دراسات قانونية

مدى اعتبار الوكالة بالخصومة عقد وكالة في الفقه والقانون

ذهب جانب من الفقه الفرنسي(1) إلى القول ان العقد ما بين الوكيل بالخصومة والموكل هو عقد وكالة، لان الوكيل بالخصومة يمثل موكله امام القضاء ويترافع ويدلي بدفوعه نيابة عنه، كما ان غالبية أعمال الوكيل بالخصومة هي تصرفات قانونية كرفع الدعوى وتقديم الطلبات والطعون وانشاء التصرفات مع خصم الموكل ، عليه فان أحكام عقد الوكالة تسري على هذا العقد. لقد حظي هذا الراي بتأييد(2) جانب من الفقه العراقي والمصري ، ووصفه البعض(3) بانه أرجح الآراء التي قيلت بشان الطبيعة القانونية لعقد الوكالة بالخصومة ، هذا وتجدر الإشارة إلى ان العلامة السنهوري(4) يذكر ان المشرع كثيرا ما يضفي على المحامي – وهو احد وكلاء الخصومة – صفة الوكيل وعلى زبونه صفة الموكل وعلى العلاقة فيما بينهما صفة الوكالة او التوكيل.

ويبدو ان القوانين(5) المقارنة فعلا تضفي على الوكيل بالخصومة صفة الوكيل وعلى عميله صفة الموكل على العلاقة التي تحكمه بالوكالة او التوكيل، بل ان قانون المحاماة المصري(6) أعلن صراحة تبنيه لهذا الرأي عندما عد علاقة المحامي بالجهات التي يزاول أعمال المحاماة فيها علاقة وكالة ، كما أن قانون تنظيم مهنة المحاماة الفرنسي الصادر في 27 تشرين الثاني 1991 قطع الجدل بتكييفه العلاقة بين المحامي وزبونه بعلاقة وكيل بموكله. أما عن موقف القضاء فيبدو انه يأخذ بهذا الرأي في تكييف العلاقة بين الوكيل بالخصومة والموكل ، فقد قضت محكمة تمييز العراق(7) بان (إذا كان المحامي وكيلاً عن المدعي في الدعوى البدائية المرقمة (1285/1993) فلا داعي لتبليغ موكله اذا ما طعن بالحكم البدائي لدى محكمة الاستئناف ما لم ينص عقد الوكالة المبرم بينهما او القانون على خلاف ذلك). وقضت محكمة(8) النقض المصرية بان (علاقة الخصوم بوكلائهم علاقة وكالة لا يجوز للمحكمة ان تتصدى لها الا اذا أنكر صاحب الشأن وكالة وكيله).

وقضت محكمة التمييز الأردنية بانه(9) (ينبغي على عبارة ان الوكيل موكل تنظيم وتوضح وتقديم جميع الاستدعاءات والطلبات واللوائح الجوابية اللازمة)الواردة في وكالة المحامي أن العقد عقد وكالة ومن حق المحامي الوكيل إدخال آخرين في الدعوى بصفة مدعى عليهم، وعليه فان طلب الوكيل المحامي تعديل لائحة الدعوى وإدخال شخص آخر كمدعى عليه في الدعوى متفق وأحكام المادة (5/1) من قانون أصول المحاكمات الحقوقية). وعلى الرغم من التأييد(10) الذي حصل عليه هذا الرأي، فانه تعرض للنقد على أساس ان الوكالة بالخصومة تخول الوكيل صلاحية القيام بالأعمال المادية إلى جانب صلاحية القيام بالتصرفات القانونية ، بينما عقد الوكالة لا يخول الوكيل إلا صلاحية إنشاء التصرفات القانونية نيابة عن الموكل(11) . بمعنى آخر ان محل الوكالة بالخصومة يتكون من خليط من التصرفات القانونية والأعمال المادية بينما محل عقد الوكالة يتكون من تصرفات قانونية فقط ، كما ان الوكيل بالخصومة لا يتقيد في دفاعه أمام القضاء بوجهة نظر موكل وملزم(12) بان يسلك الطرق المشروعة التي يراها مناسبة للمرافعة والدفاع دون ان يلتزم بتوجيهات موكله ، بينما عقد الوكالة يلزم(13) الوكيل بالتقيد بوجهة نظر موكله وإتباع توجيهاته والعمل في حدود الصلاحيات المحددة له في عقد الوكالة دون تجاوزها.

ان القول بان محل عقد الوكالة يجب ان يكون تصرفا قانونيا لا يمكن الاخذ به في ضوء احكام القانون(14) المدني العراقي والاردني اللذين أجازا ان يكون محل عقد الوكالة تصرفاً قانونياً او عملاً مادياً او الاثنين معا. اما بالنسبة إلى عدم تقيد الوكيل بالخصومة في دفاعه امام القضاء بوجهة نظر موكله فان هذا الخروج عن الاصل يوجد ما يبرره كون الوكيل بالخصومة وبما يملكه من علم ودراية قانونية وخبرة عملية في مجال التقاضي أفضل من الموكل وأن الموكل عادةً يلجأ إلى الوكيل بالخصومة لعجزه عن ادارة خصومته وفقدانه أساليب الدفاع وجهالته لاصول المرافعة وقواعدها. لقد كان لهذا الخروج عن القواعد العامة لعقد الوكالة اثر لدى الفقهاء مؤيدي هذا الرأي، وحدا بالبعض(15) إلى القول ان الوكالة بالخصومة عقد يخضع لقواعد الوكالة في القانون المدني فضلا عن القواعد الخاصة التي تنظمه في قانون المرافعات او القوانين الأخرى كقانون المحاماة ، فهو عقد وكالة الا انه من نوع خاص(16).

