دراسات قانونية
حركة التحرير الجزائرية ودورها الهام في تطوير قواعد القانون الدولي الإنساني (بحث قانوني)
أثر حرب التحرير الجزائرية في تطوير قواعد القانون الدولي الإنساني
الدكتورة امحمدي بوزينة أمنة، أستاذة محاضرة صنف ( أ)، كلية الحقوق والعلوم السياسية
جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف، الجزائر
Abstract:
The Algerian Liberation War was an opportunity to recognize the international character of the wars of national liberation on the one hand and to awaken the world’s public conscience towards the legitimacy of these wars. On the other hand, in the midst of the French denial of the correct adaptation of this war, France completely violated all international norms and conventions, And even ignored the provisions of Article 3 common to the four Geneva Conventions of 1949, which are the minimum requirements of humanity required in war, whatever it is.
In this context, we want to highlight the important role of the National Liberation Front in Algeria in the development of the rules of humanitarian law. The Algerian liberation revolution played a prominent role in that the revolutions led by colonized peoples amounted to international armed conflicts. Or legal combatants, and then we will highlight the change in the legal status of the members of the national liberation movements after the Algerian war of liberation; and their impact on the position of the international community of liberation movements, where they are recognized as legal combatants and the consequent consequences .
ملخص
لقد كانت حرب التحرير الجزائرية فرصة لإقرار الصفة الدولية لحروب التحرير الوطنية من جهة، ودافع إلى إيقاظ الضمير العام العالمي نحو شرعية هذه الحروب من جهة أخرى، وفي خضم التنكر الفرنسي للتكييف الصحيح لهذه الحرب ضربت فرنسا بعرض الحائط جميع الأعراف والاتفاقيات الدولية التي كانت فرنسا آنذاك طرفا فيها، بل وتجاهلت حتى أحكام المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، والتي تعد الحد الأدنى من مقتضيات الإنسانية المتطلبة في الحرب أيا كانت صفتها.
من هذا المنطلق، نريد أن نبرز من خلال هذه الدراسة الدور الهام لجبهة التحرير الوطني في الجزائر في تطوير قواعد القانون الإنساني، إذ لعبت الثورة التحرير الجزائرية دورا بارزا في أن ترقى الثورات التي تقودها الشعوب المستعمرة إلى نزاعات مسلحة دولية وفي اكتساب مقاتلي هذه الثورات صفة المحاربين أو المقاتلين القانونين، من ثم سنسلط الضوء على تغير الوضع القانوني لأفراد حركات التحرر الوطني بعد حرب التحرير الجزائرية؛ بل وتأثيرها على موقف المجتمع الدولي من حركات التحرر، حيث أصبح يعترف لهم بالصفة القانونية كمقاتلين وما يترتب على ذلك من نتائج نفصلها فيما بعد.
مقدمة
لم تكن الدول الاستعمارية تعترف لأفراد حركات التحرر الوطني بصفة المقاتلين أو المحاربين، تجسيدا لنظرية القانون الدولي التقليدي التي كانت تعتبر الإقليم المحتل جزء لا يتجزأ من إقليم الدولة المحتلة، لذلك لا يحق لسكان الإقليم المحتل مقاومة سلطات وقوات الاحتلال لأن ذلك يشكل خرقا وانتهاكا لالتزام دولي يتمثل في واجب الطاعة المفروضة على السكان المدنيين تجاه سلطات الاحتلال، وبالتأكيد حرمانهم من حق التمتع بحماية سلطات الاحتلال ومتابعتهم بارتكاب جرائم حرب.
وفي هذا الإطار، نشير إلى ممارسات سلطات الاحتلال الفرنسية سياسية استعمارية قمعية لإخضاع الشّعب الجزائري كانت تتضمن سياسات جسدتها عمليات الإبادة والاستيطان والإدماج والتنكيل بأفراد الشعب الجزائري وانتهاج سياسة الأرض المحروقة وغيرها، من هذا المنطلق اندلعت ثورة التحرير الجزائرية في 1 نوفمبر 1954 ضد المستعمر الفرنسي ودامت 7 سنوات ونصف، استشهد فيها أكثر من مليون ونصف مليون جزائري وانتهت باستقلال الجزائر في الخامس من جويلية عام 1962.
ولقد كان وقع هذه الثورة كبيرا عن شعوب العالم خاصة المحتلة منها، وقد تركت أثارها صدى كبيرا على المستوى الدولي وعلى القواعد التي تحكم المجتمع الدولي فقد طرأ تغيير كبير على النواحي السياسية والاجتماعية وخاصة لقوة أبنائها الذين حرروا وطنهم باعتماد الكفاح المسلح كوسيلة لتحرير الوطن؛ مما جعلها تترك أثار على الصياغة اللاحقة على قواعد القانون الدولي وتغيير بعض المبادئ التي انبثقت عنه وكان للقانون الدولي الإنساني النصيب الأكبر من التأثر بثورة التحرير الجزائرية، حيث اعتبرت هذه الأخيرة اللبنة الأولى في إنشاء الكثير من القواعد العرفية التي انبثقت عن هذه الثورة وقننت في تاريخ لاحق على الثورة في إطار قواعد القانون الدولي الإنساني الاتفاقية.
ويأتي سبب اختياري للموضوع أعلاه، من منطلق التأكيد على احترام حرب التحرير الجزائرية لقواعد القانون الدولي الإنساني لكي تبقى سندا للحركات التحررية القانونية في الدفاع عن أنفسهم تجاه المعتدي أو المحتل أو المستعمر ناهيك عن حق تقرير المصير ومشروعية اللجوء إلى كل الوسائل ومنها الكفاح المسلح لتحقيق المصير السيادي المستقل الحر للشعب .
وعليه، فإن لموضوع البحث هذا أهمية بالغة في إبراز الدور الهام لجبهة التحرير الوطني في الجزائر في تطوير قواعد القانون الإنساني الدولي، من ثم سنسلط الضوء من حيث المبدأ على مدى مشاركة حركة التحرير الوطني الجزائرية في تطوير حقوق الإنسان على الصعيد الدولي.
من هذا المنطلق، نتساءل عن مدى احترام حرب التحرير الجزائرية لقواعد القانون الدولي الإنساني؟، وما مدى تأثيرها على تطوير قواعد القانون الدولي الإنساني؟، وهل أزاحت الثورة اللبس الذي تعلق بشرعية الأعمال العدائية التي تقوم بها حركات التحرير؟.
لمعالجة هذا الموضوع، والإجابة عن الإشكالية السابقة، سوف نتبع المنهج التحليلي بشكل أساسي والقائم على إيراد المبادئ والنصوص القانونية الخاصة بتكريس شرعية أعمال حركات التحرر الوطنية بما فيها الجزائرية، ودراسة مدى احترام حرب التحرير الجزائرية لقواعد القانون الدّولي الإنساني وكذا بيان مدى تطبيقها واقعيا من قبل هذه الأخيرة، هذا إضافة إلى إتباع المنهج التاريخي للوقوف على الإجراءات والظروف التاريخية التي ساهمت في التأكيد على الإسهام الفعال لثورة التحرير الجزائرية في تطوير قواعد القانون الدولي الإنساني، وانتقالها من مجرد أعراف إلى قوانين مدونة في مواثيق دولية جماعية تلتزم بها أطراف النزاع.
تلك هي الأسئلة التي ستكون محل إجابتنا في هذه الدراسة، سنحاول من خلالها إبراز مدى احترام ثورة الجزائر لمفاهيم القانون الدولي الإنساني وتأثيرها الواضح على تطويره، وذلك من خلال إتباع التقسيم التالي:
المبحث الأول: تطبيق قواعد القانون الدّولي الإنساني على حرب التحرير الجزائرية.
المبحث الثاني: مساهمة ثورة التحرير الجزائرية في تطوير قواعد القانون الدولي الإنساني.
المبحث الأول: تطبيق قواعد القانون الدّولي الإنساني على حرب التحرير الجزائرية
في خضم التنكر الفرنسي للتكييف الصحيح لحرب التحرير الجزائرية ضربت فرنسا بعرض الحائط جميع الأعراف والاتفاقيات الدولية التي كانت فرنسا آنذاك طرفا فيها. بل وتجاهلت حتى أحكام المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، والتي تعد الحد الأدنى من مقتضيات الإنسانية المتطلبة في الحرب أيا كانت صفتها، نجد في المقابل أن الثورة الجزائرية قد طبقت قواعد القانون الدولي الإنساني سواء من حيث ضبطها وتنظيمها لحاملي السلاح أو الأوامر الصارمة بشأن السلوك الواجب إتباعه في الحرب أو الوحدات العسكرية التي تتسم بدرجات مختلفة من التنظيم أو تلك المتعلقة بالأسرى والتمييز بين المدنيين والمقاتلين الإنساني، وهو ما سنوضحه ضمن المطالب التالية:
المطلب الأول: الوضع القانوني للثوار الجزائريين
اندلعت ثورة التحرير الجزائرية في 1 نوفمبر 1954 ضد المستعمر الفرنسي ودامت 7 سنوات ونصف، استشهد فيها أكثر من مليون ونصف مليون جزائري وانتهت باستقلال الجزائر في الخامس من جويلية عام 1962، إلا أنه لم تعترف فرنسا رسميا بحالة الحرب في الجزائر، ولا بالمحاربين الجزائريين الذين أظهروا للعالم مركزهم كطرف محارب طوال فترة الاحتلال وحتى توقيع اتفاقية إيفيان بتاريخ 18/03/1962، حيث ذهب جانب كبير من الفقه الفرنسي إلى الادعاء بعدم توافر وصف المحاربين لثوار الجزائر، ومن تم فإن الأحداث التي جرت لم تكن إلا عصيانا داخليا، مما يخضع لقانون العقوبات إذ وبالرغم من اعتراف هؤلاء لما تقول جيش التحرير الوطني تنظيم إلا أنهم أنكروا عليه شرط رقابة جزء من الإقليم واحترامه لقوانين وأعراف الحرب.
والواقع أن هذا الرأي تنقصه الكثير من الموضوعية، ذلك لأن جيش التحرير الوطني كان على مستوى من التنظيم، وكان يجري القتال بينه وبين القوات الفرنسية بوصفه جيشا نظاميا، حقيقة أن بعض وحداته تقوم بعمليات تستخدم فيها أسلوب حرب العصابات، إلا أن ذلك لم يكن ليغير من الأمر شيئا حتى ولو اقتصر نشاط المقاومة المسلحة على هذا الأسلوب باعتبار أن استخدامه الأصل بالنسبة لها، والتي هي حرب الضعفاء ضد عدو متفوق استعان بقوات الحلف الأطلسي لإبادة وإرهاب الشعب الأعزل، وعليه فالمقاومة بالإرهاب ضد الإرهاب ليس إرهابا.
