دراسات قانونية
ماهية دعوى الإلغاء وتميزها عن دعاوى القضاء الكامل (بحث قانوني)
مفهوم دعوى الإلغاء، مجال استعمالها و تميزها عن دعاوى القضاء الكامل.
بقلم الأستاذ: بغني شريف
باحث قسم الدكتوراه جامعة البليدة2-الجزائر-
مفهوم دعوى الإلغاء، مجال استعمالها و تميزها عن دعاوى القضاء الكامل.
مقدمة:
تعتبر دعوى الإلغاء من أهم الدعاوى الإدارية وأكثرها قيمة قانونية و قضائية إلى جانب دعاوى القضاء الكامل، حيث يتمحور موضوعنا في صميم منازعات الدعاوى الإدارية؛ فتتمثل دراسة دعوى الإلغاء النموذج الواضح و البين لقضاء المشروعية أو الدعاوى الموضوعية .
ومن هنا وجب طرح التساؤل التالي: ما مفهوم دعوى الإلغاء؟ ما مجالات استعمالها؟و ما الفرق بينها وبين دعاوى القضاء الكامل؟
بحيث قمنا بتقسيم هذا الموضوع إلى مطلب أول نخصصه لمفهوم دعوى الإلغاء، ومطلب آخر نتعرض فيه إلى مجال استعمالها و تميزها عن دعاوى القضاء الكامل.
المطلب الأول:
مفهوم دعوى الإلغاء
على الرغم من أهمية دعوى الإلغاء، إلا أن المشرع الجزائري لم يضع لها تعريفا في قانون الإجراءات المدنية و الإدارية (1) وحسنا فعل، إذ الوضع المعتاد و الطبيعي أن يعزف عن تقديم تعريفات لمصطلحات قانونية تاركا الأمر للفقه والقضاء .(2)
و محاولة منا لتحديد مفهوم دعوى الإلغاء بصورة شاملة، واضحة ودقيقة لابد من رؤيتها من عدة أوجه، وبالتالي عدة تعريفات من فقهاء كثر، وعليه سوف نقسم هذا المطلب إلى فرعين؛ الأول نتعرض فيه إلى تعريف دعوى الإلغاء والثاني نقوم فيه بالوقوف على خصائصها .
الفرع الأول : تعريف دعوى الإلغاء
لقد كان للقضاء الفرنسي الريادة في إنشاء دعوى الإلغاء، وكان مجلس الدولة صاحب الولاية العامة بنظر الدعاوى الإدارية منذ عام 1872 وبسبب تزايد الطعون المقدمة إلى المجلس أصدر الإصلاح التشريعي في 30 سبتمبر 1953 الذي جعل مجلس الدولة صاحب الولاية العامة بنظر الدعاوى الإدارية التي لم يمنح القانون اختصاص النظر فيها إلى محاكم إدارية أخرى ويمكن استئناف أحكام المحاكم الإدارية أمام مجلس الدولة الفرنسي إلا إذا نص القانون على خلاف ذلك ، ومن ثم فإن دعوى الإلغاء في فرنسا تنظر على درجتين تعرض الأولى أمام المحاكم الإدارية والدرجة الثانية تعرض أمام مجلس الدولة أمام مجلس الدولة بوصفه محكمة الاستئناف(3).
أما في مصر فإن دعوى الإلغاء ظهرت بنشوء مجلس الدولة بمقتضى القانون رقم 112 لسنة 1946 وكانت محكمة القضاء الإداري تختص دون غيرها في الفصل في دعاوى إلغاء القرارات الإدارية، ولما أنشأت المحاكم الإدارية والتأديبية أسهمت مع محكمة القضاء الإداري بنظر دعوى الإلغاء كلاً حسب اختصاصها وتنظر المحكمة الإدارية العليا في مصر دعوى الإلغاء عندما يقدم إليها الطعن في أحكام محكمة القضاء الإداري بينما تنظر محكمة القضاء الإداري في الطعون التي ترفع إليها في الأحكام الصادرة من المحاكم الإدارية(4)، وعلى ذلك فإن دعوى الإلغاء تنظر في مصر على درجتين أيضاً الدرجة الأولى أمام محاكم القضاء الإداري أو المحاكم الإدارية كل حسب اختصاصها، والدرجة الثانية عندما تفصل المحكمة الإدارية العليا في الطعون المقدمة إليها من محاكم القضاء الإداري وعندما تفصل الأخيرة في الطعون المقدمة إليها من المحاكم الإدارية(5).
