقّ في المساواة
الحقّ في العدالة
الحقّ في الترفيه
حريّة الفكر التعبير
حريّة التنقل
حريّة الاجتماع والتجمّع
حريّة الإبداع
حريّة الاعتقاد والقيام بالشعائر الدينيّةالأسرة
المدرسة
المجتمع
الأنظمة السياسيّة
الدولة الديمقراطيّة الحديثة
المجتمع المدني
دولة القانون
الجدول 2
حقوق فئات | الفضاءات |
حقوق الطفل | الأسرة / المدرسة/ المجتمع |
حقوق المرأة | الأسرة/المجتمع |
حقوق المسنّين | الأسرة /المجتمع |
حقوق ذوي الإعاقة | الأسرة /المجتمع |
حقوق المواطن | الأسرة /المدرسة/ المجتمع الوطني / المجتمع الدولي |
حقوق الإنسان | الأسرة/ المجتمع الوطني/ المجتمع الدولي |
ويسمح لنا الجدولان أعلاه بالقول، إن تناول حقوق الإنسان في المنظومة التربويّة التونسيّة، شمل دوائر الانتماء المختلفة وهي الأسرة والمدرسة والمجتمع التونسي فضلا عن المجتمع الدولي، وهوما يعني أن لهذه الحقوق بعدا كونيّا يجعلها نتاجا إنسانيا مشتركا، ممّا يعني أن الفضاءات التي تحتضنها متنوّعة ومتعدّدة. وبعبارة أخرى لقد أقرّت البرامج صراحة بتعدّد فضاءات ممارسة حقوق الإنسان، وأن لا فضاء يمكن استثناؤه. كما يمكّننا الجدولان أيضا من تبيّن حضور أجيال حقوق الإنسان المختلفة، فهناك حقوق الجيل الأول من قبيل الحقّ في التنقل، والحقّ في الانتخاب والترشّح…، وهناك حقوق الجيل الثاني من قبيل الحق في الصحة وفي العمل وفي التعليم، وكذلك حقوق الجيل الثالث مثل الحقّ في البيئة السليمة. ووراء هذا الحضور الصريح لأجيال حقوق الإنسان يكمن هدف ألا وهو تكامل تلك الحقوق وترابطها وفي ذلك انسجام وتوافق مع ما جاء في المادة 5 من إعلان وبرنامج عمل فيينا (1993)([33]). وعليه، يكون من الوجيه القول إن المقاربة التي اعتمدت من خلال التربية المدنية تقوم على مراعاة مجموعة من الأبعاد مثل التكامل والترابط بين الحقوق، ومثل تكامل الفضاءات، فكلّما تمّ انتهاك الحقوق في فضاء إلا وأثّر ذلك على حضورها في بقيّة الفضاءات الأخرى، وكذلك مثل تنوّع الفئات الاجتماعيّة المعنيّة بحقوق الإنسان ممّا يعكس ثراء الرصيد الذي أضحت عليه تلك الحقوق، فهي لم تعد تكتفي بمخاطبة الإنسان في المطلق وإنما فصّلت الخطاب فاتّجهت إلى فئات بعينها، وفي طليعتها تلك الفئات التي عانت كثيرا من التهميش مثل الأطفال والمرأة وذوي الإعاقة.
لكن حضور مختلف الأبعاد المشار إليها أعلاه يدفعنا إلى التساؤل عن الأسس التي ارتكز عليها ذلك الحضور بمعنى من المهمّ التمعّن في برامج مادة التربية المدنيّة لفهم الأسس التي بني عليها ذلك الحضور لمختلف الأبعاد والذي يشكّل الأرضية للممارسة البيداغوجية والديداكتيكية في الفصل كما في المدرسة.
