دراسات قانونية
المواطنة ومفهومها في الفكر الغربي والإسلامي (بحث قانوني)
مفهوم المواطنة، بين التأصيل الإسلامي والحداثة الغربية
أ. د. عبد الله لبوز، أستاذ علم النفس التربوي، قسم علم النفس وعلوم التربية
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية – جامعة قاصدي مرباح ورقلة (الجزائر)
ملخص:
هدفت هذه المداخلة إلى إلقاء الضوء على مفهوم المواطنة بين التناولين: الأول التأصيل الإسلامي الذي سبق الحضارة الحديثة في إبرازه لقيم تتعلق بحقوق الإنسان، والثاني التناول الغربي الحداثي الذي أبرز المعنى الديمقراطي للمواطنة، ولكن يبقى هذا المفهوم نقطة الالتقاء يعبر عن المشاركة المجتمعية في السلطة والمسؤولية واتخاذ القرار، باعتباره مفهومًا حيويّا يتفاعل مع الظروف والتطورات المختلفة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات، لذلك عالجنا المفهوم في عمومه من خلال قيّم مهمّة ارتأيناها لتشكل معايير تقدم التفكير الحضاري من خلال الصفحات التالية.
Abstract:
The present intervention aimed at shedding light on the concept of citizenship between Islamic and Western modernist approaches. The first is the Islamic rooting which preceded the modern civilization in highlighting values related to human rights. The second is the modern Western approach that highlighted the democratic meaning of citizenship that interacts with the different social, political and economic conditions and developments of societies. Therefore, we have addressed the concept in general through important values we have seen to form the criteria for the advancement of civilizational thinking through this intervention.
المقدمة:
تعدّ المواطنة والتربية عليها من أعقد وأعسر المهمّات التي واجهت الدّول والأمم قديمًا وحديثًا سواء كانت متقدّمة أو متخلفة، نظرًا لصعوبة تحديد المفهوم الدقيق لها من جهة، وكونها ممارسة في أرض الواقع من جهة أخرى، لذلك فإنّ تكوين الموّاطن الصّالح واجهته عراقيل على مرّ الأزمنة والعصور، كونه يكشف الوضع الحقيقي لأيّ أمّة أو حضارة، ويعبر عن مدى صمود مشروعها الحضاري وقوّة قيّمها وفلسفتها الاجتماعيّة والتربويّة وصلابة أيديولوجيّتها العقديّة، ولقد أولت الدّول جلّ اهتمامها لتكريس ذلك، لأنها أدركت أنّ الاهتمام بالرّأسمال البشري يعدّ الاستثمار الحقيقي بل هو أرقى أنواعه.
من هذا المنطلق تتجلى أهميّة التأكيد على هذا المفهوم المركزي، لأنّ أيّ تقدّم لا يحدث إذا لم يكن الفرد واعيًا بحقوقه وواجباته ودوره في اتخاذ القرارات المصيريّة، وذو شخصيّة وطنيّة، متشبّعة بالقيّم الوطنيّة وحبّ الوطن والولاء له والاعتزاز بالانتساب إليه من إدراك أبعاده الجغرافيّة واللغويّة والتاريخيّة والثقافيّة، وتكوين الشّخصية المتفتحة على القيّم العالميّة.IMG_0758
وسنحدد في هذه المداخلة مجموعة من القيّم تشكل المواطن الصالح الذي كان ولا يزال هدف كل تربية عبر العصور إلى تكوينه، تتمثل تلك القيم في: (الاستقلالية، التفكير الناقد، التسامح، التضامن وقبول الآخر، الانفتاح، التحرر من الأحقاد السياسية والاجتماعية)(*).
اعتمدت هذه المداخلة على تناول مفهوم المواطنة، هذا المصطلح الذي يعتمد في جوهره على الاعتراف بحقوق الفرد التي يجب أن يتمتع بها ويشبعها في ظل الكيان السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة التي يعيش في كنفها، ومن ثمة يقوم بواجباته كنتيجة طبيعية لما يتمتع به من حقوقه الأساسية المعترف بها.
ولا شك أن العلاقة التاريخية بين الفرد المواطن والدولة نشأت وتطورت بفعل تراكمات تاريخية اكتسب المواطن من خلالها في ظل عقد اجتماعي تلك الصفة وأصبح يطالب بالمزيد من الحقوق والحريات التي تؤكد على روح عصره لتصبح جزءًا من الثقافة السائدة في محيطه، مجسدة في شكل ديمقراطية ناضجة فعّالة، تجسد مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية، التي تتشكل عبر تنشئة اجتماعية سليمة التي لا يمكن أن يتحقق بدونها، تحت كنف المواطنة الديمقراطية التي يكفلها الدستور وتحميها القوانين وترعاها الدولة.
من هنا جاءت هذه الصفحات لتعرض هذا المفهوم بين التناولين الإسلامي باعتباره فترة أثرت في الفكر الإنساني من جهة، والنتاول الغربي للمفهوم وكيف تبلور في شكله المعاصر الممارس في الحياة العامة للأفراد من جهة أخرى، سواءً ما يتعلق بفكر هذا التناول الأخير بالشق المدني أو السياسي أو الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في إطار وصفي تحليلي.
1- المفهـوم الإسلامي للموّاطنة:
اختلف الباحثون بشأن تحديد معنى المواطنة، فنجد أنّ كل من قدّم تعريفًا انطلق من قواعد وأسس وأبعاد البيئة المؤثرة فيه، فالتعريف الإسلامي للموّاطنة ينطلق من خلال القواعد والأسس التي تنبني عليها الرّؤية الإسلاميّة لعنصري المواطنة وهما الوطن والمواطن، وبالتالي فإنّ الشّريعة الإسلاميّة ترى أنّ المواطنة هي تعبير عن الصّلة التي تربط بين المسلم كفرد وعناصر الأمّة، وهي الأفراد المسلمين، والحاكم والإمام، وتتوج هذه الصّلات جميعًا الصلة التي تجمع بين المسلمين وحكامهم من جهة، وبين الأرض التي يقيمون عليها من جهة أخرى، وبمعنى آخر فإنّ المواطنة هي تعبير عن طبيعة وجوهر الصّلات القائمة بين دار الإسلام وهي (وطن الإسلام) وبين من يقيمون على هذا الوطن أو هذه الدّار من المسلمين وغيرهم. (هويدي، 1995)، ويؤكّد ذلك (القحطاني) بقوله إنَّ مفهوم المواطنة من المنظور الإسلامي هو “مجموع العلاقات والرّوابط والصّلات التي تنشأ بين دار الإسلام وكل من يقطن هذه الدّار سواء أكانوا مسلمين أم ذمّيين أم مستأمنين”. (القحطاني، 1998).
أمّا في السّنّة النّبويّة فلنا في رسول الله أسوة حسنة حين خاطب وطنه الحبيب مكّة المكرّمة رغم قسوة أهلها عليه، حين أمره الله بالخروج منها والهجرة إلى المدينة المنوّرة، فقال (عليه الصّلاة والسّلام): “واللهِ إنَّك أَحَبُّ بلَاد الله إلَى الله تَعَالَى، وَأَحَبُّ بلَاد الله إلَيَّ، وَلَولَا أنَّ أَهلَك أَخرَجُوني مَا خَرَجت”. (رواه أبو يعلى).
فبالنسبة لقيمة الاستقـلالية المشار غليها سلفًا فقد هدف الإسلام إلى تكوين الشخصية، وتنمية الذات المستقلة قبل أن تتحمل هذه الدعوة، وقبل أن تتلقى أصولها ومبادئها، وهي بذلك تدْرك من البداية أنه لا فائدة من الإنسان المتحلل، الذي يكون تبعًا لغيره، وذيلاً لسواه؛ ولهذا كان أول توجيه صدر عن الوحي إلى الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم): {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5).
