دراسات قانونية
حماية حقوق الإنسان في القانون الجزائري (بحث قانوني)
حماية حقوق الإنسان في ظل قانون الإجراءات الجزائية الجزائري
دراسة تحليلية على ضوء النصوص القانونية
الدكتور شيخ محمد زكرياء، أستاذ محاضر ب، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم
ملخص
يلعب قانون الإجراءات الجزائية دورا هاما في تكريس حقوق الإنسان، لكونه يتضمن مجموعة من القواعد القانونية التي توازن ما بين مصلحة الفرد الخاصة في تعزيز حقوقه الأساسية وحرياته الفردية، ومصلحة المجتمع العامة في استقرار الأمن وتوقيع العقاب على الجناة، وعليه تسعى أغلب الدول على اختلاف درجات تقدمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى ضمان توافق تشريعاتها الجزائية مع حقوق الإنسان الأساسية. ولقد سار المشرع الجزائري على غرار باقي التشريعات الأخرى، فوضع قواعد اجرائية أوجب إتباعها للمحافظة على الحريات الفردية أثناء التحقيق والمحاكمة بما يكفل حماية حقوق الفرد وكرامته وهو ما سأحاول التطرق إليه في هذا المقال.
الكلمات المفتاحية: حقوق الإنسان- قانون الإجراءات الجزائية- حماية حقوق الإنسان- مرحلة التحقيق- مرحلة المحاكمة.
Résumé
Le code de procédure pénal joue un rôle important dans la constitution des droits de l’homme, du fait qu’il contient un ensemble des règles juridique permettant un équilibre entre l’intérêt personnel de l’individu et celui de la société entière dans la stabilisation de la sécurité et l’application de la punition des criminels.
C’est pour cela que la majorité des pays malgré leur divergence cherchent à rendre leur constitutions compatibles avec les bases et les principes de droit de l’homme.
De ce fait, le législateur algérien a imposé des bases et des procédures qu’il faut suivre à fin de protéger les libertés personnelles durant l’instruction et le jugement tout en respectant les droits et les dignités des individus, et on va essayer d’aborder tout ça dans cet article.
Les mots clés: droit de l’homme – code de procédure pénal – la protection du droit de l’homme –phase d’instruction – phase de jugement
مقدمــة
لقد أضحت مواضيع حقوق الإنسان في وقتنا الراهن من بين المواضيع التي تحظى باهتمام الفقهاء والباحثين في جميع فروع القانون، ومما لا شك فيه أن الاهتمام المتزايد بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية على المستويين الوطني والدولي يرجع بدرجة كبيرة إلى الرغبة في احترام حرية الفرد وكرامته.
وضمانا لحماية حقوق الإنسان، تسعى معظم التشريعات الدولية والوطنية إلى سن قوانين تهدف إلى صيانة كرامة الإنسان وتعزيز حقوقه الأساسية وحرياته الفردية من جهة، ومصلحة المجتمع في استقرار الأمن ومتابعة الجناة من جهة أخرى.
ولهذه الأسباب سار المشرع الجزائري على غرار باقي التشريعات العربية والغربية فوضع قوانين وازن فيها بين مصلحة الفرد الخاصة ومصلحة المجتمع العامة، ونص في قانون الإجراءات الجزائية على القواعد التي يجب أن تتبع للحفاظ على الحريات الفردية أثناء التحقيق والمحاكمة، وحرص على تنظيم أحكام الحبس المؤقت وحقوق الدفاع، وهو يكون بذلك قد منح للمتهمين ضمانات حتى لا تتم إدانتهم، أو تتجاوز الإدانة الحدود الحقيقية لمسؤولية الجنــــــــــاة.
وحتى يتسنى لي تحليل موضوع هذا البحث بشيء من التفصيل، ارتأيت أن أتطرق إلى حماية حقوق الإنسان خلال مرحلة التحقيق (المبحث الأول) ثم للحماية المقررة خلال مرحلة المحاكمة (المبحث الثاني).
المبحث الأول:حماية حقوق الإنسان في مرحلة التحقيق
من الضمانات المهمة التي دأب قانون الإجراءات الجزائية على تحقيقها، حرية المتهم الواسعة أثناء مواجهته التهم المسندة إليه بغية تحقيق كل السبل والوسائل القانونية التي تضمن له حق الدفاع عن نفسه.