أما في العراق فقد نشأت دعوى الإلغاء بنشوء القضاء الإداري بصدور القانون رقم 106 لسنة 1989 (قانون التعديل الثاني لقانون مجلس شورى الدولة رقم 65 لسنة 1979 ) لتختص بالنظر في صحة الأوامر والقرارات الإدارية التي تصدر عن الموظفين والهيئات في دوائر الدولة والتعويض عنها. وكانت محكمة القضاء الإداري في مجلس شورى الدولة تختص بقضاء الإلغاء بصفتها قاضي أول درجه وقد أجاز القانون الطعن بقرار محكمة القضاء الإداري تمييزا لدى الهيئة العامة لمجلس شورى الدولة ، إلا انه واستنادا للمادة 44 من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية والقسم الثاني من ملحقه وبناءا على موافقة مجلس الرئاسة أصدر مجلس الوزراء قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005 الذي منح المحكمة الاتحادية العليا في العراق اختصاص النظر في الطعون المقدمة على الأحكام والقرارات الصادرة من محكمة القضاء الإداري(6).
كما أنه تجدر الإشارة إلى أنه قد تعددت تعريفات دعوى الإلغاء، ولتوضيح مفهومها وتحديده نعمد إلى بعض تعريفاتها على المستويين الفقهي و القضائي، ولذلك قمنا بتجزئة هذا الفرع إلى عنصرين أساسيين.
أولا : مفهوم دعوى الإلغاء في الفقه
لقد قدم فقه القانون الإداري عدة تعريفات لدعوى الإلغاء، ومن ذلك الفقه العربي والفقه الغربي ممثلا في الفقه الفرنسي .
أ /الفقه العربـي
– يرى الدكتور سليمان الطماوي بأن دعوى الإلغاء هي :” القضاء الذي بموجبه يكون للقاضي أن يفحص القرار الإداري، فإذا ما تبين له مجانبة القرار للقانون، حكم بإلغائه؛ ولكن دون أن يمتد حكمه إلى أكثر من ذلك فليس له تعديل القرار المطعون فيه أو استبدال غيره به(7) “.
– و يعرفها الدكتور ماجد راغب الحلو هي: “دعوى قضائية ترفع للمطالبة بإعدام قرار إداري صدر مخالفا للقانون. وتمد هذه الدعوى أهم وسائل حماية المشروعية، إذ تؤدي إلى ترتيب البطلان كجزاء يصيب القرار المخالف للقانون (8) “.
– كما عرفها الدكتور عدنان عمرو على أنها: “ قيام القاضي بإبطال القرارات الإدارية الصادرة عن الإدارة فيما إذا صدرت مخالفة لمبدأ المشروعية، أو هو تقرير مدى اتفاق أو مخالفة القرار المطعون فيه للقواعد القانونية، فإذا كان مخالفا لها يقرر القاضي بإبطاله دون أن يتعدى ذلك بيان المركز القانوني للطاعن أو تقرير سحب أو تعديل القرار المعيب أو إصدار قرار آخر محله(9) “.
– و جاء في تعريف الدكتورة ميسون جريس الأعرج أن دعوى الإلغاء هي: “دعوى قضائية يرفعها صاحب المصلحة إلى القضاء الإداري يطلب فيها إعدام قرار إداري غير مشروع بعد ثبوت عدم مشروعيته “(10).
– وعرفها الأستاذ علي الشيخ إبراهيم ناصر المبارك على أنها: “دعوى إدارية ترفع أمام المحكمة المختصة بصحيفة تشمل على وقائع الدعوى و ماهية القرار الإداري المطلوب إلغاؤه، وتختلف المحكمة المختصة في نظر دعوى الإلغاء باختلاف النظام القضائي السائد في الدولة (11) “.
– وقد عرفها الدكتور عمار عوابدي بقوله أنها : ” الدعوى القضائية الإدارية الموضوعية العينية التي يحركها و يرفعها ذووا الصفة القانونية والمصلحة أمام جهات القضاء المختصة في الدولة للمطالبة بإلغاء قرارات إدارية غير مشروعة، وتتحرك وتنحصر سلطات القاضي المختص فيها في مسألة البحث عن شرعية القرارات الإدارية المطعون فيها بعدم الشرعية، والحكم بإلغاء هذه القرارات إذا ما تم التأكد من عدم شرعيتها، وذلك بحكم قضائي ذي حجية عامة ومطلقة (12) “.