والقراءة هي مفتاح الثقافة، والثقافة هي ثمرة العلم، وبالعلم والمعرفة والثقافة تتكون الشخصية الإنسانية وتتحدد صفاتها وتتعمق أهدافها، وبعد أن يعطي الإسلام الإنسان المفتاح إلى المعرفة، يدفعه بقوة نحو العلم، ويوقظ حواسه إلى النظر، وينبه ضميره إلى اليقظة، ويحرك فكره إلى التأمل والتدبر، ثم ينتقل به إلى مرحلة التجرد؛ ولهذا يدعوه إلى التفكير البعيد عن المألوف والموروث، ولا يجعل سبيل فكره ماشيًا في طريق المحاكاة، وخطة التقليد لما كان عليه الأولون، أو لما تلقاه عن الآباء والأجداد، أو لما تعارف عليه الناس وآمنوا به وألفوه، وقد عاب القرآن الكريم على الأمم السّابقة ما وقعوا فيه من هذا البلاء، وأشار إلى ذلك في غير موضع، من ذلك قوله في حق أتباع شعيب (عليه السلام) الذين ناقشوا رسولهم على أساس نظرية متابعة الآباء؛ فقالوا له: {أَصَلواتُكَ تَامُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} (هود: 87)، واستنكر القرآن نظرية الاستمرار التي جادل قوم هود نبيهم عليها، فقالوا له: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُوْمِنِينَ} (هود: 53).
ويحث الإسلام على الاستقلال الذاتي، ليكون الشخص قائمًا بنفسِه، لا يصدر تفكيره إلا من وعيه، ولا يأتي فعله إلاَّ من عقله، فلا يكون تبعًا لعظيم أو لكبير، أو لحقير أو لصغير، ولا يكون إمَّعة لمجتمع أو لبيئة، أو لا جماعة، وإنما يكون جبهة مستقلة، وفي ذلك يقول الرسول (عليه الصَّلاة والسَّلام): (لا يكُنْ أحدُكُم إمَّعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطّنُوا أنفسَكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن تُحسنوا). رواه البخاري.
ثم يمضي الإسلام في صنع الشخصية الاستقلالية للإنسان، فينقلها من الإيجاب إلى الدفع والمقاومة، فيقر مبدأ جديدًا لحماية الاستقلال الذاتي للإنسان، حيث يقول الرسول (عليه الصلاة والسلام): (لا طاعة لمن لم يُطِعِ الله). رواه أحمد.
ويصل الإسلام إلى قمة الاستقلال الذاتي للإنسان، حينما يصل إلى ساعة الاحتكام على دعوته بالذات، فلا يمليها على الإنسان ولا يفرضها، وإنما يعطي الضمان لحرية الإنسان، فيقرر الإسلام بصراحة كاملة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6).
وإذا كان الداعون لبعض الديانات أو المعتقدات المذهبية أو السياسية يلجأون إلى اتخاذ وسائل خفيّة لنشر ما يدعون إليه؛ مثل اصطياد اليتامى وإيوائهم في الملاجئ التي ينشئونها، أو اصطياد الأطفال الذين لا مكان لهم في المدارس؛ ليدخلوهم إلى مدارسهم التي تنفق عليْها الدول التي تساعد هؤلاء المبشّرين بسخاء، أو تلجأ إلى افتِتاح المستشفيات لاصطِياد المرضى الذين لا يجدون الطعام ولا العلاج، ثم يجدون في هذه الوسائل الطريقة الملتوية لنشر دعواتهم عن طريق الخداع والإغراء، وبالخفاء أو بالسُّلطة والمال، فإنّ الإسلام لم يفعل ذلك أبدًا، ولكنه دائمًا -وفي جميع العصور- كتاب منشور، ودعوة مفتوحة، وإخاءٌ صادق مبذول، يقدم للإنسانية في كل مكان، فإذا بها تتدافع نحوه مؤمنة ملبّية، ومستجيبة بلا تحايل، وبدون إغراء أو خداع، شاعرة بأن ما تفعله إنما تفعله عن طواعية ورضاء وقبول، وبكامل حريتها، واستقلال شخصيتها، ولهذا لا يحس المسلم عندما يدخل للإسلام أنه خدع أو وقع تحت تأثير، وإنما يحس أنه تقدم راغبًا، وأنه كسب به ولم يخسر شيئًا من ذاته ولا كيانه.
ولقد حمى الإسلام الشخصية الإنسانية فحرم العدوان بالفكر على الغير، وحرم اقتحام منزله وجميع خصوصياته المستورة، كما حرّم التّشهير به؛ ولهذا حرّم الظنّ السيئ والتجسّس والغيبة؛ وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (الحجرات: 12)، ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (إيَّاكم والظنَّ؛ فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث، ولا تجسَّسوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا). رواه البخاري.
وبذلك حمى الإسلام السيرة الشخصيّة للإنسان؛ فهو لا يعاقب على الجرائم المستورة التِي لم يُبْدِ صاحبها صفحته للمجتمع، وقد ورد في هذا الشّأن قوله (عليه الصّلاة والسّلام): (أيُّها النَّاس، مَن أصاب من هذه القاذورات شيئًا، فلْيستتِرْ بستر الله، ومَن أبدى صفحتَه، أقَمْنا عليه الحد)؛ رواه مالك.
لقد أقرَّ الإسلام من مئات السنين -والعالم يغمره الظّلام والعدوان والجور والاستبداد- ما تدّعيه الحضارة المعاصرة وتفاخر به، ممّا يسمّونه بـ “الحقوق الشخصيّة” للإنسان، وذلك امتداد لاستقلال الشخصيّة والحفاظ عليها، وبهذه المبادئ الواضحة والأصيلة يضع الإسلام الضّمانات لاستقلال الذّات الإنسانيّة، وحماية خصوصياتها؛ محقّقًا الغاية التي يهدف إليها من تكريم الإنسان وإعزازه، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70)، كما كرَّم الإسلامُ الإنسانَ وصان شخصيَّته واستقلالَها، فقد منح العقْل قدْرَهُ، وأعطاه منزلته.
أما التفكير النـاقـد فيعتقد كثير من الباحثين أنه وليد التربية الحديثة، وفي الحقيقة إن المتتبع للفكر التربوي الإسلامي، يجد أن القرآن الكريم قد وجه الناس إلى ذلك في كثير من المواضع، حيث وردت العديد من الآيات التي تحض على استخدام العقل وحسن توظيفه وتدعو إلى التفكير والتأمل والتبصر، فمثالاً لا حصرًا قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. (آل عمران: 191). ويقول في موضع آخر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6).
وما دار بين (إبراهيم، عليه السلام) وقومه يعكس مهارات التفكير الناقد بجلاء، يقول تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إني وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. (الأنعام: 76-78).
وإذا انتقلنا إلى السنة النبوية، نجد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، كثيرًا ما كان يقوِّم أقوال وأفعال صحابته رضي الله عنهم، ويتضح ذلك من موقفه من الرجل الذي دخل المسجد وبال فيه، روى البخاري في صحيحه عن (أنس بن مالك، رضي الله عنه) قال: “بينما نحن في المسجد مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جاء إعرابيًا فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم): مه مه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لا تزرموه دعوه فتركوه حتى بال ثم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل، وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه، وكان يقوّم أقوال وأفعال صحابته رضي الله عنهم، ونذكر من ذلك: أنه دخل رجل المسجد فصلى ركعتين، ثم قام وسلم على الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فرد عليه وقال ارجع فصل فإنك لم تصل، فقام الرجل فصلى، ثم سلم على النبي (عليه الصلاة والسلام). (رواه البخاري).
