دراسات قانونية
السلطة التقديرية للقاضي في الامتناع عن النطق بالعقاب (بحث قانوني)
السلطة التقديرية للقاضي
في الامتناع عن النطق بالعقاب
محمد بجــــاد
العتـيـبي
الدفعة الثامنة
2005/2006م
المقدمة
لاشك أن مرتكب الجريمة لابد أن يعاقب على فعلته، وقد استقر ذلك في أذهان الناس على مر التاريخ، وإن اختلف الهدف وأغراض العقاب.
ولاشك أن تطور المجتمع في العصور السابقة وحتى الآن، صاحبه تطور الأفكار والنظريات في فكر العقاب. فليست العقوبة انتقام، وإنما هي لتحقيق العدالة داخل المجتمع وحمايته من أيد من تسول له نفسه أنه في مأمن من العقاب، فالعقاب حماية للمجتمع عامة وللأفراد خاصة من تعدي ضعاف النفوس والمجرمين من ارتكاب جرائمهم.
ونتيجة تطور فكرة العقاب، ظهرت فكرة أن يأخذ في الاعتبار ظروف المتهم وظروف الجريمة عند توقيع العقاب، فكان نتيجة ذلك أن منح
القاضي السلطة في تقدير العقوبة المناسبة لكل حالة تعرض عليه.
فوصفت التشريعات الحد الأدنى والأعلى للعقوبة التي يستخدم القاضي سلطته في اختيار العقوبة المناسبة، وذلك وفق شروط معينة لابد أن يضعها القاضي في الاعتبار عند تقريره العقوبة المناسبة.
وإذا كان العقاب وسيلة لحماية المجتمع من الجريمة، فإن الامتناع عن النطق بالعقاب، هو وسيلة لإصلاح بعض أفراد المجتمع الذي لهم ظروف خاصة وتأهيلهم في الاندماج من المجتمع وعدم وقوعهم في الجريمة مرة أخرى. والامتناع عن النطق بالعقاب تقرر القوانين شروط يجب توافرها حتى يستخدم القاضي سلطته في تقريره.
ومن هذه القوانين، قانون الجزاء الكويتي والتي تنص المادة 81 منه على “إذا اتهم شخص بجريمة تستوجب الحكم بالحبس، جاز للمحكمة، إذا رأت من أخلاقه أو ماضية أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها جريمته أو تفاهة هذه الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى الإجرام، أن تقرر الامتناع عن النطق بالعقاب، وتكلف المتهم تقديم تعهد بكفالة شخصية أو عينية أو بغير كفالة، يلتزم فيه مراعاة شروط معينة والمحافظة على حسن السلوك المدة التي تحددها على ألا تجاوز سنتين وللمحكمة أن تقرر وضعه خلال هذه المدة تحت رقابة شخص تعينه، ويجوز لها أن تغير هذا الشخص بناء على طلبه وبعد إخطار المتهم بذلك.
وإذا انقضت المدة التي حددتها المحكمة دون أن يخل المتهم بشروط التعهد، اعتبرت إجراءات المحاكمة السابقة كأن لم تكن.
أما إذا أخل المتهم بشروط التعهد، فإن المحكمة تأمر- بناء على طلب سلطة الاتهام أو الشخص المتولي رقابته أو المجني عليه- بالمضي في
المحاكمة، وتقضي عليه بالعقوبة عن الجريمة التي ارتكبها ومصادرة الكفالة العينية إن وجدت.
وتمثل هذه المادة الأساس القانوني الذي يستند إليه كل قاضي عند استخدام سلطته في تقرير الامتناع عن النطق بالعقاب، وتضع هذه المادة الشروط الواجب توافرها لتقرير الامتناع عن النطق بالعقاب، والآثار المترتبة على إخلال المتهم بالتعهد والشروط الواجب الالتزام بها، بالإضافة إلى الآثار المترتبة على تقرير هذه الامتناع.
وأتناول هذه الدراسة بغرض معرفة هل كل الجرائم يجوز للقاضي تقرير الامتناع بشأنها أم هناك جرائم محددة؟ بمعنى معرفة مدى استخدام القاضي
سلطته لتقرير الامتناع أو إلغائه.
وسوف يتم تقسيم هذه الدراسة على النحو التالي:
خطة البحث
الفصل
الأول: ماهية العقوبة وخصائصها وأهدافها.
المبحث الأول: ماهية العقوبة وتطورها التاريخي.
المطلب الأول: تعريف
العقوبة.
المطلب الثاني: التطور
التاريخي للعقوبة.
المبحث الثاني: خصائص
العقوبة.
المطلب الأول: شخصية
العقوبة.
المطلب الثاني: شرعية
العقوبة.
المطلب الثالث: قضائية
العقوبة.
المطلب الرابع: عدالة
العقوبة.
المبحث الثالث: أهداف
العقوبة في القانون والشريعة الإسلامية.
المطلب الأول: أهداف العقوبة
في القانون.
المطلب الثاني: أهداف
العقوبة في الشريعة الإسلامية.
الفصل الثاني: سلطة القاضي في الامتناع عن النطق بالعقاب.
المبحث الأول: حدود السلطة التقديرية
للقاضي في الامتناع عن النطق بالعقاب.
المطلب الأول: الشروط
القانونية المقررة للامتناع عن النطف بالعقاب.
المطلب الثاني: مدى حرية
القاضي في الحكم بالامتناع عن النطق عند توافر شروطه.
المبحث الثاني: مدى سلطة
القاضي في قرن الامتناع عن النطق بالعقاب بشروط.
المطلب الأول: شرط التعهد
بحسن السير والسلوك وإصلاح الضرر من الجريمة.
المطلب الثاني: شرط الخضوع
لتدابير الاختبار القضائي.
المبحث الثالث: سلطة القاضي
في إلغاء الامتناع عن النطق بالعقوبة والآثار المترتبة على حكم الامتناع.
المطلب الأول: سلطة القاضي
في إلغاء الامتناع عن النطق بالعقوبة.
المطلب الثاني: آثار الحكم بالامتناع
عن النطق بالعقاب.
الفصل الأول
ماهية العقوبة وخصائصها وأهدافها
دراسة العقوبة تقتضي أن نبين المقصود بها ونشأتها وتطورها التاريخي، كما تقتضي معرفة خصائص العقوبة وأهدافها.
وهذا ما سأتناوله في المباحث التالية.
المبحث الأول
ماهية العقوبة وتطورها التاريخي
يضم هذا
المبحث مطلبين يتناول أولهما تحديد ماهية العقوبة ويبحث ثانيهما في التطور
التاريخي لها.
المطلب الأول
ماهية العقوبة
تتفق معظم التعريفات الفقهية في إبراز الألم كجوهر للعقوبة، فيعرف الفقه العقوبة بأنها “إيلام مقصود يوقع من أجل الجريمة ويتناسب معها” ([1]).
ويعرف البعض الآخر من الفقه العقوبة بأنها “العقوبة جزاء يوقع باسم المجتمع تنفيذاً لحكم قضائي على من تثبت مسئوليته عن الجريمة. فالعقوبة، من حيث هي جزاء، تنطوي على ألم يحيق بالمجرم نظير مخالفته نهى القانون أو أمره، ويتمثل هذا الألم في حرمات المحكوم عليه من حق من حقوقه كحقه في الحياة أو الحرية أو في مباشرة نشاطه السياسي وما إلى ذلك ([2])
ووفقا للتعريف السابق فأن العقوبة تقرر بحكم قضائي تنفيذاً لأحكام القانون بقصد إيلام المسئول عن ارتكاب الجريمة.
ولذلك يعرفها الفقه بأنها “جزاء ينص عليه القانون ليلحق بالجاني بسبب ارتكابه جريمته، يتميز هذا التعريف بالتحديد فهو يتسع لكافة أهداف الجزاء الجنائي في مختلف مذاهب السياسة الجنائية، أي أنه مجرد إطار قانوني يتسع لكافة المفاهيم التي تمليها السياسة الجنائية)([3]).
ويعرف الفقه الإسلامي العقوبة بأنها “الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع والمقصود من فرض عقوبة على عصيان أمر الشارع هو إصلاح حال البشر وحمايتهم من المفاسد([4]).
وكذلك تعرف العقوبات في الفقه الإسلامي بأنها “موانع قبل الفعل زواجر بعده، أي العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل وإيقاعها بعدة يمنع العودة إليه([5]).
يخلص مما سبق أن العقوبة جزاء لجريمة ارتكبت في حق المجتمع، ولابد من توافر أركان الجريمة حتى تثبت مسئولية
الجاني، والعقوبة جزاء له طابع جنائي، وبذلك تتميز عن الجزاءات القانونية الأخرى التي ليس لها هذا الطابع، مثل التعويض المدني والجزاء الإداري وكذلك تقرر العقوبة بنص في القانون تطبيقا لمبدأ شرعية العقوبات.
فلا يجوز توقيع عقوبة غير مقررة بمقتضى القانون، أو توقيع عقوبة تزيد على الحد الأقصى المقرر في القانون إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون تجاوز الحد الأقصى([6])
ووفقا للتعريفات السابقة للعقوبة، فأن العقوبة لها عناصر ثلاثة:
1- الإيلام: ويعني الإيلام المساس بحق لمن تنزل به العقوبة، ويعني المساس بالحق – الحرمان
منه- كله أو جزء منه، أو فرض قيود على استعماله. ويتحقق معنى الإيلام في صورتين:
صورة مادية باعتبار أن المساس بالحق يجعل وسائل من ناله محدودة فيضيق تبعا لذلك مجال نشاطه في المجتمع، وصورة معنوية تتمثل في شعوره بالمهانة لهبوط مركزه في المجتمع.
وهذا الشعور ضائق كذلك لنظرة أفراد المجتمع إليه، وقد داخلها الاحتقار أو الرثاء([7]).
2- إيلام العقوبة مقصود: الإيلام في العقوبة لابد أن يكون مقصوداً، ولا يحدث عرضا أو كأثر لتنظير تدبير أو إجراء معين، وتطبيقاً لذلك ينتفي معنى العقوبة من كل تدبير أو إجراء ينطوي بطبيعته على إيلام غير مقصود، مثل إجراءات التحقيق أو المحاكمة، فقد يقبض على المتهم ويفتش أو يحبس احتياطيا وهي إجراءات لا يخلو تنفيذها عادة من المساس ببعض الحقوق، ومع ذلك فهي لا تستهدف الإيلام، وإن حدث بالفعل فهو غير مقصود، وإنما يترتب دون محالة نتيجة طبيعية لاتخاذ الإجراء([8]).
وكون الإيلام مقصوداً يبرز معنى الجزاء في العقوبة، تقوم فكرة الجزاء هو مقابلة الشر بالشر، فما أنزله الجاني من شر بالمجتمع والمجني عليه يتعين أن يقابله شر في صورة إيلام العقوبة، وهذا الشر يتعين أن يكون مقصوداً، إذ بغير ذلك لا يتحقق معنى الجزاء([9]).
3- ارتباط أو الصلة بين إيلام العقوبة والجريمة: إن إيلام العقوبة يجب
أن يرتبط بالجريمة من وجهين:
أ- أن الإيلام الذي تتضمنه العقوبة لا يمكن إنزاله إلا كأثر للجريمة. ويستتبع ذلك أن يكون لاحقاً على ارتكاب
الجريمة، فتكون الجريمة سببا للإيلام.
ب- إن إيلام العقوبة يجب أن يتناسب مع الجريمة. ويعني ذلك أن هناك حد أدنى من التناسب ينبغي أن يتحقق بين إيلام
العقوبة والجريمة الموجبة لتلك العقوبة([10]).
المطلب الثاني
التطور التاريخي للعقوبة
لا يمكن إرجاع تاريخ العقوبة إلى وقت محدد بالذات، فهي قديمة قدم المجتمع البشري، ذلك أنها مرتبطة بالظاهرة الإجرامية، باعتبارها تعبيرا عن رد الفعل الاجتماعي إزاء الجاني الذي خالف إحدى قواعد السلوك الاجتماعي، فالجماعة قد أصابها شر بوقوع الجريمة، ولهذا فإنها ترد بتوقيع شر آخر على المتهم بحيث يتعادل الشر الأول فيعود بذلك التوازن الاجتماعي([11]).
وقد مرت العقوبة بمراحل في تطورها التاريخي من المجتمعات القديمة إلى المجتمعات الحديثة على النحو التالي:
أولا: العقوبة في المجتمعات القديمة:
ارتبطت العقوبة في مراحل تطورها بصورة الجماعة البشرية، وذلك بتطور المجتمع من صورته البسيطة إلى صورته المركبة، فتطورت الجماعة البشرية من مجتمع العائلة إلى مجتمع العشيرة الذي تحولفيما بعد إلى مجتمع القبيلة، وهذا تحول فيما بعد إلى مجتمع المدنية([12]).
واتخذ العقاب في مجتمع العائلة صورة التأديب، وانعقدت سلطة ممارسة هذا التأديب إلى رب العائلة في مواجهة أفرادها المخالفة لنواميس هذه العائلة. وكانت هذه السلطة الممنوحة لرب العائلة متسعة فشملت قتل الجاني وطرده من العائلة. وكانت تأخذ العقوبة في مجتمع العائلة الطابع العام، إذ كان رئيس هذا المجتمع وممثله هو الذي يوقعها، وكانت بعض الأفعال التي توقع من أجلها تتخذ طابع خيانة المجتمع كالفرار من القتال وتثير في أجلها شعور الاستنكار العام. أما إذا كان الجاني منتميا إلى عائلة غير عائلة المجني عليه، فقد اتخذت العقوبة صورة الانتقام الفردي، إذ يهب المجني عليه تنصره عائلته إلى الانتقام من الجاني الذي تناصره عائلته كذلك، ويتخذ الانتقام صورة الحرب الصغيرة ويترتب عليه من الضرر ما يفوق في الغالب ضرر الجريمة([13]).
وفي مجتمع العشيرة، ارتبطت
العقوبة كذلك بسلطة التأديب التي كانت ممارستها عن طريق رئيس العشيرة، واتخذت
العقوبة في هذا المجتمع طابع “الانتقام الاجتماعي” من الجاني باعتباره
خائنا([14]).
وفي حالة انتماء الجاني إلى
عشيرة غير عشيرة المجني عليه، كانت الحرب بين العشيرتين بمثابة الانتقام الجماعي.
وقد حاولت سلطات العشيرة تقييد الانتقام الفردي الذي لم يختف تماما، ففرضت نظام
القصاص من الجاني وأخرجت بعض الأفعال من دائرة الانتقام الفردي([15]).
وفي مجتمع القبيلة، ظهرت الدية كنظام بديل للانتقام الفردي أو الاجتماعي، وذلك نتيجة استمرار الحروب وأعمال الانتقام في حالة انتماء الجاني والمجني عليه إلى عشيرتين مختلفتين من نفس القبيلة، وبمقتضى نظام الدية تقوم عشيرة الجاني بتسليم مبلغ من المال إلى عشيرة المجني عليه كأثر للجريمة، وكان المبلغ يختلف بحسب طبيعة الجريمة وسن المجني عليه، وطائفته الاجتماعية، وكونه عبداً أو حراً، فالحر يدفع له أكثر من العبد، والبالغ أكثر من الحدث، والرجل أكثر من المرأة، ومن ينتمي إلى طائفة النبلاء أكثر من الحر العادي وهكذا.
واقتصر نظام الدية على نطاق الجرائم التي تقع ضد الأفراد ولم يطبق على “الجرائم العامة” أي التي تمس المصلحة العامة([16])، أما الجرائم العامة، فقد ظل للعقوبات الخاصة بها طابع الانتقام الجماعي، واتسمت بالقسوة بعد أن حل التكفير كغرض للعقوبة محل الانتقام الجماعي ذلك أن العقوبة اصطبغت في هذه المرحلة من التطور بصبغة دينية، وتحول غرضها إلى التكفير باعتباره وسيلة يتقرب بها الجاني إلى الآلهة تفاديا لغضبها. ولما كان التكفير يستهدف إرضاء الآلهة التي ساءها ارتكاب الجريمة. فإن ذلك يستتبع التشديد في العقوبة، إذ بقدر ما يشتد عذاب العقوبة يكون التكفير أشد أثراً في دفع غضب الآلهة، ولهذا السبب كانت العقوبة قاسية بتنفيذها بأبشع الوسائل. كما غلبت الطقوس الدينية على إجراءات النطق بالعقوبة وتنفيذها([17]).
وفي ظل نظام العشيرة كان رئيس العشيرة هو المنوط به توقيع العقاب باعتباره القائد العسكري والزعيم السياسي ورجل الدين المسئول عن استتباب الأمن في المجتمع… ويتضح مما سبق أن في المجتمعات القديمة كان الانتقام الفردي ضمانة أولية في نظر أفرادها لحفظ النظام الاجتماعي بما يولده الانتقام الفردي من إحجام عن الاعتداء المحتمل خشية رد الفعل الانتقامي العنيف([18]).
ثانيا: تطور العقوبة في العصر الحديث:
شهد الفكر الإنساني إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تطورات هائلة شملت شتى المعارف والعلوم الإنسانية. ونتيجة هذه التطورات ارتقت الإنسانية في أفكارها ومعيشتها، واكتشف الفرد آفاق جديدة في حياته المادية وعلاقاته الاجتماعية، وقد انعكس كل ذلك على النظام القانوني بصفة عامة. وعلى فكرة العقوبة بوجه خاص.
ويمكن إجمال مظاهر تطور العقوبة في العصر الحديث في ثلاثة مظاهر:
أولا: الحد من قسوة العقوبات المطبقة:
وذلك بأن هجرت معظم التشريعات عقوبات بتر الأعضاء والجلد وتشويه جسم الإنسان وسائر العقوبات الأخرى التي تضمنتها التشريعات القديمة التي يجمع بينها طابع القسوة والعنف وعدم التناسب بين قدر الإثم أو الخطيئة وبين العقوبة المطبقة عليه، وقل عدد الجرائم المعاقب عليها بالإعدام وانحصر في جرائم الاعتداء على الحياة وجرائم التجسس. كما ظهرت فكرة الظروف المخففة وجعل العقوبة بين حدين أدنى وأقصى للقاضي أن
يتخير مقدار العقوبة بينهما حسبما تفصح عنه شخصية الجاني، وبراعته في ارتكاب
الجريمة.
