دراسات قانونية
التأصيل القانوني والفقهي للطعن بالتمييز (بحث قانوني)
التأصيل الفقهي للطعن التمييزي:
لقد وفق المشرع الإجرائي بين مصلحتين متعارضتين عن طريق نظام الطعن التمييزي ،الأولى هي مصلحة الخصوم التي تقضي بوجوب إعادة النظر في الحكم القضائي لتصحيح أخطائه الموضوعية أو الإجرائية والتي تنتج عن سوء فهم ،وتقدير ،وتكييف من القاضي لنصوص القانون (1). والثانية تمثل المصلحة العامة التي تحتم وجوب وضع حد للنزاع القضائي ،وإزالة التعارض بين الأحكام القضائية في القضية الواحدة (2). أو في القضايا المتشابهة(3). حتى تستقر الحقوق ،والمعاملات ،والأوضاع القانونية (4). لذا فقد أوجد المشرع وبمباركة الفقه هذا الطريق الخاص جداً ،وذلك بعد أن ذهب جانب كبير من الفقه الإجرائي(5). إلى تقرير عدم إمكانية رفع دعوى لأبطال الأحكام القضائية التي لا يجوز الرجوع عنها أو تعديلها أو إلغائها إلا وفق الطرق القانونية المعتبرة (6). إضافة لما تحققه فائدة وجود هيئة قضائية متخصصة تراقب صحة تطبيق القانون من قبل السلطة القضائية وتحافظ على وحدة تفسيره وإعماله (7)، وما يحقق ذلك من فائدة أخرى هي توفير الآمان القانوني لأطراف النزاع (8). واستقرار الرأي في فهم أحكام القانون وحسن تطبيقه ونقض الأحكام المخالفة له احتراما لمبدأ الشرعية (9). لذا فنحن نعتقد أن نظام الطعن التمييزي يفترض فيه أن يضمن مطابقة الأحكام القضائية؛ للقواعد القانونية روحا ونصا والتي تمثل الإرادة التشريعية ،فهو في نظرنا مظهر من مظاهر الدولة القانونية الحديثة والتي تضمن وتؤكد حق الدفاع الجدلي(10). ويذهب البعض الآخر(11). إلى اعتبار أن الطعن التمييزي اثر من آثار الحكم القضائي، ونخالف ذلك لان الطعن التمييزي سابق في الوجود المادي للحكم القضائي ،فهو من صور من حق اللجوء إلى القضاء(12). ويقتصر اثر الحكم فيه على وضع أحد الخصوم في مركز المحكوم عليه ،هذا المركز في حقيقته هو الذي سينعكس تلقائيا وبإرادة صاحبه إلى مركز الطاعن ليمارس بدوره الحقوق التي وفرها له القانون فيه بعد أن يقوم بالواجبات والأعباء المترتبة عليه؛ ومن هنا نعتقد أن الحكم القضائي هو المفترض الضروري والسابق لممارسة المحكوم عليه نظام الطعن التمييزي.
التأصيل التاريخي للطعن التمييزي:
قامت حركة التقنيين في الإمبراطورية العثمانية ،التي كان العراق جزءاً مهما وأساسياً منها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، حيث بدأ سلاطين آل عثمان يقتبسون القوانين الغربية وخصوصا الفرنسية منها ويدمجونها ضمن ما كان يطبق في بلادهم من قوانين (1). وعلى اثر ذلك صدر أول قانون للتجارة البرية في عام 1266هـ والذي وضع على أثره قانون أصول المرافعات التجارية؛ وذلك في عام 1278هـ ؛ورغم أن الأخير قانون فرنسي الأصل تضمن أنواع الطعون المختلفة، إلا أنه لم يحتوي في أحكامه على نظام الطعن التمييزي ؛ إلى عام 1296ه حيث صدر قانون أصول المرافعات المدنية والتجارية العثماني ؛والذي تضمن في الباب السابع منه على ذلك النظام0 وعلى أثره صدر أول قانون لتشكيلات المحاكم النظامية في العراق وذلك في 19 جمادى الأخر عام 1296 هـ حيث نص على تشكيل محكمة التمييز والتي ينظر فيها الطعن في الحكم تمييزا (2). ولا يختلف نظام الطعن هذا عن مثيله الفرنسي في بادي الأمر ؛إلا انه ما لبث أن تطورَ وعلى مراحلَ متعددة متأثراً بالظروف الاجتماعية والسياسية التي مر بها العراق إلى ما هو عليه في الوقت الحاضر0وفي العام 1300 هـ تم تعميم هذا النظام ليشمل إمكانية