ونظرا لأهمية مرحلة التحقيق وخطورتها، نجد أن المشرع الجزائري أحاطها بمجموعة من الضمانات سواء ما تعلق بالجهة المختصة بالتحقيق أو ما تعلق منها بحقوق المتهم وحريته، ومن تم سأحاول التطرق إلى أهم الضمانات التي منحها قانون الإجراءات الجزائية للمتهم أثناء مرحلة التحقيق، وذلك بعدم تعريض المتهم للتعذيب أو أي عقاب وحشي أو غير إنساني (المطلب الأول) وكذا حقه في الإفراج متى لم يكن في ذلك إضرار بالتحري (المطلب الثاني) وفي حقوقه المخول له ممارستها في حالة الحبس المؤقت (المطلب الثالث).
المطلب الأول: عدم تعريض المتهم للتعذيب
عرفت المادة الأولى من إعلان الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب([1]) هذا الأخير على أنه: ” كل تحمل ينتج عنه ألم أو عناء شديد جسديا كان أو عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بفعل أحد الموظفين العموميين أو بتحريض منه، لغرض الحصول منه أو من شخص أخر على معلومات أو اعترافات أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في كونه ارتكبه، أو تخويفه أو تخويف أشخاص آخرين”.
وعرفته المادة السابعة من ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية([2]) على أنه: ” تعمد إلحاق ألم شديد أو معاناة شديدة سواء بدنيا أو عقليا بشخص موجود تحت رقابة المتهم وسيطرته، ولكن لا يشمل التعذيب أي ألم أو معاناة ينجمان فحسب عن عقوبات قانونية أو يكونان جزء منها أو نتيجة عرضية لها”.
وأمام ما ينطوي عليه التعذيب من اعتداء مباشر ووحشي على سلامة الإنسان الجسدية والنفسية، وتناقض كلي مع حقه في الأمان على شخصه وفي العيش بكرامة، حرصت الجزائر على المصادقة على أغلب المعاهدات الدولية في مجال مناهضة التعذيب إلى جانب تدعيم المنظومة الوطنية لحماية حقوق الإنسان والتصدي لكل الممارسات التي من شأنها المساس بكرامته، الأمر الذي جعل المشرع الجزائري يجرم فعل التعذيب بموجب المادة 263 مكرر من قانون العقوبات والتي جاء نصها كالآتي: “يعاقب بالسجن المؤقت من خمس إلى عشرة سنوات وبغرامة من 100000دج إلى 500000دج كل من يمارس أو يحرض أو يأمر بممارسة التعذيب على شخص…”
بمراجعة النصوص القانونية السابقة، يتبين أن المقصود من التعذيب هو استعمال الوسائل غير المعتادة من أجل الحصول على إقرارات من المتهم، تنتج في غالب الأحيان عن الضغط الممارس على الموقوف والتي تخدم التحقيق سواء أكانت هذه الأخيرة صحيحة أو لا.