ثانيا: تغير أساليب التنفيذ العقابي
وصيرورتها أكثر رحمة: وظهر ذلك جليا في تنفيذ عقوبة الإعدام، وذلك بتجريد تنفيذها من الطابع الوحشي الذي اتسمت به فيما مضى. واقتصر تنفيذ العقوبة على مجرد إزهاق الروح فاختفت مظاهر التعذيب البدني والنفسي التي أحاطت تنفيذ هذه العقوبة زمناً.
ثالثا: نبذ فكرتي الانتقام والتكفير كأساس
العقاب وبزوغ أفكار جديدة حلت محلها كفكرة إصلاح المجرم وتأهيله. فقد دعت كتابات المفكرين والفلاسفة إلى اعتبار المجرم (إنساناً) وليس من صالح المجتمع القضاء على إنسانيته، وإنما يمكن إعادته عضواً صالحا في الجماعة. ولهذا ظهرت العقوبات المخففة، وتطور دور السجون وتزايد الاهتمام بوجه عام بمرحلة التنفيذ العقابي([19]).
رابعا: وبخصوص سلطة القاضي في تقدير العقوبة، نجد أن السياسة الجنائية الحديثة-
مع إقرارها منح القاضي سلطة تقديرية واسعة لتحقيق تفريد العقاب- تؤكد ضرورة الحيلولة دون جعل هذه السلطة تحكمية، وتقضى بوجوب ممارستها ضمن النطاق القانوني الشكلي والموضوعي، وطبقا لتوجيهات قانونية محدده، وفي ضوء بحث دقيق لشخصية المجرم، مع تأهيل القاضي الجنائي وتخصصه، وتهيئة المساعدين له من الأخصائيين الكفء ، وقد عبر عن هذه السياسة خير تعبير توصيات المؤتمرين الدوليين السابع والثامن لقانون
العقوبات والتي جاء فيها:
1- إن السياسة الجنائية الحديثة لتفريد العقاب تحتم منح القاضي سلطة واسعة في
تقدير العناصر المختلفة للدعوى، فيما يتعلق بتقدير الأدلة وإثبات الإدانة، وتحديد
العقوبات والتدابير.
2- ومبدأ
قانونية الجرائم والعقوبات الذي يكون ضمانة جوهرية للحرية الفردية، لا يمنع منح
القاضي هذه السلطة.
3- على أنه لا يجوز اعتبار السلطة الممنوحة كسلطة تحكمية، وإنما يجب أن تمارس في نطاق
قانوني، وطبقاً للمبادئ العامة للقانون، وعلى حسب قواعد الإجراءات التي تحول دون
التحكم.
4- لتوفير السلطة المقررة للقاضي يجب أن يضع القانون تحت تصرفه مجموعة منوعة
من العقوبات والتدابير، بغية تمكينه من اختيار العقوبة أو التدابير الأكثر ملاءمة.
5- وعلى القاضي عند ممارسته لسلطته التقديرية في تحديد العقوبة أو التدبير أن
يسترشد بالقواعد القانونية الموجهة في هذا الخصوص، التي يجب أن ينص عليها القانون
بوضوح.
6- ينبغي مراعاة شخصية المجرم، عند تحديد العقوبة أو التدبير، لذا يلزم النص على وجوب بحث هذه الشخصية، وتنظيم قاعدة خاصة بإجراءاته ونتائجه، من قبل القاضي بالتعاون مع الأخصائيين الذين يختارهم، على أن يتم البحث بما فيه من تحري وفحص
بطريقة لا تسئ إلى المتهم أو سواه، وأن يخضع نتائجه للمناقشة الوجاهية بين الخصوم، مع احتفاظ القاضي بحريته في تقدير تلك النتائج.
7- المفروض في القاضي أن يصدر حكمه بعد محاكمة علنية كاملة، تمتعض بمقتضى إجراءات سليمة تسمح بالاطلاع على جميع جوانب القضية وتحول دون الإضرار بحقوق الدفاع وبالكرامة الإنسانية.
8- الحكم الجنائي يجب أن يسبب بطريقة محددة، تظهر الأسباب الحقيقية للحكم، وتقدم حصيلة مداولة القاضي، وتجيب على جميع الدفوع التي أثيرت، مع تجنب الصيغ النموذجية، الصيغ الغامضة، الصيغ القانونية البحتة التي لا يتفهمها الخصوم إلا إذا كان من الضروري استعمالها.
9- يلزم التطبيق بالحكم علانية، وعلى القاضي أن يشرح مضمون الحكم لتيسير المهمة على الخصوم.
10- يحسن تنظيم إجراءات الدعوى الجنائية، على نحو يمكن القاضي من إصدار حكمين منفصلين في الدعوى، يخصص الأول لموضوع الإدانة والثاني لتحديد العقوبة أو التدبير.
11- وجوب إخضاع الأحكام التي يصدرها القاضي لطرق الطعن، سواء أكان ذلك بالاستئناف أو النقض أو التماس إعادة النظر، ومن الشروط القانونية المقررة.
12- ولضمان سلامة ممارسة القاضي الجنائي، لسلطته التقديرية الواسعة، فإنه يترتب عليه أن يقدر تماماً المسئولية التي تفرضها عليه مهمته الاجتماعية الخطيرة، كذلك يجب:
أ-تخصيصه للقضاء الجنائي فقط.
ب- العناية في اختياره،
بالتأكيد من لياقة تكوينه الخلقي والعلمي لمنصبة، مع التثبت بصفة خاصة من استيفائه لدراسة مناسبة في فروع علم الإجرام المتشعبة من العلوم الإنسانية، إلى جانب دراسته
القانونية الوافية.
ت- تأمين الحصانة القانونية
لحماية استقلاله، وتوفير احتياجاته المادية التي تحقق له مكانه معيشية تتناسب مع
كرامة مركزه القضائي الرفيع.
ث- إعداد الأخصائيين الأكفاء من
أطباء ونفسانيين وباحثين اجتماعيين لمساعدته في مهمته([20]).
ويترتب على هذه التوصيات أن سلطة القاضي التقديرية هي سلطة نسبية وليست مطلقة أو تحكميه فهو يستخدم هذه السلطة
من خلال القواعد القانونية الممنوحة له لاستخدامها عند تقدير العقوبة.
المبحث الثاني
خصائص العقوبة
غدت العقوبة نتيجة التطور الحديث التي انتهت إليها فكرتها، لها مفهوم قانونياً له خصائصه التي تميزه عن صور الجزاءات القانونية الأخرى، ويمكن أن نرد خصائص العقوبة في الآتي:
1- شخصية العقوبة.
2-
شرعية العقوبة.
3-
قضائية العقوبة.
4-
عدالة العقوبة.
وسوف نفصلها في المطالب
الأربعة الآتية:
المطلب الأول
شخصية العقوبة
يعني مبدأ شخصية العقوبة أن العقوبة لا توقع إلا على من أرتكب الجريمة أو ساهم في حدوثها سواء بصفة أصلية أو تبعية، وكان أهلاً للمسئولية الجنائية([21]).
وقد قرر المشرع الكويتي شخصية العقوبة عن طريق نص المادة (33) من الدستور الكويتي، حيث تقرر أن ( العقوبة شخصية ) ويؤكد الدستور المصري الصادر 1971 هذا المبدأ في نص المادة ( 66) منه أن ( العقوبة شخصية ).
ولا شك أن العدالة تقتضي أن تكون العقوبة شخصية لا توقع ولا تنفذ إلا على من ارتكب الجريمة أو شارك فيها، ونتيجة لذلك
تكون الدعوى العمومية شخصية لا ترفع إلا على المجرم، فلا تقام على الولي أو الوصي أو القيم مادام لم يثبت في حق أحدهم خطأ شخصي كان سبباً في وقوع الفعل من الصغير أو المجنون والمسئول عن الحقوق المدنية وتصح مخاصمته مدنيا ولكنه غير مسئول جنائياً، فالمدعى عليه في الدعوى الجنائية هو المتهم فقط, والجاني إذا توفاه الله سقطت تكاليفه، فإن كانت الوفاة قبل الحكم عليه سقطت الدعوى العمومية وإن كانت بعد الحكم البات سقطت العقوبة المحكوم بها فلا يرثة في هذا التكاليف أحد([22]).
ويترتب على مبدأ شخصية العقوبة آثار هامة منها:-
1- عدم معاقبة شخص برئ لا علاقة له بوقوع الجريمة.
2-
تحقيق العدالة في المجتمع
وحماية مصالح الأفراد.
3-
عدم تمكن الجاني من الإفلات
من العقاب لأن العقوبة لا توقع إلا على مرتكب الجريمة وعلى من شاركه وساعده فيها([23]).
ومبدأ شخصية العقوبة من المبادئ المستقرة في الشريعة الإسلامية، تؤكده الآيات القرآنية والسنة النبوية.
يقول تعالى في كتابه الكريم ” أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ~ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ~ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ” الآيات 38، 39 ،40 من سورة النجم، ويقول تعالى “ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ” الآية ( 25 ) من سورة سبأ. وفي الحديث الشريف “لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه” وبهذا المبدأ فقد هدم الإسلام النظام الذي كان سائداً عند العرب في الجاهلية وهو مسئولية القبيلة مجمعة عن الجريمة التي
تقع من أحد أفرادها([24]).
المطلب الثاني
شرعية العقوبة
يعتبر هذا المبدأ من أهم المبادئ القانونية في التشريع الجنائي، حيث أنه لا يمكن اعتبار جريمة وقعت دون النص عليها في القانون، كما أنه لا يمكن توقيع عقوبة على أحد لم ينص عليها القانون أيضاً.
فيجب أن يحدد القانون العقوبة منعاً لتعسف السلطات الحاكمة على الأفراد. والقانون يجعل العقوبة متراوحة بين حدين، وقد يلجأ إلى تقرير عقوبتين للجريمة يختار القاضي أيهما أدنى إلى تحقيق المصلحة بناء على ظروف كل دعوى. وينص القانون على أعذار مخففه وعلى الترخيص للقاضي إذا وجدت ظروف مخففه بأن ينزل بالعقوبة إلى أقل من الحد الأدنى المقرر في الجنايات وفي هذه الأحوال تظهر خاصية تحديد العقوبة في أن يحكمه الموضوع يتقيد في تقدير العقوبة بالحدود التي يقررها القانون فلا تتجاوز الحد الأقصى ولا تنزل عن الحد
الأدنى([25]).
وباعتبار هذا المبدأ من المبادئ الهامة فقد نص عليه الدستور الكويتي في المادة (32) منه حيث جاء فيها أنه ” لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة للعمل بالقانون الذي ينص عليها”.
ويترتب على هذا المبدأ عدد
من النتائج الهامة:
أولاً: حظر تطبيق نصوص التجريم والعقاب
على الماضي بأثر رجعي إلا إذا كانت هذه النصوص تنطوي على مصلحة المتهم، فشرعية العقوبة تقتضي إذن ألا يحكم على المتهم بعقوبة صدرت “بعد” ارتكاب الجريمة فلا يجوز بالتالي أن يطبق على متهم بجريمة عقوبة جديدة تزيد في نوعها أو مقدارها عن العقوبة التي كانت سارية وقت ارتكاب الجريمة([26]).
وهذه النتيجة قررها قانون الجزاء الكويتي في المادة (14) منه، حيث ينص على أنه (يعاقب على الجرائم طبقاً للقانون المعمول به وقت ارتكابها ولا يجوز أن توقع عقوبة من أجل فعل ارتكب قبل نفاذ القانون الذي قرر عقوبة على هذا الفعل).
ولا يستثنى من ذلك القانون إلا القانون الأصلح للمتهم المنصوص عليه بالمادة (15) والقوانين المؤقتة (16) والقوانين الإجرائية الشكلية الوارد ذكرها من خلال المادة (17) من ذات القانون ، وحيث أن المشرع قد قيد بقاعدة أن التجريم لا يشمل إلا الأفعال اللاحقة لصدور القانون، فإن هذه القاعدة القانونية إنما أخذت خطواتها في الوجود والتقنين نتيجة لتقيد المشرع بمبدأ الشرعية([27]).
ثانياً: تفسير
قواعد التجريم والعقاب تفسيراً ضيقاً فلا يجوز للقاضي التوسع في تفسير شق التكليف ( أركان الجريمة وعناصرها )، أو شق الجزاء ( العقوبة المقررة).
وبناء على ذلك فليس للقاضي أن يعاقب على فعل بعقوبة غير مقررة كما لا يجوز للقاضي الجنائي التفسير بطريقة القياس، حيث لا يجوز له أن يطبق على قضية معروضة أمامه سكت المشرع عن بيان حكمها (سواء فيما يتعلق بشق التكليف أو بشق الجزاء) حكم نص آخر بزعم اتحادهما في العلة([28]).
ثالثاً: أن تكون سلطة القاضي التقديرية
في تقدير العقوبة وفقاً لأحكام القانون، وقد قضت محكمة التمييز الكويتية أن تقدير قيام موجبات الرأفة أو عدم قيامها موكول لقاضي الموضوع دون معقب عليه في ذلك، وأن المشرع ترك للقاضي سلطة مطلقة في تقدير العقوبة الملائمة في الحدود المقررة بالقانون للجريمة وأعمال الظروف التي رآها مشددة أو مخففة مادام ما انتهى إليه في قضائه يقوم على أسباب سائغة ولا مخالفة فيها للقانون([29]).
وهذا المبدأ مستقر عليه في النظام الجنائيالإسلامي وقد دلت على ذلك الآيات القرآنية والقواعد الفقهية التي استخرجها الفقهاء من هذه الآيات.
ومن هذه الآيات قول الله تعالى ” وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً” الآية 15 من سورة الإسراء وقوله تعالى” وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ ~ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ” الآيتان 209.208 من سورة الشعراء، وقوله تعالي: “رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ” الآية 165 من سورة النساء.
ومن القواعد الفقهية التي تؤكد هذا المبدأ قاعد ة ” لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص ” ومفاد هذه القاعدة أن الأفعال التي تصدر عن الإنسان المكلف المسئول لا توصف إنها محرمة ما لم يرد نص بتجريمها، فضلاً عن إفادتها مضمون القاعدة التي يليها بمعنى أنه لا حرج على المكلف أن يقوم بالفعل أو بتركه إلى حين النص على تجريمه. وقاعدة “الأصل في الأشياء والأفعال الإباحة” وبمضمون هذه القاعدة أن لكل فعل أو ترك مباح أصلاً بالإباحة الأصلية. وإذا لم يرد نص بتجريمه فلا مسئولية على فاعله أو تاركه ([30]).
المطلب الثالث
قضائية العقوبــــة
يعني هذا المبدأ أن العقوبة لا توقع إلا من خلال سلطة قضائية مختصة نص عليها قانون الإجراءات الجزئية ومن خلال حكم قضائي.
فلا تكون العقوبات الصادرة من قبل المدراء على موظفيهم، أو الآباء على أبنائهم لها صفة العقوبة الجزائية بل أن الجزاءات الإدارية أو الجزاءات المدنية لا يتقرر لها وصف العقوبة الجزائية لاختلاف طبيعة كل منها، وإقرار قرارات إدارية أو تأديبية لا يمنع إيقاع عقوبة جزائية على نفس الفاعل كما هو الحال بالنسبة للموظف العام الذي يقبل رشوه، لذا لا بد وأن تكون العقوبة صادرة من قبل هيئة قضائية مكتملة الأركان حسب ما يقرره قانون الإجراءات الجزائية وعن طريق حكم قضائي متوافرة فيه الشروط المشار إليها عن طريق قانون الإجراءات الجزائية مثل كونه مكتوباً وموقعاً عليه من قبل رئيس الجلسة …. إلخ ([31]).
ويترتب على هذه الخصيصة أو المبدأ امتناع تنفيذ أي عقوبة جنائية ولو كان منصوصاً عليها قانوناً ما لم يصدر بهذه العقوبة حكم قضائي صادر من محكمة جنائية مختصة وفقاً لأحكام القانون([32]).
ومبدأ قضائية العقوبة يحقق الضمانات الأساسية للمتهم وحقوقه وحرياته لأنه يتيح له فرصة المثول أمام القاضي
والدفاع عن نفسه ومناقشة الشهود وأدلة الاتهام المثارة ضده، وشرح الملابسات والظروف التي رافقت الجريمة([33]).
المطلب الرابع
عدالـــة العقوبــــة
ترتبط عدالة العقوبة بأمور
هامة:
1- تعني عدالة العقوبة أن يكون هناك ضرورة لتقريرها ذلك أن العقوبة ضرورة اجتماعية والضرورة تقدر بقدرها دون إفراط أو تفريط ومؤدى ذلك أن العقوبة لا تكون عادلة إلا إذا كانت لازمة لا غنى عنها لتحقيق مصلحة المجتمع في مكافحة الإجرام، أي إذا كان وجه الضرورة في تقريرها والالتجاء بها واضحا أما إذا كان من الممكن حماية المصلحة الاجتماعية المراد حمايتها بوسائل أخرى غير العقوبة الجنائية فإن لجوء المشرع إلى العقاب الجنائي يكون من قبل التعسف في استعمال حق العقاب، ومنافياً لما تقتضيه العدالة ومراعاة العدالة في مرحلة التجريم والعقاب من أهم الضوابط التي ينبغي أن توجه المشرع حين يزن المصالح الاجتماعية ليقدر ما يكون من بينها أولى بالحماية الجنائية([34]).