4. أسس حضور حقوق الإنسان في برامج التربية المدنيّة:
تسمح لنا برامج مادة التربية المدنيّة في إصلاحي سنة 1991 وسنة 2002، وفي المرحلتين الإعداديّة والثانويّة بالوقوف عندمادة حقوقيّة مبثوثة في مختلف المستويات، وبمختلف التجلّيات التي تبيّن بوضوح الأبعاد. كما تمكّننا هذه البرامج من تبيّن الأسس التي ارتكزت عليها مقاربة تلك الحقوق والتي يمكن إجمالها في النقاط الآتية:
*أسس ابستمولوجية ذات صلة بفلسفة التربية في حدّ ذاتها، فمن المعلوم أن اليونسكو حدّدت غايات أربع للذهاب إلى المدرسة مثلما عبّر عن ذلك تقرير “التعليم ذلك الكنز المكنون ( 1995) وهي : تعلّم لتعرف وتعلّم لتكون وتعلّم لتعملوتعلّم لتشارك الآخرين”. وبمنطق المدخل الحقوقي، تتّصل الغاية الأولى (تعلّم لتعرف)، بتمكين المتعلّم من معرفة حقوق الإنسان. بمعنى أن للتربية على حقوق الإنسانية غاية سلوكية une finalité comportementale ولكنّها أيضا تربية لها معارف ومضامين une éducation a des savoirs et des contenus، فمعرفة المتعلّم لحقوقه وحقوق غيره، وحقوق كل الأشخاص هي جملة معارف يتمّ بناؤها([34])”.
أما تعلّم لتكون فيُقصد به “التأكيد على الغاية التربويّة لتنمية الفرد بدنيّا ووجدانيّا وروحانيّا([35])”، فإنه وفقا للمقاربة المبنيّة على حقوق الإنسان يعني مساعدة المتعلّم على بناء شخصيته، وعلى تحمّل المسؤولية وهو ما لا يتمّ إلا بمعرفة حقوقه والتدرّب على ممارستها. بمعنى أن بناء ذات المتعلّم يتمّ عبر تمكينه لا فقط من معرفة حقوقه (وهو بعد أساسي)، وإنما أيضا وبالأساس من ممارسة تلك الحقوق والتدرّب عليها، إذ لامعنى لحقوق تظلّ معارف مجرّدة.
أما الغايتان المتبقيّتان وهما تعلّم لتشارك الآخرين وتعلّم لتعمل، فإنّهما تتّصلان بتمكين المتعلّمين من بناء قواعد الحياة المشتركة بالفضاء المدرسي وخارجه، وفق الأسس الحقوقيّة، أي تحويل تلك الحقوق إلى قواعد عيش مشترك يٌعمل بها وتُنظّم العلاقات بين مختلف الفاعلين التربويّين على أساسها. ويعني هذا التوجّه التخلّص من كل ما من شأنه أن يؤثّر سلبا في العيش الجماعي، سواء كان التعصّب للرأي، أو كان تبنّي طرق عنيفة لحلّ الخلافات. وبعبارة أخرى إن تنظيم الحياة بالفضاء المدرسي على أساس حقوق الإنسان يمكّن التلاميذ كما سائر الفاعلين الآخرين من ترجمة المعارف إلى مواقف وسلوكيات من ناحية، ومن تدريب المتعلّمين على وجه الخصوص على النظر إلى الواقع التربوي بنظرة مغايرة لا تختزله بالمرّة في القيام بالواجب من ناحية أخرى. ومن هنا يصير القدوم إلى المدرسة ممارسة لحق، وهو حق التعليم.
*أسس حقوقيّة تتّصل بحقوق الطفل، فمن المعروف أن من ينتمون إلى المدرسة هم الأطفال، أي هم في غالب الأحيان من لم تتخط أعمارهم الثامنة عشر. وكونهم تلاميذا لا يفقدهم شيئا من حقوقهم كأطفال وهي حقوق ضمنتها لهم النصوص الدوليّة والإقليميّة والوطنيّة (الاتّفاقية الدوليّة لحقوق الطفل/ مجلّة حماية الطفل…). بمعنى أن برامج التربية المدنيّة عملت على التأسيس لرؤية جديدة للتلميذ وهي رؤية تجعله صاحب حق، وبقيّة الأطراف التعليميّة قائمة بالواجب، وهي رؤية تجديديّة تنسجم مع تلك المقاربات البيداغوجيّة التي تُعتبر الطفل محور العمليّة التربويّة.