وبالرغم من ذلك احترم قوانين وأعراف الحرب فلم يكن قطاع طرق كما ادعت فرنسا بل كان خاضعا للقضاء العسكري إلى جانب المحكمة الثورية العليا التي لعبت دورا بارزا في هذا المجال، ومما يؤكد النضج السياسي لديهم قبولهم لتطبيق مجموع اتفاقيات جنيف الأربعة لسنة 1949.
أما بالنسبة لشرط الرقابة الفعلية بمفهومها التقليدي، فإننا نعترف أنا جبهة التحرير الوطني لم يكن لها ذلك إلا على بعض المناطق النائية، ومع ذلك وكما ذهب الدكتور عبد المجيد بلخروبي إلى القول: ” بأن تواصل المقاومة على كل الإقليم الجزائري، ومظاهرات الشعب كالإضراب ومقاطعة الانتخاب،… فحرب الإستنزاف الداخلية، والتأييد الدبلوماسي المحرز عليه من العديد من الحكومات الأجنبية شكلت عنصري الفعالية، هذه الأخيرة من نوع جديد لم يتم دراستها من قبل، لكن رجل القانون مجبر على أخذها في الحسبان لأنها فرضت في الواقع، وكان لها آثار على المستوى القانوني”([1]) .
ونضيف من جانبنا التأييد الكبير الذي كان يحظى به جيش التحرير الوطني من طرف الشعب، فقد لقي نداء المشاركة في المقاومة المسلحة استجابة كاملة من جانب هذا الأخير، واتخذ ذلك النشاط الشعبي شكلا عسكريا تجسد في جيش التحرير الوطني واكتمل تكوينه في مؤتمر الصومام في 20 أغسطس 1956، مع تدرج واضح في الرتب وتحت قيادة مسؤولة، كما كان له لباس رسمي وعلامة مميزة، حيث يحمل كل جندي على كتفة شارة تمثل العلم الجزائري نقشت عليها عبارة جيش التحرير الوطني، وعلى صدره علامة هلال ونجمة. كما أصدر مؤتمر الصومام قرار يمثل القيم الخلقية للشعب الجزائري، حيث حرم الاعتداء ذبحا وتحريم جميع أنواع التمثيل بالجثث، وأن تنفيذ الإعدام لا يتم إلا بعد محاكمة شرعية قانونية يتمكن فيها المتهم من الدفاع عن نفسه، كما أمر بوجوب العناية بالأسرى([2])، وهو ما يشكل عنصر آخر من عناصر الفعالية في مفهومها الجديد، ألا وهي الرقابة على السكان.
وفي المقابل، فإن وجهة النظر الجزائرية في شأن الاعتراف للثوار الجزائريين بوصف المحاربين دافع عنها من الناحية القانونية الفقيه محمد بجاوي في كتابه([3]) (La révolution algérienne et le droit)، فحسب هذا الأخير فإن فرنسا قد اعترفت ضمنيا للثوار بوصف المحاربين مستدلا عن ذلك بمسلك الحكومة الفرنسية إزاء نشاطهم؛ حيث اعتبره بمثابة الاعتراف، ومن ناحية ثانية اللجوء إلى القوانين الاستثنائية والذي سلم عمليا سلطات الدولة في الجزائر إلى يد المؤسسة العسكرية، ومن ناحية ثالثة، المصطلحات الحربية المستعملة من طرف الجنرال دي غول في نداءاته للثوار (Sagesse guerriée, Pais des braves) وأخيرا محاولة التفاوض مع جبهة التحرير الوطني والتي تعد قرينة أخرى على الاعتراف بحالة المحاربين.
وواصل الدكتور محمد بجاوي في طرحه أن سماح بعض الدول بفتح مكاتب لجيش التحرير الوطني على إقليمها، وإرسال ممثلين دائمين لعدد من كبريات العواصم العربية اعتراف من قبل الأغيار بذلك الوصف للثوار الجزائريين([4]).
ويضيف الفقهيين محمد بوسلطان وحمان بكاي من جانبيهما في شأن الاعتراف للثوار بوصف المحاربين إلى الاستدلال بحق المتابعة لضرب الثوار في إقليم دول أخرى([5])، كما حدث في ساقية سيدي يوسف في 8 فيفري 1958 ونضيف من جانبنا الأمر الذي أصدره الجنرال (Salan) الحاكم العسكري الفرنسي في 19 مارس 1958 بإنشاء معسكرات للمقاتلين الجزائريين الذين وقعوا في الأسر أثناء حملهم للسلاح كقرينة أخرى في شأن الاعتراف للثوار بوصف المحاربين.
هذا، وقد دأبت الحكومة الفرنسية على نكران طابع الحرب المشروعة على حرب التحريري الجزائرية منذ إعلان الثورة في الفاتح من نوفمبر 1954، بل واستمرت على موقفها هذا عقودا بعد استقلال الجزائر، ولازالت مستمرة على موقفها إلى الآن برفضها الاعتذار عما ارتكبته من جرائم خلال الحقبة الاستعمارية.
بناء على ذلك النكران، وجهت السلطات الفرنسية آنذاك تعليمات صارمة لجيش الاحتلال بقتل أسرى جيش التحرير الوطني باعتبارهم خارجين عن القانون، وبالتالي لا ينطبق عليهم وصف أسرى الحرب، فقد كان الجنرال ماسو يرد على منتقدي تجاوزات جيش الاحتلال تقتيلا وتعذيبا باستهتار قائلا: “أعلنوا حالة الحرب أولا، ثم طالبونا باحترام قواعدها بعد ذلك”.
ولكن بالرغم من هذه المواقف غير الواقعية لرفض أي مركز قانوني للمحاربين الجزائريين، فاستمرار الحرب واشتدادها أدى بفرنسا إلى المواجهة وقبول الواقع المتغير، ويظهر ذلك من خلال التحول في السياسة الفرنسية اتجاه الجزائر، ففي مفاوضات أيفيان بشهر ماي 1961، قال المفاوض الفرنسي لوي جاكس: “إننا نعترف بأنهم يتمتعون بصفة المحارب، ونرى فيهم وفد منظمة سياسية، مرشحون لتولي السلطة”([6]).
وعليه، فإننا نرى أن وضع المحاربين يمكن الاحتجاج به لدى الحكومة الفرنسية للأسباب السابقة ذلك لأن الاعتراف الضمني لا يختلف في آثاره عن الاعتراف الصريح؛ بل ذهب الكثير من الفقه الدولي آنذاك إلى الاعتقاد بأن حرب الجزائر؛ قد خرجت من إطار كونها مشكلة داخلية([7])، ثم وبعد 37 سنة تخرج فرنسا من ضمتها وتعترف رسميا بحالة الحرب بالجزائر كبديل لما أسمته بعمليات حفظ الأمن في شمال إفريقيا([8])، مما يؤكد حقيقة تاريخنا الذي تجاهلته السلطات الفرنسية آنذاك ولجأت إلى القوة لتخلق الحق الذي طالما حلمت به –الجزائر فرنسية- والذي عجزت عن تجسيده وفقا لأحكام القانون الدولي، فتجاهلت بذلك أدنى مقتضيات الإنسانية التي تضمنتها المادة الثالثة المشتركة.
المطلب الثاني: أثر حرب التحرير الجزائرية على وضع المقاتلين في حركات التحرر في العالم
فيما سبق ذهبت بعض الدول إلى إنكار صفة المقاتلين على أفراد حركات التحرر الوطنية ن استنادا إلى أن ما يقومون به من مقاومة ليس حربا قانونية؛ وبالتالي لم تعترف لهم بالمزايا الخاصة التي يقررها القانون الدولي العام للجيوش المحاربة، بحيث إذا وقع في أيديها من ينتمي إلى تلك الحركات التحررية فلا يتمتع بما يتمتع به أسرى الحرب من أفراد القوات النظامية، بل يعتبر هؤلاء الأفراد في نظر تلك الدول مجرمين يجب محاكمتهم على ما ارتكبوه من جرائم التخريب.
الفرع الأول: التكييف القانوني لأعمال المقاومة التي قام بها أفراد حركة التحرير ضد الاحتلال الفرنسي
تعد مسألة تحديد الأشخاص الذين يكتسبون وصف المقاتل وما يرتبه هذا الوصف من منحهم الحق بإلحاق الأذى بالعدو من جهة، وحقهم بالمعاملة كأسرى حرب من جهة ثانية، واحدة من أدق مشاكل القانون الدولي، وأثارت الكثير من النقاش خلال المؤتمرات الدولية الخاصة بتقنين عادات وأعراف الحرب، خاصة في مؤتمر بروكسل عام 1874 ([9])ولاهاي عامي 1899 و1907، من ثم سوف نتطرق لتطور حق المدنيين في مقاومة المحتل، على النحو التالي:
أ- حق حركات التحرر بمقاومة المحتل حسب لائحة لاهاي وما قبلها
حصرت لائحة لاهاي والنصوص الدولية التي سبقتها في هذا المجال، حق شن الحرب على الدول فقط وذلك بواسطة قواتها المسلحة الرسمية ([10])، فمن هو فرد في إحدى القوات المسلحة لدولة ما يحق له أن يحوز صفة المحارب، ويجوز له بالتالي أن يقوم باسم الدولة التي يتبعها بأعمال العنف ضد المحاربين الأعداء، أو أن يكون هدفا لأعمال العنف منهم، ومن ليست له صفة “محارب” لا يجوز له القيام بأعمال العنف ضد مقاتلي العدو ولا يحق لمقاتلي العدو، بالتالي التعرض له بالضرر عن قصد، وإذا قام بمثل هذه الأعمال يتعرض للمحاكمة بتهمة القتال من قبل سلطات العدو عند وقوعه تحت يدها. بهذا لم توفر قواعد لاهاي أية حماية للمدنيين عند مقاومة قوات الاحتلال ([11]).