2- لا تكون العقوبة عادلة إلا إذا كانت متناسبة مع الجرم المرتكب، فيجب أن تتضمن معني الإيلام بغير زيادة أو نقصان، فلا فائدة في عقوبة غير رادعة ولا قسوة لا تبررها مصلحة كذلك يجب أن تتناسب العقوبة مع شخصية الجاني وظروفه وما أحاط بالجريمة من ملابسات.
وتناسب العقوبة مع الجريمة مسألة موضوعية تخضع لتقدير محكمة الموضوع وتحقيقاً للعدالة منح المشرع القاضي سلطة تحديد مقدار العقوبة بحيث تتراوح بين حدين أعلى – وأدنى يختار القاضي أيهما أقرب إلى تحقيق العدالة استناداً إلى الظروف والملابسات التي أحاطت بارتكاب الجريمة.
3- الأمر الثالث أن عدالة العقوبة المساواة في العقوبة بين الناس جميعاً بغير تفريق بينهم تبعاً لمراكزهم الاجتماعية ولكن هذه المساواة لا تعني أن يحكم القاضي بعقوبة واحدة على جميع من يرتكبون جريمة من نوع معين، فالقاضي له سلطة تقديرية تخوله إن يحدد لكل مجرم القدر من العقوبة التي تتناسب مع ظروفه وفقاً للحدود التي يقررها القانون طالما كانت العقوبات مقررة لجميع الناس على السواء مهما اختلفت مراكزهم الاجتماعية([35])ولمبدأ المساواة في الخضوع للعقوبة في الشريعة الإسلامية مكانة هامة سواء من حيث النص عليه كمبدأ أو من حيث تطبيقاته الزاخرة فيصدر التاريخ الإسلامي([36]).
وهذا المبدأ المنصوص عليه كمبدأ بما يستفاد من قوله تعالى “ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” الآية 13 من سورة الحجرات ويستخلص المبدأ كذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “الناس
سواسية كأسنان المشط الواحد لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”([37]).
المبحث الثالث
أهداف العقوبة في القانون والشريعة الإسلامية
تتعدد أغراض العقوبة سواء في الشريعة الإسلامية أو القانون، وتهدف هذه الأغراض جميعاًَ إلى تحقيق فكرة سامية هي الحفاظ على المجتمع من الجريمة ومكافحتها.
وأتناول هذا المبحث في مطلبين، أتناول في المطلب الأول أغراض أو أهداف العقوبة في القانون، ثم أتناول في
المطلب الثاني أغراض العقوبة أو أهدافها في الشريعة الإسلامية.
المطلب الأول
أهداف العقوبة في القانون
لتحديد أهداف العقوبة أو أغراضها أهمية في العلوم الجنائية كافة، وترجع هذه الأهمية إلى أن علم العقاب هو السبيل لتحديد الأساليب اللازمة لتنفيذ العقوبات بما يحقق هذه الأغراض وإن استعمال أساليب غير ملائمة أو متنافرة مع الأغراض المستهدفة من العقاب من شأنه تفويت هذه الأغراض ويجعل العقاب غير ذي فائدة([38]).
وقد تعاقبت الجهود العلمية التي بذلت لتحديد أغراض العقوبة، وكانت هذه الجهود من خلال النظريات التي جاءت بها المدارس الفكرية في هذا المجال على مر الزمان.
وقد جاء في فكر المدرسة التقليدية التي كان أهم رجالها ومؤسسيها الإيطالي بيكاريا والألماني في فوير باخ والإنجليزي بنتام، أن الردع العام هو أهم ما تدور حوله أغراض العقوبة، فيحدد بنتام السبيل إلى تحقيق الردع العام بأنه رجحان إيلام العقوبة على الفائدة المتوقعة من الجريمة بحيث يصرف عن الإقدام عليها([39]).
وقرر بيكاريا أن الردع العام لا تؤدي إليه قسوة العقوبة بقدر ما يؤدي إليه طابعها اليقيني وسرعة تطبيقها، وقد انتقد بيكاريا عقوبة الإعدام بحجة أنها تنطوي على عنف ووحشية، وتحدث صدمة في الشعور العام لدى أفراد المجتمع، وتخالف نظرية العقد الاجتماعي التي بنى عليها أفكاره([40]).
أما عن أغراض العقوبة في فكرالمدرسة التقليدية الحديثة والتي ذاعت أفكارها خلال القرن التاسع عشر، وكان أهم رجالها روس ومولينيه في فرنسا، وكارميناتي وكرارا في إيطاليا، وهوس في بلجيكا، فهي تحقيق غرضين، العدالة من ناحية والردع للعام من ناحية أخرى، فتحقيق العدالة المطلقة يجب أن يكون غرضاً تسعى العقوبة إلى تحقيقه، باعتبار العدالة في ذاتها قيمة أخلاقية واجتماعية، واعتبار العدالة أحد أغراض العقوبة بغرض العناية بشخص المجرم لتحقيق التناسب بين العقوبة وهذه الشخصية كما يفرض التخفيف في العقوبات حتى تتناسب مع جسامة الجريمة وخطورة المجرم، أما الردع العام فهو كذلك غرض تسعى إليه العقوبة وهو غرض نفعي تشترك فيه المدرسة التقليدية الحديثة مع المدرسة التقليدية الأولى([41]).
أما عن فكر المدرسة الوضعية
بالنسبة لأغراض العقوبة، فهذه المدرسة يقوم فكرها على عدم الاعتراف بفكرة العقوبة في مفهومها التقليدي ورفض فكرة العقوبة ناتج عن أفكار المسئولية الجنائية التي حل محلها مبدأ المسئولية الاجتماعية فأنصار هذه المدرسة (لمبروزو، وفيري وجارو فالو ) لا يعترفون بالعقوبات بل يقتصرون على التدابير الاحترازية كوسيلة دفاع اجتماعي ضد الجريمة وما دامت الجريمة حتمية، فإن التدبير الذي يتخذ لمواجهة الخطورة الإجرامية لا ينبغي أن يواجه الجريمة في ذاتها ويعني ذلك أن يتجرد من الصفة الجزائية ولا يكون للجريمة دور كبير في تحديده بل يكون مناطه الخطورة الإجرامية وهدفه مواجهتها في شخص مرتكب الجريمة وإن كان للجريمة من قيمة في هذا الصدد فإنما يكون باعتبارها مؤشرا على وجود الشخصية الإجرامية، وعاملاً من بين العوامل التي تعين على تحديد مدى الخطورة الكافية على ما فيها،
والقول بأن الخطورة الإجرامية هي مناط التدبير الذي يتخذ قبل من توافرت فيه الخطورة يعني وجوب تحديد نوعها ودرجاتها كي يأتي التدبير ملائماً لها ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا أجريت دراسة شخصية المتهم وكانت التدابير متنوعة بحيث يمكن الاختيار بينها من ناحية يلزم لتحديد نوع الخطورة ودرجتها إجراء دراسة لشخصية المجرم بإتباع الأساليب العلمية وقد كان لأنصار المدرسة الوضعية فضل توجيه الأنظار إلى ضرورة العناية بدراسة شخصية المجرم ومن ناحية أخرى يجب أن تتنوع التدابير لكي يمكن الملاءمة بين نوع التدبير ومقدار الخطورة الإجرامية ودرجتها وعلى ذلك تكون الخطورة الإجرامية هي مناط التدابير الاحترازية ويكون اختيار التدبير مرتبطاً بنوع الخطورة مما يقتضي تصنيف المجرمين إلى طوائف على أساس نوع الخطورة توصلاً إلى تحديد التدابير الملائمة لكل طائفة وغرض التدابير لجنائية وفقاً للمدرسة الوضعية ووفقاً لما سبق مواجهة الخطورة الإجرامية أن منع المجرم من الأضرار بالمجتمع في المستقبل ويعني ذلك في تعبير آخر أن غرض التدبير هو الردع الخاص للمجرم. ويمكن جمع وسائل تحقيق هذا الغرض في وسيلتين:-
الأولى: شل مفعول العوامل الإجرامية
لدى المجرم عن طريق العلاج والتهذيب.
الثانية: استئصال المجرم ذاته إذا تأكدت استحالة وقف تأثير العوامل التي تدفعه إلى الجريمة.
إذن يخلص من ذلك إلى أن المدرسة الوضعية تكون الغرض الأساسي لمواجهة الخطورة الإجرامية هو الردع الخاص ويؤدي هذا المنطق بالضرورة إلى إنكار ماعدا ذلك من الأغراض التي يمكن نسبتها للعقوبة ويعني ذلك أن تحقيق العدالة ليست غرضا من أغراض التدابير الجنائية كما أن الردع العام ليس بدوره غرضاً ينبغي أن تستهدفه هذه التدابير([42]).
أما عن حركة الدفاع الاجتماعي الحديث والتي نشأت على يد الأستاذ الإيطالي” فيليو جراماتيكا” الذي عبر عن أفكاره في مؤلف نشره منذ سنة 1934 وجمع خلاصة مذهبه في كتابة مبادئ الدفاع الاجتماعي ونتيجة الانتقادات التي وجهت لأفكار جراماتيكا، حاول الأستاذ مارك أنسل تصحيح مسار الحركة، وردها إلى أحكام الشرعية الجنائية وقد نشر في عام 1954 كتابه الشهير “الدفاع الاجتماعي الحديث” وإليه يرجع الفضل في تأصيل هذه الحركة والدفاع عنها.
ويمكن إجمال المبادئ التي تقوم عليها هذه الحركة في الأمور التالية:-
1- أن المقصود من الدفاع الاجتماعي حماية المجتمع والفرد من الإجرام وتكون حماية المجتمع بالقضاء على التأثير الضار للظروف التي من شأنها أن تغري بالإقدام على الجريمة أما حماية الفرد فيتحقق بتأهيله حتى لا يقدم على الجريمة مرة ثانية.
2-ضرورة احترام الكرامة الإنسانية والحريات العامة وعدم إهدارها تحت ستار تطبيق أساليب الدفاع الاجتماعي، أيا كانت التدابير التي تتخذ لهذا الغرض.
3-الاعتراف بمبدأ شرعية الجرائم والتدابير الجنائية، والتسليم بحرية الاختيار كأساس للمسئولية الجنائية.
4- إحلال تدابير الدفاع الاجتماعي محل العقوبات والتدابير الاحترازية وتهدف تدابير الدفاع الاجتماعية التي تأهل المجرم ويمكن أن تنطوي على سلب للحرية أو تقييدها والتأهل حق للمجرم والتزام عليه وينبغي اختيار التدبير الملائم لشخصية المجرم وهو ما يقتضي فحص شخصية المتهم قبل تقديمه إلى المحاكمة وإعداد ملف الشخصية الذي يتيح للقاضي اختيار التدبير الملائم ، وفي سبيل تحقيق ذلك ينبغي تقسيم الدعوى إلى مرحلتين: إحداهما للتحقيق من الإدانة أو البراءة والأخرى لتحديد التعبير الملائم([43]).
من هذه المبادئ نلاحظ أن حركة الدفاع الاجتماعي أدمجت العقوبات والتدابير الاحترازية في نظام واحد يضم مجموعة متعددة ومتنوعة من التدابير يطلق عليها ” تدابير الدفاع الاجتماعي ” يختار القاضي من بينها التدبير الذي يراه ملائماً لحالة كل منهم بعد فحص الجوانب المختلفة في شخصيته ولم تر حركة الدفاع الاجتماعي في هذه التدابير إلا غرضاً واحداً ينبغي أن تسعى إلى تحقيقه هو تأهيل المجرم باعتباره السبيل إلى حماية المجتمع وحماية المجرم على حد سواء وليس من أغراض التدابير وفقاً لأراء أنصار هذه الحركة تحقيق العدالة أو الردع العام فمعاملة المجرم تقتضي ألا يوضع في الاعتبار غير حقيقة واحد هي أن إنسان معين قد ارتكب جريمة وينبغي مساعدته في ألا يرتكب غيرها بعد ذلك ومن هذا المجرم الحقيقي يجب أن تكون نقطة البداية ومعه ينبغي في كلمرة البدء من نقطة الصفر لأن كل مجرم له شخصية ينبغي سبر أغوارها قبل أي شيء آخر والجريمة المرتكبة والتي تمثل لحظة قصيرة من حياته ليست سوى أحد الأعراض المادية الحالية ومن ثم يكون من الواجب معرفة سبب وصوله إلى هذه المرحلة وهو ما يقتضي اختراق شخصيته بقصد اكتشاف المعاملة الأكثر ملائمة له([44]).
يتضح مما سبق أن أفكار رجال القانون الجنائي كشفت عن أغراض أساسية للعقوبة يمكن عرضها في الآتي:-
أولاً: تحقيق العدالة:
الجريمة اعتداء على الغير
سواء في جسده أو في ماله أو في حريته أو في غير ذلك من الأضرار التي يمكن أن تلحق بالأشخاص نتيجة هذا الاعتداء، ومن العدالة أن يلاقي أو يعاقب الشخص الجاني عن الجريمة التي أرتكبها فليس من العدالة ترك المجرم يفعل ما يشاء ويقف القانون والناس متفرجين فتحقيقاً للعدالة يجب عقاب المجرم عن خطئه الذي أرتكبه فعقاب المجرم يهدف إلى محو الاعتداء المرتكب منه في شقين:
الأول: بأن تعيد للعدالة كقيمة اعتبارها الاجتماعي وترضي الشعور بها الذي سلب،
والشق الأول في هذه الوظيفة يقوم على فكرة” المقاصة الموضوعية ” باعتبارها الوسيلة إلى إعادة ” التوازن القانوني” ذلك أن الجريمة قد أخلت بهذا التوازن بما أنزلته من شر فيأتي شر العقوبة ليقاصه ويعيد التوازن بذلك، وهذا الشق يكفل صيانة قيمة أخلاقية يتعين أن تظل لها في المجتمع أهميتها، وهو بالإضافة إلى ذلك يعيد إلى القانون هيبته وللسلطات المنوط بها تنفيذه احترامها بعد أن أخلت الجريمة بهما.
أما الشق الثاني: من هذه الوظيفة فيكفل إرضاء
شعور اجتماعي يتأذى بالجريمة ويتطلب الإشباع في صورة العقوبة([45]).
ثانياً: الردع العام: يقصد بالردع العام تحقيق
الخوف من تطبيق العقوبة المطبقة في قلوب أفراد المجتمع وإيقاع الرهبة والجزع لكل
من تسول له نفسه ارتكاب ما ارتكبه المحكوم عليه([46]).
الردع العام تقوم فكرته على
مواجهة الدوافع الإجرامية بأخرى مضادة للإجرام حتى تتوازن معها أو ترجح عليها فلا تتولد الجريمة، وللردع العام أهمية أساسية، ذلك أن الدوافع الإجرامية تتوافر لدى أغلب الناس وهي بقايا نوازع نفسيه تنبع من الطبيعة البدائية للإنسان، وكانت للإنسان الأول أهم أسلحته في اجتياز طريقه العسير إلى إشباع حاجاته، وكانت من هذه الوجهة ذات نفع له، وإذا كانت المدنية قد جعلت الإنسان الحديث في غير حاجة مشروعة إليها، فإن ذلك لا ينفي وجودها، وهذه الدوافع تخلق في المجتمع ” إجراماً كامناً ” والتطور العادي لهذا النوع من الإجرام هو أن يتحول إلى إجرام فعل ، والعقوبة هي الحائل دون هذا التحول ولها من هذا الوجهة دور اجتماعي أساسي([47]).
وقد انتقد الردع العام كغرض من أغراض العقوبة بمقولة أن الاعتداد به شأنه أن يميل بالعقوبات إلى القسوة، إذ تزداد فاعلية التهديد بالعقوبة كما ازدادت شدتها، وهذا القول صحيح في ذاته إلا أنه لا يمثل وجها من أوجه النقد بل أنه حجه تؤيد الردع العام ولا تدحضه، ذلك انه من الخير للمجتمع أن تكون من العقوبة شديدة يخشاها الناس فلا يقدمون على الأفعال الموجبةلها([48]) من أن تكون خفيفة يستهين بها الأفراد فلا يمنعهم من الإقدام على الجريمة إذ ترجح الفائدة المتوقعة منها على الإيلام الذي تهددهم به تلك العقوبة([49]).
وقيل كذلك في نقد اعتبار الردع العام من أغراض العقوبة، أنه من غير المنطقي إيلام إنسان من أجل التأثير على غيره ومنعه من الإقدام على الجريمة، وهذا القول هو الذي يجافي المنطق ويمثل مغالطة ولا يصح إلا إذا كان إيلام العقوبة يقع على شخص بريء بقصد ردع غيره من الناس، أما كون الردع العام يتحقق عرضياً بإيلام من ارتكب جرماً، فإن ذلك لا ينفي سند استحقاق الإيلام في العدوان على حقوق يحميها القانون([50]).
ثالثاً:الردع الخاص:الردع الخاص يعني إصلاح المجرم
باستئصال الخطورة الإجرامية الكامنة في شخصه بقصد تأهيله للحياة الاجتماعية([51]).
وقد ذكرنا من قبل أن الردع الخاص كان الهدف الأساسي والغرض الأساسي للعقوبة في المدرسة الوضعية وذلك بعلاج المجرم وتهذيبه وذلك من خلال شل مفعول العوامل الإجرامية الكامنة فيه.
وللردع الخاص طابع فردي، إذ يتجه إلى شخص بالذات ليغير من معالم شخصيته ويحقق التآلف بينها وبين القيم الاجتماعية، وهو من ناحية أخرى يفترض الاعتداد بالظروف الفردية وتجتهد في الملاءمة بين أساليبه وهذه الظروف وللردع الخاص صلة وثيقة بنظرية الخطورة الإجرامية باعتبارهما موضوع أساليبه ولذلك كان كل منهما واضعا في اعتباره السلوك المستقبل للمجرم فإذا كانت الخطورة الإجرامية هي احتمال إقدام المجرم على جريمة تالية فإن هدف الردع الخاص هو القضاء على هذا الاحتمال.