*أسس بيداغوجيّة: والمقصود بها الانتصار إلى المقاربات البيداغوجيّة التي تجعل الطفل شريكا فاعلا في العمليّة التربوية وليس مجرّد طرف سلبي متقبّل للمعلومات، ومُطيع للأوامر. فهو طرف مسؤول، ومن هذا المنطلق تكون التربية على حقوق الإنسان تربية على بناء ذات المتعلّم الفاعلة، أي المتعلّم القادر على المبادرة، وعلى تحمّل المسؤولية.
*أسس ذات علاقة بهويّة التربية المدنيّة: تطمح هذه المادة إلى إنتاج وعي يكرّس قيم المواطنة وحقوق الإنسان، فهي تطمح “إلى المساهمة في إنتاج وعي يكرّس قيم المواطنة وممارستها، وكلّ ما تشير إليه تلك القيم والمفاهيم من معان تتّصل بالحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان كما هي معترف بها في التشريعات الوطنيّة والدولية، الأمر الذي يمكّن المتعلّمين من توظيف التواصل مع الآخرين ومن فهم أفضل للعالم الذي ينتمون إليه، وتفاعل أرقى مع العصر الذي يعيشون فيه([36])”فالتربية المدنيّة “تعنى أيضا بتكوين المواطنة الواعية الناقدة والفعّالة([37])”، ومن ثمة فإنّه “لا يمكن أن يؤسّس المنهج المدرسي على مفاهيم التربية المدنيّة في غيبة من وعي القائمين على صناعة المناهج والمقرّرات الدراسيّة على تلك المفاهيم، الحريّة، الديمقراطيّة، حقوق الإنسان، قبول الآخر، تعظيم قدرات الإنسان دون تمييز أو تفرقة جنسيّة أو عرقيّة أو اجتماعيّة، أو دينيّة أو سياسيّة …الخ([38])”. بمعنى أن هدف التربية المدنيّة الذي هو “تحويل المواطن من حالة المواطنة بالقوة إلى حالة المواطنة بالفعل([39])” يفترض إيلاء تلك المادة اهتماما كبيرا لمكوّن أساسي من مكوّنات المواطنة وهو حقوق الإنسان. بمعنى أن مقاربة التربية المدنية لحقوق الإنسان محدّدة بهدف عام وهو تكوين المواطن الفاعل، أي المواطن صاحب الحق من ناحية، والمتحمّل للمسؤوليّة من ناحية أخرى، بمعنى بناء المواطن الواعي بجدليّة حقوق الذات وحقوق الآخر.
*أسس على علاقة بغائيات النظام التربوي التونسي التي حدّدت ملامح المتخرّج من المدرسة التونسيّة وتحديدا الأبعاد الشخصية والمدنية كما ضبطتها وثيقة “برنامج البرامج” والتي هي على النحو الآتي([40]):
البعد الشخصي | البعد المدني |
الاعتزاز بتونس | التجذّر في الهويّة الوطنيّة |
الاعتزاز بالذات | القدرة على العيش مع الآخرين |
التّفاعل الإيجابي مع المحيط القريب والبعيد | احترام الغير |
الثقة في النفس | التسامح فكرا وسلوكا |
الاستقلاليّة فكرا وممارسة | التّضامن |
الحرص على التفوّق والتميّز | احترام القانون |
القدرة على الاجتهاد والتجديد | تقديس العمل وإتقانه |
النزاهة | رحابة الصدر وتقبّل النقد |
إن هذه الأسس المختلفة والمترابطة تجعل من مادة حقوق الإنسان وسيلة وغاية، وهو ما يحتّم إرساء تمشّي إنجاز ينسجم مع تلك الأسس.
5. منطق الإنجاز:
يقوم منطق الإنجاز – مثلما حدّدته البرامج الرسميّة- على جملة من المبادئ التي نوردها تباعا في النقاط الآتية:
الحقوق والحريات أشمل بكثير من محتوى معرفي يقدّم للتلميذ ليمتحن فيه، فتنتهي صلوحيته بانتهاء الامتحان.