ب- حق حركات التحرر بالمقاومة حسب اتفاقية جنيف الثالثة 1949
إثر انعقاد مؤتمر جنيف الدبلوماسي في أفريل 1949 قامت مناقشات مطولة بخصوص الاعتراف بالمقاومة المسلحة في الأقاليم المحتلة وشروط الاعتراف بها، وكما جرت جرت العادة في المؤتمرات الدبلوماسية فقد تم التوصل إلى حل توفيقي لا يختلف كثيرا عن الحل الذي تبناه مؤتمر لاهاي سابقا، حيث أضفت المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 صفة أفراد المقاومة على فئة المدنيين وفقا لما يلي: »… أفراد المليشيا أو الوحدات المنظمة الأخرى التابعة لأحد أطراف النزاع، حين يقومون بحركات مقاومة منظمة سواء كانوا يعملون داخل أراضيهم أومن خارجها، حتى لو كانت هذه الأراضي محتلة وذلك بتوافر أربعة شروط:
أن تكون تحت قيادة شخص مسؤول عن مرؤوسيه.
أن تكون لها علامة مميزة يمكن تمييزها على مسافة معينة.
أن تحمل السلاح بشكل ظاهر.
أن تقوم بعملياتها الحربية طبقا لقوانين الحرب وأعرافها… « ([12]).
نلاحظ أن الشروط التي وضعتها المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 بالنسبة إلى أعمال فصائل المقاومة ضد قوات الاحتلال، تؤكد على عدم اعتبار أعمال فصائل المقاومة مشروعة يستحق أصحابها الحماية وحق معاملتهم كأسرى حرب إذا سقطوا في أيدي العدو، إلا إذا تحققت فيهم الشروط الأربعة الوارد ذكرها في المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 ([13]).
لكن مع ذلك، فالنص الجديد الوارد في اتفاقية جنيف الثالثة، قد أعطى لحركات المقاومة التي تتوافر فيها هذه الشروط الأربعة، الحق في معاملة أفرادها كأسرى حرب، سواء كانت تعمل داخل الإقليم المحتل أو خارجه. مع ذلك وجد الكثيرون أن الشرطين المتعلقين بالشارة المميزة وحمل السلاح يشكلان قيدين يصعب التقيد بهما، وأن التشديد على الشروط جميعها سيؤدي إلى حرمان الكثير من حركات المقاومة في العالم من الحماية وأن ذلك سيخلق تناقض بين أحكام الاتفاقيات الدولية في الكثير من زواياها مع متطلبات العمل الفدائي الذي يستند إلى السرية والمفاجأة بالنظر لطبيعة النزاعات المسلحة الحديثة كما يصطدم بواقع الاعتماد على الأسلحة الحديثة المتطورة تقنيا وذات سرعة، مما يجعل رجال المقاومة بحملهم شارة مميزة، هدفا سهلا لدولة الاحتلال تجعل قواتها تتعرف عليهم بسهولة، مما يمكنها من تصفيتهم والقضاء عليهم. لذا غالبا ما تعمد حركات المقاومة المعاصرة إلى العمل سرا دون ارتداء أفرادها لزي معين([14])، وحتى بالنسبة لشرط حمل السلاح بشكل علني، نجد بعض الفقهاء يقررون بأن هذا لا يفترض وجوده، إلا لحظة المواجهة والقتال فقط، وفيما عدا ذلك ينبغي عدم تطلب حمل السلاح بصورة ظاهرة من أفراد حركات المقاومة ([15]).
بهذا يكون الفقه الدولي قد أبطل تقريبا شرطين من الشروط الأربعة التي تم النص عليها، أما الشرطين الباقيين، وهما وجوب ارتباط أفراد المقاومة برئيس مسؤول عنهم، ووجوب التقيد بقوانين وأعراف الحرب البرية، فلا يزال أغلب الفقهاء يطالبون باحترامهما.
نخلص أنه، إذا كان وضع حركات المقاومة ما قبل الستينات قد جعل تلك الحركات تطالب باستفادتها من قواعد الحماية المقررة لأسرى الحرب، فذلك لأن السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية ولغاية الستينات، لم توجد أية قواعد تشير إلى فكرة المقاومة المخولة للمدنيين في الأقاليم المحتلة بشكل مستقل، لكن بعد التطور الذي لحق بقواعد القانون الدولي الإنساني، خاصة اتفاقيات جنيف لعام 1949، نجد أنها أكدت على حق المدنيين في مقاومة المحتل واعتبرته من أهم الحقوق التي يجب أن تحترمها قوات الاحتلال والعمل على عدم تعطيلها والانتقام من القائمين بها([16]).
ج- حق حركات التحرر بالمقاومة في إطار برتوكول جنيف الإضافي الأول لعام 1977
رغم أن اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 خطت خطوة جديدة في سبيل إصباغ حماية أسرى الحرب على رجال المقاومة وإعترفت بحق حركات التحرر في مقاومة المحتل، إلا أن هذه الخطوة لم تكن كافية وخاصة في الظروف الدولية الراهنة، حيث أخذ جانب من الفقه وعدد متزايد من الدول وخاصة الدول الصغيرة التي حصلت على استقلالها نتيجة حرب التحرير التي خاضتها بأسلوب حرب العصابات، تطالب بالتوسع في تطبيق الحماية، كذلك فإن تطورات أسلحة القتال وأساليبه جعل بعض الشروط التي وضعتها اتفاقيات جنيف يصعب تحقيقها في رجال المقاومة([17]). وقد ترتب على هذا الأمر، أنه في إطار المؤتمر الدبلوماسي لتطوير القانون الدولي الإنساني الذي انعقد في الفترة بين 1974 و1977 كان من ضمن الموضوعات التي بحثها المؤتمر موضوع مقاتلي حرب العصابات والشروط اللازم توفرها لإستفادتهم من الحماية المقررة لأسرى الحرب عندما يقعون في أيدي العدو.
وعلى الرغم من التعديلات التي لحقت بالمادة 38 من المشروع الذي قدمته اللجنة الدولية للصليب الأحمر من جراء اقتراحات خبراء الدول المشتركة في المؤتمر([18])، إلا أنه في الأخير تأكد اعتبار حروب التحرير حروب دولية، مما أعتبر مكسبا للثوار من أجل الاستقلال([19])، ما يعني اعتبار النزاعات المسلحة الناجمة عن نشاط حركات التحرر نزاعات دولية يطبق عليها البرتوكول الأول، ومن ناحية أخرى فإن المادة (43) وما بعدها من البرتوكول الأول قد انطوت على نظرة تتسم بالحداثة إزاء أفراد المقاومة، فنص هذه المادة لم يفرق بين الأنواع المختلفة للجماعات المحاربة والجيوش التابعة للدول القائمة بالاحتلال، إذ نجد هذه المادة تنص على مجموعة من الشروط التي يجب توافرها في القوات المسلحة المحاربة، بدون أن تحدد الأطراف المعنية بهذه الشروط، وهذا الوضع يجعلنا نقول أن برتوكول جنيف الأول لعام 1977 جعل حركات المقاومة في نفس الدرجة والمستوى مع الجيوش التقليدية من حيث استفادتها بمركز المحارب وأسير الحرب وهو الوضع الذي انفرد به هذا النص دون اتفاقيات جنيف السالفة الذكر.
كما يمكن الإشارة إلى أن مجمل الشروط التي نصت عليها المادة (43) خصت بها كل الفئات المحاربة، دون تمييز سواء تعلق الأمر بضرورة التنظيم والقيادة المسؤولة واحترام قوانين الحرب وأعرافها أو الانتماء إلى طرف في النزاع أو حركة مناضلة من أجل تقرير المصير([20])، ثم قررت المادة (44) أنه: » يعد كل مقاتل ممن وصفتهم المادة (43) أسير حرب، إذا وقع في قبضة الخصم«.
فالمادتين (43) و(44) من البرتوكول الإضافي الأول، طورتا المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 التي حددت المقاتلين الذين يكتسبون وصف أسرى الحرب، حيث بينت المادة (44) المعيار في إضفاء صفة أسير الحرب وما يترتب عن هذا الوضع من حقوق يتمتع بها هذا الأخير([21]).
كذلك تجدر الإشارة، إلى أن شرطا أخر له أهمية في القانون الدولي الإنساني، كان لابد من مواجهته بمناسبة الموافقة على المادة (44) الخاصة بأسير الحرب، وهو خاص بوسيلة التمييز بالنسبة للجنود النظاميين (البزة العسكرية وحمل السلاح) لكي يحافظ المقاتل على حقه كمحارب، وبالتالي على ضمانات أسير الحرب عند الأسر، لكن التزام حركات التحرير بهذا الشرط يعني كشف هؤلاء المقاتلين، مما يؤدي في الغالب إلى تصيفتهم ([22]).
ولتفادي مثل هذا الوضع، فإن الحل وضع في الفقرتان الثانية والثالثة من هذه المادة، والتي جاءت على النحو التالي: »2- يلتزم جميع المقاتلين بقواعد القانون الدولي التي تطبق في المنازعات المسلحة، بيد أن مخالفة هذه الأحكام لا تحرم المقاتل من حقه في أن يعد مقاتلا أو أسير حرب إذا ما وقع في قبضة الخصم، باستثناء ما تنص عليه الفقرتان الثالثة والرابعة من هذه المادة «([23]).
ثم أكدت الفقرة الثالثة من المادة (44) على أنه: » 3- يلتزم المقاتلون إزكاء لحماية المدنيين ضد أثار الأعمال العدائية أن يميزوا أنفسهم عن السكان المدنيين أثناء إشتباكهم في هجوم أو في عملية عسكرية تجهز للهجوم، أما وهناك من مواقف المنازعات المسلحة ما لا يملك فيها المقاتل المسلح أن يميز نفسه على النحو المرغوب، فإنه يبقى عندئذ محتفظ بوضعه كمقاتل شريطة أن يحمل سلاحه:
– أثناء أي اشتباك عسكري
– طوال ذلك الوقت الذي يبقى خلاله مرئيا للخصم على مدى البصر أثناء انشغاله بتوزيع القوات في مواقعها استعداد للقتال قبل الهجوم عليه
4- يحق للمقاتل الذي يقع في قبضة الخصم، دون أن يكون قد استوفي المتطلبات المنصوص عليها في الجملة الثانية من الفقرة الثانية، في أن يعد أسير حرب، ولكنه يمنح – رغم ذلك – حماية تماثل من كافة النواحي تلك التي تضفيها الاتفاقية الثالثة وهذا الملحق “البروتوكول” على أسرى الحرب وتشمل تلك الحماية ضمانات مماثلة لتلك التي تضفى على أسير الحرب «.
