دراسات قانونية

فكرة النظام العام وتحديدها (بحث قانوني)

تحديد فكرة النظام العام

غلاي حياة متحصلة على شهادة الماجستير في القانون العام المعمق ، مسجلة في قسم الدكتوراه. الجزائر

نظرا لمرونة فكرة النظام العام و عدم ثباتها أو استقرارها فإن المشرع لا يملك أن يحدد لها مضمونا لا يتغير ، كما أنه ليس بإمكانه أن يعرفها على وجه محدد يمنعها من أن تؤدي وظيفتها ، و كل ما يستطيع فعله أن يعرفها بمضمونها فحسب تاركا للفقه و القضاء أمر تحديد الأمور المناهضة للنظام العام .

و فيما يلي سيتم التعرض إلى تعريف كل من الفقه و القضاء للنظام العام ، و ذلك على الشكل التالي :

التعريف الفقهي :
هناك اتجاه يتزعمه الفقيه “هوريو” Hauriou يرى أن فكرة النظام العام يجب أن تحمل معنى النظام المادي الملموس الذي يعد بمثابة حالة واقعية مناهضة للفوضى . أما حفظ النظام الأدبي الذي يتعلق بالمعتقدات و الأحاسيس فلا يدخل في ولاية الضبط الإداري إلا إذا اتخذ الإخلال بالنظام الأدبي مظهرا خطيرا من شأنه تهديد النظام المادي بصورة مباشرة أو غير مباشرة .

و هناك اتجاه يتزعمه الفقيه ” فالين ” Waline يذهب إلى ضرورة إعطاء النظام العام مدلولا واسعا ليشمل المظهر المعنوي بجانب المظهر المادي . فالنظام العام يقصد به مجموعة الشروط اللازمة للأمن و الآداب العامة التي لا غنى عنها لقيام علاقات سليمة بين المواطنين .

و يرى الفقيه ” بوردو” Burdeau أن فكرة النظام العام ذات مضمون واسع بحيث تشمل النظام المادي و الأدبي و الاقتصادي و بذلك تشمل جميع نواحي النشاط الإجتماعي .

التعريف القضائي :
اتجه القضاء في البداية إلى الأخذ بالمعنى الضيق للنظام العام ، فلم يعتد بالنظام العام المادي ذي المظهر الخارجي ، إلا أن هذا النظام لم يستمر لمدة طويلة ، حيث أن القضاء تراجع عن هذا الإتجاه فتوسع في تفسير أغراض الضبط الإداري إذ لم يعتبر هيئات الضبط قاصرة على حفظ النظام العام في مظهره الخارجي أو المادي ، و إنما تتسع هذه الوظيفة لتشمل مظهره المعنوي .

فمن خلال ما سبق يمكن القول أن النظام العام هو الأساس السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي و الخلقي الذي يقوم عليه كيان الدولة ، كما ترسمه القوانين النافذة فيها .

و فيما يلي سنتعرض إلى العناصر المكونة للنظام العام .

المبحث الأول : النظام العام الشامل .

إن النظام العام الشامل يشمل النظام العام المادي ( التقليدي) و النظام العام الأدبي، وهو ما سيتم التعرض له فيما يلي :

المطلب الأول : النظام العام المادي ( التقليدي) .

استقر الرأي في الفقه التقليدي على أن مدلول النظام العام يتضمن الأمن العام و الصحة والسكينة العامة و هذا ما أكد عليه قانون البلدية لسنة 2011 حيث تنص المادة 88 في فقرتها الثانية على ما يلي : ” يقوم رئيس المجلس الشعبي البلدي تحت إشراف الوالي السهر على حسن النظام و السكينة و النظافة العمومية ” ، و كذلك قانون الولاية لسنة 2012 إذ تنص المادة 114 منه على أن : “ الوالي مسؤول على المحافظة على النظام و الأمن و السلامة و السكينة العامة ” .

و يعني الأمن العام اتخاذ الإجراءات الإدارية الكفيلة بحماية أرواح الناس و ممتلكاتهم و بالتالي اطمئنان الفرد على نفسه و ماله من خطر الاعتداء و اتخاذ كل الإجراءات اللازمة للوقاية من الأخطار التي يمكن أن تستهدف الأفراد في أحوالهم و أنفسهم سواء كانت من صنع الطبيعة كتوقي الفيضانات الخطرة والحرائق ، و انهيار المباني أو من صنع الإنسان كسطو المجرمين و المظاهرات العنيفة .