وكذلك أدرك الخلفاء الراشدون أهمية التفكير الناقد في أوجه الحياة كافة وجعلوه من أهم الأسس والأركان التي بنوا عليها خلافتهم.. يقول (أبو بكر الصديق، رضي الله عنه) عندما بويع للخلافة: “يا أيّها الناس إني قد ولّيت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني”. وأيضًا تبني الخليفة (عمر بن الخطاب، رضي الله عنه) منهج التفكير الناقد، وشجع المسلمين على ممارسته، ورأى بأن التفكير الناقد حق لهم، وفي الوقت ذاته واجب عليهم لكي يقوّموا خليفتهم، لأنه بشر، والبشر خطاءون.
ويقول الغزالي: “ولم أزل في عنفوان شبابي منذ أرهقت إلى الآن أقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل ظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، واستكشف أسرار مذهب كل طائفة لأميّز بين محقّ ومبطل، ومتسنّن ومبدع”.
وقد نتج عن تبني (الغزالي) لهذا النمط من التفكير أن رتّب مسائل الفلسفة أولاً في كتابه (مقاصد الفلاسفة) وعرض فيه الكثير من الآراء والبراهين المشبهة لها في جلاء ووضوح بحيث أتهمه بعض معاصريه أنه يساعد الفلاسفة على نشر أفكارهم بعرضها بهذه الصورة الواضحة الكاملة، ثم ألف كتابه (تهافت الفلاسفة) حيث أحصى فيه مسائل الفلسفة في عشرين مسألة، وكفر الفلاسفة في ثلاثة منها وبدعهم في السبعة عشرة الباقية. (من موقع:
(www.facebook.com/Livres.et.recherches.en.psychologie/posts/588701101205135
ومن العلماء الذين اتضح عندهم نمط التفكير الناقد (ابن الجوزي)، وذلك في كتابه (تلبيس إبليس)، ويتبين لنا من ذلك أن إتباع العلماء المسلمين للتفكير الناقد أثرى المكتبة الإسلامية بعدة مصنفات نقدية مهمة عالجت الكثير من القضايا بأساليب مختلفة، ووفق خطوات علميّة إجرائيّة.
أما عن التســامح فلغة من السّماح والجود والصّفح والتساهل والغفران، وهو قناعة وقاعدة سلوكيّة تنبني على الإيمان بالآخر المختلف عني وتقبّل آرائه وترك الحريّة له كي يعبّر عن مواقفه ومعتقداته مهما كان اختلافنا معه.
أما عن حقيقة التسامح في الإسلام فثمّة مداخل منهجيّة عديدة لتوضيح مفهوم التسامح في المنظور الإسلامي، إلاّ أنّ من أهمّ هذه المداخل هي تلك المرتبطة بطبيعة الإسلام وتشريعاته ونظمه، إذ لا يمكننا منهجيًّا أن نتصوّر تشريعات الإسلام وأحكامه ونظمه بكل مستوياتها، بعيدًا عن حقيقة التسامح التي تحتضنها كلّ قيّم وتشريعات الإسلام، ووجود مفارقة صارخة على هذا الصّعيد بين قيّم الإسلام ومثله وواقع المسلمين المليء بالكثير من المظاهر والحقائق المضادّة لمفهوم التسامح… يدفعنا إلى الإصرار على أهميّة اكتشاف رؤية الإسلام لمفهوم التسامح، من داخل قيمه ومن الطبيعة التشريعيّة والقانونيّة التي تمثلها قيّم الإسلام ونظمه الأساسيّة.
ففي الإسلام تعتبر الكلمة أوّل وآخر شيء في الدّعوة، ذلك لأنّ الدّعوة إلى الله تعالى لمّا كان الهدف منها إيصال الحق إلى القلوب، ليستقر فيها ويحرّك الإنسان باتجاه الفضيلة، فإنه من الضّروري أن تكون الكلمة الطيّبة هي الوسيلة الأساس في تحقيق هذا الهدف، بسبب ما فيها من رؤية ولين وقدرة على الإقناع، وبسبب ما تحققه من ضمانة الثبات والتمكّن لأفكارها في القلوب والسّلوك.. وهذا السّيّاق هو الذي تؤكّده الآيات الكريمة بوصفه الميّزة التي اختصت بها الدّعوة الإسلاميّة، التي أرادت السّمو بالإنسان إلى ملكوت الله تعالى والأنس بجواره.
فيقول تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ ربِّكَ بالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَّ أَحسَن}، (النحل: من الآية 125)، والموعظة الحسنة على حد تعبير بعض المفسرين هي: التي تدخل القلب برفق، وتعمق المشاعر بلطف، لا بالزّجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نيّة، فإنّ الرّفق في الموعظة كثيرًا ما يهدي القلوب الشّاردة ويؤلف القلوب النّافرة ويأتي بخير من الزّجر والتأنيب.. والدّعوة إلى سلوك الطريق الأحسن في مقام الجدل والصّراع الفكري، هي دعوة قرآنيّة تخاطب كل مجال من مجالات الصّراع في الحياة وتتصل بكل علاقة من علاقات الإنسان بأخيه الإنسان في مجالات الصّراع.. إنها دعوة الله إلى الإنسان في قوله تعالى: {ادفَع بِالَّتِي هِيَّ أَحسَن فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَة كَأَنَّهُ وَلِيٌ حَمِيم} (فصلت: 34).
إنّ المنظومة الأخلاقيّة والسّلوكيّة التي شرّعها الدّين الإسلامي من قبيل الرّفق والإيثار والعفو والإحسان والمداراة والقول الحسن والألفة والأمانة، وحثّ المؤمنين على الالتزام بها وجعلها سمة شخصيّتهم الخاصّة والعامّة، كلها تقتضي الالتزام بمضمون مبدأ التسامح.
بمعنى أنّ تجسيد المنظومة الأخلاقيّة على المستويين الفردي والاجتماعي، يفضي لا محالة إلى شيوع حالة التسامح في المحيط الاجتماعي، فالرّفق يتطلب توطين النّفس على التعامل الحضاري مع الآخرين، حتى ولو توفرت أسباب الاختلاف والتمايز معهم، والمداراة تقتضي القبول بالآخر، واليسر والتيسير يتطلبان التعايش مع الآخرين، وحتى ولو اختلفت معهم في القناعات والتوجّهات. (محمد محفوظ، http://www.kalema.net/v1/?rpt=755&art)
يقول عز وجل: {إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربَى وَيَنهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}، (النحل: 90)، ومن خلال هذه المنظومة القيميّة والأخلاقيّة، نرى أنّ المطلوب من الإنسان المسلم دائمًا وأبدًا وفي كل أحواله وأوضاعه أن يلتزم بمقتضيات التسامح ومتطلبات العدالة، فالتسامح كسلوك وموقف ليس منّة أو دليل ضعف وميوعة في الالتزام بالقيّم، بل هو من مقتضيات القيّم ومتطلبات الالتزام بالمبادئ، فالغلظة والشّدّة والعنف في العلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة، هي المناقضة للقيّم، وهي المضادة لطبيعة متطلبات الالتزام وهي دليل ضعف وخواء.