– كما عرفها الدكتور أحمد محيو على أنها : “ الدعوى التي يطلب فيها من القاضي إلغاء قرار غير مشروع للإدارة (13) “.
– أما الدكتور محمد الصغير بعلي فيعرفها بأنها : ” الدعوى القضائية المرفوعة أمام إحدى الهيئات القضائية الإدارية ( الغرف الإدارية أو مجلس الدولة ) التي تستهدف إلغاء قرار إداري بسبب عدم مشروعيته نظرا لما يشوب أركانه من عيوب (14) “.
– كما يرى الدكتور عمار بوضياف أن دعوى الإلغاء هي :”دعوى قضائية ترفع أمام الجهة القضائية المختصة بغرض إلغاء قرار إداري غير مشروع طبقا لإجراءات خاصة ومحددة قانونا (15) “.
– ويعرفها الأستاذ لحسين بن شيخ آث ملويا بأنها : “ دعوى تنازعية يستطيع بواسطتها كل شخص أن يطلب من القاضي الإداري أن يبطل القرار الإداري ( أو العقد ) بسبب عدم صحته (16) “.
ويلاحظ أن كل هذه التعريفات لدعوى تجاوز السلطة، أو دعوى الإلغاء متفقة على المسائل التالية(17):
أن هدف هذه الدعوى القضائية يرمي إلى إعدام قرارات الإدارة غير المشروعة. ومن ثم فإن هذه الدعوى تكرس إقرار مبدأ المشروعية. أي أن تكون قرارات الإدارة مطابقة للقانون، وإلا تعرضت إلى الإلغاء القضائي، إذا تم لجوء ذوي الشأن للقضاء للمطالبة بإلغائها.
أن القاضي المختص بالنظر و البت في دعوى تجاوز السلطة في الدول التي تأخذ بنظام ازدواجية القضاء، هو القاضي الإداري.
أن سلطات القاضي الإداري في هذه الدعوى محدودة، و تقتصر فقط على إلغاء القرارات الإدارية، إذا قدر عدم مشروعيتها.
هذا وتجدر الإشارة على أن دعوى تجاوز السلطة التي ظهرت في فرنسا بهذا الاسم،
هي دعوى يطغى عليها الجانب الموضوعي أو العيني، فهي تهدف إلى حماية مصلحة عامة، ألا وهي إقرار مبدأ المشروعية. والذي يتجسد من خلال أن تكون أعمال، و نشاطات، و تصرفات الإدارة مطابقا لأحكام القانون بمعناه الواسع، و إن حققت للطاعنين مصلحة خاصة، و هي حماية مراكزهم القانونية، الأمر الذي دفع البعض إلى اعتبارها دعوى مختلطة، أي أنها دعوى عينية و شخصية في أن واحد(18).
ب /الفقه الفرنسي
يعرف الفقيه الفرنسي Delaubadaire دعوى الإلغاء بأنها : “طعن قضائي يرمي إلى إبطال قرار إداري غير مشروع من طرف القاضي الإداري(19) “.
« Le recours pour excès De pouvoir est un recours contentieux visant a faire annuler par le juge administratif un acte administratif illégal ».
وهو ذات التعريف تقريبا الذي ذهب إليه الفقيه C.Debbasch بقوله : “الطعن الذي يطلب بمقتضاه المدعي من القضاء إبطال قرار إداري لعدم المشروعية(20) “.
« Recours par lequel le requérant demande au juge l’annulation d’un acte administratif pour illégalité ».
ثانيا : مفهوم دعوى الإلغاء لدى القضاء
نظرا لطبيعة دور القاضي في الفصل في المنازعات المطروحة عليه، بأنه عادة ما ينصرف عن تقديم تعريفات عامة حيث يكتفي ببيان العيوب التي تشوب القرار المطعون فيه لتحديد مدى مشروعيته ليتخذ بعد ذلك قراره المناسب في القضية إما بإلغاء هذا القرار المعيب أو برفض الدعوى لعدم التأسيس(21).