الحقوق والحريات التي يتمّ تناولها في المرحلتين الإعداديّة والثانويّة تنشد بناء المواقف والميولات التي تترجم لاحقا إلى سلوك مدني يقوم على التفاهم والحوار وحلّ الخلافات بطرق سلميّة. وبعبارة أخرى تروم التربية المدنيّة من خلال تركيزها على حقوق الإنسان ترسيخ السلوك المدني الذي يقوم على احترام المغايرة وعلى تثمين التنوّع والتعدّد ورفض الانتصار الآلي للتجانس والانصهار.
تنجز التربية على حقوق الإنسان انطلاقا من مبدأ أن التلميذ محور العمليّة التربوية، ومن كون تعلّم حقوق الإنسان لا يُختزل في البعد النظري. ومن هنا شدّدت البرامج الرسميّة لمادة التربية المدنيّة على أن “يقوم التعلّم على الفعل فيجعل من المتعلّم طرفا فاعلا يقدر على تملّك المعرفة ذاتيا، ويكتسب المهارات فرديا وجماعيا من أجل إيجاد الحلول لما قد يعترضه من صعوبات ومشكلات في حياته اليوميّة([41])”. ومن أجل ذلك “يتوجّب النظر إلى المعارف والطرائق والوسائل والمنهجيات نظرة غائيّة تنزلها منزلة الموارد التي ينبغي تعبئتها وتوظيفها لمواجهة وضعيات وحلّ مشكلات لها علاقة بحياة المتعلّمين…([42])”. وهذا يتطلّب من المدرّس أن “يقترح ويوجّه ويعدّل وينشّط وينظّم التدخلات ويساعد المتعلّمين على استخدام تقنيات الحوار ويدرّبهم على كيفيّة صياغة السؤال والإصغاء والإجابة. ويقتضي هذا التمشّي توفير مناخ من الحريّة لتحفيز المتعلّمين وتشجيعهم على المشاركة بتلقائيّة وتدريبهم على تنمية ملكة السّمع النقدي وتطوير ملكات الإبداع والابتكار لديهم([43])”.
يبدو منطق الإنجاز مثلما ضبطته البرامج الرسميّة لمادة التربية المدنيّة منسجما مع طبيعة التربية على حقوق الإنسان كتربية هادفة إلى تمكين المتعلّم لا فقط من اكتساب المعارف الحقوقيّة وإنما خاصة تمكينه من بناء مواقف وميولات تُترجم إلى سلوك يومي يقف في وجه انتهاكات حقوق الإنسان. ولكن هذا التوجّه لم يكن من الهيّن ترجمته إلى واقع فعلي فقد اصطدمت عمليّة توطينه بمعيقات مختلفة جعلته يواجه في حالات كثيرة صعوبات جمّة.
6. مُعيقات توطين التربية على حقوق الإنسان في التجربة التونسيّة:
من المفيد التذكير بأن تونس لم تُفرد التربية على حقوق الإنسان بمادة دراسيّة مستقلّة بذاتها، بل اعتمدت مقاربة شبه أفقية وعابرة للمواد، كانت فيها التربية المدنية قاطرة، ولكن هذا الاختيار واجهته صعوبات من بينها مفارقة الواقع المجتمعي لتوجّهات المدرسة ومن بينها أيضا صراع المنهج الظاهر والمنهج الخفي فضلا عن صعوبة التقييم المناسب لمسألة تتعلّق بالمواقف والاتّجاهات والسلوكيات أكثر مما تتّصل بالمعارف.