هذا وإن جرائم التعذيب أو العقاب الوحشي أو غير الإنساني تعتبر كلها أعمالا تمس بالحقوق الممنوحة للموقوف، ومن ثم وجب علينا التساؤل عن مدى الضمانات التي يمنحها قانون الإجراءات الجزائية للموقوف فيما يتعلق بهذا النوع من الجرائم؟
بالرجوع إلى القانون رقم 01-08 المعدل لقانون الإجراءات الجزائية([3])، يتبين لنا أنه تضمن مجموعة من النصوص القانونية التي من شأنها منح الحماية للموقوفين وتعزيز حقوقهم أمام أجهزة الأمن، عن طريق زيادة الرقابة على الموظفين المكلفين بتنفيذ القوانين([4])، كما تضمن مجموعة من النصوص القانونية التي ترمي إلى منع ممارسة التعذيب بكل أنواعه على الموقوفين، وذلك من خلال تمكينهم من حقوقهم المتمثلة في وجوب اطلاع ضابط الشرطة القضائية وكيل الجمهورية في حال ما إن اقتضى التحقيق إيقاف المتهم للنظر، مبررا ذلك بتقرير مفصل عن دواعي التوقيف، مع العلم أنه لا يمكن أن تتجاوز مدة التوقيف للنظر 48 ساعة.([5])
كما أوجب القانون على ضابط الشرطة القضائية أن يضع تحت تصرف الشخص الموقوف للنظر الوسائل التي تمكنه فورا من الاتصال بعائلته والسماح بزيارتها له مراعيا في ذلك سرية التحقيقات والتحريات([6])، وعليه أن يمكنه من إجراء فحص طبي بعد انقضاء مواعيد التوقيف للنظر في حالة ما إن طلب منه ذلك مباشرة أو بواسطة محاميه أو عائلته مع ضم شهادة الفحص الطبي بملف الإجراءات.([7])
والملاحظ أيضا أنه في حالة التوقيف للنظر يتعين وضع المتهم في أماكن لائقة بكرامة الإنسان ومخصصة لهذا الغرض ويمكن لوكيل الجمهورية المختص إقليميا أن يزور هاته الأماكن في كل وقت إما من تلقاء نفسه أو بناء على طلب من أحد أفراد عائلة الشخص الموقوف للنظر أو محاميه.([8]) وفي حالة عدم احترام ضباط الشرطة القضائية للإجراءات المنوه عنها أعلاه فإنهم يتعرضون للمساءلة الجزائية.
ويجدر التنويه إلى أن المشرع الجزائري رتب البطلان على مخالفة الأحكام الجوهرية المنوه عنها أعلاه في حالة ما إذا ترتب على مخالفتها إخلال بحقوق المتهم([9]).
المطلب الثاني: الحق في الإفراج عن المتهم
إن خضوع المتهم للحبس المؤقت من شأنه أن يسبب له الأذى في شخصه وسمعته ومصالحه، فهو يمس بحرية الفرد الخاصة سيما وأن الأصل أن المتهم بريء ما لم تثبت إدانته، ومن ثم فلا يجوز معاقبته قبل أن يصدر حكم بإدانته، ذلك أن الإفراج عن المتهم حق قانوني مخول له ما لم يضر ذلك بالتحقيق، مثلما جاء ذلك في المادة التاسعة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية([10]) والتي جرى نصها كالآتي:” يقدم الموقوف أو المتهم بتهمة جزائية سريعا إلى أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانونا مباشرة وطائف قانونية، ويكون من حقه أن يحاكم خلال مدة معقولة أو أن يفرج عنه”. وهو نفس ما ذهب إليه المشرع الجزائري حين نص في المادة 126 من قانون الإجراءات الجزائية على ما يلي: ” يجوز لقاضي التحقيق في جميع المواد أن يأمر من تلقاء نفسه بالإفراج إن لم يكن لازما بقوة القانون وذلك بعد استطلاع رأي وكيل الجمهورية، شريطة أن يتعهد المتهم بالحضور في جميع إجراءات التحقيق، بمجرد استدعائه، وأن يخطر القاضي المحقق بجميع تنقلاته. كما يجوز لوكيل الجمهورية طلب الإفراج في كل وقت وعلى قاضي التحقيق أن يبت في ذلك خلال ثمانية وأربعين ساعة من تاريخ طلب الإفراج، وعند انتهاء هذه المهلة وفي حالة ما إن لم يبت قاضي التحقيق يفرج على المتهم في الحين”.
غير أنه تحقيقا لمبدأ الموازنة بين الصالح العام وضمان حرية وحقوق المتهم، خول المشرع الجزائري لجهات التحقيق إصدار أمر الحبس المؤقت استثناء في حالة ما إذا لم يكن للمتهم موطن مستقر، أو متى لم يقدم ضمانات كافية للمثول أمام العدالة، أو في حالة ما إذا كانت الأفعال المنسوبة إليه خطيرة جدا، أو حينما يكون الحبس المؤقت الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الحجج والأدلة المادية، ووسيلة لمنع الضغوط على الشهود أو الضحايا أو تفادي التواطؤ بين المتهمين والشركاء مما يؤدي إلى عرقلة الكشف عن الحقيقة، كما قد يكون الحبس المؤقت ضروريا لحماية المتهم أو وضع حد للجريمةأو الوقاية من حدوثها مجددا أو متى لم يلتزم المتهم بالواجبات المترتبة على إجراءات الرقابة القضائية التي حددت له([11]).