أ /القضاء الإداري المقارن
لقد ذهب بعض قرارات مجلس الدولة الفرنسي على مستوى القضاء الإداري المقارن منذ البداية إلى تعريف غير مباشر لدعوى الإلغاء على النحو التالي : “من حيث أن السيد لافاج يقتصر على التمسك بأن قرار وزير المستعمرات المطعون فيه حرمه من الإفادة بالمزايا التي تكفلها له بصفته ضابطا للوائح المعمول بها، وأن طعنه يتناول على هذا الوجه شرعية قرار جهة إدارية وأنه نتيجة لذلك يكون الطعن في القرار محل النظر بطريق يجاوز السلطة مقبولا “(22).
وفي مصر حاولت بعض قرارات المحكمة الإدارية العليا بتقديم تعريف دعوى الإلغاء من حيث أنها: “تتعلق بإلغاء القرارات الإدارية النهائية للسلطات الإدارية سواء كانت صادرة في شؤون الموظفين العموميين أم في شؤون الأفراد أو الهيئات بسبب مخالفة القانون بالمعنى العام، فموضوعهـا هو شرعيـة القرار الإداري، وهذه الدعاوى يقتصر فيها دور القضاء الإداري على رقابة مشروعية القرارات الإدارية النهائية محل تلك الدعاوى، فلا يحل نفسه محل جهة الإدارة المختصة في إصدار القرار الصحيح قانونا، إنما يكتفي بالحكم بإلغاء ما يتبين له من عدم مشروعيته من تلك القرارات، على هدى قضائه بإلغاء القرار المطعون فيه “(23).
ثانيا : القضاء الإداري الجزائري
لم يقدم القضاء الإداري الجزائري سواء في عهد الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا أو في العهد الحالي لمجلس الدولة تعريفا دقيقا وعلميا لدعوى الإلغاء حيث اتسمت قراراته في معظمها بالاختصار والاقتضاب(24).
الفرع الثاني : خصائص دعوى الإلغاء
بعد تحديد مفهوم دعوى الإلغاء، كان لزاما علينا أن نبرز أهم خصائصها، فمن خلال التعريفات السابقة لها يمكن استنباط خصائص دعوى الإلغاء كما يأتي :
أولا : دعوى الإلغاء دعوى قضائية
لقد كان مجلس الدولة الفرنسي في بداية نشأته يعتبر دعوى تجاوز السلطة من قبيل التظلمات الإدارية الرئاسية، وهذا الوصف الذي أعطاه مجلس الدولة لدعوى إلغاء القرارات الإدارية، مرتبط بطبيعة صلاحياته التي لم تكن تسمو إلى الفصل في المنازعات الإدارية بأحكام نافذة، بحيث كان مجرد هيئة استشارية تتبع رئيس الدولة، باعتباره أعلى سلطة سياسية و إدارية في الدولة، ولكن بصدور قانون 24 ماي 1872 ، تحولت سلطات مجلس الدولة من مجرد سلطات استشارية إلى سلطات قضائية بحتة، هذا التحول الذي طرأ على طبيعة سلطات المجلس، كان له الأثر الإيجابي في تحول نظرته لدعوى تجاوز السلطة من مجرد تظلم إداري، إلى دعوى قضائية بأتم معنى الكلمة(25).
و بالنتيجة، يعد تطور دعوى الإلغاء في فرنسا بمثابة تحول تاريخي في نظام القضاء فيها، و عاملا حيويا في توجيه الرقابة القضائية على أعمال الإدارة، مما كان له الأثر على بعض الأنظمة القضائية في بعض دول العالم منها مصر و الأردن حيث ولدت فيهما دعوى الإلغاء تشريعيا إذ أنشئت دعوى الإلغاء في مصر بمقتضى قانون مجلس الدولة الأول رقم 112 لسنة 1946، و في الأردن بمقتضى قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 26 لسنة 1952(26).
فدعوى الإلغاء ليست مجرد تظلم فهي تتسم بالطبيعة والصفة القضائية والإدارية فهي ترفع طبقا لقانون الإجراءات المدنية و الإدارية أمام الجهات القضائية المختصة التي تملك سلطة إعدام القرار الإداري المطعون فيه بالكيفية التي حددها القانون و ضمن الآجال المحددة، ومن هذا المنطلق فهي تتميز عن التظلم الذي لا يرفع أمام القضاء باعتباره سلطة مستقلة إنما أمام السلطة الإدارية مصدرة القرار إن كان التظلم ولائيا أو سلطة تعلوها إن كان التظلم رئاسيا(27).