مفارقة الواقع المجتمعي لتوجّهات المدرسة: ويُقصد بذلك تلك المفارقة التي كان يعيشها المتعلّمون والمعلّمون على حد سواء، والتي كانت عائقا فعليّا لتوطين التربية على حقوق الإنسان، والمتمثّلة في مفارقة الواقع المجتمعي لما رسمته المدرسة من أهداف تتّصل بتكوين المتعلّم الواثق من نفسه والمنتصر لحقوق الإنسان والمتحمّل لمسؤولية الحفاظ عليها ونشر ثقافتها، فإن الواقع الاجتماعي التونسي كان يعرف انتشار ظواهر المحاباة والزبونية، ومختلف أشكال المفاضلة والتمييز بين الناس، الأمر الذي يجعل التناقض صارخا بين قيم تنشد المؤسّسة التربويّة تبيئتها وبين واقع عملي ويومي تسود فيه ممارسات لا صلة بها تلك القيم، إن لم تكن مناقضة لها تماما. ومن هنا شكّلت هذه المفارقة إحدى أهم الصعوبات في وجه تربية حقوقية تمكّن المتعلّم من تجاوز النظرة الاختزاليّة لحقوق الإنسان والتي صيّرتها مادة معرفيّة لا غير. وقد سبّبت تلك المفارقة إحراجا لكثير من المربيّات والمربّين عند مجابهتهم من التلاميذ بأمثلة واقعيّة عن انتهاك حقوق الإنسان (مثل تزوير الانتخابات،…).
تضارب المنهج الصريح والمنهج الخفي: ما تفصح عنه البرامج الرسمية هو المنهج الصريح، أي المعلن عنه بصفة رسميّة، وفي هذا المجال نجد أن البرامج الرسميّة للتربية المدنيّة تنصّ على أن هذه الأخيرة “تطمح إلى المساهمة في إنتاج وعي يكرّس قيم المواطنة وممارستها، وكلّ ما تشير إليه تلك المفاهيم من معان تتّصل بالحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان كما هي معترف بها في التشريعات الوطنيّةوالدوليّة..([44]).”…،كماتؤكّد ذات البرامج على ما تسعى التربية المدنيّة إلى بلورته وإنجازه من خلال أهدافها العامة وهو([45]):
تبنّي قيم المواطنة والمدنيّة وحقوق الإنسان استعدادا للمشاركة في الحياة العامة.
بناء موقف إيجابي مستقلّ في ضوء ممارسة الفكر النقدي.
وحتى يتحقّق ذلك “يقوم المتعلّمون في القسم بتحليل الظواهر الاجتماعيّة ودراسة الحالات والتدرّب على قواعد الحوار وكيفيّة إبداء الرأي والدفاع عنهوتفهّم الرأي المخالف والوعي بفضائل التسامح والاعتدال ونسبيّة الحقائق والنقاش الحرّ وآداب التواصل كما يكتسبون الحسّ المدني ويعون بحقوقهم ومسؤولياتهم ويتحفّزون لممارسة تلك الحقوق وتحمّل المسؤوليات ليكونوا مواطنين فاعلين في نطاق عالمي جديد وفي فضاء ثقافة كونيّة([46])”. ولكن واقع الممارسة التربويّة لم يكن منسجما مع تلك التوجّهات، فقد اصطدم المنهج الصريح مع المنهج الضمني الذي يعني “تلك المعارف والقيم والأفكار والأنظمة التي يتعلّمها الطالب داخل المدرسة بدون تخطيط من المشرفين أو المديرين أو المدرّسين نتيجة الاحتكاك بالأقران أو نظام المدرسة أو لطرق التدريس المستخدمة أو للفهم الذاتي للمعرفة([47])”. أي أنّنا يمكن أن نقف على المنهج الخفي عند “ما يتعلّمه التلاميذ من طبيعة العلاقة بين المدير والمعلّمين، من أسلوب تعامل المعلّمين مع التلاميذ ، ومن علاقة المتعلّمين مع بعضهم البعض، من ترتيب الفصول ونوع الأثاث ووضعه في المدرسة، ومن خلفيات المعلّمين العلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ومن توزيع الوقت الدراسي، ومثل ذلك من اللّوائح والأنظمة والتعليمات التي تطبّق على التلاميذ([48])”.