ويلاحظ مما سبق، أن قانون الإجراءات الجزائية حدد الحالات الحصرية التي يمكن بموجبها للقاضي أن يصدر أمرا بالحبس المؤقت في حق المتهم، وهو بذلك يكون قد ساير مقتضيات المادة التاسعة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية سالفة الذكر.
هذا ويجب على قاضي التحقيق أن يؤسس أمر الوضع في الحبس المؤقت على الأسباب المذكورة أعلاه والمحددة حصرا في المادة 123 من قانون الإجراءات الجزائية، فلا يجوز له أن يسبب أمر الحبس المؤقت على أسباب عامة مرنة، لأن ذلك من شأنه أن يدفع القضاة إلى التعسف في استعمال هذا الإجراء الخطير دون مراعاة لمصلحة وحقوق المتهم وظروفه.
ولقد منح المشرع الجزائري المتهم حق طلب الإفراج المؤقت في أي مرحلة من مراحل التحقيق متى زالت مبررات الحبس، أو متى قدم هذا الأخير ضمانات كافية للمثول أمام القاضي في أي وقت كان([12])، كما يجوز لقاضي التحقيق وفي جميع المواد أن يأمر من تلقاء نفسه بالإفراج، متى لم يكن لازما بقوة القانون، شريطة أن يتعهد المتهم بالحضور في جميع إجراءات التحقيق بمجرد استدعائه وأن يخطر القاضي المحقق بجميع تنقلاته([13]).
كما يمكن لوكيل الجمهورية أن يطلب الإفراج على المتهم في كل وقت، وعلى قاضي التحقيق أن يبت في هذا الطلب خلال أجل لا يتجاوز ثمانية وأربعين ساعة من تاريخ طلب الإفراج، فإذا لم يبت قاضي التحقيق في هذا الطلب فانه يتم الإفراج عن المتهم حالا عند انتهاء المدة المذكورة([14]).
المطلب الثالث: الحقوق المقررة للمتهم في حالة الحبس المؤقت
من أجل ضمان حرية الفرد في مواجهة الحبس المؤقت، وضع قانون الإجراءات الجزائية مجموعة من الشروط الشكلية لتقرير حالة الحبس المؤقت، ومن تم فلا يمكن وضع الشخص رهن الحبس المؤقت إلا بتوافر شرطين أساسيين يتمثل أولهما في ضرورة استجواب المتهم وتبليغه بالوقائع المنسوبة إليه، ويتمثل ثانيهما في وجوب تسبيب الأمر([15])بالوضع في الحبس المؤقت باعتباره إجراء استثنائيا، وهذا ما أكده المشرع الجزائري في المادة 118/1 من قانون الإجراءات الجزائيةعلى ما يلي:” لا يجوز لقاضي التحقيق إصدار مذكرة إيداع بمؤسسة إعادة التربية إلا بعد استجواب المتهم وإذا كانت الجريمة معاقبا عليها بعقوبة جنحة بالحبس أو بأي عقوبة أخرى أشد جسامة”.
يستفاد من هذه المادة أنه لا يجوز لقاضي التحقيق حبس المتهم مؤقتا إلا بعد استجوابه وذلك في حالة ما إذا كانت الجريمة التي ارتكبها معاقبا عليها بعقوبة جنحة بالحبس أو بعقوبة أخرى أشد جسامة، فالاستجواب يمكن قاضي التحقيق من تقدير أدلة الاتهام ومدى كفايتها كما يسمح للمتهم بتفنيد الأدلة القائمة ضده ومن ثم الإفراج عنه مؤقتا لحين محاكمته.
ومثلما أوجب المشرع على قاضي التحقيق استجواب المتهم وتبليغه بالتهم الموجهة إليه قبل إصدار مذكرة الإيداع بمؤسسة إعادة التربية، فانه أوجب أن يكون هذا الاستجواب خلال ثمانية وأربعين ساعة من اعتقاله، وإذا مضت هذه المهلة ولم يتم استجوابه قام وكيل الجمهورية بإحضاره لاستجوابه من طرف القاضي المكلف بالتحقيق، أو أي قاض أخر من قضاة الحكم في حالة غيابه، وإلا أخلي سبيله([16]).