(محمد محفوظ، http://www.alriyadh.com/19329)
من هذا المنطلق فإنّ التسامح الذي يقود التعايش والاستقرار الاجتماعي وتطوير أواصر وأسباب التعاون بين مختلف أبناء وشرائح المجتمع، هو صميم القيّم الإسلاميّة النّبيلة، وكل إنسان خالف ذلك ومارس الغلظة والشّدة في علاقاته الإنسانيّة والاجتماعيّة لدواعي مختلفة هو الذي يحتاج إلى مبرّرات أيديولوجيّة واجتماعيّة.. فالأصل في العلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة، أن تكون علاقات قائمة على المحبة والمودّة والتآلف، حتى ولو تباينت الأفكار والمواقف، بل إنّ هذا التباين هو الذي يؤكّد ضرورة الالتزام بهذه القيّم والمبادئ. www.jeunessearabe.info/article.php3?id_article
أما عن التّضامن وقبول الآخر، فإنه يعتبر سلوك إنساني نبيل، يتمثل في التعاون والتآزر بين الأفراد والمجتمعات مادّيًّا ومعنويًّا، عند الشّدائد والكوارث ويكون عفويًّا أو منظمًا، في إطار جمعيّات منظمة إنسانيّة قال تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْر فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللهِ، وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْر يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}، (الآية 272 من سورة البقرة).
ومسألة حبّ الوطن والشّعور بالجماعة، تدلّ كما هو معروف “على الشّعور بالتضامن الذي يجمع بين أبناء المجتمع الواحد، ويشكّل القوّة الاجتماعيّة، غير أنّ الشّعور بالتضامن عند (الطهطاوي) يستخدم في بعض الأحيان بمعنى ضيق وجديد، لأنه لا يرى أنّ واجب المواطنين هو الخضوع السّلبي للسّلطة بل إنّ دورهم فيها إيجابي وهو مجتمع متمدن حقًا، ولا يعني عنده أيضًا الشّعور بالتضامن الواجبات المتبادلة بين أبناء الأمّة الإسلاميّة وحدهم، بل أيضًا على الواجبات المتبادلة بين الذين يعيشون في البلد الواحد، وهكذا يتخذ لديه حبّ الوطن معنى خاصّ هو الوطنيّة الإقليميّة بالمعنى الحديث”. (إسماعيل زروخي، 1998، ص101).
كما حرص الدّين الإسلامي على أن تصبح قيمة التعاون من القيّم الدينيّة التي ينبغي على المؤمن التحلي بها، يقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَان وَاتَّقُوا اللهَ إن الله شَدِيدُ العقَاب} (المائدة: 3)، ويقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم): “المُؤْمِنُ للمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يشُدُّ بَعْضَهُ بَعضًا” (متفق عليه)، ولولا تعاون وتضامن البشر ما كان هناك تقدّم وما كانت هناك حضارة.
ب- مجالات التضامن: يتجسد التضامن في مجالين اثنين هما: الوطني والدّولي.
* المجال الوطني: يمارس التضامن على مستوى العائلة، والمدرسة والحيّ والقرية ومكان العمل، والتضامن يكون مع المحتاجين والفقراء والعجزة والمعافين والمتضرّرين من الكوارث… وذلك في إطار جمعيّات الأحياء أو الجمعيّات الخيريّة، أو الهلال الأحمر ومؤسّسات الدّولة.
* المجال الدولي: يتمّ التضامن في هذا المجال بين الدّول والشّعوب، عن طريق منظمات دوليّة وجمعيّات إنسانيّة، كالهلال الأحمر وغيره، تقدّم مساعدات ماديّة ومعنويّة للمتضرّرين عند وقوع الكوارث: كالزّلازل والفيضانات والجفاف والأمراض والأوبئة والمجاعات والحروب وغيرها.
ج- أشكال التضامن: يمارس التضامن بأشكال ماديّة ومعنويّة مختلفة:
* التضامن المادي: يتم عن طريق التبرع بمبالغ ماليّة نقدًا، أو بواسطة صكوك بريديّة أو بنكيّة، تقديم أدويّة ومواد غذائيّة وألبسة وأغطيّة وخيّم وأدوات مدرسيّة، التبرّع بالدّم للمرضى والجرحى، المساهمة في الجمعيّات الخيريّة.
* التضامن المعنوي: مثل: زيارة المرضى والتخفيف من معاناتهم، المشاركة بأعمال تطوّعيّة، الدّفاع عن المظلوم والوقوف بجانبه بقول الحق، الحضور لمواساة المتضرّرين.
د- أهميّة التضامن: للتضامن أهميّة عظيمة في حياة الأفراد والمجتمعات لأنه يعمل على غرس الصّفات النّبيلة بين أفراد المجتمع من محبة وتعاون وحسن المعاملة، وفي:
توطيد العلاقات بين الأفراد والمجتمعات. التخفيف من أثار الكوارث والأزمات. بناء مجتمع سليم متماسك، متكافئ، قادر على مواجهة المصاعب، الحفاظ على القيّم العريقة لمجتمعنا، التعبئة لمواجهة الأخطار والكوارث، تعزيز الصّداقة والتعاون والسّلام بين الشّعوب، التخفيف من آلام النّاس، إنقاذ وإغاثة المنكوبين وإعانتهم.
أما عن الانفتـاح فإن الشريعة الإسلامية منذ فجرها كانت منفتحة على غيرها، فعندما نتحدّث عنه كقيمة من قيم المواطنة فإن انفتاح التربيّة على ثقافة المجتمعات بما فيها من عناصر، إنما تؤكّد على أنّ هذا الانفتاح لا يعني تقليد ومحاكاة أو مسايرة مجتمعات غربيّة أو غيرها، وإنما نعني أنّ التربيّة ينبغي عليها في عالم متغير أن تستفيد من التجارب العلميّة والخبرات التقنيّة، التي تمارسها المجتمعات المتقدّمة، ومن ثم تكييفها حسب تقاليد مجتمعاتنا ومثلها العليا وقيمها الأخلاقيّة، ومتطلبات التنميّة بها.
الدعوة إلى الانفتاح على الفكر الآخر الذي يراد به نتاج المعرفة الإنسانية فيما فيه منافع ومصالح عامة، فهذا أمر مشترك بين سائر البشر يستفيد فيه بعضهم من بعض دون نكير، وفي التاريخ الإسلامي صور ناصعة في الاستفادة مما لدى الآخر وتطويره وفق ضوابط الشريعة وأهدافها.
والانفتاح يكون لثلاثة أسباب جوهريّة:
1- أننا نعيش في عالم سريع التغير ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا وتقنيًّا وفكريًّا، ومن الواجب التّعرف على تلك المتغيرات، والخبرات والمعارف لغرض الاستفادة منها وليس لتقليدها.
2- الحرص على تزويد المواطن بالمعرفة وتنميتها لديه لجعله قادرًا على الإبداع والابتكار والتحديث.
3- أنّ تبادل المعلومات والخبرات الحديثة في التربيّة تجعل القائمين على تربية المواطنة أكثر كفاءةً، وأعمق خبرةً، وأوسع أفقًا في تطبيق العلوم الحديثة والتقنيّات المتقدّمة في مدارسهم وجامعاتهم.
يرى المفكّر الإسلامي (يوسف القرضاوي) “أنّ ما يخشاه من دعوة لانفتاح المجتمع الإسلامي على ثقافة الغرب، أن تكون دعوة التبعيّة المطلقة للحضارة الغربيّة والذوبان الكامل فيها وأخذ كل شيء منها وامتداد كل قيمة وكل مفهوم، وكل نظام وكل تقليد منها الخير الشّر والحلو والمرّ، والعلم والأدب، والمادّة والفكر والتصوّر والسّلوك”، كما يرى على أنه “لا حرج ولا بأس إذن من اقتباس العلم الطبيعي والرّياضي ونحوه، وإنما الحرج والبأس في اقتباس الثقافة والتقاليد والأفكار والمفاهيم، والقيّم والموازين التي تتميّز بها كل أمة عن غيرها”. (محمد الشبيني، 2000، ص114-115).
