دراسات قانونية

استقلال القضاء عن السلطة التشريعية في الفقه والقانون (بحث قانوني)

استقلال القضاء عن السلطة التشريعية في القانون:

يمثل استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية أهمية قصوى وذلك منعاً من خضوع القضاة لتوجيهات السلطة التشريعية وأوامرها ، وأن يكون أداة في يدها لتنفيذ سياساتها ورغباتها(1). ذلك أن السلطات التشريعية تباشر أخطر سلطة في الدولة كونها تضع القوانين التي تمثل إرادتها ، والتي تكون ملزمة للجميع بما فيهم الهيئات التنفيذية والقضائية التي تكون وظيفتها هي تنفيذ هذه القوانين وتطبيقها . والظاهر أنه مهما كانت أهمية وخطورة وظيفة التشريع وأهمية السلطة التي تباشرها إلاّ أن هذه السلطة غير مطلقة اليد في هذا المجال وإنما هي مقيدة بمبدأ فصل السلطات ، ومبدأ استقلال القضاء الذي يُعد نتيجة حتمية لأعمال هذا المبدأ ومن ثمّ فإن استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية يقتضي أنه لا يجوز للهيئة التشريعية أن تتجاوز حدود سلطة التشريع فتباشر سلطة القضاء(2). ويلاحظ أن تجاوز السلطة التشريعية على حدود سلطة القضاء وتدخلها في أعمالها يأخذ صوراً متعددة ممّا يتطلب أن تمتنع السلطة التشريعية عن الإتيان بأي عمل يمكن أن يشكل تدخلاً في عمل القضاء ، ونأتي على بحثها تباعاً وهي كالآتي :

اولا – منع التدخل بطريقة أداء القضاء لوظيفته :

ومقتضاه أنه لا يجوز للسـلطة التشريعية أن تقوم بمراجعة الأحكام التي تصدرها المحاكم وتخطئتها أو تصويبها ، ممّا يدخل في اختصاص الحاكم الأعلى درجة(3). وهذا الأصل مقر في العديد من قوانين دول العالم ، فنجد أنه في إنكلترا يمتنع على البرلمان الإنكليزي التدخل في أي قضية مطروحة على القضاء ويمتنع على أعضائه التعليق على القضية(4). وهناك إجماع بين الفقهاء في فرنسا على أنه لا يجوز تدخل المشرع في القضاءين العادي والإداري فيما هو مطروح من قضايا أمام المحاكم تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات، وكذلك الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية ويترتب على هذا الأصل أنه لا يجوز للسلطة التشريعية أن تعمل على إيقاف تنفيذ أي حكم قضائي ولا تعديله ولا نقضه بغض النظر عن الاعتقاد بوجود خطأ جسيم أو تجاوز للقانون فيه. وقد يكون تدخل المشرع من خلال إصدار قوانين تتعلق بقضايا معينة فإنه قد يتدخل في القضايا الحقوقية من خلال إصدار تشريع يستهدف تعديل القواعد التشريعية التي تستند إليها الدعوى بأثر رجعي لإمكان صدور الحكم في الدعوى على نحو معين ، مثال ذلك إصدار القانون رقم 75 لسنة 1971 المعدل لقانون العمل رقم 21 لسنة 1960 الأردني الذي نص على عدم سماع الدعوى بأجور الساعات الإضافية وبدل الإجازات والعطل الرسمية بعد مرور ثلاثة أشهر على نشوء هذا الحق ، ويسري هذا التعديل على الدعاوى المقامة قبل نفاذ هذا القانون غير المكتسبة الدرجة القطعية . كذلك يتدخل من خلال تعطيل آثار الأحكام ومنع تنفيذها ومثال ذلك صدور قانون الدفاع في الأردن عام 1935 الذي جوز أن يوقف بأمرٍ سامٍ تنفيذ أي حكم صادر من أي محكمة حقوقية في المدة التي يراها(5). إلاّ أنه إذا كان لا يسمح للسلطة التشريعية أن تتدخل بطريقة أداء القضاء لوظيفته فإن لها أن تصدر قوانين تفسيرية لتفسير القوانين القائمة ولو أدى ذلك إلى المساس بدعاوى معروضة أمام القضاء(6). وإن عدم احترام جهة من جهات القضاء للقانون لا يمكن أن يعد مسوغاً لتدخل المشرع وذلك لوجود جهات قضائية عليا تتولى مهمة رعاية احترام المحاكم للقانون وليس للمشرع أن يحل نفسه محل هذه الجهات فهو ، على كل حال ، لا يستطيع أن يخرج على مبدأ عدم التدخل إلاّ إذا كان خروجه هو الوسيلة الوحيدة لحل مشكلات لا يمكن حلها عن طريق التقسيم العادي للاختصاصات بين القاضي والمشرع(7).