وتكريسا لمبدأ حماية الحقوق والحريات فان المشرع خول للمتهم حق استئناف أمر الوضع في الحبس المؤقت خلال ثلاثة أيام من تاريخ تبليغه به شفاهه من قبل قاضي التحقيق([17]).
وإذا أصدر قاضي التحقيق أمرا بوضع المتهم رهن الحبس المؤقت لاستيفاء شروطه، تعين عليه أن يراعي المدة المقررة له قانونا([18]) وأن يعمل على تمديده وفقا للشروط المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجزائية([19])، على أنه لا يمكن أن يتجاوز تمديد الحبس المؤقت أربعة أشهر في كل مرة، وإذا انتهت مدة الحبس المؤقت ولم يتم تمديدها أو انتهت مدة التمديد المسموح به قانونا فانه يفرج عن المتهم تلقائيا بقوة القانون وإلا اعتبر حبسه حبسا تعسفيا.
هذا ويجدر التنويه إلى أن قانون الإجراءات الجزائية اهتم بحقوق الموقوف نظرا لخطورة الحبس المؤقت، ومن تم أوجب على القضاة عدم اللجوء إلى هذا الإجراء إلا متى كانت الجريمة على درجة معينة من الخطورة وكان الإفراج عن المتهم من شأنه التأثير على مجريات التحقيق وعدم الوصول إلى الحقيقة. كما فرض تسبيب الأمر بالحبس المؤقت وخول المتهم حق استئنافه وهو ما يتماشى والنصوص القانونية المعتمدة من المنظومة الدولية لحقوق الإنسان.
المبحث الثاني: حقوق الإنسان المحمية في مرحلة المحاكمة
مثلما اعتنى المشرع بحقوق الموقوف في التحقيق الابتدائي والقضائي كما أشرنا سابقا، نجده وضع مجموعة من القوانين التي تكفل له محاكمة عادلة، وذلك لحماية حق الأشخاص من لحظة القبض عليهم إلى تاريخ محاكمتهم، ونظرا لكثرة هذه الحقوق فإنني سوف أتعرض إلى البعض منها تباعا بالنظر إلى أهميتها.
المطلب الأول: علانية المحاكمة
حظي حق المتهم في علانية محاكمته باهتمام كبير على المستوى العالمي والإقليمي، وعليه جاءت مختلف القوانين الدولية مؤيدة ومؤكدة لهذا الحق، إذ نصت المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما يلي: “لكل إنسان على قدم المساواة مع الآخرين الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة نظرا منصفا وعلنيا”.
ونصت المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على ما يلي:” الناس جميعا سواء أمام القضاء ومن حق كل فرد لدى الفصل في أي تهمة جزائية…أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة”.
وهو نفس ما ذهب إليه المشرع الجزائري في المادة 285/1 المعدلة بموجب القانون 17/07 المتضمن قانون الإجراءات الجزائية([20]) والتي جرى نصها كالآتي:”جلسات المحكمة علنية ما لم يكن في علنيتها مساس بالنظام العام أو الآداب العامة، وفي هذه الحالة تصدر المحكمة حكما علنيا لعقد جلسة سرية، غير أن للرئيس أن يحظر على القصر دخول قاعة الجلسة، وإذا تقررت سرية الجلسة تعين صدور الحكم في الموضوع في جلسة علنية”.
يستفاد من هذه المادة أن العلانية تعد من المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها النظام القضائي الجزائري والمقصود بها أن يتم عقد جلسة المحاكمة في مكان يستطيع أي فرد من الجمهور أن يدخله ويشهد المحاكمة دون قيد أو شرط إلا ما تعلق منه بضبط النظام، إضافة إلى السماح بنشر وقائع المحاكمة. وتكمن أهمية علانية المحاكمة في أنها تمكن المتهم من معرفة التهم الموجهة إليه والأدلة الموجهة ضده بشكل واضح وخال من الغموض كما تضمن حق المتهم في الدفاع، إضافة إلى ذلك فان علانية المحاكمة هي الفضاء المواتي ليعرب المتهم للمحكمة وبشكل علني فيما إذا مست حقوقه من قبل السلطات أثناء التحقيق الابتدائي، كما من شأن العلنية أن تجعل الرأي العام أحسن رقيب على القضاء مما يدفعه إلى العمل والالتزام بحكم القانون دون تحيز([21]).