وقد رأي رجال الإتحاد الدولي لقانون العقوبات أن سبل تحقيق الردع الخاص ثلاثة هي: الاستبعاد والإصلاح والإنذار، وجعلوا لكل سبيل مجاله بالنسبة لطائفة من المجرمين، ويرى الفقه أن هذا التقسيم محل نظر بالنسبة للعقوبات السالبة للحرية، فالاستبعاد يفترض اليأس من تأهيل المجرم, ومثل هذا اليأس لا يجوز أن يكون له محل بعد أن تقدمت أساليب المعاملة العقابية وغدت تستند إلى قواعد علمية متطورة ولا يكون سلب الحرية استبعاداً إلا إذا كان مؤيداً، ولكن تأييد سلب الحرية لم يعد له غير وجود نظري بعد أن تقبلت التشريعات الحديثة نظام الإفراج الشرطي، أما الإنذار فيقود إلى العقوبات قصيرة المدة، وهي مرفوضة في قواعد علم العقاب لغاية مضارها، ولذلك تتجه السياسة الجنائية إلى محاولة تحقيق الإنذار المطلوب بالنسبة لبعض طوائف المجرمين عن غير طريق سلب الحرية ويعني ذلك أنه لم يتبق من سبل تحقيق الردع الخاص – عن طريق سلب الحرية – غير الإصلاح والتهذيب ويقتضي اعتبار الإصلاح سبيل التأهيل أن تحديد الأساليب العقابية أغراض
أربعة: الأولى أن يخلق لدى المحكوم عليه الشعور بمسئولياته قبل نفسه وقبل المجتمع
والثانية المحافظة على ما لديه من إمكانيات بدنية وذهنية ثم تنميتها أو محاولة خلقها إن لم تكن موجودة والثالثة محاولة الإقلال من الآثار الضارة المرتبطة بسلب الحرية والرابعة تنظيم رعاية اجتماعية لاحقة على انقضاء سلب الحرية تستمر حق التيقن من تحقيق التأهيل([52]).
المطلب الثاني
أهداف العقوبة في الشريعة الإسلامية
سبقت الشريعة الإسلامية
أفكار المدارس الجنائية التي سعت لتحديد أغراض العقوبة وأساليب تطبيقها، وحيث أن
الخالق العظيم هو من خلق الإنسان ويعرف تكوينه فهو الأقدر على أن يقرر العقوبة الملاءمة
لصالح البشرية.
والعقوبات في الشريعة
الإسلامية مقدرة للعقاب على طائفتين من الجرائم، الطائفة الأولى: هي جرائم الحدود والدية والقصاص وهي التي تمس كيان المجتمع أو تضر بمصالحه الأساسية أو تقع مساساً بالحق في الحياة وفي سلامة الجسم والطائفة الثانية: هي الجرائم الأخرى وهي التي يعاقب عليها بعقوبات غير مقررة أو تعازير، ونظراً لخطورة الجرائم المنتمية إلى الطائفة الأولى فإن العقوبات المقررة بشأنها تتجه أساساً إلى الجريمة وتغفل شأن المجرم ولهذا لم يكن للقاضي أن يعفي من العقوبة أو يخففها أو يستبدل غيرها بها، أما العقوبات المقررة لمواجهة جرائم الطائفة الثانية فإنه يراعي فيها شخصية المجرم ودوافعه وفق ما يراه القاضي محققاً الحماية للمجتمع ومنع الجاني من العودة إلىالإجرام([53]).
وتتعدد أغراض العقوبة في
الشريعة الإسلامية نجملها فيما يلي: –
أولا: تحقيق العدالة:
الخالق العظيم أقدر على تحقيق العدل من خلال شريعته السمحاء الإسلام، والعدل اسم من أسماء الله الحسنى، والله يأمر عباده بتحقيق العدل، فيقول تعالى في كتابه الكريم ” إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ([54]) ” ويوضح الرسول الكريم هذا الأمر الإلهي من خلال قول الله تعالى ” وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ([55]) “.
ويحث الله عباده على الحكم بالعدل بين الناس في قوله تعالى ” وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ([56]) ” وقوله أيضاً ” اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ([57]) “ .
والعقوبة في الشريعة
الإسلامية هي جزاء ومقابل عادل للجريمة يقول الله تعالى ” إِنَّمَا جَزَاء
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ” ويقول أيضاً ” وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ”
فالعقوبة تمثل رد فعل المجتمع تجاه العدوان الذي وقع عليه وحيث تعيد العقوبة
التوازن إلى ميزان الحقوق والواجبات في المجتمع تحقق في نفس الوقت العدالة وتمنع ردود
الفعل العشوائية الانتقامية تجاه الجاني على نحو قد يتجاوز كثيراً من الضرر الذي
لحق بالمجني عليه([58]).
وتؤيد الأحاديث الشريفة فكرة
تحقيق العدالة لاسيما حديث المرأة المخزومية، وهي التي توسط أسامة لدى رسول الله
صلى الله عليه وسلم لعدم توقيع حد السرقة عليها فقال له الرسول الكريم ”
أتشفع في حد من حدود الله ” ثم خطب في الناس قائلاً ” إنما ضل من كان
قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد, وأيم
الله لو أن قاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”([59]).
إن العدالة تتحقق عندما
يتساوى الناس في العقاب أمام نفس الجريمة ولهذا حرص الرسول عليه الصلاة والسلام أن
يقرر قطع يد ابنته إذا سرقت وذلك يبين أنه لا فرق بين بنت الرسول وغيرها من الناس.
ثانياً: الردع العام:-
غرض العقوبة في الشريعة الإسلامية
ترهيب المجرمين المحتملين من ارتكاب الجريمة وحماية المجتمع الإسلامي من الجريمة
فيقول أحد الفقهاء ” حدود الشرع موانع قبل الفعل زواجر بعده ، أي أن العلم
بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل وإيقاعها بعده يمنع العودة إليه”([60]).
إن ترهيب الناس وخاصة المجرمين من
العقوبة يمنعهم من الإقدام عليها فالنفس البشرية يتنازعها الخير والشر وعندما تعلم
أن الفعل يجلب عليها الشر تبتعد عن الإتيان به، يقول تعالى ” وَنَفْسٍ وَمَا
سَوَّاهَا ~ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ~ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ~ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا “([61]).
ويعبر الماوردي عن وظيفة
الحدود في تحقيق الردع العام بقوله: ” والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع
عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر، لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد
الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا جهالة، حذراً من
ألم العقوبة وخيفة من نكال الفضيحة، ليكون ما حظر من محارمه ممنوعاً، وما أمر به
من فروضه متبوعاً، فتكون للمصلحة أعم والتكليف أتم([62]).
ويقول ابن القيم في إعلام الموقعين
” لو لا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضهم بعضاً وفسد نظام العالم
وصارت حال الدواب والوحوش أحسن من حال بني آدم ومن المعلوم أن عقوبة الجناة
والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم، ويجعل الجاني نكالاً وعظة لمن يريد أن يفعل مثل
فعله وعند هذا فلابد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الصغر والكبر والقلة
والكثرة”([63]).
إن الهدف الأساسي للعقوبة في
الشريعة الإسلامية حماية المجتمع ومصالحة الأساسية بغض النظر عن الظروف التي أدت
إلى الجريمة سواء عوامل داخلية لدى المجرم أو عوامل خارجية محيطة به، فالعقاب والعلم
به سبيل للردع كل من تسول له نفسه إلى ارتكاب الجريمة.
ثالثاً: الردع
الخاص:-
الردع الخاص في الشريعة الإسلامية
ذو طابع علاجي، يتعلق بمن أقدم على ارتكاب الجريمة، فيهدف إلى منعه من العودة
إليها مرة أخرى، ولذا فإن الألم الذي تتضمنه العقوبة ليس مقصوداً لذاته إنما هدفه
إرجاع الإنسان إلى طريق الحق وإبعاده عن المعصية، ولذا جاء قوله تعالى ” وَأَخَذْنَاهُم
بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ “([64]).
وقد عبر أحد فقهاء الشريعة
عن وظيفة العقوبة في تحقيق الردع الخاص بقوله أن العقوبة ” تأديب استصلاح
وزجر يختلف باختلاف الذنب ” ويضيف ابن تيمية أن العقوبة ” إنما شرعت
رحمة من الله تعالى بعباده فهي صادرة من رحمة الخالق وإرادة الإحسان إليه، ولهذا
ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما
يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض ” والمجال الطبيعي
لتحقيق فكرة الردع الخاص وإصلاح الجاني هو العقوبات التعزيرية([65]).
رابعاً: هدف إصلاح الجاني:
تعرض فقهاء المسلمين لهدف إصلاح الجاني تحت بند التأديب
فالتأديب ليدهم ليس معناه الانتقام وإنما ” الاستصلاح ” وإذا كان هدف
الإصلاح يبدو منعدماً في نطاق جرائم الحدود إلا أنه يكتسب أهمية كبرى في نطاق
العقوبات التعزيرية بل أنه يقفز إلى المقام الأول بين أغراض العقوبة وقد أتفق
الفقهاء في هذا الشأن على أن العقوبة لا تهدف إلى الانتقام والتشفي ثم وضعوا
الشروط التي تحول دون ذلك سواء أثناء تنفيذ العقوبة أم بعده([66]).
فإصلاح الجاني في النظام
العقابي الإسلامي تظهر في ثلاثة أمور: –
الأمر
الأول: في اختيار العقوبة:-
إن اختيار العقوبة المناسبة
كحال الجاني ولفداحة جرمه وهو ما يعبر عنه حالياً بفكرة ” تفريد العقوبة
” يظهر على وجه الخصوص في مجال العقوبات التعزيرية حيث يملك ولي الأمر بل
والقاضي إذا فوضه ولي الأمر في ذلك سياسة التجريم والعقاب فيجرم ما هو ضار بمصالح
المجتمع وينوع في العقوبات، بل ويملك كل منهما سلطة التخفيف أو التشديد أو إيقاف
تنفيذ العقوبة وهذا يعطي لفكرة تفريد العقوبة في النظام الجنائي الإسلامي مجالاً
كبيراً([67]) يعبر أبن
القيم عن فكرة تفريد العقوبة في النظام الإسلامي بألفاظ بالغة الدلالة، فيقول:
” ومن المعلوم ببداهة العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير
مستحسن بل مناف للحكمة والمصلحة فإنه إذا ساوى بينهم في أدنى العقوبات لم يحصل
مصلحة الزجر وإن ساوى بينهم في أعظمها كان خلاف الرحمة والحكمة، إذ لا يليق أن
يقتل بالنظرة والقبلة ويقطع بسرقة الحبة والدينار وكذلك التفاوت بين العقوبات مع
استواء الجرائم قبيح في الفطرة والعقول، وكلاهما تأباه حكمة الرب تعالى وعدله
وإحسانه إلى خلقه([68])“ .
الأمر
الثاني: تنفيذ العقوبة:-
يجب أن يتم تنفيذها بقصد الإصلاح لا بغرض التشفي والانتقام
ويعبر عن ذلك أحد الفقهاء وهو يتحدث عن نية الضارب للحد فقال ” فيضربه للحد ولما
وضع الله ذلك لأجل الزجر، فإن جلد للتشفي أثم لأنه عدوان وليس بحد ” ويردد ابن
تيمية نفس المعاني بقوله ” فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد، لا تأخذه رأفة
في دين الله، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن النكرات لا شفاء غيظه وإرادة
العلو على الخلق([69])“.
ويتفق معظم الفقهاء على أنه
يخرج من نطاق إصلاح الجاني كل ما يمكن أن يكون مهيناً له أثناء التنفيذ فلا يجوز
التعرض له بالسب أو الشتم ولا يجوز أن يقيد أو يمد أو يجرد من ثيابه، ولهذا جاء
قول أبن مسعود رضي الله عنه” ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد([70]) “.
الأمر الثالث: بعد تنفيذ العقوبة:-
بعد تنفيذ العقوبة يرد للفرد
كامل اعتباره في جماعته، فلا يجوز حرمانه من الحصول على عمل شريف أو إيذاء شعوره
على نحو ما ولهذا جاء قول الرسول ” صلى الله عليه وسلم، لبعض أصحابة والذين
قالوا لمن نفذ عليه الحد أخذاك الله ” لا تعينوا عليه الشيطان ولكن قولوا
رحمك الله “([71]).
ويتضح من قول الرسول الكريم،
حث المسلمين على المغفرة لمن نفذ عليه العقوبة ومساعدته على الرجوع إلى الحياة
الكريمة وعدم النفور منه مما يساعد الشيطان عليه ويجره إلى الجريمة مرة أخرى فلذلك
فإن القوانين التي تضع شرط حسن السير والسلوك في التعيين كشرط للوظيفة العامة
فإنما هي قوانين تساعد الشيطان على بقاء من نفذ العقوبة في شأنه في كنفه وهذا
يتنافى مع ما جاء في الشريعة الإسلامية.
خامساً: جبر الضرر:-
جاءت الشريعة للردع والجبر
في آن واحد فيقول ابن القيم الجوزيه ” إنما جاءت بجبر هذا وردع هذا([72]).
وتقوم فكرة الجبر أساساً على
مراعاة جانب المجني عليه في الجرائم التي تقع مساساً بحق من حقوق الأفراد، أما
جرائم الحدود لاسيما تلك التي لا تقع مساساً بحق الفرد، فلا مكان فيها لفكرة الجبر،
حيث يسود غرض الردع العام.
ويتضح الجبر على وجه الخصوص
في جرائم القصاص والديه حيث يظهر غرض العقوبة جليا في إرضاء المجني عليه أو أسرته
وذلك بإنزال أذى بالجاني يماثل نفس الأذى الذي لحق بالمجني عليه وفي جرائم أخرى
تتمثل فكرة الجبر في تعويض المجني عليه عما فقده([73]).
وفكرة الجبر التي يراعي فيها
جانب المجني عيه لا تعني إهمال جانب الجاني فلا يحق للمجني عليه أن ينزل بالجاني
أكثر مما سببه له من ضرر ولذا يشترط الفقهاء، أن تكون المماثلة كاملة بين الجريمة والعقوبة
فإذا لم تكن هذه المماثلة ممكنة ينتقل حق المجني عليه إلى الدين أو العفو وخشية أن
يؤدي استيفاء المجني عليه أو وليه لحق القصاص بنفسه إلى جور بالجاني تحت تأثير
الغيظ والرغبة في الانتقام فقد دعا بعض فقهاء المالكية إلى ضرورة أن يكون تنفيذ
القصاص بيد ولي الأمر أو القاضي([74]).
يتضح مما سبق أن أغراض
العقوبة في الشريعة الإسلامية سبقت مناقشات فقهاء الدراسات القانونية في هذا الشأن
بقرون كثيرة.
ويرى الفقه أن التنسيق بين
هذه الأغراض يتم في القانون الوضعي بصورة مختلفة عن تلك التي يتم بها في الشريعة
الإسلامية، ولهذا فإن النتائج التي تؤدي إليها كل من النظريتين متباينة ويرجع هذا
إلى تباين المقدمات، فالدراسات القانونية تحاول مزج الاعتبارين الموضوعي والشخصي
معاً، أي تهتم بالجريمة والمجرم في آن واحد وتعمم هذا المزج في مواجهة كافة
الجرائم وتجاه كل المجرمين.
أما نظرية العقاب في الإسلام،
فهي وان كانت تأخذ بذات المبادئ العامة التي يستند إليها القانون الوضعي وفقه العقاب
الحديث إلا أنها تطبقها بطريقة مغايرة فهي لم تجمع بين تلك المبادئ في كل العقوبات
وفي مواجهة كافة الجرائم وهكذا إزاء الجرائم التي تمس كيان المجتمع وهي الحدود
وجرائم القصاص يسود الاتجاه الموضوعي وحده، أي ينظر إلى الجريمة دون فاعلها، ويكون
الغرض الوحيد للعقاب هو تحقيق الزجر والردع، وعندئذ لا يكون ثمة محل للحديث عن
إصلاح المجرم بعقوبات الحدود أو القصاص أو الدية، فشخصية الجاني لا يلتفت إليها في
هذا المجال إلا إذا عفا المجني عليه في جرائم القصاص والدية فقط، والعقاب تستهدف
به مصلحة المجتمع ليس إلا([75]).
وعندما يتعلق الأمر بالجرائم
التي تمس حقوق الأفراد، كجرائم القتل والإصابة فإن العقوبة تهدف بوضوح إلى شفاء
غيظ المجني عليه أو ما يعرف بالجبر([76]).
وعندما يتعلق الأمر بجرائم أخرى
غير جرائم الحدود والقصاص والدية، وهي الجرائم التعزيرية، يقفز غرض التأديب والإصلاح
إلى المقام الأول فيتغلب الاتجاه الشخصي على الاتجاه الموضوعي، حيث ينظر إلى
الجاني وكيفية إصلاحه. ولهذا تراعي ظروفه الشخصية وتختار العقوبة التعزيرية التي
تكفل ذلك. وقد اعترف الفقهاء بأن وسائل الإصلاح تختلف باختلاف المجرمين ”
فمنهم من ينزجر بالنصيحة، ومنهم من يحتاج إلى اللطمة وإلى الضرب، ومنهم من يحتاج
إلى الحبس ” ([77])، ومن ناحية أخرى قد لا تجدي وسيلة في الإصلاح،
وعندئذ لا يكون ثمة مناص من قتل المجرم إذا اقتضت مصلحة الجماعة ذلك أو حبسه حتى
يموت أو ينصلح حالة([78]).
الفصل الثاني
سلطة القاضي في الامتناع عن النطق بالعقاب
يرى أحد الفقهاء، ليس الامتناع
عن النطق بالعقاب والاختبار القضائي مترادفين في المعنى، وإنما كل منهما يمثل
نظاماً متميزاً عن الآخر، وإن كان نظام الاختبار القضائي نشأ في أحضان النظام
الأول، وظل مقترناً به في الغالب مع اقترانه من جهة أخرى فيما بعد بنظام وقف تنفيذ
العقوبة في قوانين بضعة دول([79]).