و يلقى على سلطة الضبط واجب القيام بكافة التدابير اللازمة لمنع الجرائم و الاجتماعات و التظاهرات التي تخل بالأمن و القيام بالإجراءات القانونية إزاء بعض الأفراد نظرا لخطورتهم على الأمن .

و لم يقتصر النظام العام على ذلك ، بل تعداه إلى صور أخرى كتنظيم الحرف و المهن التي تمارس في الطريق بقصد حماية المرور ، و كذلك منع عرض أشياء من النوافذ خوفا من سقوطها على المارة في الطريق العام ، و عدم إلقاء أي شيء يعرض المارة للضرر أو بسبب انبعاث الروائح الكريهة ، و فرض إجراءات وقائية على أصحاب العمارات كالحماية ضد الحريق .

أما الصحة العامة فتعني حماية المواطنين من خطر الأمراض و من انتشار الأوبئة و ذلك بقيام سلطات الضبط بمنع ما قد يكون سببا في المساس بالصحة العامة فتتخذ ما يلزم من الإجراءات
اللازمة بغرض وقاية صحة الأفراد أيا كان مصدر الخطر أو المرض سواء كانت الحيوانات أو المياه أو أي مادة أخرى ، بالإضافة إلى نظافة البنايات القديمة و الجديدة و نظافة المؤسسات الصناعية التجارية و محاربة الأمراض المعدية و تحسين الظروف الصحية و العلاجية للمواطنين كتوفير التطعيم و الأدوية .

أما السكينة العامة فيقصد بها توفير حالة السكون و الهدوء في الطرقات العامة و الأماكن العامة حتى لا يتعرض الجمهور للمضايقات أو الانزعاج في أوقات راحتهم مثل : تنظيم استعمال مكبرات الصوت وضوضاء الاحتفالات و أصوات الباعة المتجولين . فهذه الأعمال و إن كانت تبدو تافهة إلا أنها تسبب للأفراد مضايقات على درجة من الجسامة تستلزم التدخل لإيقافها .

و حفاظا على السكينة العامة تقوم الإدارة بتخصيص أماكن الأسواق العامة الكبرى أو المنشآت الصناعية بعيدا عن المناطق السكنية للمحافظة على الهدوء فيها ، و يقع على سلطة الضبط واجب القضاء على الضوضاء سواء كانت صادرة من الأفراد أو الأشغال العامة .

المطلب الثاني :النظام العام الأدبي ( الخلقي ) .

الآداب العامة هي أحد مكونات النظام العام بشرط اقترانها بأفعال مادية أو خارجية من شأنها تهديد النظام العام في مظهره المادي حيث يحرص الضبط الإداري على صونها. و هذه الأخلاق العامة ليست الأخلاق المثالية بل الحد الأدنى الذي إذا لم يحرص عليه أدى ذلك إلى انهيار الحياد الخلقي في الجماعة مما يترتب عليه أضرارا بنظامها العام المادي و أن يهدده تهديدا مباشرا . و من هنا للضبط الإداري التدخل لوقف هذا التهديد بكل وسائله ، مثال ذلك منع عرض الأفلام الخليعة ، و منع عرض المطبوعات التي تصف الجرائم و الفضائح في الأماكن العامة و اتخاذ ما يلزم لحماية الناس من تأثير المشروبات .

و لقد نص المشرع الجزائري في المادة 14 من المرسوم المتعلق بصلاحيات رئيس المجلس الشعبي البلدي فبما يخص الطرق و النقاوة و الطمأنينة العامة على ما يلي : ” يتخذ و ينفذ رئيس المجلس الشعبي البلدي في إطار التنظيم المعمول به كل الإجراءات التي من شأنها أن تضمن حسن النظام و الأمن العمومي و كذلك الحفاظ على الطمأنينة و الآداب العامة ، كما يجب عليه أن يقمع كل عمل من شأنه أن يخل بذلك ” .

المبحث الثاني : النظام العام المتخصص.

لقد اتسعت فكرة النظام العام اتساعا كبيرا ، فإذا كانت الفكرة قد حصرت قديما في حماية أسس المجتمع و أمنه ، فإن التطور الاجتماعي الكبير الذي أصاب دور الدولة الحديثة في المجتمع قد وسع كثيرا من الفكرة .

و يتمثل النظام العام المتخصص في النظام العام الاقتصادي الذي يحقق مصالح الأفراد ، و النظام العام الجمالي الذي يحقق السكينة النفسية للأفراد . إن هذا التطور الحديث لفكرة النظام العام هو الذي سيتم التعرض له فيما يلي :

المطلب الأول : النظام العام الاقتصادي .