وإذا كان الأصل هو علانية الجلسة، إلا أن هنالك قيودا ترد على هذا المبدأ بحيث تكون سرية الجلسة جوازيه متى كانت العلنية تمس بالنظام العام والآداب العامة([22])، مع العلم أن تقدير هذه المسألة يرجع لقضاة الموضوع، بينما تكون سرية الجلسة وجوبيه في حالة ما إذا كان المتابع جزائيا حدثا وذلك بموجب مقتضيات المادة 468 من قانون الإجراءات الجزائية.
المطلب الثاني: عدم جواز محاكمة الشخص مرتين على نفس الوقائع
لقد نصت المادة 14/7 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على ما يلي:” لا يجوز محاكمة أحد أو معاقبته مرة ثانية عن جريمة إن نال حكما نهائيا بها أو أفرج عنه فيها طبقا لقانون الإجراءات الجنائية للبلد المعني”.
ونصت المادة 311 من قانون الإجراءات الجزائية([23])على ما يلي:” إذا أعفي المتهم المحبوس من العقاب أو حكم عليه بعقوبة سالبة للحرية موقوفة النفاذ أو بعقوبة العمل للنفع العام أو برئ، أفرج عنه في الحال، مالم يكن محبوسا لسبب أخر دون الإخلال بتطبيق أي تدبير أمن مناسب تقرره المحكمة ولا يجوز أن تعاد متابعة شخص قد برئ قانونا أو اتهامه بسبب الوقائع نفسها حتى ولو صيغت بتكييف مختلف”.
انطلاقا من المواد السابقة، يتبين لنا أنه لا يجوز محاكمة الشخص مرتين على نفس الوقائع، إذ لا يمكن أن يقدم شخص ما للمحاكمة عن جريمة سبق له أن أدين فيها أو برئ منها بحكم نهائي وفقا لأحكام القانون، وهذا المبدأ ما هو إلا تأكيد للمبادئ المرتبطة بحقوق الإنسان، ذلك أنه لا يمكن محاكمة شخص عن جرم واحد أكثر من مرة لأن ذلك يعتبر تعسفا في حق هذا الأخير.
غير أنه متى ظهرت أثناء المرافعات دلائل جديدة ضد المتهم بسبب وقائع أخرى، وأيدت النيابة العامة تمسكها بحق المتابعة عنها أمر الرئيس بأن يساق المتهم الذي قضي ببراءته بغير تمهل بواسطة القوة العمومية إلى وكيل الجمهورية بمقر محكمة الجنايات لكي يطلب في الحال فتح تحقيق([24]).
والملاحظ أن هذه الحالة الأخيرة لا تتعارض البتة مع القوانين الدولية من جهة، ولا مع مبدأ عدم جواز محاكمة المتهم مرتين عن نفس الواقعة من جهة أخرى، ذلك أنه في هذه الحالة الأخيرة يتابع المتهم عن وقائع جديدة لا علاقة لها بالوقائع الأولى المتابع بها متى اكتشفت أثناء محاكمته عن هذه الوقائع الجديدة.
المطلب الثالث: حق المتهم في الدفاع عن نفسه
يعتبر حق الدفاع في المواد الجزائية من الحقوق التي تحظى باهتمام فائق، نظرا لخطورة القضايا المتعلقة به والنتائج المترتبة عليها، كما أنه يشكل صورة من صور المحاكمة المنصفة للمتهم نظرا لما يتضمنه من قواعد وضوابط لحماية حقوق المتقاضين، وعليه سأحاول التطرق إلى هذا الحق بشيء من التفصيل وذلك عن طريق تعريفه والتطرق إلى أهم ركائزه.
الفرع الأول: مفهوم حق الدفاع
لقي حق الدفاع اهتماما كبيرا من أغلب القوانين الدولية باعتباره وسيلة قانونية مهمة لتحقيق العدالة الأمر الذي جعل مختلف الاتفاقيات والمواثيق الدولية تنص عليه، فجاء في المادة 11/1 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن كل شخص متهم بجريمة ما، يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه.