ثانيا : دعوى الإلغاء تحكمها إجراءات خاصة
لما كانت دعوى الإلغاء دعوى مميزة من حيث سلطة القاضي ومن حيث نتائجها إذ ينجم عن اختفاء القرار الإداري المطعون فيه، بات من الضروري إخضاعها لإجراءات خاصة، ورجوعا لقانون الإجراءات المدنية و الإدارية الجزائري نجده قد خص دعوى الإلغاء سواء المرفوعة أمام المحاكم الإدارية أو مجلس الدولة بكم هائل من النصوص و الأحكام، وهو مالم يفعله بالنسبة لباقي الدعاوى كدعوى التعويض أو دعوى التفسير أو دعوى فحص المشروعية، ولعل السبب الرئيسي يعود لخطورة هذه الدعوى و تميزها من حيث الموضوع عن باقي الدعاوى الأخرى من جهة، ومن جهة ثانية نظرا لسعة انتشارها، فكأنما سعة انتشار هذه الدعوى في الوسط القضائي دفعت المشرع الجزائري لأن يخصها بالكثير من الأحكام الإجرائية(28).
ثالثا : دعوى الإلغاء دعوى عينية ( موضوعية )
خلافا للدعوى المدنية و الدعاوى الإدارية الأخرى ( دعاوى القضاء الكامل )التي تتسم بالطابع الشخصي (الذاتي)لأنها تتعلق بمركز قانوني خاص، فدعوى الإلغاء تتميز بطابعها الموضوعي أو العيني لأنها تنصب على الطعن في قرار إداري، أي مقاضاة للقرار الإداري وليست موجهة ضد الموظف أو الشخص المصدر للقرار أو الجهة التي صدر عنها القرار الإداري المطعون فيه(29).
ويترتب على هذه الخاصية ما يأتـي (30)
:
– إضفاء المرونة والسهولة في إثبات شرط الصفة والمصلحة والتوسع فيه، ضمانا لتفعيل الرقابة على أعمال الإدارة بغرض احترام مبدأ المشروعية .
– اعتبار دعوى الإلغاء من النظام العام مما يعني رفعها ضد جميع قرارات الإدارة – إلا ما استثني قانونا-لأن دعوى الإلغاء من قضاء المشروعية .
– اكتساب القرار المترتب عن الفصل فيها الحجية المطلقة، حيث تمتد آثاره إلى الكافة وليس إلى أطراف الخصومة فقط .
وبالرغم من أن غالبية الفقه ترى أن دعوى الإلغاء دعوى عينية تختصم القرار غير المشروع بقصد رده إلى حكم القانون الصحيح حماية لمبدأ المشروعية وهو نفس الاتجاه الذي سلكه قضاء المحكمة الإدارية العليا في مصر في جلسة 09/03/1957: ” و الخصومة عينية بالنسبة إلى القرار بمعنى الحكم الصادر بالإلغاء يكون حجة الكافة”، إلا أن هناك جانب من الفقه يذهب إلى أن وصف دعوى الإلغاء كما هي دعوى عينية فهي أيضا تتضمن عناصر من القضاء الشخصي و القضاء العيني، فبالرغم من أنها تهدف بالدرجة الأولى إلى إلى حماية المشروعية إلا أن لها جانبا شخصيا بحكم ما توفره كدعوى قضائية من حماية جدية للمراكز الذاتية و الحقوق المكتسبة لأصحاب الشأن، كما أنه بالمقابل هناك بعض الفقه مثل الفقيه بونار Bonnard من يرى أنها تدخل ضمن القضاء الشخصي لأن المدعي حين يطلب احترام مبدأ المشروعية فإنه يهدف إلى تحقيق هدف شخصي(31).
رابعا : دعوى الإلغاء دعوى مشروعية
يهدف القاضي الإداري في دعوى الإلغاء إلى البحث عن مدى مشروعية القرار الإداري وإعدام أي عمل إداري غير مشروع تكريسا لدولة القانون والمحافظة على مشروعية الأعمال الإدارية(32)
، فإذا ما تأكد أن ركنا من أركان القرار الإداري غير مشروع يحكم بإلغاء هذا القرار، لأن دور القاضي الإداري يقتصر أساسا عن البحث عن مشروعية هذا القرار الصادر عن أي جهة إدارية كانت، وبذلك فهي إذن دعوى مشروعية(33)
.