كما أنه لا يكفي للإنسان أن يعيش على أمجاد آبائه وأجداده، وإنما المطلوب دائمًا هو أن نسعى إلى صنع حاضرنا وتاريخنا، وبناء مجدنا من خلال جهدنا وعملنا المتواصل باتجاه العمران والتقديم، صحيح أن الآباء والأجداد، تمكنوا من بناء هذا الوطن وتجاوز الكثير من المخاطر والتحديّات التي واجهتهم في هذه المسيرة، ولكن لا يمكننا أن نعيش فقط على تلك الأمجاد والذّكريات، وإنما ومن مقتضى الوفاء للوطن ورجاله، أن تعمل معًا على صنع حاضرنا وتطوير راهننا وتجاوز محن واقعنا وتحدّيّاته، بالمزيد من الكفاح والبناء والعمران، وهذا بطبيعة الحال، يتطلب الانفتاح على حركة الحياة كلها، وذلك من أجل بلورة الفكر والرّؤية الجديدة، والمنهج الجديد والأساليب الجديدة التي تمكننا من بناء تجربتنا وتطوير واقعنا وتعزيز بنائنا الوطني. (محمد محفوظ، 2003، ص150).
من هذا المنطق “فإنّ المربّين ينبغي عليهم أن لا يحسّسونا بأنّ هناك تناقضًا بين التراث والمعاصرة، أو أنّ هناك فجوة عميقة تفصل بين ما ورثه المجتمع من عقيدة راسخة رفيعة، وعادات وتقاليد وقيّم عربيّة أصيلة، فثقافة العصر بما فيها من إبداعات وابتكارات في العمران والفنون والتكنولوجيا الحديثة فإنّ التوافقيّة بين القديم والحديث يجعل من عملية انتقال المجتمع من ثقافة تقليديّة إلى ثقافة معاصرة أكثر سهولةً ويسرًا عما يعتقد الكثيرون”. (محمد الشبيني، 2000، ص87).
أما عن التحرر من الأحقاد السّياسيّة والاجتماعيّة فقد روى (ابن كثير) في تاريخه أنّ (معاويّة بن أبي سفيان) لما زار المدينة المنورّة لأول مرّة بعد أن استقر له الملك في الشّام “توجه إلى دار (عثمان بن عفان، رضي الله عنه)، فلما دنا إلى باب الدّار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال معاويّة لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإنّ لي حاجة في هذه الدّار، فانصرفوا ودخل، فسكَّن عائشةَ بنت عثمان، وأمرها بالكفّ، وقال لها: يا بنت أخي، إنّ الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا، وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا ثمّ لا ندري أتكون لنا الدّائرة أم علينا”.
ب- صور الصّراع: لعل هذا النّص يصوّر أبلغ تصوير لمشكل الصّراعات الدّاخليّة في الدّول العربيّة في جذورها التاريخيّة، وأسبابها الاجتماعيّة والسّياسيّة، لقد قال (معاويّة) كلامه هذا في ظروف شبيهة إلى حد ما بالظروف السّياسيّة السّائدة في بعض الدول العربيّة اليوم والتي يمكن توضيحها فيما يلي:
– مجتمع ممزّق بصراعات مريرة على السّيادة، حلت الأحقاد السّياسيّة فيه محل التآخي والتعاضد، وأصبح الأخذ بالثأر والثأر المضاد هو السّائد.
– انقطاع التواصل الطبيعي بين الحاكم والمحكوم، بسبب تجاوز منطق التراضي والتدّافع السّلمي، وسيادة منطق القوّة والغلبة.
– قيّادة فرضت نفسها بالقوّة، واعتبرت السّلطة حقًا طبيعيًّا لها (أعطونا سلطاننا/ شحوا علينا بحقنا) لكنها فقدت الثقة في شعبها لعدم شرعيّتها.
– خوف تلك القيّادة الدّائم من شعبها، مما يجعلها تتحسب للثورات في كل وقت (فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثمّ لا ندري أتكون لنا الدّائرة أم علينا).
– شعب فقد الثقة في قيّادته، لأنها لم تقم لخياره وزنًا، وتجاوزت حدود العدل في الحكم والقسم (وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد).
– ثورات شعبيّة مشتتة الجهد، متضاربة الأهداف، لكل منها وجهة، فهي لا تعرف العمل المشترك، ولا تدرك ما يجمع بينها (ومع كل إنسان منهم شيعته).
كما أنّ الآليّات السّيّاسيّة التي استخدمها (معاوّية) ليست بعيدة عن الآليّات التي يستخدمها بعض قادة الدّول العربيّة اليوم، تعويضًا عن الشّرعيّة الضّائعة، وتغطيّة على الظلم السّيّاسي والاجتماعي السّائد، ومحاولةً لاحتواء الصّراعات الدّاخليّة، فقد اعتمد إستراتيجيّة “أنا أو الطوفان” أثناء الحرب، ثمّ تحوّل إلى إستراتيجيّة “الدّهاء والعطاء” بعدها، وهو أمر شبيه ببعض الآليّات المتبعة في بعض الدّول العربيّة حاليًّا.
ج- جذور الصّراع: إذا رجعنا إلى الجذور الحقيقيّة للصّراعات القائمة في دول العالم العربي الإسلامي وجدناها ذات صلة بميراث الاستعمار وظهور القوميّات، لقد تعايش العديد من الأقوام في هذه الدّول خلال قرون مديدة، دون صراع على موضوعات مثيرة للخلاف اليوم مثل موضوع اللغة والهويّة، وكان السّبب في ذلك هو أنّ الإسلام أدى إلى نوع من الانصهار والتمازج.
كما منح قدرًا من المرونة الدّاخليّة في المجتمعات الإسلاميّة، لكن ظاهرة الاستعمار ثمّ ظاهرة الأيديولوجيّة القوميّة التي تزامنت معه وأعقبته غيّرا هذه المعادلة، فلم يعد الانصهار القديم بين الأقوام قائمًا، ولا عادت تلك المرونة التاريخيّة قائمة أيضًا، بل أصبح أكراد العراق وسوريّة -مثلاً- يعبرون تعبيرًا مغاليًّا عن تمييزهم القومي عن الأغلبيّة العربيّة التي يعيشون بينها، كما أصبح بعض العرب ينظرون بكثير من الرّيبة إلى تلك النّزعة، ويفسّرونها على أنها سوء قصد في أحسن الأحوال، أو عمالة للخارج وتآمر على الوحدة الوطنيّة في أسوئها.. وقد أشار العديد من الباحثين إلى أثر الأيديولوجيّة القوميّة في إثارة الحرب بين العرب والأكراد العراقيين مثلا، وهو أمر يصدق على حالات أخرى عديدة. (محمد بن المختار،
http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/a3bebb90-a618-4e1d-8215-30a0a8cd7443)
2- مفهوم الموّاطنة في الحداثة الغربية:
تضاربت آراء الباحثين حول الجذر التاريخي لمفهوم المواطنة، إذ أنّ إحدى الدّراسات ترى أنّ هذا المفهوم من إبداع الفكر السّيّاسي العقلاني التجريبي (علي، 2001، ص24)، من دون أن تحدّد مدّة زمنيّة لظهور المصطلح أو الفكرة، في حين ترجعه دراسة أخرى (Jo Shaw, 1998, P235) إلى ظهور الدّولة القوميّة كنموذج شائع للنّظام السّيّاسي، بينما تشير اغلب الدّراسات إلى أنّ هذا المفهوم ارتبط بالفكر اليوناني القديم سواء أكان الارتباط من ناحيّة إبداع المفهوم أم من ناحيّة الآثار المترتبة عليه، وإن لم تكن هنالك إشارات إلى المفهوم ذاته، علمًا أن هذه الدّراسات وغيرها لم تغفل التطوّرات التي شهدها المفهوم على صعيد النّظريّة والممارسة. (Graham Smith, http://www.Cybertext.net.au)
ولكن قبل التطرق لهذا المفهوم في الفكر الغربي الحديث نحاول إعطاء لمحة تاريخية عنه عند الأمم الغربية السابقة، فوفقًا للدّراسات الغربية فإنّ اليونانيين هم أوّل من كتبوا عن المواطنة وممارساتها، فقد كانت تشير إلى حق الفرد في المشاركة السّيّاسيّة في مجتمع المدينة، واتصفت بالصّرامة والتشدّد في الشّروط، إذ اقتصرت على الرّجال الأحرار فقط من المقيمين في المدينة، كما تطرق بعض الفلاسفة لهذا المفهوم، إذ أورد (أفلاطون) في كتابه “الجمهوريّة” أنّ من بين أهداف التربيّة “تنميّة الموّاطنة الصّحيحة في الأفراد، وذلك عن طريق إمداد الشّباب بالمعرفة الدقيقة عن طبيعة الحكم وطبيعة الحق المطلق حتى يستطيعوا ممارسة الأعمال الرئيسيّة في الحياة المدنيّة والاجتماعيّة”. (عمر، 1977، ص33).