ويعرف الفقه الامتناع عن
النطق بالعقاب بأنه نظام يقضي بالامتناع عن النطق بعقوبة على المتهم لفترة زمنية
محددة إذا سلك خلالها سلوكاً حسناً، مع جواز وضعه خلال تلك الفترة تحت رقابة شخص
تعينه المحكمة، أو تكلفه بتقديم كفالة عينية أو شخصية([80]).
ويعرف البعض الآخر من الفقه
بأن الامتناع عن النطق بالعقاب هو صدور حكم بالإدانة على المتهم مع عدم النطق
بعقوبة معينة([81]).
وتعتبر طريقة ” إرجاء
الحكم القضائي ” التي كان يطبقها القضاة الإنجليزي قديماً المصدر الأساسي
لنظام الامتناع عن النطق بالعقاب وكانت تتمثل هذه الطريقة في إصدار المحكمة قراراً
يوقف النطق بالعقوبة أو وقف تنفيذها مؤقتاً، بسبب الشك في أدلة الإثبات أو وجود
ظروف شخصية معينة أو لتفاهة الجريمة وذلك لإفساح المجال لطلب عفو مطلق أو مشروط من
الملك.
إلا أن هذا الوقف المؤقت كان
يصبح نهائياً في حالات كثيرة، كما يعتبر نظام الإفراج بالتعهد المقرر في القانون
العام الإنجليزي منذ زمن طويل المصدر المباشر لنظام وقف النطق بالعقوبة، ونظام
الإفراج بالتعهد يسمح للقاضي بوقف النطق بالعقوبة بشرط تقديم المتهم المدان تعهداً
بالتزامه حسن السلوك بعد الإفراج عنه([82]).
ويتميز نظام الامتناع عن النطق بالعقاب بعدة مزايا
نجملها فيما يلي:-
1- يقوم هذا النظام على أساس عدم النطق بعقوبة خلال مدة تقررها المحكمة مما
يجنب الجاني الوصمة الاجتماعية نهائياً ويتميز هذا النظام من تلك الوجهة عن نظام
إيقاف التنفيذ سواء كان إيقافاً بسيطاً وتحت الاختبار، لان الإيقاف يقتضي دائماً
النطق بالعقوبة في الحكم ثم إيقاف تنفيذها المدة المقررة قانوناً, لا شك أن مجرد
النطق بعقوبة يؤدي إلى إلحاق وصمة بالمحكوم عليه، ولو كان تنفيذ هذه العقوبة
موقوفاً.
2-
يؤدي هذا النظام إلى استفادة
الجاني من عدم حبسه في حالة تنفيذ الالتزامات المفروضة عليه من الحكم.
3-
إن تنفيذ الشروط والالتزامات
من جهة الجاني، يساعده على تقويم سلوكه والتغلب على العوامل المؤدية لانحرافه، وهو
مالا يمكن أن يتحقق من خلال عقوبة الحبس قصير المدة، حيث لا تكفي مدة العقوبة
لتنفيذ برامج الإصلاح.
4-
يجوز وفقاً لهذا النظام
العقابي أن تأمر المحكمة بوضع الجاني تحت الاختبار خلال المدة المقررة، وذلك بأن
تجعله تحت رقابة
شخص تعينه لهذا الغرض، ويكون من واجبات هذا الشخص
توجيه الجاني إلى ما يجب إتباعه، والإشراف عليه، والتحقق من أنه ينفذ الشروط التي وضعتها
له المحكمة، ولا شك أن ذلك يساعد المتهم على تقويم سلوكه، فضلاً عن أن إجراءات
التقويم والإصلاح التي تتم في المجتمع الخارجي الذي سيقضي فيه المتهم بقيه حياته،
أكثر فاعلية من إصلاحه داخل مجتمع السجن، الذي يختلف اختلافاً بيناً من حيث تكوينه
وقيمته والنظم السائدة فيه([83]).
وقد أخذت دول بنظام وقف النطق بالعقوبة بوجه عام
كاستراليا وكندا ونيوزلندا وجنوب أفريقيا والسويد والنرويج وإثيوبيا والكويت، في
حين أن بعض الدول كالعراق قصرت تطبيق نظام وقف النطق بالعقوبة مع الوضع تحت الاختبار
على الأحداث فقط([84]).
وسأتناول في المباحث الثلاثة الآتية على التوالي:
حدود السلطة التقديرية للقاضي في الامتناع عن النطق بالعقاب، ومدى سلطة القاضي في
قرن الامتناع عن النطق بالعقاب بشروط، وسلطة القاضي في إلغاء الامتناع عن النطق
بالعقوبة والآثار المترتبة على حكم الامتناع.
المبحث الأول
حدود السلطة التقديرية للقاضي في الامتناع عن النطق بالعقاب
تعني السلطة التقديرية
للقاضي في تحديد العقوبة قدرته على الملاءمة بين الظروف الواقعية للحالة المعروضة
عليه والعقوبة التي يقررها فيها، وهي في أبسط صورها مقدرة على التحرك بين الحدين
الأدنى والأقصى للعقوبة لتحديدها بينهما أو عند أحدهما. والعلة الحقيقية لهذه
السلطة هي التوزيع المنطقي المتوازن للاختصاص بين الشارع والقاضي على وجه يتحقق
فيه التنسيق بين المصالح الاجتماعية والفردية. وتعلل هذه السلطة كذلك الحاجة إلى
مراعاة الظروف الشخصية الإجرامية بحيث تحدد عقوبة تكون أساسا لمعاملة تواجه
العوامل التي قادتها إلى الجريمة، ويكون من شأنها تهذيبها وإعدادها لحياة مطابقا
للقانون. ويدعم هذه السلطة الثقة التي يفترضها الشارع في القاضي، وهي ثقة يستحقها
القاضي الحديث لعلمه وخبرته، ثم لاستقلاله ونزاهته. ويقتضي الاستعمال السليم لهذه
السلطة أن تعاون القاضي أجهزة فحص فني لشخصية المتهم حتى يتعرف تماما عليها فيحدد
العقوبة الملاءمة لها([85]).
ومدى استخدام القاضي سلطته
التقديرية في الحكم بالامتناع عن العقاب، يتوقف على الشروط القانونية المقررة من
جهة الشارع للامتناع عن النطق بالعقاب، كما يعتمد المدى الذي يستخدمه القاضي في
الحكم بالامتناع على الحرية الممنوحة له لاستخدام هذه السلطة.
فالقاضي مقيد عند استخدام
سلطته التقديرية للحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب، بتوافر شروط قانونية سواء
تعلقت بالجريمة أو بالمجرم، وشروط أخرى يجوز استخدامها عند النطق بالحكم.
ونعالج حدود سلطة القاضي
التقديرية في الامتناع عن النطق بالعقاب من المطلبين التاليين.
المطلب الأول
الشروط القانونية المقررة للامتناع عن النطق بالعقاب
هناك شروط قانونية يجب
توافرها لاستخدام القاضي سلطته التقديرية في الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب،
منها ما يتعلق بالجريمة ومنها ما يتعلق بالمجرم.
أولا: الشروط القانونية المتعلقة بالجريمة:
يوجد اتجاهين في القانون
المقارن إزاء تحديد نوع الجرائم التي يجوز للقاضي أن يقرر الامتناع عن النطق
بالعقاب بالنسبة لمرتكبها:
الاتجاه الأول: يقصر سلطة القاضي في الامتناع عن النطق بالعقاب على الجرائم التي لا تزيد
عقوبتها على حد معين: وهو مقرر في قانون العقوبات الإثيوبي (المادة 195) الذي يقصر
سلطة القاضي في الامتناع عن النطق بالعقاب على الجرائم التي تؤدي إلى تطبيق عقوبة
الغرامة أو العمل الإلزامي أو الحبس لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات. كذلك تميل
قوانين بعض الولايات الأمريكية نحو توسيع سلطة القاضي، فتسمح له بالامتناع عن
النطق بالعقاب في الجرائم التي لا يزيد مدة الحبس فيها على عشر سنوات.
والمادة (24) من قانون
الإجراءات الجنائية السوداني المعدلة بالأمر التشريعي رقم 23 لسنة 1949 تحدد
الجرائم التي يجوز فيها الامتناع عن النطق بالعقاب بالجرائم التي لا يزيد مدة
الحبس على سبع سنوات عند ما يدان فيها شخص لا يقل عمره عن إحدى وعشرين سنة([86]).
الاتجاه الثاني: يسمح للقاضي بالامتناع عن النطق بالعقاب في جميع الجرائم ماعدا المعاقب
عليها بعقوبة جسيمة جدا، ويأخذ به قانون العدل الجنائي الإنجليزي لسنة 1948 الذي يجيز
للقاضي الامتناع عن النطق بالعقاب في جميع الجرائم ماعدا المعاقب عليها بالعقوبات الثابتة،
وهي الإعدام والحبس المؤبد سواء أكان مرتكب الجريمة حدثا أم بالغا. وهذه القاعدة
تقررها أيضا قوانين خمس ولايات أمريكية والقانون الاتحادي الأمريكي لسنة 1925.
وكذلك المادة 52/2 من قانون
العقوبات النرويجي تسمح للقاضي بالامتناع عن النطق بالعقاب في الجرائم التي يزيد
الحد الأعلى لعقوبة الحبس المقررة لها عن سنة واحدة، عند توافر ظروف خاصة، وبذلك
تتسع سلطة القاضي النرويجي في هذا المجال، فتشمل جميع الجرائم، ما عدا المعاقب
عليها بالحبس المؤبد([87]).
بالإضافة إلى هذين الاتجاهين
فقد قررت بعض القوانين جرائم مستثناه لا يستطيع القاضي استخدام سلطته التقديرية في
الامتناع عن النطق بالعقاب، إذا حدثت، مثال ذلك حظر قوانين بعض الولايات الأمريكية
الامتناع عن النطق بالعقاب في بعض جرائم العنف، والجرائم الجنسية، والجرائم
السياسية مثل الخيانة والجرائم المخلة بقوانين الانتخاب([88]).
إذا كان هذا هو موقف الدول
من الشروط القانونية المتعلقة بالجريمة فما هو موقف القانون الكويتي منها؟
جاءت المادة (81) من قانون
الجزاء الكويتي أنه (إذا اتهم شخص بجريمة تستوجب الحكم بالحبس، جاز للمحكمة أن
تقرر الامتناع عن النطق بالعقاب………)
إذن فجميع الجرائم التي
تستوجب الحبس وفقا لقانون الجزاء الكويتي، تتسع سلطة القاضي في الحكم بالامتناع عن
النطق بالعقاب، كذلك إذا كانت الجريمة جنحه فللقاضي أن يحكم بالامتناع عن النطق
بالعقاب.
والتساؤل هنا إذا كان الحبس
جوازيا، كأن تكون الجريمة معاقبا عليها بالحبس أو الغرامة، هل يجوز للقاضي الامتناع
عن النطق بالعقاب؟
يجمع الفقه([89]) على أنه من سلطة القاضي في هذه الحالة الامتناع
عن النطق بالعقاب.
وكذلك ذهبت محكمة التمييز
لهذا الرأي فقضت في حكم لها (أن كل ما يتطلبه القانون في الجريمة التي يسري عليها
حكم المادة 81 هو أن يكون المشرع قد فرض فيها الحبس كعقوبة على مرتكبها، فإن كانت
الجريمة معاقبا عليها بالحبس والغرامة أو أحدهما ووجد القاضي أنها تستوجب أن يحكم
على المتهم بالحبس كان له أن يقرر الامتناع عن النطق بالعقاب عند توافر موجباته،
بما يعني أن حكم المادة- والخطاب فيها موجه للمحكمة0 يسري على كل جريمة يوجب فيها
لقانون عقوبة الحبس والغرامة أو أحدهما ما دام أن عقوبة الحبس مقررة فيها، ولا
يخرج من مجال تطبيقها إلا الجرائم التي اقتصر فيها المشرع على تقرير عقوبة الغرامة
وحدهما على مرتكبها، والقول بغير ذلك يتعارض تماما مع ما أشارت إليه المادة من
اعتبار تفاهة الجريمة سببا من الأسباب التي تجيز الامتناع عن النطق بالعقاب، كما
يتجافى مع البين من استقراء نصوص قانون الجزاء من أن عقوبة الحبس وحدها أو بإضافة
الغرامة إليها لم تقرر إلا في جرائم القتل العمد والخطف والمواقعة وهتك العرض
بالإكراه وبعض جرائم أمن الدولة وغيرها من الجرائم ذات الخطر البالغ وهي التي
تتناولها ثالثة حالات تخفيف العقوبة وحدها وأشدها في المادة ( 83 ) حيث وضع
القانون حدودا دنيا للعقوبة لا يجوز النزول عنها عند توافر الظروف المخففة، ولا
يتصور أن يكون المشرع قد خص مثل هذه الجرائم الخطيرة بجواز الامتناع عن النطق
بالعقاب فيها دون الجرائم الأقل خطرا أو التافهة والتي يعاقب عليها القانون بالحبس
والغرامة أو بإحداهما خصوصا وأن حالة الامتناع عن النطق بالعقاب هي أخف الحالات
وقد راعى المشرع فيها أن يعطي القاضي سلطة واسعة حتى بالنسبة لحالة وقف التنفيذ
الذي لا يرد إلا بعد أن يحكم القاضي بالعقوبة في الحدود التي
رسمتها المادة (83 ).
ويؤكد هذا النظر أن المشرع
في القانون رقم 15/1978 الصادر بتعديل (المادة 237 من قانون الجزاء) بشأن جرائم
الشيك والتي يعاقب عليها بالحبس والغرامة أو بإحداهما.
نص في الفقرة الأخيرة فيها
على أنه وفي جميع الأحوال لا يجوز الامتناع عن النطق بالعقاب أو الأمر بوقف تنفيذ
الحكم إلا إذا ثبت أن الجاني أوفى بقيمة الشيك وهو تأكيد من المشرع بأن هذه
الجرائم تدخل في مجال تطبيق المادة 81 من قانون الجزاء([90]).
كذلك واستثنى المشرع الكويتي بعض الجرائم من التمتع بتطبيق نظام الامتناع
عن النطق بالعقاب، فقد حرمت المادة (46) المضافة بالقانون رقم 13 لسنة 1995 بتعديل
قانون المخدرات المتهم في جرائم المخدرات المنصوص عليها في المواد 31، 32 ، 32
مكرر ، مكرر (أ) و 50 من قانون المخدرات من الامتناع عن النطق بالعقاب الذي تقرره
المادة 81 من قانون الجزاء([91])، فهذه المواد تنص على أنه لا يجوز النطق بالعقاب
في الجلب بالذات او بالواسطة أو إصدار مواد أو مستحضرات مخدرة أو ساعد في شيء من
ذلك كفاعل أصلي أو شريك، وكذلك كل من أنتج أو استخرج أو فصل أو صنع مواد أو
مستحضرات مخدرة وكان ذلك بقصد الاتجار وكل من زرع نبات من النباتات الواردة في
الجدول رقم ( 5 ) المرافق لقانون المخدرات أو صدر أو جلب أو استورد نباتا من هذه
النباتات في أي طور من أطوار نموها هي وبذورها وكان ذلك بقصد الاتجار أو اتجر فيها
بأي صورة وذلك في غير الأحوال المرخص بها في قانون المخدرات ، وأيضا كل من حاز أو
أحرز أو اشترى أو باع مواد أو مستحضرات مخدرة أو نباتا من النباتات الواردة في
الجدول رقم (5 ) المرافق لقانون المخدرات أو سلمها أو تسلمها أو نقلها أو نزل عنها
أو تبادل عليها أو صرفها بأي صفة كانت أو توسط في شيء من ذلك بقصد الاتجار فيها أو
اتجر فيها بأي صورة في غير الأحوال المرخص بها في قانون المخدرات ، وكل من قدم بمقابل
للتعاطي مواد أو مستحضرات مخدرة أو سهل تعاطيها في غير الأحوال المصرح بها في
قانون المخدرات ، وكل من خص له بحيازة مواد أو مستحضرات مخدرة لاستعمالها في غرض
أو أغراض معينة يكون قد تصرف فيها بمقابل بأي صفة كانت في غير تلك الأغراض ، وكل
من أدار أو أعد أو هيأ بمقابل مكانا لتعاطي المخدرات وكذلك كل من ثبت أنه أنشأ أو
أدار تنظيما يكون الغرض منه أو يكون من بين نشاطه ارتكاب جريمة من الجرائم سالفة
الذكر ، وكذلك مقاومة القائمين على تنفيذ قانون المخدرات بالقوة أو العنف أثناء
تأدية وظيفته أو بسببها ، والحالات المقضي فيها بعقوبة الإعدام في جرائم الاتجار
بالمواد المخدرة وتقديمها للغير.
ويرى الفقه ضرورة قصر سلطة
القاضي في الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب على الجرائم التي يجوز فيها توقيع
عقوبة الغرامة أو عقوبة الحبس لمدة لا تزيد على سنة واحدة بوجه عام، ولا تزيد على
سنتين إذا كان مرتكب الجريمة من الإناث عموما أو من الذكور ولم يتم الثامنة عشرة
من عمره أو بلغ السبعين من عمره، وذلك لأن استحقاق المجرم لعقوبة سالبة للحرية
تزيد مدتها على سنة يدل على قدر نسبي من خطورة وجسامة الجريمة، مما يجعل وقف
تنفيذها غير مساغ لإخلال ذلك بوظيفة العقوبة في الردع العام، كما أن السنة الواحدة
تمثل الحد الأعلى المعتدل لعقوبة الحبس قصير المدة التي يستهدف نظام الامتناع
استبعادها للمحاذير الناجمة عنها.