وجاء في نص المادة 14 من الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية أن جميع الأشخاص متساوون أمام القضاء، ولكل فرد الحق عند النظر في أي تهمة جنائية ضده أو في حقوقه والتزاماته في إحدى القضايا القانونية في محاكمة عادلة وطنية بواسطة محكمة مختصة ومستقلة وحيادية قائمة استنادا إلى القانون.
كما جاء في نص الفقرة الثانية من المادة سالفة الذكر أن كل فرد متهم بجناية، له الحق في أن يعتبر بريئا ما لم تثبت إدانته طبقا للقانون.
أما على مستوى التشريع الوطني، ونظرا لأهمية المبدأ، نجد أن المشرع الجزائري أقر حق الدفاع وجعله حقا دستوريا وهذا ما أكدته المادة 169 من الدستور الجزائري([25]) والتي جاء فيها: “الحق في الدفاع معترف به، وهو حق مضمون في القضايا الجزائية”.
من خلال ما سبق، يتضح لنا مدى الاهتمام الذي منحته الاتفاقيات الدولية وكذا التشريعات الوطنية لحق المتهم في الدفاع، مما يجعلنا نعرج على أهم الضمانات الممنوحة للمتهم في قانون الإجراءات الجزائية بما يدعم حقه في المحاكمة العادلة.
الفرع الثاني: ركائز حق الدفاع أمام المحكمة الجزائية
يرتكز حق الدفاع على عدة دعائم تتيح مجتمعة مباشرة حقيقية لهذه الضمانة بما يحقق ما يتوخى من ورائها من غايات، ويمكن تلخيص هذه الدعائم فيما يلي:
حق المتهم في الإحاطة بالتهمة
نصت الفقرة الثالثة من المادة السادسة من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان على ما يلي: “لكل متهم الحق بوجه خاص فيما يأتي:”….أن يبلغ في أقصر مدة وبلغة يفهمها وبالتفصيل بطبيعة التهمة الموجهة إليه وسببها”.
وقد أكد المشرع الجزائري ذلك في المادة 100 من قانون الإجراءات الجزائيةالتي جرى نصها كالآتي: “يتحقق قاضي التحقيق حين مثول المتهم لديه لأول مرة من هويته، ويحيطه علما صراحة بكل واقعة من الوقائع المنسوبة إليه….”.
وهو ما أكده كذلك في المادة 271 من نفس القانون والذي جاء نصها كالآتي:” يستجوب الرئيس المتهم عن هويته ويتحقق مما إذا كان قد تلقى تبليغا بقرار الإحالة، فان لم يكن قد بلغه سلمت إليه نسخة منه، ويكون لهذه النسخة أثر التبليغ…”.
يتضح مما سبق، أن للمتهم الحق في أن يعلم بكل ما يتعلق به في الدعوى، فبدون هذا العلم يكون حق الدفاع في هذه الحالة مشوبا بالغموض وفاقدا للفعالية، فلا يجوز مثلا أن تجمع الأدلة أو تفحص أو تناقش في غيبة الدفاع لأن ذلك من شأنه الإخلال بمصالح المتهم، فيتم إيقافه على جريمة لا يعرف تفاصيلها أو أي شيء عنها، وهو ما يتنافى مع ماجاءت به النصوص الدولية والتشريعات الوطنية فيما يتعلق بحق المتهم في إحاطته بالتهم الموجهة إليه.
حق المتهم في إبداء أقواله بحرية
يجوز للمتهم تقديم جميع الدفوع التي من شأنها تبرئته سواء أكانت شفهية أو مكتوبة، كما يمكنه تقديم كل المستندات التي يراها لازمة للدفاع دون قيد في كميتها أو نوعها، بل هو حر في عدم الإدلاء بأي تصريح لأن من حقه أن يظل صامتا ويرفض الإجابة عن الأسئلة الموجهة إليه، طالما أن الصمت يعتبر بمثابة حق من حقوق الدفاع، ولا يجب أن تستخلص المحكمة من هذا الصمت دليلا ضده وإلا كان في ذلك إطاحة بقرينة البراءة وما تولد عنها من حقوق الدفاع، وهذا ما أكده المؤتمر الثاني عشر لقانون العقوبات المنعقد في هامبورغ سنة 1979 والذي جاء فيه بأن المتهم له الحق في أن يظل صامتا ويجب تنبيهه إلى هذا الحق. وقد سرى المشرع الجزائري على نفس النهج فنص في المادة 100 من قانون الإجراءات الجزائيةعلى أنه يجب على قاضي التحقيق أن ينبه المتهم بأنه حر في عدم الإدلاء بأي إقرار وينوه عن ذلك التنبيه في المحضر.