نلاحظ أن هذه المادة، عدلت أحد الشروط التي ينبغي أن يفي بها أي مقاتل من أجل أن يعترف القانون الدولي بصفته كفرد من أفراد القوات المسلحة، وهو الشرط المتعلق بوجوب أن يميز المقاتل نفسه عن المدنيين، وأن عدم قيامه بتمييز نفسه لا يفقده وضعه بصفته مقاتلا بمقتضى نص المادة (44) ([24]).
نخلص من خلال التنظيم الذي وضعه البروتوكول الإضافي الأول لحماية حركات المقاومة في الجزائر، قد تضمن تطورا هاما بحركات المقاومة، خاصة فيما يتعلق بتمتعها بالحماية القانونية عند مباشرة أعضائها الكفاح المسلح، ما دام هدفها تقرير المصير، خاصة في إطار التوسع الذي تضمنه البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 في منح الحركات التحررية مركز المحارب وتمتعها بالحقوق المقررة لأسير الحرب، حتى مع عدم توافر كل الشروط التي تخول رجال المقاومة التمتع بهذا الحق ([25])، إلى أن يتحرر تماما من الاحتلال الأجنبي الموجود على أرضه.
وعليه، فقيام المقاومة الجزائرية بشتى الهجمات على أهداف عسكرية تابعة لقوات التحالف، وإن نفذت عمليات قتل جنود التحالف، فإن أعمالها تلك تقع في دائرة المقاومة المشروعة.
هذا، وما يؤيد اعتبار أفراد حركات التحرر الوطنية كمقاتلين قانونيين يتعين معاملتهم كأسرى حرب في حالة وقوعهم تحت يد سلطات الاحتلال، القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 لسنة 1960، والذي أعلنت فيه الجمعية إيمانها بأن عملية تحرير الشعوب من الاستعمار لا يمكن مقاومتها أو الرجوع فيها إلى الوراء، ويؤكد هذه القرار على أن لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها.
وهذا يبرز اتجاه الجمعية العامة للأمم المتحدة لمحاولة تعديل القواعد الدولية التقليدية التي كانت تحكم العلاقة بين الدول الاستعمارية والأقاليم التي استعمرتها، بحيث أجازت لسكان تلك الأقاليم اللجوء للمقاومة المسلحة دفاعا عن حقوقهم المسلوبة، وبالتالي الاعتراف لهم بصفة المقاتلين القانونيين والاستفادة من المعاملة المقررة لأسرى الحرب([26]).
ولكن بالرجوع إلى الثورة التحررية الجزائرية، نجد أن أعضاء جيش التحرير الوطني كانوا يحاكمون أمام القضاء الجزائري بصفتهم مجرمين، وعن ذلك يقول “موريس فلوري” أن الحكومة الفرنسية حتى أواخر عام 1959، لم تعتبر قواعد جيش التحرير الوطني كمحاربين، ففي حالة القبض عليهم لم يعاملوا طبقا لقوانين الحرب؛ بل طبقت عليهم مواد القانون الجنائي الفرنسي الخاصة بالجنايات والجنح ضد أمن الدولة، فكانوا يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل([27]).
وقد تصاعد اللجوء إلى التعذيب في عهد حكومة “في مولي” سنة 1956، حيث سمح له في إطار ما يسمى بحفظ الأمن والنظام باستخدام شتى الأساليب خلال عمليات استنطاق الجزائريين الأسرى والمعتقلين، بغية الحصول على المعلومات التي تخص سيرورة الثورة، ولا أحد بإمكانه حصر عدد الأسرى الجزائريين الذين كانوا عرضة للتعذيب بطرق مختلفة من خلال استعمال التيار الكهربائي، والكي بالنار بواسطة ألة التلحيم أو غطس رأس الأسير في ماء قذر، ولعل أكثر الأساليب دلالة على وحشية الاستعمار، ما تعرض له الشهيد “العربي بلمهيدي” الذي سلخ جلد رأسه، وكذلك قتل وإعدام العديد من الأسرى، وغالبا ما كانت السلطات الاستعمارية تدعي انتحارهم في ظروف غامضة([28]).
الفرع الثاني: إضفاء ثورة الجزائر صفة المقاتل على أفراد حروب التحرير
رغم أن حركات التحرير لا تمارس سلطة سيادية باعتبارها حركة داخل الدول، مع ذلك اعترف لها بأنها تخوض نزاعا مسلحا دوليا، ويصدق هذا لاسيما على حرب التحرير التي خاضها الشعب الجزائري للتحرر من الاستعمار، وبعبارة أخرى كانت دائما تعبر عن فكرة مفادها أنها طرف في نزاع مسلح دولي وأن مقاتليها يحق لهم التمتع بوضع أسير الحرب في حال القبض عليهم وهذه الفكرة تعود أساسا لممارسات الثورة وأفكارها فيما يزيد على سبع سنوات، فقد أدت العديد من ممارساتها على الصعيد الدولي والداخلي إلى خلق قواعد عرفية تنطبق في النزاعات المسلحة الدولية، بمعنى أخر خلقت ممارساتها قانونا دوليا عرفيا ينطبق على حرب التحرير([29])، بإيجاز يمكن القول أن ثورة التحرير أحدثت انقلابا في الفكر القانوني الدولي حول طبيعة النزاعات المسلحة التي تخوضها الشعوب الخاضعة للاستعمار، وهذا ما جعل الحكومة الجزائرية المؤقتة تثير الموضوع في الأوساط السياسية، وبالتالي شكلت هذه الأفكار المنطق في تدوين نص المادة الأولى من بروتوكول جنيف الأول لعام 1977 ([30])، التي اعتبرت حروب التحرير نزاعا مسلحا دوليا([31])، ومن ثم أصبح القانون الدولي يعترف بحرب التحرير التي تخوضها حركات التحرير الوطني كنزاعات مسلحة دولية([32]).
فقد تزامن انضمام الحكومة المؤقتة إلى اتفاقيات جنيف لعام 1949 مع التطورات السياسية والعسكرية التي حصلت في المجتمع الدولي، فقد زادت حركات التحرر الوطني في البلاد المستعمرة، وتصاعدت عملياتها النضالية والتحررية ضد القوات العسكرية؛ الأمر الذي أدى بالأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى الاعتراف بشرعية كفاحها المسلح من اجل الاستقلال وممارسة الحق في تقرير المصير، فقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 3103 الصادر في 12 ديسمبر 1973([33]) على الحق الكامن للشعوب المستعمرة في النضال بكل الوسائل المتاحة لها ضد الدول المستعمرة والدول الأجنبية التي تسيطر عليها تطبيقا لحق تقرير المصير الذي اعترف به ميثاق الأمم المتحدة وإعلان مبادئ القانون الدولي التي تحكم العلاقات الودية والتعاون بين الدول (القرار رقم 2625 الصادر بتاريخ 24 أكتوبر 1970([34])، واعتبر القرار بأن ذلك النضال يعد مشروعا ويتفق تماما مع مبادئ القانون الدولي، وأكد القرار بأن النزاعات المسلحة التي تتضمن نضالا للشعوب ضد السيطرة الاستعمارية أو الأجنبية أو العنصرية الذين يقعون في قبضة العدو هم أسرى حرب تطبق عليهم اتفاقية جنيف الثالثة المتعلقة بأسرى الحرب لعام 1949، كما اعتبر بأن استخدام المرتزقة ضد حركات التحرير الوطنية يعتبر عملا إجراميا وأن المرتزقة يجب معاملتهم كمجرمي حرب.
كما كان لثورة التحرير الجزائرية أثرها على الشعوب الأخرى، حيث تزايدت الثورات التحريرية من قيود الاستعمار خاصة في القارة الإفريقية، واعتراف الأمم المتحدة بشرعية هذه الثورات إلى تغيير المنظومة القانونية الدولية للقانون الدولي الإنساني وتبني البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 والملحق باتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 الذي اعتبر حروب حركات التحرر الوطني نزاعات مسلحة دولية، وتمتع مقاتليها بصفة المقاتلين القانونيين وبوضع أسرى الحرب إذا ما وقعوا في قبضة العدو بخلاف النظرية التقليدية التي كانت تعتبر أعضاء حركات التحرر الوطني مجرمين، فقد جاء في نص المادة الأولى في فقرتها الرابعة من بروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 أن قواعد القانون الدولي الإنساني تنطبق على المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية وذلك في إطار ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير، كما كرسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول طبقا لميثاق الأمم المتحدة”، وأكدت على ذلك المادة 43 من نفس البروتوكول([35]).
فقد كان القانون الدولي الإنساني في ذلك الوقت يطلق هذا الوصف على أفراد القوات المسلحة في دولة تكون طرفا في نزاع مسلح دولي والميليشيات المرتبطة بها، وقد ترتب على إضفاء ثورة الجزائر هذه الصفة، أنه في إطار المؤتمر الدبلوماسي لتطوير القانون الدولي الإنساني الذي انعقد في الفترة بين 1974 و1977، كان من ضمن الموضوعات التي بحثها المؤتمر موضوع مقاتلي حرب العصابات والشروط اللازم توفرها لإستفادتهم من الحماية المقررة لأسرى الحرب عندما يقعون في أيدي العدو. في الأخير تأكد اعتبار حروب التحرير حروب دولية، مما أعتبر مكسبا للثوار من أجل الاستقلال، ما يعني اعتبار النزاعات المسلحة الناجمة عن نشاط حركات التحرر نزاعات دولية يطبق عليها البرتوكول الأول، ومن ناحية أخرى فإن المادة (43) وما بعدها([36]) من البرتوكول الإضافي الأول لعام 1977، قد انطوت على نظرة تتسم بالحداثة إزاء أفراد المقاومة، فنص هذه المادة لم يفرق بين الأنواع المختلفة للجماعات المحاربة والجيوش التابعة للدول الأطراف في النزاع، إذ نجد هذه المادة تنص على مجموعة من الشروط التي يجب توافرها في القوات المسلحة المحاربة، بدون أن تحدد الأطراف المعنية بهذه الشروط، وهذا الوضع يجعلنا نقول أن برتوكول جنيف الأول لعام 1977 جعل حركات المقاومة في نفس الدرجة والمستوى مع الجيوش التقليدية من حيث استفادتها بمركز المحارب وأسير الحرب، وهو الوضع الذي انفرد به هذا النص دون اتفاقيات جنيف السالفة الذكر([37])، حيث دعت الثورة إلى الفكرة القائلة بأن:” هناك بروز لظاهرة الكفاح المسلح ضد السيطرة الأجنبية والاحتلال”، وأعلنت في عدة مناسبات أن القانون الدولي الإنساني ينطبق على كل من يشترك في هذا الكفاح من خلال حقيقة أنه لا يمكن كقاعدة عامة أن تعزى أنشطة هؤلاء إلى جماعة إرهابية، بل إلى مقاتلين شرعيين، ويؤكد وجهة النظر هذه مبادرات الثورة بخصوص الجزائريين الذين وقعوا في أسر قوات الاحتلال الفرنسي والفرنسيين الذين ألقي القبض عليهم أثناء المعارك.