ويقوم مفهوم المواطنة في اليونان على مبدأ المساواة في المجالات القانونيّة والسّيّاسيّة لمن يشملهم مصطلح المواطنة (Visions Of Citizenship) (http://www.Vifude/Students)، كما أنّ هذا المفهوم لم يكن قائمًا على أساس الدّم (النّسب) وإنما كان منطلقًا من الرّؤية الاجتماعيّة، كما يقام مفهوم المواطنة على أساس مبدأ التوريث، إذ أنّ (أبناء الأحرار) يكونون أحرارًا، وكذلك يتصف المفهوم أيضًا بالجمود كونه ينحصر في طبقة معيّنة، وهذا يعود إلى طبيعة النّظريّة الاجتماعيّة القائمة آنذاك التي لا تؤمن بالحراك الاجتماعي، وهكذا فإنّ مفهوم المواطنة الإغريقي كرّس نظرة اللامساواة الاجتماعيّة حينما أصبح حقًا مقصورًا على طبقة معيّنة من دون أن ينتقل إلى الطبقات الأخرى، الذي استتبع غياب فكرة إسقاط المواطنة عن أحرار المجتمع الإغريقي.
ونظرًا للنّظرة الطبقيّة لمفهوم المواطنة في المجتمعات اليونانيّة القديمة، فإنّ مدى المشاركة السّيّاسيّة الفعليّة قد اختلفت من مدينة إلى أخرى في هذا الصّدد يقول (أفلاطون): “ولكن حتى الدّيمقراطيّة تدمّر نفسها، بالإفراط في الدّيمقراطيّة، إنّ مبدأ الدّيمقراطيّة الأساسي هو مساواة الجميع في حق الحصول على منصب وتقرير السّيّاسة العامّة، إنّ هذا الترتيب يبدو سارًا لدى النّظرة الأولى، ولكنه يتحوّل إلى كارثة ونكبة، لأنّ الشّعب ينقصه الإعداد الكافي في التعليم لاختيار أفضل الحكام وأفضل الخطط، والشّعب لا يفهم، ويعيد ما يخبره عنه زعماؤه من عبارات يحب سماعها”. (ول، 2004، ص29).
أمّا مفهومها عند الإغريق “فـتعتبر دولة الإغريق هي أول من توصلت إلى معنى لمفهوم المواطنة المعاصرة في التاريخ والذي اعتبر نموذجًا للممارسة الديمقراطية في أثينا، على الرغم من قصور هذا المفهوم من حيث الفئات التي يمثلها وعدم تغطيته لبعض النواحي التي يتضمنها المفهوم المعاصر للمواطنة إلا انه قد نجح بتحقيق المساواة على قاعدة المواطنة بين الأفراد المتساوين وذلك من خلال إقرار حقهم في المشاركة السياسية الفعالة وصولاً إلى تداول السلطة ووظائفها العامة”.
(محمد سكوت، http://sakmed.blogspot.com/2011/01/blog-post_3491.html)
أمّا عند الرّومان “فقد كان الانتقال من طبقة إلى أخرى لا يتمّ إلا بشروط يضعها الإمبراطور ذاته أو مجلس الشّيوخ (السنات)، وكان أحيانًا تعطى حق المواطنة الرّومانيّة إلى بعض الأغنياء أو الذين لهم نفوذ أو تبنّي أحد من كبار الرّومان لأحد من مواطني الدّول المحتلة كمكافأة على عمل ما”، أي حسب ما يراه كبار هؤلاء الشّيوخ.
(عزت، http://www.coptichistory.org/new_page_1831.htm)
ويعتقد أحد الباحثين (Graham Smith, OP. Cit) أنّ السّبب في هذه البراغماتيّة في السّيّاسة الرّومانيّة تجاه الموّاطنة يعود إلى رغبة السّلطة في تعزيز الولاء لروما، إذ أنّ مفهوم الموّاطنة لم يعد له ارتباط بالمشاركة السّياسيّة كما كان الحال في دول المدن اليونانيّة، وإنما ارتبط بالواجب العام (المسؤوليّات)، مثل الخدمة العسكريّة ودفع الضّرائب، هذا “وقد تطوَّر مفهوم المواطنة بشكل مستمر، إلاّ إنّه تراجع بعد سقوط الإمبراطوريّة الرّومانيّة”.
(حسان، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=58014)
وقد استمر هذا التراجع خلال العصور الوسطى الأوروبيّة، من حوالي (300 إلى 1300م)، “ولكن عودة مفكري عصر النهضة الأوروبية إلى الماضي البعيد، وإلى فلاسفة اليونان والرومان وأدبائهم لا تعني مجرد العودة إلى الماضي ونسيان الحاضر والمستقبل. فالواقع أنها كانت عودة خلاقة لتغيير الحاضر أو لتجديد الحياة الحاضرة بكل جوانبها. وهنا تكمن ابتكارية عصر النهضة وحداثته. فقد كان يمثل عودة إلى الوراء من أجل القفز إلى الأمام. والواقع أن التحولات الفكرية التي حصلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في أوروبا مرتبطة بثلاثة أشياء: أولها الإصلاح الديني الذي حصل في النصف الأول من القرن السادس عشر على يد مارتن لوثر. وثانيها الحركة الإنسانية النهضوية التي تمثلت بالعودة إلى الآداب القديمة، آداب اليونان والرومان والعرب وترجمتها والاستفادة منها. وثالثها الاكتشافات العلمية الكبرى التي حصلت في ذلك العصر على يد كوبرنيكوس وسواه.”. (آلان، https://aawsat.com/home/article/933741/)
ومع التّطوّر التدريجي لمظاهر الحياة تطوّر تبعًا لذلك مفهوم المواطنة ليصبح مفهومًا وظيفيًّا أكثر واقعيّة، وممارسة بدلاً من ارتباطه بالكنيسة واحتكاره من قبل رجالها، ففي عصر النّهضة حظي المفهوم باهتمام المفكرين والسّيّاسيّين، تلا ذلك عصر التنوير بزعامة فلاسفته أشهرهم في الفكر الاجتماعي والسّيّاسي (هوبز ولوك وروسو…)، الذين أصبحت المواطنة عندهم ذات محتوى ومغزى نظري واسع رغم اختلافهم في تناولها، ولكن كانت لهم الأسبقيّة في مفهومها الحديث، والاتفاق على آليّة ديمقراطيّة تحكم علاقة الأفراد فيما بينهم استنادًا إلى القانون الذي يساوي بين الجميع.