فخلافا لباقي الدعاوى القضائية الأخرى، فإن دعوى تجاوز السلطة تهدف بالدرجة الأولى إلى إقرار مبدأ المشروعية، وذلك من خلال إلغاء القرارات الإدارية غير المشروعة. وعلى هذا الأساس، فإن سلطات القاضي الإداري في هذه الدعوى ضيقة، ومحددة، تقتصر فقط على الحكم بإلغاء القرار الإداري، إذا تبين له، أنه غير مشروع، وإن كانت هذه الدعوى، تحقق للطاعن بالإلغاء، مصلحة شخصية جراء إلغاء القرار الإداري غير المشروع(34).
وبهذا تختلف دعوى الإلغاء عن دعوى القضاء الكامل حيث يملك فيها القاضي الإداري الحكم بالتعويض عن الأضرار الناتجة عن العمل غير المشروع الذي اتخذته الإدارة وشكل اعتداءا على حق شخصي للطاعن، كما يستطيع أن يعدل القرار الإداري غير المشروع إذ أنه يتمتع بسلطة كاملة في حسم النزاع، وفي ذلك قضت محكمة العدل العليا الأردنية بأنه:” إذا ما استجابت المحكمة إلى طلب المستدعين، فإنها تكون قد أصدرت قرارا بإلزام مجلس الأمانة بأن يقوم بعمل ما، و بالتالي تكون قد تجاوزت صلاحية الإلغاء إلى صلاحية الإنشاء، وهو أمر خارج عن صلاحية هذه المحكمة.”، غير أن العميد هوريو يرى أن فكرة الإنحراف بالسلطة أوسع من فكرة عدم المشروعية حيث يمتد دور القاضي الإداري إلى رقابة الأخلاق الإدارية، فلا يلغي القرار لمجرد خروجه على قواعد المشروعية المعروفة، وإنما يلغيه أيضا إذا ما تبين له عدم التزام افدارة بقواعد حسن الإدارة و خروجها عن الأخلاق الإدارية، إلا أن مجلس الدولة الفرنسي لم يأخذ بهذا الرأي والتزم بتطبيق مبدأ المشروعية في رقابته على أعمال الإدارة(35).
المطلب الثاني :
مجالات استعمال دعوى الإلغاء و تمييزها عن دعاوى القضاء الكامل
نظرا لاتساع قضاء الإلغاء فقد استعمل في مجالات عديدة، سنتطرق إليها في مجالات خمس ضمن الفرع الأول، أما الفرع الثاني فلقد سلطنا الضوء فيه على أهمية التمييز بين دعاوى القضاء الكامل ودعوى الإلغاء، والذي بدوره قد قسم إلى خمسة عناصر .
الفرع الأول : مجالات استعمال دعوى الإلغاء
يتميز قضاء الإلغاء في الجزائر بأنه قضاء متشعب ومجالاته كثيرة تشمل دعاوى ذات طابع وظيفي ودعاوى ذات طابع مهني وأخرى ذات طابع تجاري ورابعة ذات طابع سياسي وخامسة تشمل الطابع العمراني وهكذا (36) …
أولا : المجال الوظيفي
ذلك أنه بالرجوع لقانون الوظيفة العمومية(37)
، ولاسيما المادة 167 منه نجدها قد اعترفت للموظف بحقه في الإطلاع على كامل ملفه التأديبي في أجل 15 يوما من تحريك الدعوى التأديبية ضده؛ فلو تم مثلا فصله من الوظيفة دون تمكينه من ممارسة هذا الحق جاز له اللجوء للقضاء لإلغاء قرار الفصل.
ثانيا : المجال المهني
اعترفت المادة 42 من قانون تنظيم مهنة المحاماة (38)
للراغب في الإنظمام للمهنة بأحقية الطعن في قرار مجلس المنظمة القاضي برفض طلب الانتماء أمام الجهات القضائية المختصة في أجل شهر واحد من يوم تبليغه .
ثالثا : المجال التجاري
اعترف التشريع الجاري المعمول به ، للوالـي باعتباره ممثلا للدولة سلطة إصدار قرارات تتضمن غلق مؤقت للمحلات التجارية مع جواز الطعن فيها قضائيا(39).
رابعا : المجال السياسي
لقد خولت المادة 77 من القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات
،أن للمعني بالأمر أحقية الطعن في قرار رفض الترشيح أمام الجهة القضائية الإداريـة المختصـة، إضافة إلـى حالـة الاعتراض على أعضاء مكاتب التصويت، حيث خول المشرع الطعن بالإلغاء في حالة رفض الاعتراض طبقا لنص المادة 36 من القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات(40).