فعلى سبيل المثال، قامت الثورة عقب ما حدث في معركة جبال الوسطى بالجزائر التي وقعت بتاريخ 11 جانفي عام 1958 بإجراء اتصال من خلال الدكتور “ابن تامي” ممثل الهلال الأحمر الجزائري بجنيف، باللجنة الدولية للصليب الأحمر بشأن الجنود الفرنسيين الأربعة الذين جرى أسرهم من قبل جيش التحرير الوطني في تلك المعركة، وتبين للجنة عند الزيارة المعاملة الإنسانية التي كانوا يتلقاها الأسرى الفرنسيين في سجون جبهة التحرير، وأن هناك امتثال لاتفاقية جنيف الثالثة المؤرخة في 12 أوت عام 1949 بشأنهم من قبل جيش التحرير الوطني، وفندت الدعايات الفرنسية بعدم التعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر على أساس أن الأسرى الجزائريين في سجونها لم يكونوا عندما وقعوا في قبضة جيشها بزيهم العسكري وبسلاحهم في أيديهم.
وعلى خلاف موقف الثورة فقد ثبت للجنة أن سلوك السلطات الفرنسية إزاء الأسرى الجزائريين يتعارض مع متطلبات القانون الدولي الإنساني حيث أنهم كانوا يعاملون بعيدا عن الالتزامات التي قررتها اتفاقية جنيف الثالثة التي صدقت عليها فرنسا عام 1951، بل أنها لم تقبل قط زيارة الهلال الأحمر الجزائري ولا اللجنة الدولية للصليب الأحمر للأسرى لمراقبة ما يجري داخل السجون الفرنسية ولم تعترف بمساعي تلك اللجنة ولم ترخص لها بالدخول للجزائر من اجل إخفاء الأدلة العملية على المعاملة السيئة التي يلقاها الأسرى الجزائريين على أيدي القوات الفرنسية التي احتجزتهم.
وشهدت فترة الحكومة الجزائرية المؤقتة ليس فقط الدعوات للطرف الفرنسي إلى التقيد بأحكام القانون الدولي الإنساني بشان الأسرى الجزائريين في سجونها بل حرصا كبيرا على امتثال قواتها لهذا القانون بشان أسرى الحرب حالما يتركون القتال وتمكين اللجنة من زيارتهم أثناء الآسر ومراقبة أوضاعهم خلالها والتي تبين من خلالها المعاملة الإنسانية التي خصتهم بها قوات جبهة التحرير الوطني وتمكينهم من جميع الحقوق المقررة لهم ضمن قواعد حماية الأسرى ([38]).
وميزت الثورة بين المقاتل في حالة حروب التحرير وبين فئة أخرى تكون إذا ما اشترك المدنيون اشتراكا مباشرا في العمليات العدائية ،إذ يعتبر هؤلاء مقاتلين أو محاربين غير شرعيين، وبالتالي لا يتمتعون بالامتيازات المقررة للمقاتل وبموجب القانون الدولي لا يمنحون الحقوق المقررة لأسرى الحرب وتنطبق عليهم اتفاقية جنيف الرابعة حين يلقى عليهم القبض، إذا ما استوفوا المعايير المتعلقة بالجنسية، كما تنطبق عليهم الأحكام ذات الصلة من البرتوكول الإضافي الأول، إذا كانت الدولة التي تحتجزهم قد صادقت عليه، وفي كل الأحوال يجوز مقاضاتهم بموجب قانون الدولة التي ألقت القبض عليهم بموجب قانونها الوطني([39]).
المبحث الثاني: مساهمة حرب التحرير الجزائرية في تطوير قواعد القانون الدولي الإنساني
ساهمت الجزائر سواء أثناء فترة احتلالها وأيضا بعد الاستقلال في بلورة بعض مبادئ القانون الدولي بما في ذلك مبادئ القانون الدولي الإنساني وتعديل مبادئ أخرى كما أن انبعاث الدولة الجزائرية واستمرارها كان له الأثر في التأثير على المبادئ الإنسانية وتطويرها لما امتازت به من تنظيم محكم لأجهزتها وأعضائها تحت راية حزب واحد يشمل كافة فئات الشعب الجزائري المتعطش للاستقلال، مما جعل الثورة الجزائرية مثلا يقتدى به في مراعاة المبادئ الإنسانية في تعاملها مع المستعمر([40]).
المطلب الأول: احترام أفراد حركة التحرير الوطني الجزائري وتطبيقهم للقانون الدولي الإنساني
التزم مقاتلوا جبهة التحرير الوطني بقواعد القانون الدولي الإنساني أثناء محاولتهم التخلص من المستعمر الفرنسي من أجل الحصول على الاستقلال، وهو ما سنبرزه فيما يلي:
الفرع الأول: احترام حرب التحرير الجزائرية لقواعد القانون الدولي الإنساني
يفيد سجل ثورة التحرير في مجال القانون الدولي الإنساني أنها احترمت وامتثلت لقواعد هذا القانون، فوقفت منذ البداية ضد ارتكاب مقاتليها لانتهاكات جسيمة بشكل عام، بل وبحسب المصادر التاريخية إن مقاتليها تحلوا بالإحساس بالمسؤولية أثناء القتال وكانوا يخضعون للقواعد والامتثال لأعراف الحرب داخل وحداتهم وشكلت هياكل خاصة لملاحقة منتهكي القانون الدولي.
فقد استتبعت عملية انضمام الجزائر لاتفاقيات جنيف الأربعة ومصادقتها عليها في 20/09/ 1960، التزامها باحترام وضمان احترام اتفاقيات جنيف لعام 1949 وتطبيقها في إطار ثورتها ضد فرنسا، للتحرر والحصول على استقلالها وسنؤكد لاحقا على مدى التزام الثورة الجزائرية باتخاذ التدابير التي قررتها تلك الاتفاقيات في حربها مع فرنسا واتخاذ التدابير اللازمة لوضح حد لانتهاك تلك القواعد والوقوف ضد من يشجع ويقدم على ارتكاب تلك الانتهاكات وعدم جواز العفو عن من يخالف التزام الجزائر بتطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني.
وكان مصدر هذا الالتزام قواعد الشريعة الإسلامية التي تقضي بأن لا يتجاوز المسلمون أثناء الحروب الضرورة العسكرية المسموح بها في القتال وأن يعاملوا خصومهم معاملة إنسانية مهما كان جنسهم أو عقيدتهم تجسيدا لوصايا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في وصاياه العشر للجيوش الإسلامية، التي يقول فيها: “إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم في الصوامع للعبادة فدعهم وما زعموا، وستجد قوما قد فحصوا أوساط رؤوسهم من الشعر وتركوا منها أمثال العصائب، فاضربوا ما فحصوا بالسيف، وإني موصيك بعشر لا تقتلن إمرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا نخلا وتحرقها، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بقرة إلا لمأكله ولا تجبن ولا تغلل”([41]).
كما كان مصدر التزام مقاتلي جبهة التحرير الوطني بقواعد القانون الدولي الإنساني، قواعد القانون الدولي العرفي، فقد كان سلوك المقاتلين متماشيا مع المبادئ العرفية الأساسية في الحرب، خاصة تلك التي تمنع الهجمات العشوائية التي لا تفرق بين المقاتلين والمدنيين وعدم توجيه الهجمات للأعيان المدنية واقتصارها فقط على الأهداف العسكرية([42]).
وعلى الصعيد الميداني، أثبتت الثورة الجزائرية أنها احترمت قواعد القانون الدولي الإنساني من خلال توفير الحماية لجميع الجرحى والمرضى المدنيين والعسكريين وبذل العناية الضرورية للحفاظ على حياتهم وحظر توجيه أي هجوم على الأشخاص المدنيين أو الأعيان المدنية واتخاذ التدابير الاحتياطية لتفادي إصابة السكان المدنيين بأضرار أو خسائر فادحة في الأرواح أو الممتلكات.
من جهة أخرى عمل الثوار على حماية واحترام أفراد الخدمات الطبية أو الهيئات الدينية والمستشفيات وسيارات الإسعاف وكذلك الوحدات ووسائل النقل الطبية الأخرى التابعة للصليب الأحمر، وكذلك كان الشأن بالنسبة للمستشفيات ووسائل النقل الطبية الفرنسية، ولم يستخدم الثوار شارة الصليب الأحمر للغدر بالعدو([43]).
وعند فحص إجراءات الحكومة المؤقتة في إطار التزامها باحترام وتطبيق التزامها باتفاقيات جنيف لعام 1949، نجد أنها قامت بالتزامها على أحسن وجه، وهو ما أثبتته التدابير التي اتخذت من قبلها في مجال تنفيذ التزاماتها التي نذكر منها التدابير التالية:
أصدرت مرسوما بتاريخ 04/10/1958 يقضي بإطلاق سراح أسرى الحرب لديها بلا قيد أو شرط، وإعادة الحرية فيه إلى خمسين فرنسيا على دفعات متتابعة.
أنشأت جبهة التحرير الوطني عددا من المكاتب التي تتولى أمر إعادة الجنود الشبان الذين جندتهم السلطات الفرنسية في الفرقة الأجنبية بغير رضائهم التام للقتال في الجزائر، فقد بلغ عدد من استطاعت الحكومة إعادتهم إلى أوطانهم عبر الحدود الغربية وحدها 3299 جنديا منهم 2071 ألمانيا، و439 اسبانيا، و447 ايطاليا و87 مجريا …و غيرهم، فهذه التدابير يفهم منها أن الحكومة المؤقتة كان لديها منهج قائم على احترام القانون الدولي الإنساني.