ويبدو أنّ هؤلاء المفكرين أرادوا الخروج بالمواطنة من مجرد الانتماء إلى دين أو طبقة إلى مفهوم سيّاسي يعتمد الأمّة والدّولة معيارًا، فهم نظروا إلى المواطنة على أنها تكتسب سيّاسيًّا وليس دينيًّا أو طبقيًّا كما كان شائعًا في العصور الوسطى، وإذا كان ثمة ما يميّز بينهم فإنه يتمثل في الحاجة إلى الدّولة لدى (لوك وهوبز) وعدم الحاجة إليها في المواطنة عند (روسو).
“ولكي تكون فكرة المواطنة واضحة لدى النّاس دعا بعض المفكرين الأوروبيين آنذاك إلى توعيّة المواطنين ولو على نحو إجمالي بالواجبات المدنيّة التي تتطلبها المواطنة، ومنها الالتزام بالمحافظة على الوضع الراهن، والاعتراف بالحكومة القائمة، ومقاومة الدّيماغوجيّة، والانضباط ومعرفة القوانين، لكي تحصل عمليّة الانضباط والتقيّد ضمن سلوك وتوجّه معين”.
(Graham Smith, OP. Cit)
ولكن بقيام الثورتين الأمريكيّة والفرنسيّة وارتباطهما بمفهوم الدّولة الحديثة، وهنا نجد رؤيتين مختلفتين لهذا الموضوع الشّائك: الرّؤية التي تبلورت بعد الثورة الفرنسيّة كما وضعها اليعاقبة، والرّؤية التي اعتمدها آباء الثورة الأمريكيّة وحرب الاستقلال اللتين على أساسهما وُضعت أهم الأسس التي ارتكز عليها مبدأ المواطنة الحديث، فالثورة الفرنسية، مثلاً، عملت على إلغاء الامتيازات والألقاب التي تمتعت بها فئة من النّاس في العهد الملكي، وأعلنت مبدأ المساواة للجميع، وهو أهمّ مبادئ المواطنة، كما أنّ الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة صادقت على إعلان حقوق الإنسان وحقوق المواطن.
(هشام، http://www.tanmia.ma/article.php3?)
فمفهوم المواطنة حسب النظريّة الفرنسيّة كما دعا إليها أصحابها في شعارهم تقوم على المبادئ الثلاثة الشّهيرة: (العدل، الإخاء والمساواة)، المعروفة بشعار الثورة الفرنسية التي نظّر لها (روسو)، -وكانت ثمرة لأفكاره ولكن مات قبل قيّامها- وأثرت في العالم بأسره، نادت بالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والمساهمة في تحقيق المصالح العامّة وفق إرادة الجميع.
“لقد قلبت الثورة في فرنسا مفاهيم المجتمع المقسم إلى أجزاء ومراتب وطبقات، والذي يمارس التمييز بحق الأقليّات الدّينيّة، وبَنَت النّظرة اليعقوبيّة للمواطنة مركزيّة الدّولة كتتويج وامتداد للتوجّه العلماني للدّولة، لذلك نلاحظ في هذا المفهوم رغبة جامحة في الاستيعاب الثقافي، بإرادة لا تحترم العادات واللغات المحليّة، كما أنّ المفهوم العلماني للدّولة يرفض بشدّة ومنذ المدرسة الابتدائيّة كل تعبير عن الانتماءات الدّينيّة، وتذهب فرنسا في ذلك أبعد بكثير من الدّيمقراطيّات الغربيّة الأخرى في نفي ورفض الارتباطات بالهويّة الخاصّة”. (المرجع السّابق).
ومع انتشار الأفكار الثوريّة في أوروبا تغيرت النّظرة إلى المواطنة، إذ أصبحت تمثل أداة لتعزيز الحكومة الشّعبيّة والحرّيّات الفرديّة والمساواة السّيّاسيّة والقانونيّة، التي أصبحت مرتكزات أساسيّة لمفهوم المواطنة المعاصر، “وجرى تحميل المفهوم شحنة مثاليّة أساسيّة تنطلق من اعتبار حامل الحقوق المدنيّة والسّيّاسيّة العنصر النّووي المكوّن للأمّة: ارتبط المفهوم بالجمهوريّة باعتبار أنّ الهويّة الجماعيّة التي تتشكل من مجموع المواطنين وحدها تملك السّيادة داخل الدّولة”.
http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2007/7/25/
والثورة الفرنسيّة التي سبقتها الثورة الأمريكيّة بسنوات قليلة لم يكن ممكنًا لها أن تنجح تمامًا أثناء الثورة الأمريكيّة في (1776)، “لأنّها ببساطة كانت ستؤدّي إلى إلغاء الرّق والاعتراف بمواطنة الهنود الحمر، ومع ذلك تبدو بعض ملامح هذه الرّؤية في الشّعار الأمريكي الدّاعي إلى ذوبان جميع موجات المهاجرين في أمّة واحدة حسب نظريّة قدر التذويب Melting pot”. (هشام، مرجع سابق).
أمّا النّظريّة الأمريكيّة التي تميّزت بالنّظرة الليبراليّة فعملت على تمجيد الحقوق الفرديّة أكثر، إذ تولي أهميّة الفرد في الإبداع والمبادرة بدل التركيز على الجماعة وروحها التضامنيّة، لذلك نجد أنّ المجتمع الأمريكي يمتاز بتعدد اللغات والثقافات، بل ويفخر أنه أكثر المجتمعات تنوّعًا وثراءً في هذا المجال “لكن للمسألة رغم ذلك وجهًا إيجابيًّا آخر فيما لو أردنا! فتجربة التاريخ تثبت ومعها كل نماذج التقدّم الحديث أنّ كلّ تنوّع قابل لأن يمثل إضافة وإثراء والأمثلة حاضرة وأولها المجتمع الأمريكي نفسه الذي يقدم نموذجًا فريدًا وناجحًا، برغم أيّ جدل آخر، لمفهوم المواطنة حين يستوعب كل الانتماءات الأخرى للفرد من دينيّة وعرقيّة ولغويّة بل وثقافيّة ونفسيّة، فهناك مدنًا أمريكيّة لا يكاد المرء يسمع في شوارعها سوى اللغة الإسبانيّة! وثمة أحياء بأكملها في مدن أمريكيّة تكاد تشعرك أنّك تتجول في إحدى المدن الصّينيّة أو الأفريقيّة.
وفي أمريكا أيضًا أقلية مسلمة ربّما تمتعت (لاسيّما قبل 11 سبتمبر) بمناخ من الحريّة وقدر من الأمان والكرامة تفتقده في مجتمعاتها الأم! وأستوعب مفهوم المواطنة الأمريكي أهمّ ثلاثة مظاهر للانتماء الفردي هي الدّين واللغة والعرق، نفسها الانتماءات الثلاثة التي كانت في مجتمعات أخرى أسبابًا للحروب الدّاخليّة والفتن والصّراعات! وليس المجتمع الأمريكي هو المثال الوحيد لذلك بل هناك كندا وأستراليا ودول أخرى كثيرة.
ونجد المفهوم المتعدّد الثقافات في الفضاء الأنجلو-ساكسوني بشكل أساسي يتلاءم أكثر لمواجهة التحديّات التي يطرحها مجتمع متعدد الأعراق، كما هي الحال مثلاً في أوروبا الشّرقيّة أو بلاد البلقان.