كذلك رفع الحد الأعلى العالي
لمدة العقوبة السالبة للحرية التي يجوز الامتناع عن النطق بالعقاب إلى ضعفها بالنسبة
للإحداث والمسنين يتناسب مع مدى تباين ظروفهم التكوينية والاجتماعية عن الحالة
التكوينية والاجتماعية لمن تجاوزوا سن الحداثة ولم يبلغوا سن الشيخوخة التامة. أما
عن الإناث فيرجع ذلك لظروفهن الخاصة المميزة([92]).
ونميل إلى هذا الرأي حيث أن
تزيد مدة الحبس بزيادة جسامة الجريمة، وبالتالي فإنه ليس من المنطق أن يتساوى من
كانت جريمته جنحة، أو جريمة بسيطة عقوبتها سنة، مع المجرم التي عقوبته تزيد على خمس
سنوات أو أكثر، فذلك مدعاة إلى القضاء على فكرة الردع العام كوسيلة لترهيب الناس
من الوقوع في الجريمة.
ثانيا: الشروط المتعلقة بالمجرم:
هناك شروط يجب أخذها في
الاعتبار عند استخدام القاضي سلطته التقديرية في الامتناع عن النطق بالعقاب تتعلق
بالمجرم.
فهي شروط ترتبط بشخصية
المجرم، ومن هذه الشروط ما يتعلق بالركن المعنوي للجريمة فيحدد مقدار ما انطوت
عليه الإرادة الإجرامية للمتهم من خطيئة وأثم، ومنها ما يحدده مقدار نصيبه من
الأهلية للمسئولية، ومنها ما تبين به درجة خطورته على المجتمع، ومنها في النهاية
ما يحدد مقدار تأثر المتهم بإيلام العقوبة واستجابته لأساليب التهذيب والتأهيل
فيها.
ويتعين على القاضي أن يفحص
هذه الشروط كافة ويجتهد في التنسيق بينها حتى تجئ العقوبة- بالنسبة إلى المتهم-
أدنى ما تكون إلى تحقيق أغراضها فيه([93]).
إن إرادة الجاني والقصد
المباشر في ارتكاب الجريمة يقتضي عقوبة أشد مما لو توافر القصد الاحتمالي، وسبق
الإصرار يميل بالعقوبة إلى التشديد في غير الجرائم التي اعتبره القانون فيها كذلك،
والخطأ المصحوب بالتوقع يبرر عقوبة اشد مما لو كان غير مصطحب به، وللبواعث إلى
القتل الإجرامي دور أساسي في تحديد مدى جسامة الإثم، فالباعث السيئ يبرر عقوبة أشد
مما لو كان غير ذلك([94]).
كذلك فإن درجة خطورة المتهم
يجب أخذها في الاعتبار عند الامتناع عن النطق بالعقاب، وخطورة المجرم تتضاءل كلما
تضاءلت قوة الدافع نحو إتباع السلوك الإجرامي لديه، وازدادت قوة المقاومة المضادة
لذلك الدافع عنده. ويمكن استخلاص مدى قوة كل من الدافع الإجرامي والمقاومة المضادة
له من طبيعة التكوين العضوي والنفسي والحالة البيئية للفرد وذلك يتطلب بحثاً كاملا
لشخصية الفرد ذاته المحيطة. ولإجراء هذا البحث لابد للقاضي من الاستعانة بالأطباء
والأخصائيين النفسيين والباحثين الاجتماعيين. وعلى قدر صحة نتائج هذا البحث
والتزام القاضي بها يتوقف مدى سلامة اختيار لمن يقرر الامتناع عن النطق بعقوبته([95]).
ويرى الفقه أن هناك اعتبارات
متنوعة لتحديد الخطورة الإجرامية، وتساعد على تطبيقها التصنيفات الإجرامية التي
قال بها علماء الإجرام المحدثون، والتي ينبني عليها إدراج كل مجرم في فئة خاصة
تتميز أفرادها بقدر خاص من الخطورة على المجتمع، وأهم هذه الاعتبارات:
1- الماضي الإجرامي، فمن لم يلوث الإجرام ماضية يجدر أن يكون عقابه أخف ممن
سبق له الإجرام، بل أن الماضي الأخلاقي له اعتبار، كذلك فالخطايا الأخلاقية قرينة
خطورة لاشك فيها([96]). وإذا كان عدم سبق الحكم على المجرم شرط لحسن
الماضي الأخلاقي للمجرم، فإن قوانين بعض الدول تتجه نحو إغفال هذا الشرط كقانون
العدل الجنائي الإنجليزي لسنة 1948 وقانون الجزاء الكويتي (المادة 81)، وقانون
الأحداث العراقي لسنة 1962، إذ تجيز للقاضي الامتناع عن النطق بالعقاب في الحالات
المسموح بها سواء أكان المجرم مبتدئا أم عائدا([97]).
وإذا كانت المادة (81) من
قانون الجزاء الكويتي أغفلت هذا الشرط، إلا أن محكمة التمييز الكويتية استقرت
أحكامها على لزوم هذا الشرط كمبرر للحكم، فقد ميزت عدد من الأحكام لعدم توافر هذا
الشرط في أحكام صدرت بالامتناع عن النطق بالعقاب.
فقد قضت محكمة التمييز
الكويتية في حكم لها أن ” المادة 81 من قانون الجزاء تنص على أنه “إذا
اتهم شخص بجريمة تستوجب الحبس جاز للمحكمة إذا رأت من أخلاقه أو ماضيه أو سنه أو
الظروف التي ارتكبت فيها جريمته أو تفاهة هذه الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه
لن يعود إلى الإجرام، أن تقرر الامتناع عن النطق بالعقاب وجاء في المذكرة
التفسيرية لقانون الجزاء بشأن تخفيف العقوبة أن القانون يتدرج فيه تدرجا ملحوظا
وبدأ بأخف الحالات وهي الحالة التي يرى فيها القاضي الامتناع عن النطق بالعقاب
للاعتبارات الواردة في النص المذكور والتي من شأنها أن تبعث على الاعتقاد بأن
المتهم لن يعود إلى الإجرام، مما مفاده أن تقرير المحكمة الامتناع عن النطق
بالعقاب، لا يكون إلا لمصلحة اجتماعية هي إصلاح حال المحكوم عليه وتمهيد السبيل
لعدم عودته إلى ارتكاب الإجرام، ومن ثم فإنها لا تقرره إلا لمن تراه مستحق من
المتهمين بحسب ظروف الدعوى وحالة كل منهم شخصيا على أن تلتزم حدود المبررات
والاعتبارات التي وضعها القانون في هذا الصدد، وأن يكون ذلك مؤديا عقلا ومنطقا إلى
الاعتقاد بأن المتهم لن يعود إلى الإجرام، ومع مراعاة أن ظروف الدعوى التي تكون
موضع نظرها وتقديرها في هذا الشأن هي تلك التي أحاطت بالجريمة وقت ارتكابها وكانت
معروضة عليها فلا يجوز لها أن تبني قضاءها بذلك على أمور أو وقائع لاحقة أو
مستقبله. لما كان ذلك ولئن كان من المقرر أن المشرع ترك للقاضي سلطة مطلقة في
تقدير العقوبة في الحدود المقررة بالقانون للجريمة وإعمال الظروف التي يراها مخففة
أو مشددة إلا أن شرط ذلك أن يكون ما انتهى إليه في قضائه يقوم على أسباب سائغة ولا
مخالفة فيها للقانون، ولما كان يبين من الحكم الابتدائي المأخوذ بأسبابه بالحكم
المطعون فيه أنه بعد أن اثبت في حق المطعون ضده مقارفته لجريمة جلب مخدر الحشيش
بقصد تعاطيه وتهريبه جمركيا قرر الامتناع عن النطق بالعقاب على قوله أنه “أخذاً”
في الاعتبار ظروف المتهم التي أبانت عنها حافظة المستندات المرفقة وخلو الأوراق
مما يصمه بسوء السلوك من قبل…. وانطلاقا من السلطة المخولة لها بمقتضى نص المادة
81 من قانون الجزاء وإقالة منها للمتهم من عثرته والأخذ بيده لاستئناف محمود
السلوك تقضى بالتقرير بالامتناع عن النطق بعقابه وهي أسباب اتسمت بالغموض
والإبهام، كما جاءت مخالفة الثابت بالأوراق، إذ لم يبين الحكم ماهية الظروف التي
أبانت عنها حافظة مستندات المطعون ضده- التي تساند إليها- والتي يبين أنها لا تحوي
سوى شهادات ميلاد أولاده وكيف استدل فيها على ما يبعث على الاعتقاد بأنه سوف يقلع
عن إجرامه، فضلا عن أنها لا تتعلق بالظروف التي أحاطت بالجريمة وقت ارتكابها، كما
ادخل الحكم في اعتباره عند تقريره الامتناع عن النطق بعقاب المطعون ضده خلو
الأوراق مما يصمه بسوء السلوك من قبل، وذلك بالمخالفة لما ثبت من صحيفة سوابقه
المرفق بملف الدعوى من سبق إدانته في خمس جرائم فيها جنحة ضرب في سنة 1987 وجنحة
مقاومة موظف عام بالقوة في سنة 1989 وجنحة انتحال صفة موظف عام سنة 1992 وجنحة سكر
في ذات السنة الأمر الذي يعيب الحكم بما يوجب تمييزه في خصوص ما قضى به من الامتناع
عن النطق بعقاب المطعون ضده عن التهمتين الأولى والثانية([98]).
وأكدت محكمة التمييز نفس
الاتجاه في أحكام أخرى فقضت (… وأورد الحكم المطعون فيه تبريرا منه لما قررته
المحكمة من الامتناع عن النطق بالعقاب قوله “وحيث أن هذه المحكمة وقد أحاطت
ظروف الدعوى وملابسات الحال فيها، ومراعاة لصغر سن المتهمين وخلو الأوراق مما يفيد
سبق الحكم عليهم في جرائم مماثلة أو غير مماثلة تشاطر محكمة أول درجة تقديرها في
ملاءمة التقرير بالامتناع عن النطق بالعقاب” لما كان ذلك وكان يبين من مراجعة
المفردات أن ما أورده الحكم من ذلك يناقض الثابت بالأوراق بالنسبة للمطعون ضده لأن
صحيفة سوابقه تكشف عن أنه سبق الحكم عليه بالحبس لمدة خمس سنوات في جريمة هتك عرض
بالإكراه وكذا بالحبس لمدة أسبوعين في جريمة قيادة مركبة وهو في حالة سكر فإن ذلك
يعيب الحكم بما يوجب تمييزه جزئيا في هذا الخصوص([99]).
إذن فسبق الحكم على المتهم
شرط أساسي لا يستطيع المتهم الاستفادة منه للحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب في
قضاء الجزاء الكويت.
وهناك بعض قوانين الدول
الأخرى التي تعتبر عدم سبق الحكم على المجرم شرطا أساسية، يجب التأكد من توافره
قبل الامتناع عن النطق بالعقاب، فالمادة 195 من قانون العقوبات الإثيوبي تشترط
للامتناع عن النطق بالعقاب عدم سبق الحكم على المجرم بأية عقوبة مهما كان نوعها
ومقدارها، في حين تقضي المادة 24 المعدلة من قانون الإجراءات الجنائية السوداني
بوجوب عدم سبق الحكم على المجرم بالحبس لمدة تزيد على شهر، ليتسنى له إمكان
الانتفاع بنظام الامتناع عن النطق بالعقاب([100]).
2- درجة إصرار المتهم على فعله: فكلما ازداد إصراره
عليه كانت خطورته على المجتمع أشد، ومن القرائن على مقدار شدة الإصرار تعدد
العقبات التي اعترضت تنفيذ الجريمة ثم مغالبتها وتخطيها، فلا يمكن لشخص أن يدخل
شقة ليسرقها دون إصرار سابق على هذه السرقة ونكافئه بعد ذلك بالامتناع عن النطق
بالعقاب، وقضت محكمة التمييز في هذا الشأن على حكم بالامتناع عن النطق بالعقاب بأن
أسباب هذا الحكم لا تسوغ إلى ما انتهى إليه الحكم من الامتناع عن النطق بالعقاب إذ
أن ظروف الجريمة وحال مرتكبها- التي تساند إليها الحكم ليس في أيها ما يبعث على
الاعتقاد بأن المطعون ضده لن يعود إلى الإجرام، ذلك أن الجريمة مع خطورتها في
ذاتها مما تمثله من ترويع المجني عليها داخل مسكنها ليلا والاستيلاء على نقودها-
التي تقتات بها باعتبارها تعمل خادمة- وعلى مصوغاتها- التي حصلت عليها من ثمرة
كدها وعرقها اقترفها المطعون ضده- وهو رجل الشرطة المنوط به حفظ الأمن وتأمين
المواطنين على أنفسهم وأموالهم، وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر فإنه يكون
معيبا بما يستوجب تمييزه في هذا الخصوص([101]).
3-
الظروف الاجتماعية: لظروف الاجتماعية على تنوعها، سواء تعلقت بالمركز
العائلي أو المهني أو درجة الثقافة أو الثراء- بل أنه يدخل في نطاق هذه الظروف
الحالة الصحية أو الانتماء لجماعة تستلهم مبادئ معينة- تحدد درجة الخطورة
الإجرامية، كون المتهم متزوجا يحيا حياة منتظمة لا يحس فيها بالحرمان الجنسي([102]) اعتبار يميل بعقابه إلى
الشدة حين يرتكب جريمة اعتداء على العرض، وكونه يباشر مهنة تستهدف المحافظة
للمجتمع على مصالح معينة يميل بعقابه إلى الشدة حين يرتكب جريمة اعتداء على بعض
هذه المصالح، كرجل الشرطة الذي ينضم إلى عصابة من المجرمين، أو الطبيب إذا أضر
عمداً بصحة مريضة([103]).
4-
التأثر المحتمل للمتهم بإيلام العقوبة: تختلف درجة الإحساس بالألم باختلاف
الظروف الشخصية للمتهم، فقد تتفاوت عقوبات من حيث مدى ما فيهما من إيلام مادي،
ولكنهما تتساويا من حيث إحساس شخصي بإيلامهما، ومن ثم تعين أن يحدد لكل شخص مقدار الإيلام
الذي يستحقه في ضوء من قدرته على احتماله، وتطبيقا لذلك فإنه إذا مال القاضي
بعقوبة الشيخ الطاعن في السن أو الرجل المريض أو المرأة إلى التخفيف فقد تكون ثمرة
ذلك أن ينالهم قدر من الإيلام يعادل ما تنزله عقوبة أشد بشاب قوى البنية شديد
الاحتمال([104]).
فسن المتهم من الظروف
الشخصية التي يجب أن تأخذ في الاعتبار عند الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب،
وتعتبره بعض القوانين شرطا لحكم الامتناع عن النطق بالعقاب، بل يقصر بعض القوانين
تطبيق الامتناع عن النطق بالعقاب على الأحداث فقط الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة
من عمره كالقانون العراقي، أما القوانين التي تجيز تطبيقه على الأحداث والبالغين
معا، القانون الإنجليزي والنرويجي والإثيوبي والسوداني وقوانين معظم الولايات
الأمريكية([105]).
وكذلك قانون الجزاء الكويتي يعتبر شرط السن من أحد الشروط الشخصية التي
يمكن أن يستند إليها القاضي للحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب وقد جاء ذلك في
المادة (81) منه “…..إذا رأت من أخلاقه أو ماضيه أو سنة، أو الظروف التي
ارتكب فيها جريمته أو تفاهة هذه الجريمة، ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى
الإجرام- أن تقرر الامتناع عن النطق بالعقاب.
ويتضح من ذلك أن قانون الجزاء الكويتي قد أخذ
بالشروط التي يجب أن يأخذها القاضي في الاعتبار عند الحكم بالامتناع عن النطق
بالعقاب، فوضع الظروف الشخصية للمتهم متمثلة في أخلاق المتهم، أو ماضيه ولنا أن
نضيف إلى كلمة ماضيه أن قانون الجزاء الكويتي أعتبر شرط عدم الحكم المسبق، شرطا
للحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب، فالماضي يشمل كل ما قام به المتهم، ومنها
الجرائم، المرتكبة والأحكام السابقة التي صدرت ضده، وليس كما يرى أحد الفقهاء([106]) من أن القانون الكويتي لم
يأخذ بشرط الحكم المسبق كأحد الشروط القانونية للحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب.
كما جعل المشرع الكويتي
الظروف التي ارتكبت فيها الجريمة شرطا للامتناع عن النطق بالعقاب، وذلك لأنه يتبين
من هذه الظروف مدى إصرار المتهم على ارتكاب الجريمة من عدمه، فالمتهم الذي يعد
عدته لارتكاب الجريمة بأن يشتري السلاح اللازم والوقت المناسب والمكان المناسب
لارتكاب جريمته لا يمكن له أن يستفيد من نظام الامتناع عن النطق بالعقاب، حيث
يتبين من ذلك مدى إصراره على ارتكاب الجريمة. وكذلك اعتبر المشرع الكويتي السن
شرطا للحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب فلا يستوي الحدث والبالغ ولا يستوي الشاب
بالرجل الشيخ الطاعن في السن.