عدم تحلل الحكومة المؤقتة من التزامات جبهة التحرير الوطني تجاه الأسرى، فقد قامت هذه الأخيرة بإنشاء نظام لحماية هؤلاء وتمتع الأسرى الفرنسيون بموجبه بمراسلة ذويهم بواسطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وبلغت إنسانية الجنود الجزائريين إلى حد خلع نعلهم وتقديمهما إلى الأسير الفرنسي والسير على الحجارة أو في الوحل.
كما أصدرت لجنة التنسيق والتنفيذ في 12/04/ 1958 قررا ضمنته نظام جيش التحرير الوطني، الذي تحتم قواعده احترام قوات التحرير لقوانين الحرب وأحكام اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، إن هذا النظام يؤكد على احترام القانون الدولي الإنساني من قبل جيش التحرير الوطني .
أكد الأسرى الفرنسيين المفرج عنهم بأنهم لم يتعرضوا أثناء أسرهم من قبل جيش التحرير الوطني لأية انتهاكات؛ بل أنهم حصلوا على ما هو مقرر لهم من حماية بموجب قواعد معاملة الأسرى([44]).
شجعت الثورة على إبرام الاتفاقات الخاصة المقترحة في المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف في 12 أوت 1949، وهي اتفاقات تتم بين الدول والجماعات المسلحة، كما قامت بإصدار وإيداع إعلانات من طرف واحد بالتزامها بالامتثال للقانون الدولي الإنساني، واعتمدت نصوصا بمثابة مدونات داخلية للسلوك عن احترامه، فضلا عن إعلانات مستقلة تؤكد فيها ذلك الامتثال، فقد أكدت الحكومة المؤقتة صراحة عند انضمامها لاتفاقيات جنيف عام 1960 صراحة ضمن وثائق الانضمام أنها، وهي تعلن بالنتيجة، أن هذه الاتفاقات سيكون لها قوة القانون وستكون مرعية التطبيق([45]) .
الفرع الثاني: تطبيق حرب التحرير الجزائرية لمفاهيم القانون الدولي الإنساني
سنتعرض في هذا الجزء لبعض المواقف الميدانية لثورة الجزائر ذات الصلة باحترام القانون الدولي الإنساني، وذلك على النحو التالي:
أولا: حماية الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية أو الذين توقفوا عن المشاركة فيها
تثبت مواقف الثورة أنها عملت بالقواعد الوضعية التي تقضي بأنه على أطراف النزاع اتخاذ ما يجب في كل الظروف احترام وحماية الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية أو الذين توقفوا عن المشاركة فيها كالجرحى والمرضى والمدنيين والأسرى، بصرف النظر عن الطرف الذين ينتمون إليه كمحافظة الثورة على كرامة كل من يحميهم القانون الدولي الإنساني طيلة فترة الكفاح المسلح، ولعل أبرز مثال على ذلك هو سماح الثورة بزيارة الصليب الأحمر للأسرى الفرنسيين لديها وتوفير الإيواء لجميع الجرحى والمرضى المدنيين والعسكريين .
ثانيا: تسيير العمليات العسكرية
التزمت الثورة بالقاعدة التي تقول بأن حق أطراف النزاع في اختيار أساليب القتال ليس حقا لا تقيده قيود ويجب التمييز بوضوح في كل الظروف بين الأشخاص المدنيين والأعيان المدنية من جهة والمقاتلين والأهداف العسكرية من جهة أخرى([46])، فالمنطق الذي قامت عليه الثورة هو عدم الهجوم المباشر إلا على الأهداف العسكرية دون سواها وهو ما تقرر صراحة في المادة 52 من البرتوكول الإضافي الأول الصادر في 8 جويلية 1977، والتي عرفت الفقرة الثانية منها تلك الأهداف بالقول :” تنحصر الأهداف العسكرية فيما يتعلق بالأعيان على تلك التي تسهم مساهمة فعالة في العمل العسكري سواء كان ذلك بطبيعتها أم بموقعها أم بغايتها أو باستخدامها والتي يحقق تدميرها التام أو الجزئي ميزة عسكرية أكيدة”([47])، وقبل أن تطرح الثورة هذه الفكرة كانت الأهداف العسكرية تتمثل في أي هدف من شأنه الإسهام بفاعلية في تدمير وسائل العدو للمقاومة وإضعاف عزمه على القتال([48]).
يتبين هذا الاتجاه، من خلال نقطتين هما: أولا حظر توجيه أي هجوم إلى أشخاص مدنيين أو أعيان مدنية وثانيهما اتخاذها تدابير احتياطية لتفادي إصابة السكان المدنيين بجروح أو خسائر أو أضرار.
ثالثا: احترام شارة الصليب الأحمر والالتزام بدور اللجنة الدولية للصليب الأحمر
لم تنحرف الثورة طيلة فترة الكفاح المسلح عن القاعدة التي توجب احترام وحماية أفراد الخدمات الطبية أو الهيئات الدينية والطبية وسيارات الإسعاف وكذلك الوحدات ووسائل النقل الطبية الأخرى والتي توجب احترام شارة الصليب الأحمر التي هي رمز للحماية في كل الظروف([49]).
ومن اليسير إدراك ذلك، لكون أنه لم تسجل أي حالة هاجمت فيها قواتها المستشفيات والوحدات ووسائل النقل الطبية الفرنسية، فضلا عن تأمين الثورة الجزائرية الحركة لموظفي الصليب الأحمر في المعارك، كما لم تكشف أية حالة عن إساءة استخدام الثورة لشارة الصليب الأحمر([50]).
وأعلنت جبهة التحرير الوطني حماية الأسرى الفرنسيين وسهلت اتصالهم بذويهم وتلقي الرسائل منهم من خلال رسائل صوتية مسجلة بواسطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، كما تعاونت الجبهة مع هذه الأخيرة في مجال التعريف ونشر القانون الدولي الإنساني ورصد الامتثال لقواعد هذه القانون وسهلت عمل اللجنة في تقديم مساعداتها لضحايا النزاع المسلح الدائر بين جبهة التحرير الوطني من جهة والمستعمر الفرنسي من جهة ثانية([51]).
كما أنه بالرجوع إلى تاريخ الثورة الجزائرية، يلاحظ أنها طورت علاقة ثقة بينها وبين اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ولقد أدت هذه العلاقة إلى نتائج مهمة من قبيل إسهام اللجنة في التعريف بالقانون الدولي الإنساني والإشراف على مدى تطبيقه واحترامه، فقد قامت على سبيل المثال بتذكير الطرف الفرنسي بواجباته القانونية المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف والواجبات التي يفرضها القانون الدولي العرفي([52]).
كما أدت الثورة إلى إعادة النظر في دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر حيث اتسع نطاق نشاطها ليشمل حالة النزاع الجزائري –الفرنسي، وأصبحت تقوم بزيارات إلى المعتقلات بهدف ضمان احترام حياة وكرامة الأسرى وغيرهم من المحتجزين ومنع التعذيب وأشكال سوء المعاملة والتعسف التي تشكل انتهاكا لقواعد الإنسانية الأساسية وسمحت زياراتها بمتابعة مصير السجناء وتقديم التوصيات إلى السلطات الفرنسية حول إدخال تحسينات تراها ضرورية بالنسبة إلى ظروف الاحتجاز([53]).
وقد بدا هذا من خلال تشجيع جبهة التحرير الوطني عام1958 للجنة على إجراء الاتصال وإبداء المبادرات قصد القيام بالمهمة الملقاة على عاتقها وفق حدود ما تنص عليه اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 تجاه الأسرى الفرنسيين([54]).
الفرع الرابع: نشر القانون الدولي الإنساني
نشرت الثورة من خلال أجهزتها فكرة الأخوة الإنسانية وقواعد القانون الدولي الإنساني الخاصة بحماية الجرحى والمرضى والأسرى وغيرهم من ضحايا النزاع، بين أفراد جيش التحرير الوطني والمجموعات المسلحة في المدن وبين الفدائيون في الأرياف، إذ أن الثورة حرمت في نشراتها تعذيب الجرحى والمرضى والأسرى، ولا نستغرب ذلك لان الثورة الجزائرية ألزمت نفسها بما جاء في اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949،ذلك لأن الحكومة الجزائرية المؤقتة([55])، كانت قد قدمت في جوان عام 1960 إلى المجلس الفيدرالي السويسري وثائق أنخرطها في معاهدات جنيف لعام1949، وأبلغت كل أطراف هذه المعاهدات بانخراط الحكومة الجزائرية المؤقتة([56]).
وإذا كانت القاعدة العامة أن النشر يتم في زمن السلم، فإن الثورة كانت مضطرة للقيام بالنشر أثناء النزاع المسلح، فوزعت على المقاتلين تعليمات تحظر بعض الممارسات المتعارضة مع قواعد القانون الدولي الإنساني، وكانت تشرح ما يقضي به القانون، من ذلك ما محاولتها توسيع علم المتحاربين بالتزاماتهم أثناء القتال، ونذكر من محاولات النشر التي قامت بها جبهة التحرير الوطني تلك التعليمة التي فصلت وجوب تكرار الإدارة النظامية لجيش التحرير الوطني تعميم الإرشادات وبذل النصائح للجنود بعدم الاقتراب من الزنا والقيام بالرقابة المستمرة لجميع قواتها بتنفيذهم لتلك التعليمات.
المطلب الثاني: إسهام حرب التحرير الجزائرية في تطوير قواعد القانون الدولي الإنساني
لقد برزت المعاملة الإنسانية أمن قبل قوات المشاركة في تحرير الجزائر إزاء القوات الفرنسية من منطلق إيمان الجنود الجزائريين بمبادئ المعاملة الإنسانية وتطبيقها بمواجهة العدو، وهو ما سنبرزه بشيء من التفصيل على النحو التالي:
الفرع الأول: بروز التطبيق الواسع لمفهوم المعاملة الإنسانية إزاء القوات الفرنسية
ففي فبراير من عام 1956 أعلنت جبهة التحرير الوطني عن نيتها في تطبيق اتفاقيات جنيف لعام 1949، وقد أعطيت التعليمات لأعضاء الجيش الجزائري لاحترام قوانين الحرب والمعاملة الإنسانية للأسرى، كما قدمت اقتراحات في عدة مناسبات إلى فرنسا لعقد اتفاقيات خاصة لتسوية القضايا الإنسانية بما فيها تبادل الأسرى، لكن الفرنسيين رفضوا ذلك، على أساس أن توقيع أي اتفاقية مع الحكومة الجزائرية المؤقتة يؤدي إلى الاعتراف الضمني بالشخصية القانونية الدولية لهذه الأخيرة، من ذلك نذكر ما جاء في صحيفة المجاهد الجزائرية في مقال تحت عنوان ” جيشنا وإستراتيجيته” تصريح لعقيد جزائري، قال فيه :” لقد أكد جيش التحرير دائما على المعاملة الإنسانية للأسرى، أن مقاتلينا قد ضحوا بما يملكون من وسائل متواضعة لراحتهم لصالح أسراهم ” من هنا يبرز لنا أن قوات التحرير قد عاملت الأسرى بكل إنسانية، كما أنه تم تمكين الهلال الأحمر الدولي في جانفي 1958 من زيارة الأسرى الفرنسيين داخل الإقليم الجزائري وفي هذا الإطار صرح أحد الأعضاء المدعو “فراليخ” في هذا الموضوع بقوله أنه :” يظهر بأن إيقاف زيارات الصليب الأحمر كان ناتجا عن رفض فرنسا الترخيص له بذلك وليس لعدم رغبة جيش التحرير في استقباله”وابتداء من سنة 1958 قامت جبهة التحرير وبصفة منفردة بإطلاق سراح عدة أفواج من الأسرى الفرنسيين وكان ذلك يتم تحت رعاية الصليب الأحمر الدولي([57]).