ولقد انتقد كثير من المؤلفين الأمريكيين والكنديين المفهوم الفرداني (individualiste) للمواطنة، منهم (…Michael Sandel, Alasdair Macintyre, Charles Taylor) آخذين عليه أنه يتعاطى مع فرد دون أيّ عمق اجتماعي أو إنساني.
فمن المعروف أنّ كلاً منا اكتسب نتيجة ولادته في بيئة محدّدة، لغة ونقاط مرجعيّة ومعتقدات وتاريخ، أي إرثًا ثقافيًّا يكوّن بشكل جازم هويّته، وبالنّسبة لـ (تايلور) فإنّ الفرد لا يمكن أن يحقق ذاته دون أن يتموضع بالنّسبة لهذا الأفق الثقافي والتاريخي والعائلي الخاص به”. (هشام، مرجع سابق).
والحقيقة أنّ القرن الثامن عشر (18) أفرز ثلاثة اتجاهات في مفهوم المواطنة هي: (361996, P Mary,).
أ- المواطنة المدنية: الحقوق الضروريّة للإنسان، كحق الفرد في الملكيّة، والحريّات الشّخصيّة، والعدالة.
ب- المواطنة السّيّاسيّة: الوجه السّياسي للحقوق التي يتمتّع بها الفرد، كالمشاركة في السّلطة السّيّاسيّة.
جـ- المواطنة الاجتماعيّة: تمثل البعد الاقتصادي والاجتماعي، كحق الضّمان الاقتصادي والاجتماعي.
وفي القرن التاسع عشر (19) أخذ المفهوم بالتطوّر من نوعيّا وكميّا، فاتسع ليشمل البالغين من الذكور والإناث بعد أن كان مقتصرًا على الذكور فقط، وتحسنت أيضًا آليّات ممارسته، فضلاً عن اتساع رقعة مراعاته جغرافيًا، إذ شمل الجوانب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والبيئيّة والسّيّاسيّة والقانونيّة (علي الكواري، ص29).
ولقد ساهمت في هذا التطوّر عوامل يمكن إجمالها في الآتي:
1- تكوين الدّولة القوميّة الحديثة. 2- المشاركة السّيّاسيّة وتداول السّلطة سلميًّا. 3- إرساء حكم القانون وإقامة دولة المؤسّسات. (المرجع السّابق، ص25).
إنّ هذه العوامل قد عملت في واقع الأمر على نقل المواطنة من المفهوم التقليدي ذي الجذور الإغريقيّة والرّومانيّة، إلى المفهوم الحديث لها، الذي تبلور بجلاء معظم القرن العشرين، والذي استند إلى أفكار عصر النهضة والتنوير ومبادئ حقوق الإنسان، واعتماد الشّعب مصدرًا للسّلطات، وهكذا أصبح أحد الرّكائز الأساسيّة للعمليّة الدّيمقراطيّة. (المرجع السّابق، ص29).
خلاصـة:
يبقى مفهوم المواطنة مفهومًا معقدًا، ويعود ذلك إلى التغيير الحاصل في تعريفه من عقد لآخر، أو من ثقافة لأخرى، ومع هذا التعقيد فإنّ الثابت هو أنّ المواطنة تتضمّن التزامًا عميقًا بتعريف الذات مقابل الآخر، وتعريفه ضمن المجتمع، وفق مصالح الفرد والمجتمع.
تطرّقنا فيما سبق إلى مفهوم المواطنة (Citizenship) من المنظور الإسلامي وتأصيله ثم مفهومه الغربي، ولكن هناك فرقًا بين من يؤصّل “المصطلح العربي” ويوظفه ليجعله معبرًا خير تعبير عن مفهوم المواطنة في العصر الحديث، وبين من يعتقد أنّ الترجمة العربيّة تثير إشكاليّات، لأنه غُيّب عن الواقع وأُبْعِد عن الذّهن ضرورة الحديث عن هذا المفهوم الحديث وأهميّته في بناء وعي حضاري إنساني جديد يسهم في تجاوز المجتمع العضوي إلى المجتمع المدني والحق المطلق إلى حقوق الإنسان، ونقد هذا المصطلح في اللغة العربيّة ينطلق من كونه على علاقة بمفهوم الوطنيّة.
إن غالبيّة الباحثين والمفكرين سواءً كانوا عربًا أو مسلمين لا يرون القصور في ترجمة مصطلح (Citizenship) بكلمة المواطنة في اللغة العربيّة، إذ نجدهم يعبّرون به أحسن تعبير عن مضمونه فعناوين كتب مهمة مثل كتاب (خالد محمد خالد): “مواطنون لا رعايا” (خالد، 1958)، وكتاب (فهمي هويدي): “مواطنون لا ذميون” (هويدي، 1999)، تشير إلى أنّ كلمة المواطنة التي اختارها العرب لترجمة مصطلح (Citizenship) نجحت بإيصال المعنى، وجعلت الكتاب يقرأ من عنوانه، وكان استخدامها مقرونًا بالسّعي إلى المساواة والمطالبة بالعدل والإنصاف بالنّسبة لجميع من يحمل جنسيّة الدّولة، لذلك يتساوى المصطلح مع الفكر الغربي على اعتبار أنّ المواطنين في الدّولة يتمتعون جميعًا بحقوق مدنيّة وسيّاسيّة واجتماعيّة كما يتحمّلون واجبات متساويّة دون تمييز.
وقبل إنهاء هذه المداخلة ارتأينا اقتراح توصيات سواء لباحثين آخرين مقبلين على دراسة هذا المفهوم المتشعب أو مسؤولين يهمهم تطوير حال مجتمعهم في الآتي:
– دراسة قيّم أخرى للموّاطنة نظرًا لشمولها واتساعها.
– دراسة نقديّة لمدى وجود قيّم المواطنة في مقرّرات الموادّ الاجتماعيّة والمواد الأخرى وبكافة المستويّات التعليميّة من أجل تربية سليمة لقيم المواطنة.
– إعادة الاعتبار لمكانة المدرّس المفقودة والنّهوض بدوره الاجتماعي والثقافي.
– ضرورة أن لا يقتصر مفهوم الموّاطنة والمفاهيم المرتبطة به مناهج الموادّ الاجتماعيّة فحسب بل تشمل جميع مناهج الموادّ الأخرى في شكل مفاهيم مدمجة.
– ضرورة مشاركة المدرّسين في مجال التخصّص في ندوات ولقاءات فكريّة وثقافيّة ذات علاقة بقضايا الموّاطنة والمشكلات الاجتماعيّة المعاصرة اغرس ثقافة المواطنة لدى الناشئة.
– تنميّة وعي المدرّسين الثقافي والعلمي ليفهموا التغيرات الثقافيّة والاجتماعيّة والسّيّاسيّة والاقتصاديّة على المستويات المحليّة والإقليميّة والعالميّة.
– أن يحرص المدرّس على بلورة مفاهيم وأبعاد الموّاطنة وقيّمها (الاستقلاليّة والتفكير النّاقد، التسامح والتضامن وقبول الآخر، الانفتاح والتحرّر من الأحقاد السّيّاسيّة والاجتماعيّة) في صورة سلوكيّات يدرّب عليها التلاميذ في الأنشطة الصفيّة واللاصفيّة، أي داخل القسم وخارجه، كما يحرص في ذات الوقت على المفاهيم الأخرى التي تؤكّد على هذا المفهوم الحضاري وتكريسه والعمل على تطويره وترقيّته قدر المستطاع.
(محاماه نت)