فظروف المتهم وسنة قد يكونا سبباً للحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب، ولكن
يجب أن يكون ذلك من خلال سند بالأوراق الموجودة بالدعوى، ولا تحكم المحكمة بذلك مع
عدم توافر هذا السند، وقد قضت محكمة التمييز بأنه “لما كان الحكم الابتدائي
المأخوذ بأسبابه بالحكم المطعون فيه قد بين واقعة الدعوى- التي أثبتها في حق
المطعون ضده- بما حاصلة أنه وآخرون داهموا في ليلة الحادث مخيماً بمنطقة أم
الهيمان وهددوا حارسه بذبحه بعد أن وضع أحدهم سكينا على رقبته وزعم له أنه يحمل
بالإضافة إليه مسدسا وتمكنوا بذلك من سرقة عدد من رؤوس الأغنام من المخيم ثم فروا
هاربين في سيارة يستأجرها أحدهم، وأورد الحكم المطعون فيه تبريراً منه لما قررته
المحكمة من الامتناع عن النطق بالعقاب قوله “وحيث أن هذه المحكمة وقد أحاطت
ظروف الدعوى وملابسات الحال فيها، ومراعاة لصغر سن المتهمين وخلو الأوراق مما يفيد
سبق الحكم عليهم في جرائم مماثلة أو غير مماثلة نشاطر محكمة أول درجة تقديرها في
ملائمة التقرير بالامتناع عن النطق بالعقاب” لما كان ذلك وكان يبين من مراجعة
المفردات أن ما أورده الحكم من ذلك يناقض الثابت بالأوراق فإن ذلك يعيب الحكم بما
يوجب تمييزه جزئيا في هذا الخصوص” ([107]).
يتضح من هذا الحكم أن محكمة التمييز لم ترى في حكم المحكمة الابتدائية
توافق بينه وبين أسبابه، حيث أن ظروف الجريمة تدل على إصرار المتهمين على ارتكاب
الجريمة، كما أن سن المتهمين لا يعتبر مبرر إذا كان هناك سبق الحكم عليهم بأحكام
سابقة.
وذكرنا من قبل أنه بالإضافة إلى هذه الشروط، فأنه توجد بعض الجرائم المستثناة
من الاستفادة من نظام الامتناع عن النطق بالعقاب، وذلك من نص المادة 46 من القانون
رقم 74 لسنة 1983 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار فيها المعدل
بالقانون رقم 13 لسنة 1995 وذلك بقولها أنه: “لا يجوز الامتناع عن النطق
بالعقاب في الجرائم المنصوص عليها في المواد 31، 32، 32 مكرر (أ)، 50 من هذا
القانون”. وتطبيقا لذلك فإذا “كان الحكم، المطعون فيه قد دان المطعون
ضدهما الثالث (…..) والرابع (…..) بجريمتي بيع مخدر الهيروين وتداوله بقصد الاتجار
وهما جريمتين من الجرائم التي نصت عليها المادة 46 من قانون مكافحة المخدرات وحظرت
على المحكمة الامتناع عن النطق بالعقاب فيها، فإن الحكم المطعون فيه إذ خالف هذا
النظر يكون قد خالف القانون مما يعيبه ويوجب تمييزه بالنسبة للمطعون ضدهما
المذكورين دون حاجة لبحث ما تثيره النيابة من عدم إيراد الحكم أسبابا لامتناعه عن
النطق بعقابها([108]).
فهنا المحكمة ليست لها سلطة تقديرية في الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب
حتى لو توافرت الشروط القانونية الأخرى، حيث يوجد نص صريح في القانون يمنعها من
استخدام هذه السلطة.
وهذا ينقلنا إلى المطلب
الثاني، والتعرف على مدى حرية القاضي في الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب عند
توافر شروطه.
المطلب
الثاني
مدى حرية
القاضي في الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب عند توافر شروطه
تقدير قيام موجبات الرأفة أو عدم قيامها موكول لقاضي
الموضوع دون معقب عليه في ذلك، وأن المشرع ترك للقاضي سلطة مطلقة في تقدير العقوبة
الملاءمة في الحدود المقررة بالقانون للجريمة وإعمال الظروف التي رآها مشددة أو
مخففة ما دام انتهى إليه في قضائه يقوم على أسباب سائغة ولا مخالفة فيها للقانون([109]).
فسلطة القاضي مقيدة بأسباب سائغة، وعدم مخالفة
للقانون، متى توافرت الشروط القانونية للامتناع عن النطق بالعقاب فالقاضي يتمتع
بحرية تامة في إصداره قراره بالامتناع عن النطق بالعقاب وذلك يتضح من نص المادة
(81) من قانون الجزاء الكويتي من عباراتها “جاز للمحكمة إذا رأت من أخلاقه أو
ماضية أو سنه أو الظروف التي ارتكبت فيها جريمته أو تفاهة هذه الجريمة ما يبعث على
الاعتقاد بأنه لن يعود إلى الإجرام، أن تقرر الامتناع عن النطق بالعقاب.
فمتى توافرت الشروط جاز للقاضي أن يحكم بالامتناع عن
النطق بالعقاب أولا يحكم فله الحرية الكاملة في هذا الشأن. وتطبيقا لذلك قضت محكمة
التمييز بأنه: “من المقرر أن تقرير الامتناع عن العقاب عند توافر شروطه من
سلطة محكمة الموضوع، وكان الحكم المطعون فيه لم يرَ وجها للتقرير أو الأمر به رغم تنازل المجني عليه فإنه
لا يقبل من الطاعن المجادلة في هذا الشأن، ذلك أنه إذا كان الأمر جوازيا للمحكمة
فلا تثريب عليها إن هي لم تقض به ولا عليها إن هي التفتت عن الرد على هذا الدفاع
لأن قضاءها بالعقوبة يفصح عن عدم اقتناعها بإجابته، وهي من بعد غير ملزمة ببيان
الأسباب التي دعتها إلى ذلك، فنعي الطاعن في هذا الشأن يكون في غير محله([110]).
وإذا رأت المحكمة تقرير الامتناع مع توافر الشروط
القانونية لذلك فلا مجال في الطعن في حكمها وتطبيقا لذلك قضت محكمة التمييز أنه:
” ولا محل لتحدي الطاعنة بأنه ما كان يجوز للمحكمة الامتناع عن النطق بالعقاب
لأن المطعون ضده لا يستأهله- حسبما ذهبت إليه في طعنها- إذ ينحل ما تثيره محض جدل
في سلطة محكمة الموضوع في وزن عناصر الدعوى وتقدير موجبات الرأفة مما لا يجوز
الخوض فيه أمام محكمة التمييز([111]).
وترى محكمة التمييز الكويتية أن تقرير الامتناع عن
النطق بالعقاب “دون بيان المبررات التي أقام عليها قضاءه عند تقريره … مع لزوم
ذلك حتى تقف هذه المحكمة على ما إذا كانت هذه المبررات تتفق أولا تتفق مع ما أورده
القانون فيها فإن الحكم يكون مشوبا بالقصور بما يبطله ويوجب تمييزه”([112]).
فالمحكمة ترى أنه يجب ذكر مبررات تقرير الامتناع عن
النطق بالعقاب و إلا اعتبر الحكم مشوبا بالقصور بما يبطله ويوجب تمييزه، فعل القاضي
عند تقريره الحكم بالامتناع رغم توافر الشروط القانونية أن يبرر تقريره لهذا الحكم
وإلا اعتبر هذا الحكم باطلا.
وأخيراً فأن القاضي يلتزم نص القانون عند تقرير الامتناع
عن النطق بالعقاب، فإذا نص القانون على جرائم معينة لا يجوز تقرير الامتناع عن
النطق بالعقاب فيها، فلا يجوز له تقرير الامتناع في أي من هذه الجرائم وألا يعتبر
الحكم مخالف للقانون([113]).
المبحث الثاني
مدى سلطة القاضي في قرن النطق بالعقاب بشروط
تتجه القوانين التي تقرر الامتناع
عن النطق بالعقاب إلى قرن استخدام القاضي سلطته في تقرير ذلك بشروط إلى مجموعتين:
الأولى: قوانين توجب على القاضي أن يقرن الامتناع عن النطق بالعقاب بشرط معين أو
أكثر، كتقديم تعهد بالمحافظة على حسن السلوك، أو إصلاح أضرار الجريمة، أو الالتزام
بقواعد سلوك معينة، أو الخضوع لتدابير الاختبار القضائي.
الثانية: قوانين تجيز للقاضي أن يقرن الامتناع عن النطق بالعقاب بشرط أو أكثر من
الشروط سالفة الذكر، على نحو متفاوت فيما بينها، كما تجيز له أن يقرر الامتناع عن
النطق بالعقاب دون أن يقرنه بأي شرط يفرضه على المحكوم عليه، فيما عدا ما يشترطه
القانون أصلا من عدم ارتكاب جريمة خلال فترة محددة لسنة واحدة، كما حددها قانون
العدل الإنجليزي الذي يعتبر في مقدمة هذه المجموعة من القوانين([114]).
وأتناول فيما يلي للشروط
التي يجب أو يجوز للقاضي قرن الامتناع عن النطق بالعقاب بها في قانون الجزاء
الكويتي وخاصة المادة (81) منه وموقف بعض القوانين منها.
المطلب الأول
شرط التعهد بحسن السير والسلوك
وإصلاح الضرر من الجريمة
توجب بعض القوانين قرن الامتناع
عن النطق بالعقاب بشرط الالتزام بتقديم ضمان للمحافظة على حسن السلوك، فيقرر قانون
الإجراءات الجنائية السوداني في مادته (24) المعدلة، أنه إذا ظهر للمحكمة أنه من
المستحسن الإفراج عن المجرم “تحت اختبار حسن السلوك، فإنه يجوز للمحكمة بدلا
من الحكم عليه في الحال بأية عقوبة أن تقرر الإفراج عنه لدى ارتباطه بتعهد مع
كفالة أو بدونها بأن يحضر ويسمع الحكم عليه بالعقوبة عند ما يطلب خلال مدة تقررها
المحكمة لا تزيد على ثلاث سنين، وبأن يكون خلال هذه المدة مسالما وذا سلوك حسن.
وكذلك تقضي المادة (201) من
قانون العقوبات الإثيوبي ويأخذ تعهد صريح من المحكوم عليه بالمحافظة على حسن
السلوك خلال المدة التي يحددها القاضي عند حكمه بوقف النطق بالعقوبة. وتتراوح هذه
المدة بين سنتين وخمس سنوات (المادة 200/2) ([115]).
وتقرر المادة (81) من قانون
الجزاء الكويتي شرط تقديم التعهد بحسن السير والسلوك إذا توافرت مبررات الامتناع
عن النطق بالعقاب، وذلك بقولها “… وتكلف المتهم تقديم تعهد بكفالة شخصية أو
عينيه أو بغير كفالة يلتزم فيه مراعاة شروط معينة والمحافظة على حسن السلوك المدة
التي تحددها على ألا تتجاوز سنتين” .
فإذا رأت المحكمة من الأصلح
أن تمتنع عن النطق بالعقاب، وتوافرت لذلك الشروط التي يستلزمها المشرع، وجب عليها
أن تكلف المتهم بتقديم تعهد بالمحافظة على حسن السلوك والالتزام بمراعاة الشروط
التي تضعها، وذلك خلال المدة المقررة. وللمحكمة أن تطلب من المتهم تدعم تعهده بكفالة
شخصية أو عينة مناسبة، وفي هذه الحالة يتعين عليه لامتناع النطق بالعقاب أن تقدم
الكفالة المطلوبة ويصح أن يكون التعهد أصلا بدون كفالة، أو أن تعفيه المحكمة منها
إذا عجز عن تقديمها الحكم ([116]).
وتؤكد محكمة التمييز
الكويتية أنه يجب عند الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب أن يتضمن الحكم شرط تقديم التعهد و إلا
أعتبر الحكم معيباً ويكون متعيناً تمييزه في هذه الجزئية، فقضت أن ” وفقاً
لنص هذه المادة (81) بفقرتيها أن يتعين على المحكمة إذا هي رأت أن تقرر الامتناع
عن النطق بالعقاب عند قيام المبررات لذلك أن تكليف المتهم بتقديم تعهد بكفالة أو
بغير كفالة على النحو المشار إليه للتلازم القائم بينهما، وقد حدد المشرع في
الفقرة الثانية من المادة الآثار التي تترتب على كل من حالتي التزام شروط التعهد
أو الإخلال بها ولما كان الحكم المطعون فيه قد فاته تكليف المطلوب ضده تقديم
التعهد السالف الإشارة إليه، فإنه يكون متعيناً تمييزه جزئياً وتصحيحه بإضافة ذلك
إلى ما قضت به المحكمة من التقرير بالامتناع عن النطق بالعقاب. ([117])
أما عن قرن الامتناع عن النطق بالعقاب بشرط إصلاح الضرر، فقرن هذا الشرط قد
يكون جوازيا أحيانا كما هو منصوص في المادة 24 من قانون الإجراءات الجنائية
السوداني التي جاء فيها أنه ” يجوز للمحكمة أن يشترط في التعهد بأن يدفع
المدان أو يدفع غيره بالنيابة عنه تعويضاً تراه معتدلاً عن الضرر أو الخسارة التي
لحقت بأي شخص بسبب الجريمة وهذا الشرط قد يكون وجوبياً بحيث يلتزم القاضي قرن الامتناع
عن النطق بالعقاب به، كقانون العقوبات الإثيوبي المادة (201 ) وقانون العقوبات النرويجي
المادة ( 52/5 ). ([118])
أما عن موقف قانون الجزاء والكويت، فمن خلال نص المادة (81) منه فأنه لا
يعتبر شرط إصلاح الضرر وقرنه بالامتناع شرطاً جوازياً أو وجوبياً، وبالتالي لا
تلتزم المحكمة بفرضه إطلاقاً عند الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب.
وقد سبق أن رأينا أن الشريعة الإسلامية جاءت للردع والجبر في آن واحد في
قول ابن القيم الجوزية ” إنما جاءت لجبر هذا وردع هذا ” ([119])
ولذلك أوصى بأن يتضمن نص المادة (81) من قانون الجزاء الكويتي، ما يجبر
الجاني على تعويض المجني عليه من الأضرار التي لحقت به، إذا تقرر الامتناع عن
النطق بالعقاب، وذلك من العدل، فليس من العدل أن يطلق سراح الجاني وقد تسبب في
أضرار الآخرين.
المطلب
الثاني
شرط الخضوع
لتدابير الاختبار القضائي
الاختبار نظام
عقابي قوامه معاملة تستهدف التأهيل أساساً وتفترض تقييد الحرية عن طريق فرض التزامات
والخضوع لإشراف شخص، فإن ثبت فشلها استبدل بها سلبه الحرية. ([120])
وشرط الخضوع
لتدابير الاختبار القضائي يقترن بالامتناع عن النطق بالعقاب في بعض القوانين،
كقانون الأحداث العراقي الذي يصفه بمراقبة السلوك ( مادة 36/1 ) من قانون الأحداث
العراقي لسنة 1962 في حين أن بعض القوانين الأخرى تمنح القاضي سلطة تقديرية في فرض
أو عدم فرض شرط الخضوع لتدابير الاختبار القضائي عند الامتناع عن النطق بالعقاب،
ومنها القانون الإنجليزي والنرويجي والإثيوبي. ([121])
وتمنح المادة (81) من قانون الجزاء الكويتي القاضي سلطة تقديرية في فرص الامتناع
عن النطق بالعقاب بشرط الخضوع لتدابير الاختبار القضائي، فيجوز للمحكمة أن تقرر
وضع المحكوم عليه خلال المدة المقررة للتعهد بحسن السلوك، تحت الاختبار القضائي
تحت رقابة شخص تعينه، ولها أن تأمر بتغيير ذلك الشخص بناء على طلبة مع إخطار
المتهم بذلك. ([122])
وقد جاء في نص
المادة (81) ” وللمحكمة أن تقرر وضعه خلال هذه المدة تحت رقابة شخص تعينه
ويجوز لها أن تغير هذا الشخص بناء على طلبه وبعد إخطار المتهم بذلك ”
فللمحكمة السلطة التقديرية في قرن الامتناع عن النطق بالعقاب بشرط الاختبار
القضائي، وذلك إذا رأت أن ذلك يساعد على حسن تأهيل المحكوم عليه.
المبحث
الثالث
سلطة القاضي في
إلغاء الامتناع عن النطق بالعقاب
والآثار
المترتبة على حكم الامتناع
نتناول هذا المبحث في مطلبين، أتناول في المطلب الأول منه من له سلطة إلغاء
حكم الامتناع عن النطق بالعقاب، ثم أتناول في المطلب الثاني منه للآثار المترتبة
على حكم الامتناع عن النطق بالعقاب.
المطلب
الأول
سلطة
القاضي في إلغاء الامتناع عن النطق بالعقاب
ليس لأحد أن يلغي حكم الامتناع عن النطق بالعقاب غير القضاء، حيث تقرر
القوانين أن للقاضي وحده السلطة في إلغاء الامتناع عن النطق بالعقاب, وهذا الإلغاء
لا يتم بالطبع إلا إذا أخل المحكوم عليه بالالتزامات التي تترتب على هذا الحكم من
تعهد حسن السير والسلوك وغيره من الشروط التي تقترن بالحكم.
فينص قانون العدل الجنائي الإنجليزي على عند إخلال الشخص الموضوع تحت الاختبار
بالشروط المقرر التزامه بها، فإنه يقدم إلى المحكمة الجزئية التي أصدرت أمر وضعه
تحت الاختبار أو إلى المحكمة الجزئية القائمة بالإشراف على تنفيذ الأمر المذكور،
ويجري سؤاله بعبارات واضحة عما إذا كان يقر بالإخلال المسند إليه، فإن لم يعترف
وجب إثبات ذلك الإخلال وعند اقتناع المحكمة بحصول الإخلال يجوز لها إتباع أحد
الإجراءات الآتية بشأنه:-
1- الحكم عليه
بغرامة لا تزيد على عشرة جنيهات وفي هذه الحالة يستمر الأمر الصادر بوقف النطق
بالعقوبة والوضع تحت الاختبار.
2-
الحكم عليه بعقوبة الجريمة التي سبق وقف النطق بعقوبتها.