خامسا : المجال العمرانـي
وفي مجال التشريع العقاري، وتحديدا في القانون المتعلق بالتعمير(41)
نجد أن المادة 63 منه مكنت طالب رخصة البناء أو التجزئة أو الهدم غير المقتنع برفض طلبه أن يرفع دعوى أمام الجهة القضائية المختصة .
الفرع الثاني : التفرقة بين دعوى الإلغاء و دعاوى القضاء الكامل
من خلال مفهوم دعاوى القضاء الكامل ، وكذلك من خلال خصائص دعوى الإلغاء التي بدورها كنا قد تناولناها ضمن موضوعنا الحالي تحديدا في المطلب الأول منه، فإنه يمكن إيجاد بعض الفروقات بين هذين الدعويين .
أولا : من حيث الاختصاص
إن الاختصاص الذي نقصده هنا هو الاختصاص النوعي بين مجلس الدولة و المحاكم الإدارية فدعاوى القضاء الكامل مهما كانت طبيعة الشخص المعنوي الخاضع للقانون العام طرفا فيها سواء أكان سلطة إدارية مركزية أو هيئة إدارية إقليمية كالبلدية و الولاية فتكون فيها المحاكم الإدارية هي التي لها الولاية العامة بشأن جميع منازعات هذه الدعوى طبقا لنص المادة 801 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري(42)
على عكس منازعات دعوى الإلغاء فإن المحاكم الإدارية تنظر فقط في القرارات الإدارية الصادرة عن الولاية و البلدية و المصالح غير الممركزة للدولة على مستوى الولاية، وكذا المؤسسات العمومية المحلية ذات الصبغة الإدارية طبقا لنص المادة المذكورة سابقا(43)؛ أما القرارات الإدارية الصادرة عن السلطات الإدارية المركزيـة والهيئات الوطنية العمومية والمنظمـات المهنية الوطنية فـلا تكـون من اختصاص المحاكم الإدارية نوعيا وإنما تكون من اختصاص مجلس الدولة الذي يفصل فيها إبتدائيا ونهائيا طبقا لنص المادة 901 من ق إ م إد (44)
، و المادة 09 من القانون العضوي رقم 98-01 (45)
، المتعلق باختصاصات مجلس الدولة، المعدل والمتمم بالقانون العضوي رقم 11-13(46).
ثانيا : من حيث الموضوع
إن دعوى الإلغاء تختلف عن دعاوى القضاء الكامل في موضوع المنازعة لكل منهما، فموضوع الأولى هو القرار الإداري المطعون فيه والمشوب بعدم المشروعية، أي هي دعوى عينية قوامها مخاصمة القرار الإداري المطعون فيه وتهدف إلى تكريس مبدأ المشروعية(47).
أما دعاوى القضاء الكامل هي دعوى الحقوق الشخصية الذاتية لأنها تتحرك وتنعقد على أساس مركز قانوني خاص وذاتـي، تستهدف أصلا مباشرة تحقيق مصلحة خاصة تهدف إلى حماية المراكز الفردية و الحقوق الشخصية لرافعها، كما أنها تهاجم السلطات الإدارية مصدرة القرارات الإدارية غير المشروعة والضارة للمطالبة بالتعويضات والإصلاح(48).
ثالثا : من حيث الآجال و الإجراءات
إن المشرع الجزائري إشترط لدعوى الإلغاء شروطا شكلية ليست مشترطة لدعاوى القضاء الكامل، من بينها :
– يشترط لرفع دعوى الإلغاء أن تكون خلال 04 أشهر من تاريخ التبليغ الشخصي للقرار الإداري الفردي المطعون فيه، أو من تاريخ نشر القرار الإداري الجماعي أو التنظيمي المطعون فيه (49)
، أما دعاوى القضاء الكامل فليس لها آجال محددة لرفعها و يتقادم الحق في ممارستها بتقادم الحق المدعى به(50)، فبالنسبة لدعاوى المسؤولية الإدارية فإن ميعاد تقادم الدعوى هو خمسة عشر (15) سنة من يوم وقوع الفعل الضار،وبالنسبة للمنازعات الضريبية كدعوى استرجاع مبالغ مقبوضة بغير حق في مجال الرسوم على رقم الأعمال بأربع (04) سنوات، ومطالبة الإدارة بالمبالغ المستحقة على الطلبيات هي أربع (04) سنوات(51).