الفرع الثاني: تطوير حرب التحرير لمفهومي الهجوم على الأهداف العسكرية فقط وحظر الأعمال الانتقامية
كان المنطق الذي قامت عليه الثورة الجزائرية هو عدم الهجوم إلا على الأهداف العسكرية وذلك تنفيذا لما قررته في وقت لاحق المادة 52 من البرتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف المؤرخ في 08/07 / 1977([58])، ها ما سنفصله فيما يلي:
أولا: التطوير في مفهوم عدم الهجوم إلا على الأهداف العسكرية
قبل أن تطرح الثورة الجزائرية هذه الفكرة، كانت الأهداف العسكرية تتمثل في أي هدف من شأنه الإسهام بفاعلية في تدمير وسائل العدو وإضعاف عزمه على القتال([59]).
كما أنه من الأفكار التي طرحت أثناء الثورة، مسألة الحد من الخسائر والأضرار عند الهجمات العسكرية، وقد تم بالفعل في وقت لاحق التطرق لدور التدابير الاحترازية في الحد من أثار الهجمات العسكرية على المدنيين والأعيان المدنية وذلك من خلال نص المادة 57 من برتوكول جنيف الأول لعام 1977([60]) التي كان الهدف من صياغتها ضمان الحذر الممكن لتجنب إصابة المدنيين والأعيان المدنية أثناء سير العمليات العدائية.
ثانيا: إسهام الثورة الجزائرية في التأكيد على حظر أعمال الثأر عند سير الأعمال العدائية
تعرف الأعمال الثأرية قانونا بأنها تدابير إكراه أو عنف أو ضغط مخالفة مبدئيا لقواعد القانون الــــدولي العام تلجأ إليها الدولة للرد على أعــــــمال مخالفة هي أيضا للقانون قامــــــت بها أو سمحت بقيــــامها دولة أخرى، غير أن الثــــورة الجزائرية أشاعت فكرة حظر الأعــــمال الثأرية أو الانتقامية ضد الأشخاص المحميين عند سير الأعمال العدائية لحماية الأفراد الذين ينص عليهم القانون الدولي الإنساني، وتطبيقا لهذه الفكرة لم ترد الثورة على حالات تجميع الجيش الفرنسي للسكان المدنيين الجزائريين أو حرقه لممتلكاتهم أو تهجيرهم من أماكنهم أو قصف مدنهم وقراهم بصورة وحشية بالقيام بأعمال انتقامية ضد المعمرين، وثمة أدلة كثيرة على اعتماد الثورة لهذه الفكرة من ذلك أن السلوك العام كان موجها مباشرة ضد الأهداف والمقاتلون العسكريون، ولم تجعل المعمرين قط هدفا للأعمال العسكرية، إلا إذا شاركوا مباشرة في الأعمال العدائية وهو المبدأ الذي تمت صياغته في وقت لاحق في إطار الفقرة الثالثة من المادة 51 من برتوكول جنيف الأول لعام 1977([61]).
الفرع الثالث: بعض المبادئ التي طورتها ثورة التحرير الجزائرية
لا مجال للشك في أن حروب التحرير أصبحت مشروعة ومقبولة في إطار القانون الدولي المعاصر وبالتالي هي قاعدة حديثة الظهور، وقد تبلورت في بداية الستينات أي مع حرب، وتعتبر حرب التحرير الجزائرية العامل الأكثر فعالية في إبراز هذه الشرعية وتدعيم مقاومة الشعوب الراضخة تحت نير الاستعمار والاحتلال بهدف التخلص منه والحصول على حريتها وفي هذا المعنى جاء على لسان وزير الخارجية الجزائري أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها التاسعة والعشرين ما يلي: ” إذا كانت الإمبراطوريات العظمى قد ظهرت من العنف الاضطهادي، فما هي الإمبراطورية التي يمكن أن تسمو على مملكة العدل التي تضفي الشرعية على العنف الثوري الذي يعتبر الطريقة الوحيدة لتحرير الشعوب”.
أولا- مساهمة حرب التحرير الجزائرية في تطوير مفهوم مبدأ عدم التدخل
خضع هذا المبدأ لتعديل واقعي تعدى ما تضمنه النص عليه ضمن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة في المادة الثانية منه في فقرتها السابعة، فحرب الجزائر قد استطاعت أن تقلص من مفهوم الاختصاص الوطني للدول([62])، وذلك بوضح حد لما يعتبر من شؤونها الداخلية فالحرب فبعدما كانت فرنسا تدعي بأن قضية الجزائر قضية داخلية وأن آية مساعدة مادية آو معنوية لجبهة التحرير الوطني تعتبر تدخلا في الشؤون فرنسا الداخلية([63])، واعتبارها إدخال القضية الجزائرية في جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة خروجا عن اختصاص هذه الأخيرة، ولكن للتنظيم التي تميزت به الثورة الجزائرية واحترامها لقواعد القانون الدولي بصفة عامة وتطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني بصفة خاصة جعل فرنسا تتراجع عن موقفها، لقد تطورت هذه السابقة الدولية وأثرت على مفهوم المقاومة من خلال تدعيم مشروعيتها، بل أن الثورة الجزائرية تعدت هذا المفهوم لتكرس واجب أساسي يتمثل في واجب المجموعة الدولية بمساعدة الشعوب التي تكافح من أجل الحصول على استقلالها.
ثانيا- الإسهام في الحث على التعديل في استثناءات مبدأ تحريم استعمال القوة بالعلاقات الدولية
من المنطقي أن ينعكس هذا التغيير على أهم مبادئ القانون الدولي وهو الذي يؤكد على تحريم اللجوء إلى استعمال القوة لتسوية الخلافات الدولية والذي يجوز استثناءا وفقا لميثاق الأمم المتحدة في حالتين هما الدفاع الشرعي، واستعمال مجلس الأمن القوة في إطار تنفيذ تدابير الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ويعود فضل كبير للثورة الجزائرية في الإسهام في استحداث استثناء ثالث على مبدأ تحريم استعمال القوة وهو حق الشعوب في استعمال القوة المسلحة من أجل الحرية والاستقلال([64]).
وهذا ما أبرز الفراغ الموجود في اتفاقية جنيف الأربعة لعام 1949، فالمادة الثالثة المشتركة بين هذه الاتفاقيات لم تعد كافية لحماية المحاربين بكافة فئاتهم لأنها خاصة بالمنازعات الداخلية، وبما أن حركات التحرير لها طبيعة خاصة تجعلها تكيف كمنازعات دولية يجب أن توضع لها قواعد تتناسب مع طبيعتها، وهو ما برز بوضوح وبشكل واقعي من خلال ثورة التحرير الجزائرية.
المطلب الثاني: تطوير حرب التحرير الجزائرية للجانب القمعي في القانون الدولي الإنساني
أخذت الثورة الجزائرية بالمسؤولية الجنائية الفردية عن جرائم الحرب، كما تم منع التعذيب وممارسته في حرب التحرير الجزائرية، هذا ما يؤكد على قيام القائمين على حرب التحرير بتطوير الجانب القمعي في القانون الدولي الإنساني، ومحاولة الوقوف دون أي انتهاك لقواعده خلال مرحلة الثورة وهو ما تؤكده الوقائع التالية:
الفرع الأول: تحميل الفرد المسؤولية الجنائية الفردية
يقصد بهذه المسؤولية أن يتحمل الإنسان الطبيعي تبعة الجريمة التي ارتكبها والالتزام بالخضوع للعقوبة والجزاء وتفترض تلك المسؤولية وقوع انتهاكات جسيمة تتطابق والنموذج القانوني لإحدى الجرائم الدولية.
بعثت الثورة فكرة هذه المسؤولية على ارتكاب جرائم دولية في حالات حروب التحرير من قبيل تحميل تلك المسؤولية على ممارسات التعذيب بالنسبة للمسؤولين في الجيش الفرنسي بالجزائر، واستند في ذلك على ما ورد في تقارير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لاسيما تقريرها السابع الذي أذيع في شهر جانفي 1960 في فرنسا وحمل منطوقه قرار اتهام موجه ضد مجرمي الحرب الفرنسيين على أساليب التعذيب التي مارسوها ضد الجزائريين في المعسكرات المعروفة بمعسكرات “الانتقاء والترحيل”.
وحجة الثورة في المسؤولية الجنائية الدولية عن سلوك جيش الاحتلال، هي:
الأولى: اعتراف القانون الدولي بتلك المسؤولية الناشئة عن الجريمة الدولية خلال النزاعات المسلحة وجعل مصدرها الالتزام الدولي الذي ينبع من القواعد الدولية العرفية والاتفاقية والمبادئ العامة للقانون وقرارات المنظمات الدولية، فيرتب الإخلال بهذه القواعد مسؤولية ذات طبيعة متميزة عن المسؤولية الناشئة عن الجرائم الوطنية.
والثانية: هو إقرار القضاء الجنائي الدولي بتلك المسؤولية، وأعني هنا ما جاء في اتفاقية لندن لعام 1945 التي أسست لمحكمة نورنمبورغ بالنسبة للنازيين .أما الأخيرة فهي نصوص اتفاقيات جنيف لعام 1949 التي تلزم الأفراد والدول الأطراف في أي نزاع دولي بعدم خرق القانون الدولي الإنساني الذي يفرض عليهم واجبات معينة ويقضي بإمكانية مساءلة الأشخاص جنائيا بشأن المخالفات الجسيمة الأخرى لقوانين الحرب وأعرافها وبالاختصاص العالمي إزاء الأشخاص المشتبه في ارتكابهم مثل تلك الأعمال.