لقد كانت الممارسات التربويّة اليوميّة – ولازالت – في الغالب الأحيان في قطيعة مع ما ترنو التربية على حقوق الإنسان تحقيقه. فلا زال التوجّه الطاغي هو تقديم تلك الحقوق في شكل معارف، ولايزال التلاميذ يتعاملون معها في الغالب على أنها كذلك، وبالتالي كان تأثيرها في سلوكياتهم محدودا. بمعنى أن التدبير اليومي للممارسة التربويّة والممارسة اليوميّة في الفصل واللّوائح المنظّمة للحياة بالمؤسّسة التربويّة ليست في انسجام تام مع ما ينصّ عليه المنهج الصريح.
إن تضارب المنهج الصريح الداعي إلى تمكين المتعلّم من هامش كبير من الاستقلاليّة والحريّة مع المنهج الخفي الذي لا يزال يركز على الطاعة وعلى الولاء للمعلّم أعاق بطريقة أو بأخرى تبيئة حقوق الإنسان على النحو المطلوب لدى الناشئة. فقد ظلّت النظرة إلى حقوق الإنسان محكومة بنظرة المعلّم وفي كثير من الأحيان بمواقفه الايديولوجيّة.
ج- في صعوبة التقييم:
التقييم هو “عملية يتمّ بها إصدار حكم على مدى وصول العمليّة التعليميّة لأهدافها ومدى تحقيقها لأغراضها، والكشف على نواحي النقص في العملية التربوية أثناء سيرها. والعمليّة التي يلجأ إليها المعلّم لمعرفة مدى نجاحه في تحقيق الأهداف، مستخدما أنواعا مختلفة من الأدوات التي يتمّ تحديد نوعها على ضوء الهدف المراد قياسه، كالاختبارات التحصيليّة ومقاييس الاتجّاهات والميول، ومقاييس القيم والملاحظات والمقابلات الشخصيّة، وتحليل المضمون وغير ذلك من المقاييس الأخرى([49])” ويعتبر التقييم /التقويم ركنا مركزيّا في العمليّة التربوية، ذلك أنّه موكول له تمكين مختلف الفاعلين التربويّين من تبيّن مدى تحقق الأهداف المرسومة.
تشير البرامج الرسميّة لمادة التربية المدنية إلى أن التقييم “يأخذ أثناء التعلّم طابعا تكوينيّا([50])” وعلى أنه ينبغي أن يحتوي على ثلاثة أبعاد وهي([51]):
التشخيص: وهو عمليّة تصنيف وتحليل لصعوبات التعلّم وتحليلها.
العلاج: ويستهدف تعديل التعلّم ونسقه.
التقييم: وغايته التعرّف إلى مدى تحقّق الأهداف.
وعلى الرغم من هذه الإشارات وغيرها مثل تلك التي تفصل أصناف التقييم([52]) فإن التقييم ظلّ موطن ضعف ذلك أنّه اقتصر في الغالب على تقييم المعارف، ولا يلامس المواقف والميولات والسلوكيات إلا في حالات قليلة. فقد سمح لنا الاطّلاع على عيّنة كبيرة من الامتحانات في مادة التربية المدنية (حوالي 400 امتحانا)، وتبيّن لنا أن الهاجس المعرفي هو المهيمن. بمعنى آخر، وبلغة بيداغوجيا الأهداف، لقد ظلّت الأهداف المعرفيّة هي التي تقيّم من قبيل أذكر أمثلة من الجيل الأول لحقوق الإنسان، أو الجيل الثاني، أو عرّف هذا الحق أو ذلك، ولم تنل الأهداف الوجدانيّة – السلوكيّة من الاهتمام إلا القليل.
تكشف أنواع التقييم السائدة عن صعوبات التقييم في المواد التي يفترض أنها تستهدف بناء المواقف (الالتزام)، والعمل على تغيير الواقع من خلال تلك المواقف والميولات التي تترجم إلى سلوكيّات يوميّة تعبّر فعلا عن استيعاب تلك المفاهيم الحقوقيّة والالتزام بها مثلما يوضح مثلث تيبتز الذي تمّت الإشارة إليه سلفا.