– إن هناك اختلاف في مفهوم شرط الصفة و المصلحة في دعوى الإلغاء عن مفهومهما في دعاوى القضاء الكامل ذلك أنه يكفي لتحقيق شرط الصفة والمصلحة لدعوى الإلغاء أن يكون للشخص مجرد وضع قانوني أو إحالة قانونية وقع عليها الإعتداء بفعل قرار إداري غير مشروع ولا يتطلب لتحقيق هذا الشرط أن يكون للشخص حق شخصي مكتسب وثابت ومعلوم في النظام القانوني للدولة ومقررة له الحماية القانونية و القضائية، ثم وقع عليه الإعتداء بفعل أعمال إدارية غير مشروعة و ضارة كما هو الحال في دعاوى القضاء الكامل(52).
رابعا : من حيث سلطة القاضي
تختلف كل من الدعويين من زاوية مدى اتساع وقوة سلطات القاضي المختص في كل منهما، وقد لاحظنا ذلك عند التعرض لأنواع الدعاوى الإدارية حسب تصنيفها الفقهي كما تم بيانه سابقا (؛ فسلطات القاضي المختص في دعوى الإلغاء أضيق وأضعف من سلطاته في دعاوى القضاء الكامل، حيث تنحصر سلطاته في الدعوى الأولى في سلطة فحص وتقدير مدى مشروعية القرار الإداري المطعون فيه من عدمها بهذه الدعوى والحكم بإلغائه في حالة إكتشافه وتأكده من عدم مشروعية هذا القرار أو الحكم بعدم تأسيس الدعوى؛ أما سلطات القاضي في دعاوى القضاء الكامل فهي واسعة وقوية حيث يمارس القاضي المختص في هذه الدعاوى السلطات والوظائف التالية في مواجهة الأعمال الإدارية الضارة وقراراتها :
– إلغاء العمل الإداري غير المشروع إذا ما إكتشف وثبت للقاضي المختص ذلك .
– يملك القاضي المختص وظائف تحديد حقوق الطرف المدعي والكشف عما إذا كان قد مسها أو أصابها ضرر بفعل الأعمال الإدارية غير المشروعة و الضارة .
– كما يملك القاضي المختص في دعاوى القضاء الكامل إلزام الإدارة بإصلاح الأضرار التي سببتها بأعمالها الضارة وذلك بالحكم عليها بالتعويض لأصحاب الحقوق المتضررين(53).
خامسا : من حيث حجية الأحكام القضائية
تكتسب الأحكام القضائية الصادرة في دعوى الإلغاء حجية عامة ومطلقة في مواجهة السلطات العامة في الدولة وبهذا يعدم القرار الملغى من يوم صدوره و يعتبر كأنه لم يكن وتزول آثاره بالنسبة للجميع حيث يتمسك به كل من له مصلحة ولو لم يكن طرفا في الدعوى(54)، في حين يكتسب الحكم الصادر في دعاوى القضاء الكامل حجية نسبية يقتصر أثرها على أطراف النزاع فقط أي الطاعن والجهة الإدارية المطعون ضدها دون أن يمتد أثره إلى الغير، و بهذا لا يملك أي شخص آخر التمسك بهذا الحكم والاحتجاج به(55). و بمعنى آخر، فيرى الدكتور عمار عوابدي كون دعوى الإلغاء هي دعوى عينية وموضوعية فحكم الإلغاء الصادر بشأنها يحوز حجية الأمر المقضي به التي تخاطب الكافة؛ أما دعاوى القضاء الكامل كونها دعوى ذاتية وشخصية، فالحكم الصادر بشأنها هو حكم قضائي ذو حجية نسبية يخاطب ذات الخصوم وفي ذات الموضوع المحكوم فيه فقط(56).
الخاتمة:
من خلال ما سبق، قمنا بالكشف عن مفهوم أكثر الدعاوى انتشارا في أروقة المحاكم الإدارية ألا وهي دعوى الإلغاء وذلك في النظام القانوني الجزائري والفقه وكذا بعض الأنظمة المقارنة، تم تعرضنا إلى مجال استعمالها وختمنا بتميزها عن دعاوى القضاء الكامل وذلك للتشابه الكبير بين هاتين الدعويين.
(محاماه نت)