وقد أثمرت أفكار الثورة حول تحمل المسؤولية الجنائية الفردية، حين وجدت قبولا كبيرا على مستوى الرأي العام الدولي والوثائق الدولية خاصة تلك التي برزت في تاريخ لاحق على الثورة، فأصبح مفهوم المسؤولية عن ارتكاب جرائم الحرب من قبل قوات الاحتلال الفرنسية جزءا من القانون الدولي الإنساني وقابلا للتطبيق في حروب التحرير، ولم يكن بمقدور الثورة أن تطور تلك الفكرة لو لم تكن مدركة لمفهوم جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني وللوسائل المقبولة إعلاميا في الحرب فقد وجدناها تستعين في نشر رؤيتها عن طريق إصدار تصريحات تعلن فيها بأن الجيش الفرنسي يرتكب جرائم في حق الجزائريين تتماثل مع جرائم الحرب التي ارتكبها النازيين وتعدد حالات هذه الجريمة كأعمال القتل المتعمدة المرتكبة هنا وهناك من الجزائر وتنزع إلى إبراز المواقف الدولية التي تجعل من قتل المدنيين عمدا جريمة من جرائم الحرب في النزاع المسلح والاستناد على أحكام الاتفاقيات جنيف التي تحظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب في حالة ارتكابها ضد الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية([65]).
الفرع الثاني: منع التعذيب وممارسته في حرب التحرير الجزائرية
ثمة هوة كبيرة قبل الثورة بين الالتزام بمعايير القانون الدولي الإنساني بشأن منع ممارسة التعذيب([66]) في حرب التحرير الجزائرية حيث لم يكن هناك اعتراف بحروب التحرير وغياب أي مفهوم أو حماية للمقاتل في تلك الحروب ومن الجائز القول ان الثورة استطاعت أن تغير من هذه الصورة حيث التزمت بعدم ممارسة التعذيب على من هم في قبضتها من أفراد العدو وأكدت التزامها بالمنطق الذي يقوم عليه القانون الدولي الإنساني في الوقت الحاضر الذي يحظر على أطراف النزاع ارتكاب مثل تلك الأفعال وتبني الثورة لهذا المنهج كان قائما على أساسين:
الأول: هو التزام أخلاقي بعدم تعذيب المقاتل بالنظر للصفة الإنسانية للعدو.
والثاني: هو الالتزام القانوني الذي تمثله نصوص اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 التي حظرت تلك الممارسات في المادة الثالثة المشتركة منها.
ولم تتحلل الثورة من هذا الالتزام، بالرغم من استمرار قوات الاحتلال الفرنسي بممارسة التعذيب في مواجهة الأسرى والسجناء الجزائريين قبل إعدامهم؛ بل وإنشائها لمدارس لتعليم التعذيب هؤلاء الأسرى وغيرهم من المعتقلين، وأخضعت تلك المدارس لمنظمة مقرها بالجزائر؛ فأشرفت على عمليات التعذيب وكانت هذه المدارس تطبق التعذيب كعلم يدرس من قبل أساتذة معينين وله ملكاته ومنفذوه وله قوانينه، ففي الوقت الذي توجد فيه أدلة واقعية على الممارسة الفرنسية للتعذيب بشكل ممنهج من خلال أفراد مدربين على ذلك، فإن هناك قرائن كثيرة تدل على أن الثورة الجزائرية قد اعتبرت التعذيب كأحد التصرفات المحظورة حظرا تاما أثناء عملياتها القتالية مع القوات فرنسا، ولذلك التزمت بهذا المبدأ طوال فترة الحرب؛ بل وظلت تطالب فرنسا باحترام هذا المبدأ في الجزائر وتذكرها بالتزاماتها بموجب اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 بشأن الأسرى الجزائريين([67]).
الخاتمة
توصلنا إلى أن الفضل في انتصار حرب التحرير الجزائرية يرجع إلى وضوح أهداف القائمين بها، وكذلك إلى احترمها في العمليات المنبثقة عن أفرادها في سبيل التحرر قواعد القانون الدولي الإنساني في كل عملياتها وفي كافة مراحلها، ولهذا نصل إلى النتائج التالية:
إن استمرار حرب التحرير الجزائرية وطريقة عمل الثوار التي كانت تطبق القواعد الإنسانية وتلتزم بها في عملياتها ضد الاستعمار الفرنسي، واشتدادها أدى إلى الاعتراف بمقاتلي الثورة التحريرية الجزائرية وإضفاء صفة المقاتلين الشرعيين على أفرادها، رغم أننا ننوه إلى أن السلطات الفرنسية لم تعامل هؤلاء قط بتلك الصفة، بل لم تطبق عليهم وضع أسير الحرب، وإنما كانت تأمر بقتلهم باعتبارهم خارجين عن القانون، ومارست القوات الفرنسية التعذيب على أسرى الحرب الجزائريين على نطاق واسع، إذا لم يكن الأمر يقتصر على ممارسات معزولة أو أخطاء فردية، بل أنشأت أجهزة خاصة للتعذيب.
لاحظنا بعد الاطلاع على شروط اكتساب أفراد حركة التحرير الجزائرية صفة المقاتلين القانونيين هي خضوع أفراد الحركة لقائد مسؤول، وتقيدهم بقوانين وعادات الحرب، واشتراط حمل أسلحتهم علنا، وارتدائهم زيا يميزهم عن غيرهم فليسمن المنطقي لأن هذا سيجعلهم هدفا سهلا للعدو المحتل.
رغم أن السلطات الفرنسية خرقت كل المبادئ الإنسانية الخاصة بمعاملة مقاتلي حركات التحرر، كمبدأ المعاملة الإنسانية في جميع أوقات الأسر، ومبدأ احترام شرف الأسرى وأشخاصهم ووضعهم في أماكن لائقة بالمعيشة وعدم تعذيبهم للتعذيب والممارسات الوحشية، إلا أنه في المقابل نجد أن أفراد حركات التحرر لم يعتمدوا مبدأ المعاملة بالمثل بل طبقوا كل المبادئ الإنسانية التي تضمنتها اتفاقيات جنيف الثالثة لعام 1949، من ثم عبرت عن احترام وتطبيق أفراد حركة التحرر الجزائرية لقواعد القانون الدولي الإنساني حيث أكدت الحكومة الجزائرية المؤقتة إثر إعلان تأسيسها بأن الجزائر متمسكة بمطابقة ثورتها للقوانين الدولية واحترام قوانين الحرب ومنها اتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بمعاملة أسرى الحرب لعام 1949، بل كان لها الفضل في تطوير المبادئ الإنسانية من خلال تعاملهم مع أسرى الحرب الفرنسيين، الذين هم نفسهم اعترفوا بالمبادئ السامية التي تميزت بها الثورة الجزائرية في التعامل مع الأسرى الفرنسيين، كما كان أفراد التحرير الوطني الجزائريين يرسلون قوائم الأسرى الفرنسيين إلى جمعية الهلال الأحمر الدولي، وقد كان بإمكان هؤلاء مراسلة أهاليهم وتلقي الطرود والرسائل منهم.
خلفت حرب التحرير الجزائرية مجموعة من الأفكار الجديدة تماما في مجال القانون الدولي الإنساني المنطبق على حروب التحرير، إذ أنها بعثت أفكارا جديدة مثل مفهوم الأهداف العسكرية ووضع أطراف النزاع حرب التحرير ووضع المقاتل عند وقوعه في الأسر وحماية المدنيين وحقوقهم الإنسانية .
إسهام حرب التحرير الجزائرية في إبراز أهمية اتخاذ التدابير الاحترازية في الحد من الإضرار الناجمة عن الأعمال العدائية.
أبرزت حرب التحرير الجزائرية أهمية الدور الذي تقوم به اللجنة الدولية للصليب الأحمر كما أكدت على علاقة اللجنة الدولية للصليب الأحمر مع أطراف هذه الحروب.
ساهمت حرب التحرير الجزائرية في خلق قانون عرفي بشأن تسيير العمليات الحربية أثناء حرب التحرير والتأكيد على وجوب الاهتمام بهذا النوع من النزاعات وتدعيمه بقواعد تضمن ممارسته ضمن إطار يؤدي إلى تحقيق الأهداف التي يصبو إليها مناضلوا حرب التحرير حتى مع عدم اعتراف القوات المتنازعة معها بهم خاصة المبدأ العرفي الذي يقرر قيم الحرب حتى مع عدم اعتراف حكومة الاحتلال بذلك.
كما هو معلوم أن فرنسا من بين الدول التي انضمت إلى هذه الاتفاقيات، وتعهدت على أن تعمل على تطبيق هذه القوانين طبقا لتوصياتها، لكن الحرب برهنت على أن فرنسا هي آخر من يلتزم بالتوصيات الدولية، وهي آخر من يعمل حسابا للمعاملات الإنسانية وآخر من يقيم ميزانا للعدل في معاملاتها للمدنيين العزل ولأسرى الحرب على عكس حرب التحرير الجزائرية التي على الرغم من أن مناضليها لم يكونوا بمثل قوة فرنسا ألا أنهم حرب التحرير الجزائرية وكرست مبدأ المعاملة الإنسانية في كافة مراحل الثورة وبمواجهة كل من ينتمي إلى القوات الفرنسية حتى المقاتلين منهم.
بغض النظر عن اعتبار مسلك فرنسا إزاء نشاط الثوار يعد اعتراف ضمني أم لا، وآيا كان تكييف الحكومة الفرنسية للثورة الجزائرية، فإن حد أدنى من مقتضيات الإنسانية التي تضمنتها المادة الثالثة المشتركة تكون واجبة التطبيقخاصة وأن فرنسا صادقت على اتفاقيات جنيف الأربعة في 28 يونيو 1951، وبالتالي فإنها تصبح جزء من القانون الداخلي طبقا للدستور الفرنسي.
ما يمكن قوله في الأخير أن حرب التحرير الجزائرية قد آتت ببدائل للقانون الدولي التقليدي وأبرزت الحاجة إلى تطوير القانون الدولي الإنساني كفرع جديد من فروع القانون الدولي.
(محاماه نت)