تبيّن صعوبات التقييم في مادة التربية المدنيّة – التي اعتمدت كقاطرة للتربية على حقوق الإنسان منذ الإصلاح التربوي سنة 1991 – أن وراء تلك الصعوبات عوائق تتّصل بما يسمّى بيداغوجيا المجال الوجداني، وهي متعدّدة منها ما يعرف بالعائق الثقافي، الذي يجعل من الأهداف المتّصلة بالمواقف والقيم والمعتقدات مسألة شخصيّة يحتفظ الفرد بها لنفسه، ويرفض أن تكون موضع تقييم أو حكم، وبالتالي فإن الإحجام عن التصريح بها له ما يبرّره. ويضاف إلى ذلك العائق “الثقافي” صنف ثان من العوائق يتعلّق بالظهور البطيء للأهداف الوجدانية. فعلى خلاف الأهداف المعرفيّة التي تظهر نتائجها في فترة قصيرة نسبيّا (سنة واحدة/ مرحلة تعليميّة واحدة)، فإنّ الأهداف المتّصلة بالميولات والمواقف والاتّجاهات وخصائص الشخصيّة تبدو بطيئة نسبيّا ولا تبدو للعيان في أساليب التقييم المعتمدة إلا بعد مضي فترات طويلة من الزمن قد تمتدّ إلى سنوات([53]).
إن تعثّر التقييم وعدم ملامسته للجوانب المميّزة للتربية على حقوق الإنسان، يجعل من التربية على حقوق الإنسان تتحوّل إلى مادة دراسيّة “تقليدية” تخضع للمنطق العادي للامتحانات، الأمر الذي ينزع عنها خصوصيّة تنفرد بها ألا وهي بناء الذات الفاعلة le sujet لدى المتعلّم بما تعنيه من قدرة على تحوّل الأفراد والمجموعات من التلاميذ إلى فاعلين des acteurs في مجتمعهم، وهي خصوصيّة تستدعي أكثر من تغيير طريقة التقييم، إنها تتطلّب مقاربة بيداغوجيّة متكاملة يكون فيها التقييم من جنس التعلّم.
ملاحظات ختامية:
*يمثّل المدخل التربوي لنشر ثقافة حقوق الإنسان وترسيخها تحديا بالنسبة إلى المنظومات التربويّة ولاسيما منها منظومات الدول المتّجهة نحو الديمقراطيّة (مثل المنظومة التربويّة التونسيّة)، فهذا المدخل يؤسّس لممارسة تقطع مع نخبوية حقوق الإنسان التي جعلتها مجالا مغلقا تحتكره النخب السياسية والقانونية والأكاديميّة، كما أنّه يؤسّس لممارسة تربويّة مغايرة.
*يعتبر حضور التربية على حقوق الإنسان من خلال التربية المدنيّة مثريا للمنظومة التربويّة التونسيّة.
*تبدو اليوم الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى للتربية على حقوق الإنسان، خاصة في ظلّ التحوّل الاجتماعي الكبير الذي يعيش على وقعه المجتمع التونسي، والذي يطرح بقوة مسألة تدبير التنوّع والتعدّد في ظلّ مجتمع ديمقراطي، وينبغي مراعاة هذه الحاجة عند بناء وضع أي إصلاح تربوي جديد.
*تتطلّب التربية على حقوق الإنسان تمشيّا يجيب عن سؤال محوري ألا وهو كيف تكون هذه التربية مدخلا ناجعا فعلا لترسيخ ثقافة احترام حقوق الإنسان والالتزام بها، وهو سؤال لا يغيّب المعارف، ولكنّه لا يختزل المادة الحقوقيّة فيها.
*تستدعي الإجابة عن سؤال الكيف مقاربة متعدّدة الأبعاد تتعلّق بكيفيّة بناء المنهاج التربوي (البرامج والكتب وشبكة المواد واستراتيجيّات التعلّم والتقييم) بكيّفية تكوين الفاعلين التربويين لاسيما منهم المربيّن حتى يتسنّى لهم تجسيم التربية على حقوق الإنسانوفق ما تقتضيهوتتطلّبه خصوصيّة تلك التربية.
(محاماه نت)