فرض الرقابة القضائية (التمييز) على الأحكام الشرعية لدى مجلس الفتوى والدقيقات الشرعية ،وذلك بموجب الإرادة السنية الصادرة آنذاك (3). إلا أن من الملاحظ هنا أن مجلة الأحكام العدلية – والتي كانت تمثل القانون المدني آنذاك – كانت قد تضمنت المواد 1838 ، 1839 في الكتاب الرابع(القضاء) ما يماثل أحكام الاستئناف والتمييز مع بعض الاختلاط الواضح في مفاهيم كلٍ منها ويعود ذلك حسب ما نعتقد إلى أن هذين النظامين(الاستئناف والتمييز ) كانا حديثي العهد وفي بداية الأخذ بهما 0 أما بخصوص اصل ومولد نظام الطعن التمييزي فان الإجماع الفقهي (4). يذهب إلى القول بان هذا النظام ولد في فرنسا ، وعلى مرحلتين أساسيتين الأولى عندما كان نظاما سياسياً يمارسه الملك بنفسه كأحد أنظمة الحكم يسمى نظام التشكي من الإحكام وذلك ليقيم العدل على ارض مملكته ومن خلال مجلسه الخاص0 إذا حاول الفقه القديم أن يوجد مبرراً يوجب تدخل الملك في النظام القضائي القائم آنذاك لحل ما كان يعترض طريق ذلك النظام من صعوبات وإشكاليات، فقد كان تعدد البرلمانات واختلاف أحكامها، وتنازع الاختصاص فيما بينها مبررا كافيا تقوم على أساسه نظرية إعادة العدالة والتي يتلخص مضمونها في أن الملك وان انصرف عن تولي القضاء بنفسه إلا انه استبقى ما يبيح له التدخل في أعمال القضاة عن طريق توقيعات يصدرها في الشكاوى والمظالم التي ترفع إليه(5). والملاحظ هنا أن نشأة نظام الطعن كانت أساساً كرخصة منحها الملك لمواطنيه في أن يتجهوا إليه ليحل مشاكلهم القانونية والقضائية على حد سواء0 أما عن المرحلة الثانية والتي تأثرت بوضوح بالمبادئ والأفكار التي يحملها رجال الثورة الفرنسية وما كان مترسبا في أذهانهم من تحيز القضاة وانحرافهم وتحت ضغط أيجاد هيئة متخصصة تراقب تطبيق القانون من دون المساس بمبدأ الفصل بين السلطات (6). فقد ابقوا على هذا النظام تابعاً للسلطة التشريعية غريباً عن السلطة القضائية مهمته مراقبة القضاة في تطبيقهم للقانون(7). وقد تم إبدال اسمه فيما بعد إلى مجلس التميز وذلك في عام 1791م ومن ثم صدور قانون أصول المحاكمات المدنية الفرنسي عام 1806 م مبقياً على مجلسِ التميز كأحد الأنظمة القضائية المتخصصة ومن ثم إبدال اسمه عام 1904 م إلى محكمة التميز court de causation 0 أما في مصر فان الإجماع الفقهي المصري (8). منعقدٌ إلى أن نظام النقض لم يظهر هناك إلا في عام 1931م حيث أنشئت محكمة النقض والإبرام في مدينة القاهرة ،ويذهب البعض(9). إلى القول بان هذا النظام عرف في مصر منذ عام 1790 م كأحد الأنظمة التي نقلها نابليون إلى مصر في ظل الغزو الفرنسي لها؛ ولكن بصورة بدائية ،إذ لا يعني عدم وجود محكمة مختصة لممارسة حق الطعن أمامها انعدام هذا الحق ،بل وتأكد وجوده في عام 1842م بإنشاء مجلس الجمعية الحقانية كأحد التغيرات القضائية التي أراد بها محمد علي باشا إن يمز بها النظام القضائي المصري عن النظام القضائي للدولة العثمانية كأحد مظاهر انفصاله عنها0 وإذا كان نظام الطعن التمييزي يتضمن في ماهيته حقين حق الطعن للمحكوم عليه، وحق فرض الرقابة القضائية على عمل القضاة في المحاكم ، فان هذا الأخير لم يظهر إلى الوجود في قوانين أنظمة المحاكم العراقية التي توالت في الصدور منذ عام 1917 م ولغاية عام 1945م 0حيث صدر في هذا العام قانون تشكيل المحاكم المدنية العراقي رقم 3لسنة 1945م الذي نص فيه والأول مرة ،على أن تكون محكمة التمييز هي المرجع الأعلى للمحاكم المدنية وتنعقد في العاصمة 000 الخ (10).