حق المتهم في الاستعانة بمحام
إن حق الاستعانة بمحام يعد من الحقوق التي نصت عليها القوانين الدولية مثله مثل باقي حقوق الدفاع الأخرى، وقد نصت عليه المادة 14/3 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بالقول:”….د-أن تجري محاكمته بحضوره وأن يدافع عن نفسه أو بواسطة مساعدة قانونية يختارها هو، أو أن تعين له مساعدة قانونية في أية حالة تستلزمها مصلحة العدالة”.
كما نص المشرع الجزائري في المادة 100 من قانون الإجراءات الجزائيةعلى ما يلي:” يتحقق قاضي التحقيق ….كما ينبغي للقاضي أن يوجه المتهم بأن له الحق في اختيار محام عنه، فان لم يختر له محاميا عين له القاضي محاميا من تلقاء نفسه إذا طلب منه ذلك…..”.
ونص في المادة 292 من قانون الإجراءات الجزائيةعلى ما يلي:” إن حضور محام في الجلسة لمعاونة المتهم وجوبي، وعند الاقتضاء يندب الرئيس من تلقاء نفسه محاميا للمتهم”.
يستفاد من هذه المواد مجتمعة أن النصوص القانونية خولت للمتهم حق الاستعانة بمحام أثناء التحقيق القضائي، ويكون للمتهم الحق في اختيار المحامي الذي يناسبه، ومتى لم يتمكن من ذلك طلب من قاضي التحقيق اختيار محام له.
ويجدر التنويه في هذا الصدد إلى أن توكيل محام عن المتهم يعد أمرا وجوبيا تحت طائلة البطلان متى كان المتهم متابعا بجناية أو كان حدثا، وبالمقابل يعد جوازيا متى تعلق الأمر بجنحة أو بمخالفة.
كما أنه يحق للمتهم الحصول على المساعدة القضائية متى توافرت في المتهم شروط الاستفادة منها([26])، خصوصا ما تعلق منها بعدم امتلاك المتهم الأموال الكافية لدفع أتعاب المحامي.
حق المتهم في الطعن
رسم المشرع الجزائري للمتهم طرقا للطعن في الأحكام الصادرة في غير صالحه، وذلك لرفع الضرر الذي أصابه من هذه الأحكام وطرق الطعن المقررة قانونا هي ضمان لتفادي الأخطاء القضائية ولقد صنفها المشرع الجزائري إلى طرق الطعن العادية والمتمثلة في المعارضة([27]) والاستئناف([28])، وطرق الطعن غير العادية والتي ترمي إلى إعادة النظر في مدى شرعية القرار الصادر عن المجلس القضائي والمتمثلة في الطعن بالنقض([29]) وإعادة النظر([30]).
الخاتمة
ختاما لهذه الدراسة، يتضح لنا أن قانون الإجراءات الجزائية يعد ضمانا أساسيا للحريات الفردية نظرا لما يتضمنه من نصوص قانونية تهدف إلى حماية حقوق المتهمين سواء أثناء التحقيق أو المحاكمة خصوصا ما تعلق منها بالحبس المؤقت وحقوق الدفاع.
كما اتضح لنا أيضا أن قانون الإجراءات الجزائية له دور مكمل لقانون العقوبات باعتباره يحدد الإجراءات الواجب إتباعها لتحقيق العدالة الجزائية من جهة، ويوفر من جهة ثانية الضمانات الكافية للمتهم حتى لا يحكم على شخص بريء بجرم لم يرتكبه وحتى لا يصيب العقاب إلا فاعل الجرم أو من حرض عليه واشترك فيه.
(محاماه نت)