ثانياً- عدم مصادرة حق التقاضي :

قد تصدر السلطة التشريعية تشريعات تحجب بمقتضاها بعض الاختصاصات عن القضاء ولا تعطي الحق للأفراد في التقاضي بصددها ممّا يُعد مصادرة لحق التقاضي جزئياً أو كلياً(8). ومن الثابت أن حق التقاضي لا يجوز المساس به كونه ذا طبيعة دستورية ومن ثمّ لا يجوز للمشرع أن يتناوله بالإلغاء أو التقييد لأن التشريع الذي تصدره السلطات المختصة ينبغي أن يكون خاضعاً للدستور وأن أي جهة أخرى هي جهة أدنى لا يحق لها التعديل أو الإهدار لهذا الحق(9). وقد نصت الدساتير العربية على هذا المبدأ إذ نص الدستور العراقي لسنة 1970 على أن [ حق التقاضي مكفول لجميع المواطنين] (10). كما نص الدسـتور السوري على أن [ حق التقاضي وسلوك سبل الطعن والدفاع أمام القضاء مصون بالقانون] (11). ، غير أنه يلاحظ أنه كثرت في الآونة الأخيرة التشريعات التي تسلب هذا الحق في كثير من الدول العربية ويرى بعضهم أن التشريع الذي يصادر حق التقاضي هو تشريع غير دستوري ويُعد اعتداء على السلطة القضائية التي يجب على محاكمها الامتناع عن تطبيقه(12). ويلاحظ أن هذه المصادرة تكون من خلال القانون أو قرارات اللجان أو قرارات السلطة القائمة على تنفيذ الأحكام العرفية ، وأحياناً قوانين التضمينات التي تسن لإعفاء السلطة القائمة على تنفيذ الأحكام العرفية من المسؤولية ، ومن أمثلة ذلك منع المحاكم من سماع الدعاوى في موضوعات معينة(13). وبذلك فإن التشريعات التي تحول بين الأفراد وبين الالتجاء إلى القضاء هي صورة صارخة للاعتداء على سلطة القضاء التي يجب أن تنبسط ولايتها على كل ما يثور من المنازعات ، سواء بين الأفراد أو بين الأفراد والسلطات العامة ، ومن ثمّ فإن تدخل المشرع لإخراج منازعات معينة من ولاية القضاء ينطوي على اعتداء على حريات المواطنين وكذلك على انتقاص من سلطة القضاء(14) (15) .

ثالثاً- عدم التدخل في تنظيم القضاء :

إن وجوب منع المشرع من التدخل في أعمال القضاء لا يجوز أن يقتصر على تعطيل أحكام القضاء أو مساسها أو طريقة أداء القضاء لوظيفته ، بل يجب أن يمتد ذلك ليشمل منعه من التدخل في تنظيم القضاء وإذا قصد به المساس باستقلاله أو الاعتداء عليه كونه من الأساليب التي يلجأ إليها كثير من النظم لإخراج بعض القضاة من دائرة القضاء(16). فقد تتدخل السلطة التشريعية في شؤون القضاء وتنظيمه تحت ذريعة أن القضاء قد انحرف أو أنه بحاجة إلى التطور فتعمد إلى إصدار تشريعات ترفع الحصانة عن القضاة وإعطاء الصلاحية لوزير العدل أو للجنة خاصة لتقوم بإعادة تنظيم الجهاز القضائي وإقصاء العناصر المنحرفة كما يحدث اليوم في العراق من خلال لجنة المراجعة القضائية ومناقشة البعض في مشروعية وجودها واعمالها وجديرٌ ذكره أن هذه التشريعات تُعد تشريعات غير دستورية لتعارضها مع نصوص الدستور التي تؤكد استقلال القضاء في مواجهة السلطات كافة (17). إلاّ أنه مع ذلك تلجأ الكثير من الدول إلى هذا التدخل في تنظيم القضاء ففي مصر صدر عام 1955م قانون بإعادة تشكيل مجلس الدولة استهدف إخراج عدد من المستشارين الذين صوتوا في الجمعية العمومية لمجلس الدولة ضد عزل الدكتور عبد الرزاق السنهوري من رئاسة مجلس الدولة ، الذي كانت الدولة ترغب بعزله وفي عام 1959م صدر قانون أجاز لوزير العدل أن يقترح صرف قضاة الحكم والنيابة العامة خلال ثلاثة أيام من تاريخ نشره بقرار من رئيس الجمهورية . وفي عام 1969م صدرت قوانين سـميت بقوانين إصلاح القضاء نصت على حل الهيئات القضائية وإعادة تشكيلها بعد استبعاد (189) قاضياً وعرفت هذه العملية باسم (مذبحة القضاء) وفي سوريا صدر عام 1966 مرسوم تشريعي نص على رفع حصانة النقل عن القضاة مدة ستة أشهر، كذلك صدر في العام نفسه مرسوم تشريعي خول السلطة التنفيذية أن تقوم خلال 24 ساعة من تاريخ صدوره ، بصرف أي قاضٍ من الخدمة أو نقله إلى ملاكات وزارات أخرى . وفي فرنسا أصدرت الحكومة الفرنسية عام 1943 أمراً يقضي بمنح الحكومة الحق في أن توقف أي قاضٍ عن العمل أو تنزل درجته أو أن تنقله ، حتى يتم تحرير فرنسا ، غير أنه بعد تحريرها جرى العمل بالحصانة القضائية التي أكدها دستور عام 1958 في المادة (64) منه الذي أكد الحصانة القضائية وأن رئيس الجمهورية ضامن لاستقلال القضاء(18). ويرى بعضهم أن للسلطة التشريعية أن تصدر ما تراه مناسباً من قوانين لتنظيم شؤون القضاء ، إلاّ أن ذلك ليس على إطلاقه وإنما هو مقيد بقيدين :

الأول : وجوب عرض هذه القوانين على الهيئات القضائية لتبدي رأيها فيها وأن يصدر على وفق رغبات أعضاء الهيئات القضائية .