والملاحظ على هذه القوانين أنها حددت من سلطة ولاية محكمة التمييز على المحاكم المدنية من دون الإشارة لبقية أنواع المحاكم والهيئات التي كانت محكمة التمييز تمارس الولاية الفعلية عليه إلى أن صدر قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979 الذي إطلاق وأكد على حق الرقابة القضائية وبشكل مرن يتعامل لاحقا مع ما ظهر لاحقا من أنظمة قضائية أخرى موازية(11). آما في فرنسا فان النزاع على رئاسة السلطة القضائية بين محكمة التمييز ومحكمة الاستئناف انتهى عام 1906م بفوز الأولى وتربعها على عرش السلطة القضائية وتأكد ذلك بصدور قانون 1908م وفيه باب كامل خاص بهذا النظام (12). أما في مصر فلم يمر نظام الطعن بالنقض بمثل تلك الحالة إذ أن مرسوم إنشاء محكمة النقض رقم 68 لسنة1931م أمر بعلوية محكمة الطعن واستقلاليتها عن النظام القضائي ذي الدرجتين 0ولكي نعطي الموضوع حقه لابد لنا من أن نتجول في الأنظمة القانونية والقضائية المتوفرة ومن أهمها بالطبع النظام القضائي الإسلامي ومن بعده النظام الانكلوسكسوني 0 ابتداءً يجب أن نميز بين ولاية الحسبة ونظام الطعن التمييزي(13). إذ تستند ولاية الحسبة على مبدأ إقامة المعروف والنهي عن المنكر ،والتي تقابل اليوم ما تقوم به الدوائر الإدارية المتمثلة بالسلطة البلدية في إماطة الأذى عن الطريق وتنظيم السير فيه ،وما تقوم به دوائر الرقابة الصحية في مراقبة بائعي المواد الغذائية، وما يقوم به الجهاز المركزي للسيطرة النوعية في مراقبة المصانع والمعامل والموازين والمواد المصنعة وما تقوم به الشرطة 000الخ0وان نميز أيضاً بين ولاية المظالم ونظام الطعن التمييزي، إذ يعد البعض(14). ولاية المظالم نوعاً من أنواع القضاء العالي ،له سلطة أوسع من سلطة القضاء العادي ،ويقوم بأعمال محكمة التمييز في الوقت الحاضر إذ لم يكن أطول منها باعاً واشد نفوذاً 0والحقيقة أن ولاية المظالم تشبه اليوم ما يقوم به محكمة القضاء الإداري أو ما يسمى في فرنسا بمجلس الدولة ؛فالغرض الرئيس من إنشائه هو إنصاف من يتظلم من أعمال الولاة، أو عمال الخليفة أو جباة الأموال ،أو كتاب الدواوين ،وهي جهات إدارية يكون الطعن بقراراتها لدى محكمة القضاء الإداري عن طريق دعوى يرفعها من يتظلم من أعمال تلك الجهات ،وأول من جلس للمظالم هو النبي محمد(ص) وان نميز أيضاً بين منصب قاضي القضاة (15). وبين نظام الطعن التمييزي ،إذ يقول البعض(16). أن قاضي القضاة كان له النظر في أقضيه القضاة ومراجعة أحكامهم ونقضها0 والحقيقة نقول أن منصب قاضي القضاة يقابل منصب وزير العدل أو مجلس العدل، إذ انه منصب إداري يشرف على المسائل الإدارية في تعيين القضاة وعزلهم ومحاسبتهم ؛لا نقض أحكامهم أو تقبل الطعن فيها 0 وأما بخصوص معرفة النظام القضائي الإسلامي بنظام الطعن التمييزي ؛ فيظهر أن هناك رأيان في هذا الموضوع :- الأول يقول أن النظام القضائي الإسلامي قد عرف نظام الطعن التمييزي ،ويستشهد بنصوص من القران الكريم والسنة النبوية المطهرة وبعض الوقائع التي ورثناها عن