لقد ازداد تدخل الدولة في مختلف الأنشطة و على وجه الخصوص مجال النشاط الاقتصادي الذي يعكس مدى استقرار الأوضاع السياسية و الاجتماعية داخل الدولة . فلقد كان لهذا التدخل أثره في ظهور نظام اقتصادي يمنع المجتمع و الاقتصاد من الوقوع في مخاطر كبيرة ، فهو يهدف إلى حماية المنافسة الحرة و النظام في الإنتاج و في التوزيع و كذلك الأسعار . إن هذا التدخل يكون من الإدارة من أجل العمل على تطبيق القانون ، و من ثم تتسع فكرة النظام العام لتشمل عنصرا جديدا هو النظام العام الاقتصادي الذي يستهدف إشباع حاجات ضرورية أو ملحة ينتج عن عدم إشباعها حدوث إضطرابات معينة .

و يتصل هذا التوسع في مدلول النظام العام بمجموعة من الأهداف الضرورية التي تتعلق بتوفير المواد الغذائية الضرورية و تنظيم عملية الاستيراد و التصدير ، و كذا التعامل بالعملات الحرة و الاتجار فيها .

فهذا الازدياد الواضح في تدخل سلطات الضبط الإداري في النواحي الاقتصادية يقلل من خطورة الفوضى العارمة إذا تركنا الأفراد يمارسون حرياتهم الاقتصادية دون رقيب ، ذلك أن هذه الحالة تترك تداعيات خطيرة تزعزع الأمن و كيان الدولة ونظامها العام ، مما ينعكس سلبا على النظام الاجتماعي بمجمله . و هذا ما دفع أغلب الدول في العصر الحديث إلى توجيه الاقتصاد الوطني بغية السيطرة عليه من أجل فرض قيود على تصرفات الأفراد و النهوض بمؤسسات الدولة .

المطلب الثاني : النظام العام الجمالي للبيئة .

يمكن تعريف النظام العام الجمالي للبيئة بأنه النظام الذي يهدف إلى الحفاظ على جمال و رونق الأماكن العامة و المحافظة على الجمال و التنظيم و التنسيق في المدن أو في الأحياء و الشوارع .

لذلك فإن إشاعة جمال الرواء في الشارع يؤدي إلى تحقيق السكينة النفسية للأفراد نظرا لحاجة الإنسان إلى حماية إحساسه بالجمال بقدر حاجته إلى حماية لوازمه المادية . إن شيوع الفوضى في جماليات المكان يؤدي إلى الضيق و الاضطراب و توتر الأعصاب بدلا من أن تكون الأماكن العامة مصدرا للبهجة و التمتع بجمال الطبيعة و بهاء المعمار . و من ثم ، فإن بعض الفقهاء لم يترددوا في وضع جماليات الأماكن العامة في نطاق مفهوم النظام العام الذي يجب على سلطات الضبط الإداري صيانته .

و على عكس ما تقدم ذهب جانب آخر من الفقه إلى أن مسالة المحافظة على جمال الرونق و الرواء لا ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار أو لتبرير تدخل سلطات الضبط الإداري إلا إذا تلاقت بصورة ما مع أحد عناصر النظام العام التقليدية ، مثال ذلك إلزام مالك أرض بتسويرها محافظة على الشكل الجمالي و في نفس الوقت منع الأتربة المتراكمة عليها من أن تثيرها الرياح ، فتزيد نسبة التلوث بما يضر الصحة العامة .

أما في مجال التطبيقات القضائية ، فإن مجلس الدولة الفرنسي أصدرب سنة 1936 حكمه الصادر في قضية اتحاد نقابات مطابع باريس ، و التي تتلخص وقائعها في أن الجهة الإدارية سبق لها أن أصدرت لائحة تحظر بموجبها توزيع الإعلانات على المارة في الطريق العام نظرا لأن إلقاءها عقب الاطلاع عليها يسبب تشويها للمنظر العام الجمالي الذي يجب الحفاظ عليه ، حيث طعن اتحاد نقابات المطابع في هذه اللائحة مطالبا بإلغائها نظرا لخروج أهدافها عن الأهداف المرسومة لسلطات الضبط الإداري و هي المحافظة على النظام العام . و قد رفض مجلس الدولة ذلك مؤكدا أن حماية جمال الرونق و الرواء تعتبر من أغراض الضبط الإداري لكونها من عناصر النظام العام الجديرة بالحماية ، و بذلك اعترف المجلس و استقر قراره على مشروعية تدخل سلطات الضبط الإداري لتحقيق أغراض جمالية لا علاقة لها بالعناصر التقليدية للنظام العام .

 

(محاماه نت)

إغلاق