الثاني : إذا أُصدر قانون يخالف رغبات القضاة وآرائهم فيلغى بوساطة المحكمة العليا(19).

والحقيقة أن إعطاء الحق للجهة التشريعية في إصدار قوانين تعيد بموجبها تنظيم القضاء لا يصح بحال ، ذلك لأنه يؤدي إلى هدم مبدأ استقلال القضاء من أساسه لأن هذا التدخل يعني إمكانية خرق كل الضمانات التي قررها الدستور والقوانين للقضاة في منع عزلهم ونقلهم وكل الضمانات الأخرى ، ليكون وسيلة الهيئة التشريعية في الانتقام من القضاة الذين لا يوافقون هواها فتلوح لهم خارج مسلك القضاء ليكونوا أداة طيعة بيدها انطلاقاً من مخاوفهم من أن يلقوا مصير أقرانهم(20). وأن هذا التدخل يخالف صراحة الدستور في تقرير مبدأ استقلال القضاء ومن ثمّ لا يمكن الأخذ به لتعارضه مع الدستور، وضمانة ذلك–أي عدم الأخذ به – وجود محكمة دستورية عليا تراقب دسـتورية القوانين، وتمنع السلطة التشريعية من أي تدخل(21). في عمل القضاء أياً كانت مسوّغاته.

استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية في الفقه الإسلامي:

يهدف مبدأ استقلال السلطات – عند الغرب – إلى الحيلولة دون تجمع السلطات الثلاث بيد واحدة ، ممّا يحول دون الحرية الفردية نتيجة تجمع السلطة التنفيذية والتشريعية و القضائية بيد شخص واحد . ونجد في الشريعة الإسلامية أن هذا المبدأ لم يعرف بهذه الصورة ، ذلك أن السلطة التشريعية في الشريعة الإسلامية هي أساساً بيد الله تعالى فهو المشرع الأول وأن الرسول محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يأتي به من تشريع يكون بوحي الله تعالى وفيما لا يوجد فيه نص من الشارع فيرجع إلى اجتهاد الفقهاء المسلمين من خلال استنباط الحكم الشرعي عن الأدلة التفصيلية الواردة في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية (1) . وبذلك فإن السلطة التشريعية في الشريعة الإسلامية كانت مفصولة عن السلطة القضائية ويرى الفقهاء المسلمون أن ذلك قد أمن للمسلمين تلافي أضرار تجمع السلطات بيد واحدة الذي حاول مونتسكيو تجنبه ، دون حاجة إلى البحث عن وسائل أخرى ولاسيما أن ضمان الحريات الفردية في الشريعة الإسلامية قوامه قاعدة المساواة أمام الشريعة وقاعدة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2).

اختيار القضاء بوساطة الهيئة التشريعية و بوساطة الهيئة القضائية :

اولا . اختيار القضاء بوساطة الهيئة التشريعية :

وهناك طريقة ثالثة نادراً ما يُلجأ إليها ، وهي طريقة اختيار القضاة بوساطة الهيئة التشريعية كما كان سائداً في سويسراً ، ويعاب عليها أن القضاة يكونون دوماً مدينين بالولاء للحزب السياسي الذي يسيطر على الهيئة التشريعية(1).

ثانياً . اختيار القضاء بوساطة الهيئة القضائية :

أو أن يتم اختيارهم بوساطة الهيئة القضائية ذاتها ويعاب عليها بأن الأخذ بها يؤدي إلى حصر القضاء في فئة معينة وعزله عن تطورات الدولة الفكرية والاجتماعية وتفتح باب المحسوبية فلا يمكن أن يضمن معه استقلال القضاء(2). ونميل إلى ترجيح الرأي الذي يتبنى نظام تعيين القضاة عن طريق الهيئة التنفيذية مع وضع ضوابط صارمة ودقيقة تمنع حدوث الآثار السلبية التي تترتب على تبني هذا النظام بمعنى أن يكون تعيين القضاة بناءً على ترشيح من السلطة القضائية العليا التي تتولى أمر اختيارهم واختبارهم وتدقيق توافر الشروط اللازمة فيهم ، ومن بعد ترشح أسمائهم إلى السلطة التنفيذية والى رئيس الجمهورية حصراً لإصدار أمر تعيينهم وجوباً ، ومن ثم ضمان عدم تدخل الحكومة في أعمالهم القضائية عن طريق الضمانات التشـريعية التي تكفل لهم كامل الحرية والاستقلال في عملهم القضائي ومن ثمّ لا يكون تدخل الحكومة في تعيين القضاة ماساً باستقلالهم.

 

(محاماه نت)

إغلاق