السلف الصالح والتي لاقت إجماع الأمة (17). أما عن الرأي الثاني فانه يقول أن النظام القضائي الإسلامي لم يعرف نظام الطعون، وان أحكام القاضي لا تقبل الطعن أمام محكمة أعلى منها (18). ونؤيد بدورنا هذا الرأي ،ونستند إلى الحقيقة التاريخية التي تقول أن التنظيم القضائي الإسلامي لم يتجاوز مرحلة محكمة القاضي المنفرد ومحكمة الدرجة الواحدة، بل يمكن أن نرى مقاومة الفقهاء المسلمين لأنظمة الطعن ،وإصرارهم على المحافظة على نظام القاضي الفرد ،وعلى الدرجة الواحدة للقضاء فيما ذهب إليه الفقه الإسلامي من آراء (19). دون أن يعني ذلك عدم إمكانية مراجعة الأحكام المخالفة للنصوص الثابتة على سبيل اليقين أو الأحكام الفاسدة لمخالفتها قواعد يقينية آمرة لا مجال فيها للاجتهاد، ويتم ذلك لدى أي قاضي أخر بنفس الدرجة 0 فقد أخذت الشريعة الإسلامية بنظر الاعتبار أن القضاة بشر يتعرضون للخطأ والزلل والنسيان، فقد جاء في الحديث الشريف ما نصه “أن كل بني أدم خَطاء وخِيرُ الخطأين هم التوابون ” صدق رسول الله (ص)0وعلى ذلك فقد أقرت الشريعة الغراء مبدأ مراجعة الأحكام القضائية وفحصها والتمييز بينها لإقرار الصائب منها ،ونقض ما يستوجب منها نقضه 0ونستند في ذلك على ما جاء في القران الكريم “فأن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول”(20). فإذا صدر حكمٌ مخالف لحكم الله ورسوله ،يجب نقضه والرجوع عنه إلى حكمهما وإزالة ما يترتب على تلك المخالفة من أثار(21). وفيما يتعلق ببلاد العائلة الانكلوسكسونية وعلى الرغم من أن نظاما محاكمة منصة الملك أو الملكة ،ونظام محاكم العدالة يشابهان نظام الطعن التمييزي في بداية مولده كأحد أنظمة الحكم التي يمارسها الملك إلا انهما يختلفان عنه كثيراً ،وسواءً من حيث غاية عملهما التي كانت في بادي الأمر نوعاً من التظلمات التي ترفع إلى الملك باعتباره ينبوع العدالة ،ومن ثم تحولت إلى أنظمةً قضائية لاحقا؛ في حين أن نظام الطعن التمييزي كان يتم بصيغة طلب قضائي الهدف منه إيجاد حلاً لبعض الإشكاليات القضائية التي كانت تظهر مثل تنازع الاختصاص بين البرلمانات، ومن حيث الأحكام(الأوامر) التي يصدرانها، وكيفت معالجتهما للنزاع المعروض عليهما ، ومن حيث طبيعة العمل إذ تقوم محاكم منصة الملك بالفصل بالأمور التي تتعلق بالنزاع بين الملك وبين رعيته ومن ثم توسعت لاحقاً لتشمل اختصاصات أخرى ،أما محاكم العدالة فتختص بالنزاعات التي يصعب إثباتها والسير فيها أمام المحاكم الملكية ،ومن هنا فهي محاكم من الدرجة الأولى، ومن حيث الآثار التي تتولد عن تلك المعالجة 0 أما فيما يتعلق بمجلس اللوردات فانه عبارة عن محكمة استئناف عليا ،وسواءٌ من حيث عمله واختصاصه في النظر في الطعون التي تسمح محاكم الاستئناف للمتخاصمين رفعها إليه عندما تنعدم السابقة القضائية المشابهة للقضية المطعون في حكمها ؛أو التي يرى المجلس ضرورة رؤيتها وذلك عند مخالفة الحكم المطعون فيه لسابقة قضائية ،أو عند العدول عن سابقة أصبحت لا تتلاءم مع الواقع الجديد(22).
(محاماه نت)