3- الأمر بتوقيفه ( حجز ) أو إطلاق سراحه بكفالة إلى حين تقديمه
إلى المحكمة الجنايات وإذا كانت هي التي سبق أن أصدرت الحكم بوقف النطق بعقوبة
ووضعه تحت الاختبار أما إذا أرتكب الشخص الموضوع تحت الاختبار جريمة خلال فترة الاختبار
فإنه يلقى القبض عليه لتقديمه إلى المحكمة التي سبق أن قررت وقف النطق بالعقوبة،
أو يكلف بالحضور أمامها ولهذه المحكمة أن تحكم عليه بعقوبة الجريمة التي سبق وقف
النطق بعقوبتها. ([123])
ويقرر القانون النرويجي أيضاً أنه عند إخلال الشخص المحكوم
عليه بالامتناع عن النطق بالعقاب بالشروط المقرر التزامه بها، كأن لا يرعى لأوامر
الشخص المكلف بالإشراف عليه أو تماديه في تناول المسكرات فإنه يجوز للمحكمة أن
تحكم عليه بعقوبة الجريمة التي سبق وقف النطق بعقوبتها ويقرر القانون الإثيوبي في
مادته (204) نفس الحكم في حالة إخلال الشخص بقواعد السلوك المقررة رغم إنذاره
بمخالفته بحكم القاضي بعقوبة الجريمة التي سبق وقف النطق بعقوبتها. ([124])
قانون الجزاء
الكويتي يقرر نفس الحكم بأنه في حالة إخلال المتهم بالتعهد المقدم منه وسلوكه سلوكاً
سيئاً خلال الفترة التي حددتها المحكمة للالتزام بهذا التعهد، فإن للمحكمة بناء
على طلب سلطة الاتهام أو الشخص المتولي رقابته أو المجني عليه بالمضي في محاكمة
الشخص عن التهمة التي ارتكبها سابقاً والذي صدر بها حكم الامتناع عن النطق بالعقاب
([125])
وتقرر ذلك المادة (81) من القانون بقولها ” أما إذا أخل المتهم بشروط
التعهد، فإن المحكمة تأمر بناء على طلب سلطة الاتهام أو الشخص المتولي رقابته أو
المجني عليه بالمضي في المحاكمة وتقضي عليه بالعقوبة عن الجريمة التي أرتكبها
ومصادرة الكفالة العينية إن وجدت.
فسلطة القاضي وفقاً لقانون الجزاء الكويتي في إلغاء الامتناع عن النطق
بالعقاب يتوقف على شرط أن يكون طلب نظر إلغاء الامتناع بناء على طلب سلطة الاتهام
أو الشخص المتولي رقابته أو المجني عليه فليس له من تلقاء نفسه إلغاء الامتناع عن
النطق بالعقاب، فإذا تم تقديم طلب المحاكمة فللقاضي أن يقضي بالعقوبة المقررة
وللجريمة التي أرتكبها المتهم والتي صدر الحكم فيها بالامتناع عن النطق بالعقاب وللقاضي
أن يحكم بمصادرة الكفالة العينية التي قدمت من المتهم إن وجدت.
المطلب الثاني
آثار الحكم بالامتناع
عن النطق بالعقاب
هناك شروط نصت عليها المادة (81) يضعها القاضي تتعلق بما يجب أن يكون عليه
سلوك المتهم أثناء الفترة المحددة لامتناع النطق بالعقاب، ولا يجوز للقاضي أن يعلق
إصدار حكم الامتناع عن النطق بالعقاب على تحقيق شروط أخرى غير التي تتضمنها النص
لأن المشرع لم يخول القاضي هذه السلطة. ([126])
إذن من آثار الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب هو التزام المحكوم عليه
بالتعهد والالتزامات التي جاءت في الحكم و إلا اعتبر إخلاله بهذه الالتزامات مدعاة
لسلطة الاتهام أو متولي الرقابة أو المجني عليه بطلب محاكمته مرة أخرى عن الجريمة
المرتكبة والتي حكم عليه بها بالامتناع عن النطق بالعقاب.
كذلك فإن حكم الامتناع
عن النطق بالعقاب يمثل إدانة المتهم، بالرغم من عدم تضمنه عقوبة حقيقية، ومع ذلك
نعتبر سابقة قضائية مسجلة على المحكوم عليه ولكن ليست سابقة لقيام ظرف العود
المشدد للعقوبة. ([127])
كذلك أنه بناء على اعتبار الحكم إدانة للمتهم، فإن هذا الحكم يخول للمجني
عليه الالتجاء إلى القضاء المدني للحصول على الحكم بالتعويض. ([128])
كذلك بالرغم آثار الامتناع عن النطق بالعقاب عدم تطبيق عقوبة محددة على المحكوم عليه، إلا أن الامتناع عن النطقبالعقاب لا يشمل العقوبات التبعية أو التكميلية.
وقد قضت محكمة التمييز في هذا الشأن إنه ” إذ كانت الواقعة سابقة على العمل بالقانون رقم 1 لسنة 1993 بشأن حماية الأموال العامة وكانت المحكمة ترى من عدم وجود سوابق للمتهمين وسنهما ما يبعث على الاعتقاد بأنهما لن يعودا إلى الإجرام مرة أخرى لذلك فإنها تقرر الامتناع عن النطق بعقابهما عما ثبت في حقهما على أن يقدم كل منهما تعهد مصحوباً بكفالة مقدارها عشرة آلاف دينار يلتزم فيه بالمحافظة على حسن السلوك لمدة سنيتن، وإذا كان هذا القضاء ليس له أثر إلا على العقوبة الأصلية دون العقوبات التبعية أو التكميلية ومنها الرد والغرامة النسبية فإن المحكمة تؤيد رد مبلغ معادل للمبلغ المستولى عليه وبتغريمهما متضامنين غرامة مساوية له. ([129])
كذلك فإن التزام المحكوم عليه بالشروط المنصوص عليها والحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب، في خلال المدة التي حددتها المحكمة، وانقضت هذه المدة، فتعتبر إجراءات المحاكمة السابقة كأن لم تكن وفي ذلك نصت المادة (81) على ذلك بقولها ” وإذا أنقضت المدة التي حددتها المحكمة دون أن يخل المتهم بشروط التعهد، اعتبرت إجراءات المحاكمة السابقة كأن لم تكن ”
كذلك إذا أوجب القانون على المحكمة أن من حكم عليه بعقوبة تكميلية معينة
فإن الحكم يخطئ في تطبيق القانون إن صدر دون أن يتضمن الحكم بهذا النوع من
العقوبات أما إذا أشتمل الحكم على هذه العقوبة التكميلية فيكون صحيحاً.
وقد قضت محكمة التمييز في هذا الشأن بأن ” الظروف المخففة التي
أوردتها المادة 81 من قانون الجزاء والتي تجيز للمحكمة أن تقرر الامتناع عن النطق
بالعقاب وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة ليس لها أثر إلا على العقوبات الأصلية
دون العقوبات التبعية والتكميلية ومنها عقوبتي العزل والغرامة النسبية، وكان الحكم
المطعون فيه قد أثبت في حق الطاعن ارتكابه جريمة الاختلاس المرتبطة بجناية التزوير
في محررات رسمية المسندة إليه والمعاقب عليها بمقتضى المادة التاسعة من القانون
رقم 1 لسنة 1993 بشأن حماية الأموال العامة إلا أنه رأي إزاء مبادرة الطاعن برد
الأموال موضوع الجريمة وللاعتبارات التي ساقها التقرير بالامتناع عن النطق بالعقوبة
الأصلية ثم أوقع عليه عقوبتي العزل من الوظيفة والغرامة النسبية وهما اللتان أوجبت
المادة السادسة عشر من ذات القانون الحكم بهما على الجاني في حالة القضاء بالإدانة
فإن الحكم المطعون فيه يكون قد أعمل صحيح القانون” ([130]).
الخاتمــــة
تناولت هذه الدراسة العديد من النقاط، فعرفت في بدايتها العقوبة بأنها جزاء
جنائي يقصد به إيلام الجاني لما وقع منه في حق المجتمع من مخالفة لقواعد السلوك
المفروضة عليه، ووجدنا أن العقوبة لا بد أن تتناسب مع الجريمة المرتكبة حتى يتحقق
الغرض منها.
كذلك تناولت
الدراسة تطور فكرة العقوبة ورأينا أنه لا يمكن ردها إلى تاريخ معين، وإنما ارتبطت
العقوبة في تطورها بشكل المجتمع التي تنفذ فيه العقوبة، وكانت صفة الانتقام هي
الغرض من العقوبة في البداية سواء كان في مجتمع القبيلة أو العشيرة، ثم تطورت فكرة
العقوبة في المجتمعات الحديثة فأخذت في الاعتبار ظروف الجاني وظهرت فكرة الظروف
المخففة والمشددة وبالتالي تم نبذ فكرة الانتقام من الجاني، وتغيرت أساليب تنفيذ
العقاب وخاصة في عقوبة الإعدام، حيث أقتصر فيها على إزهاق روح الجاني دون التعذيب
البدني والنفسي حتى تزهق روحه.
كذلك منحت التشريعات الحديثة والسلطة التقديرية للقاضي في توقيع العقوبات
وفقاً لقواعد قانونية محددة وضعت تحت يده يستند إليها في تقدير العقوبة المناسبة،
ويلتزم من خلالها في اختيار العقوبة المناسبة مراعياً ظروف وشخصية المجرم.
ورأينا أن أهم ضمان لتحمل القاضي مسئولية إحكامه عند استخدام سلطته
التقديرية، أن يكون هناك تخصصية للقضاء الجنائي فقط، بالإضافية إلى العناية في
شروط اختياره لهذا المنصب، بالإضافة إلى حمايته عن طريق استقلالية القضاء وتوفير
الحياة المادية والمعيشية التي تتناسب مع مركزه القضائي الرفيع.
وتناولت الدراسة خصائص العقوبة، فشخصية العقوبة تحمي من توقيع العقوبة غير
مرتكبها أفلا يمكن تحميل شخص ذنب شخص آخر وهذه قاعدة قرآنية ” أَلَّا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ” الآية 38 سورة النجم.
كما أن شرعية العقوبة تحمي الناس من توقيع عقوبة لم ينص عليها القانون،
فالقاضي ليست له سلطة في اختيار عقوبة لم ينص عليها القانون أما عن قضائية العقوبة
فليس لسلطة أخرى غير السلطة القضائية توقيع العقوبة الجنائية، فهي تصدر بحكم قضائي،
أما عن عدالة العقوبة فيجب أن تتناسب مع الجرم المرتكب.
وتناولت الدراسة أهداف العقوبة وكيف بذلت الجهود لتحديدها من خلال المدارس
والنظريات المختلفة فمن المدارس من اعتبر الردع العام هدف العقوبة الأساسي مثل المدرسة
التقليدية ومنهم من اعتبر الردع الخاص الهدف الأساسي للعقوبة مثل المدرسة الوضعية
بالإضافة إلى تحقيق العدالة كهدف من أهداف العقوبة، حيث أنه ليس من العدالة أن
يترك المجرم يفعل ما يشاء ويقف المجتمع والقانون عاجزاً عن عقابه على فعلته الضارة
بالمجتمع.
ورأينا أنه إذا كان القانون أهدافه تحقيق العدالة والردع العام والردع
الخاص، فإن الشريعة الإسلامية السمحاء سبقت أفكار العلماء والمدارس في تحقيق أغراض
العقوبة، فالعدالة هدف أساسي تسعى الشريعة الإسلامية دائماً إلى تحقيقه، بالإضافة
إلى غرض الردع العام، وترهب من يرتكب الجريمة بالعقاب المنتظر له، كما أن الردع
الخاص في الشريعة الإسلامية قصد به العلاج الوقائي، رحمة من الله بعباده، وتناسب
العقوبة مع الجريمة المرتكبة، فإذا تم تنفيذ العقاب فيه، فيجب أن يساعده المجتمع دون
أن يقف ضده وينفر منه، فعندما يبحث عن عمل شريف يجب أن يساعده لا أن يقف ضده بشرط حسن
السير والسلوك الذي دائماً يقف ضد من يرغب في الحياة الشريفة بعد جريمة ارتكبها،
بالإضافة إلى ذلك فإن الشريعة الإسلامية بالإضافة إلى الأهداف السابقة فإنها تسعى لجبر
الضرر الذي لحق بالمجني عليه.
ورأينا أنه مع تطور فكرة العقوبة، ظهرت فكرة الظروف المخففة والمشددة
وإعطاء القاضي السلطة التقديرية لتوقيع ما يراه مناسباً من العقوبة، وهذه السلطة
الممنوحة له مقيدة بقواعد قانونية نص عليها القانون.
والسلطة التقديرية للقاضي في تقرير الامتناع عن النطق بالعقاب مقيدة بشروط
قانونية نص عليها قانون الجزاء الكويتي في مادته رقم (81) يجب توافرها أولاً حتى
يلجأ القاضي لاستخدام سلطته التقديرية في العقاب فيجب أن تكون الجريمة مما تستوجب
الحبس، سواء أكانت جناية أو جنحة أو كانت العقوبة المقررة للجريمة الحبس أو
الغرامة فطالما يوجد الحبس المقرر في الجريمة فالقاضي أن يستخدم سلطته في الامتناع
عن النطق بالعقاب بوصفه عقوبة اشد فلا يجوز الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب على
جريمة عقوبتها الإعدام.
ومن الشروط القانونية أيضاً ألا تكون الجريمة المرتكبة من الجرائم المستثناة
من التمتع بتطبيق نظام الامتناع عن النطق بالعقاب وهي الجرائم التي نصت على المادة
(46) المضافة إلى القانون رقم 74 لسنة 83 بالقانون رقم 13 لسنة 1995 (قانون
المخدرات) وهذه الجرائم منصوص عليها في المواد 31، 32، 33 مكرراُ ” أ ”
و50 من القانون رقم 13/95.
ورأينا أن تمتع الجاني بتقرير الامتناع عن النطق بالعقاب، إذا كانت مدة
الحبس المقررة للجريمة تزيد على سنة يتنافى مع تحقيق هدف الردع العام بجريمة
عقوبتها خمس سنوات أو أكثر كما هو مقرر في المادة (33) من القانون رقم 13/95
مخدرات لا يجب أن يتمتع صاحبها بنظام الامتناع عن النطق بالعقاب، ويتساوى صاحبها
في حق التمتع بهذا النظام مع مرتكب جنحة أو جريمة لا تتعدى عقوبتها سنة.
لذلك نوصي أن يرتبط الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب بحد معين من سنوات
الحبس المقررة للجريمة المرتكبة، ونوصي أن لا يتعدى مدة الحبس عن عامين.
وهناك من
الشروط المرتبطة بالجاني، مثل الماضي الإجرامي، بحيث أن لا يكون سبق الحبس له في
جريمة ورأينا أن بعض القوانين ينص صراحة على هذا الشرط في حين أن المادة (81) من
قانون الجزاء الكويتي لم تنص على ذلك ولكن القضاء الكويتي بما له من سلطة تقديرية
فقد استخدم هذه السلطة باعتبار سبق الحكم على المجرم دليل على خطورة المجرم مستنداً
إلى أن ذلك يرتبط بماضيه التي نصت عليها المادة (81) بقولها “.. إذا رأت من
أخلاقه أو ماضيه ”
كذلك فإن درجة إصرار المجرم على ارتكاب الجريمة يكون دليل ضده لعدم استخدام
الرأفة وتقرير الامتناع عن النطق بالعقاب فمن يقوم بدخول المساكن ليلاً والاستيلاء
على النقود بالإضافة إلى طبيعة عمل المجرم، فإنها ظروف قررت محكمة التمييز
اعتبارها دليل ضد المجرم بما يجب عدم تقرير الامتناع عن النطق بالعقاب له. ([131])
ومن الظروف الشخصية التي تؤخذ في الاعتبار عند تقرير الامتناع سن المتهم فلا يستوي الحدث مع البالغ، ولا البالغ من الرجل الشيخ المسن فإذا توافرت الشروط التي نصت عليها المادة ( 81 ) من قانون الجزاء الكويتي، فاللقاضي مطلق الحرية في أن يحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب أو لا يحكم ولكن إذا حكم فيجب أن يذكر سبب الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب ومبرراته و إلا اعتبر الحكم باطلاً بما يوجب
تمييزه.
وإذا قرر القاضي الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب في قانون الجزاء الكويتي فيجب أن يقرن هذا الحكم بشرط تقديم التعهد بحسن السير والسلوك فإذا حكم القاضي بالامتناع دون قرنه بشرط تقديم التعهد، فيجب تمييز الحكم جزئياً وتصحيحه في هذا الشأن.
ولم تقرر المادة (81) من قانون الجزاء الكويتي لمن حكم عليه بالامتناع عن النطق بالعقاب، قرن هذا الحكم بإصلاح الضرر المترتب على هذه الجريمة التي لحقت بالمجني عليه ولذلك نوصي أن تتضمن نص المادة (81) من قانون الجزاء الكويتي ما يساعد على تحقيق ذلك وتعويض المجني عليه ما لحقه من أضرار.
وكذلك يجوز للقاضي أن يقرن حكمة بالامتناع بتقرير خضوع المحكوم عليه لتدابير الاختبار القضائي.
كذلك لا يتقرر إلغاء حكم الامتناع عن النطق بالعقاب إلا عن طريق القضاء وذلك بناءً على طلب سلطة الاتهام أو الشخص المتولي رقابته أو المجني عليه، وليس للقاضي السلطة في الإلغاء دون تقديم هذا الطلب.
ورأينا أن هناك أثار تترتب على حكم الامتناع عن النطق بالعقاب، وذلك بالتزام المحكوم عليه بما جاء من تعهد والتزامات عليه، لذلك يترتب على هذا الحكم اعتبار الحكم إدانة واعتباره سابقة قضائية مسجلة على المحكوم عليه ولكن ليست سابقة لقيام ظرف العود المشدد للعقوبة وإذا مضت المدة التي حددتها المحكمة والتزم المحكوم عليه بتعهده والتزاماته، اعتبرت إجراءات المحاكمة كأن لم تكن، كذلك لا أثر لهذا الحكم على العقوبات التبعية أو التكميلية.
(محاماه نت)