ونعتقد بان الرأي القائل بان الوكيل بالخصومة عقد وكالة من نوع خاص هو أفضل ما قيل بشأن التكييف القانوني لهذا العقد لوجود اختلاف بين الوكالة بالخصومة والقواعد العامة لعقد الوكالة ، هذا الاختلاف(17) تفرضه طبيعة الخصومة وأعراف مهنة وكلاء الخصومة وتقاليدها، بحيث أدت إلى عدم تطبيق بعض القواعد العامة لعقد الوكالة على الوكالة بالخصومة ، ففضلا عن كون الوكالة بالخصومة عقد معاوضة(18) خلافا لأصل عقد الوكالة الذي يعد من عقود التبرع ، وان الوكيل بالخصومة لا يتقيد بتوجيهات الموكل وآرائه على خلاف القواعد العامة لعقد الوكالة ، فان الوكيل بالخصومة لا يستطيع مباشرة خصومة موكله ما لم يكن الموكل قد نظم سند الوكالة ، واذا باشر الوكيل بالخصومة خصومة الموكل قبل ذلك أو دون سند الوكالة أصلاً، فان الاعمال والاجراءات التي اتخذها الوكيل بالخصومة في هذه الحالة جزاؤها البطلان ولا تلحقها الاجازة وهي بحكم العدم تجاه الموكل وخصمه والمحكمة التي تنظر في النزاع لان القانون(19) يشترط صدور سند الوكالة اولا ومن ثم مباشرة الخصومة وكالة، وبهذا الاتجاه قضت محكمة استئناف نينوى(20) بصفتها التمييزية بان (المميزة لم تبرز وكالتها اثناء المرافعة ولم تشر إلى رقمها في العريضة الاعتراضية وبذلك فان قرار المحكمة المتضمن رد الاعتراض يجد له سنداً في القانون) ، وقضت ذات المحكمة بانه (كان على المحكمة في مثل هذه الحالة رد الاعتراض شكلا لكونه مقدم من شخص غير المعترض ولا يحمل صفة قانونية عنه تخوله ذلك لذا يعتبر الاعتراض غير قائم أصلا)(21).

وقضت محكمة التمييز الاردنية(22) بان (الاجازة اللاحقة في حكم الوكالة السابقة هو نص يتعلق بالعقود التي من نوع البيع والشراء والاجارة والرهن ولا يتعلق بالوكالة بالخصومة ، لان الخصومة من حق القانون تثيرها المحكمة من تلقاء نفسها ، ويتعلق بهذه الوكالة حق للغير بمجرد تقديم الدعوى او الدفاع ، فاذا اقيمت الدعوى بالاستناد إلى وكالة لم يوقعها شخص مفوض بالتوكيل ، ثم اعطيت وكالة ثانية من المفوض بالتوكيل تضمنت اجازة الإجراءات السابقة فان هذه الاجازة لا تصحح استدعاء الدعوى الباطل) وقضت(23) ذات المحكمة (ان الاجازة لا تلحق اجراءات الخصومة الباطلة ولا تصححها) ، كما قضت(24) بأن (الوكالة بالخصومة لاتصح إلا كتابة وان الوكالة اللاحقة لا تصحح الوضع اذا يشترط القانون لصحة الدعوى ان تكون مقامة في الأصل ممن يملك حق تقديمها). مما تقدم يفهم ان قاعدة الاجازة اللاحقة بحكم الوكالة السابقة والتي تعد من القواعد العامة التي تحكم عقد الوكالة لا تجد لها حيزا للتطبيق في الوكالة بالخصومة ، ويسري هذا الحكم ايضا في حالة تجاوز الوكيل بالخصومة الصلاحيات الممنوحة له والمدرجة في سند الوكالة(25)، بينما تقضي القواعد العامة(26) لعقد الوكالة بان تصرف الوكيل في مثل هذه الأحوال يعد تصرفا فضوليا موقوفا على إجازة الموكل ، والأكثر من ذلك ان القواعد العامة(27) لعقد الوكالة تجيز للوكيل الخروج في تصرفه عن حدود الوكالة متى كان من المتعذر عليه إبلاغ الموكل سلفا وكانت الأحوال يغلب معها الظن بان الموكل على الأرجح سيوافق على هذه التصرفات ولكن عليه في هذه الحالة احاطة الموكل علما بالتصرف الذي قام به تجاوزا على حدود عقد الوكالة.

هذا وتجدر الإشارة إلى ان الفقه(28) المصري يعد بطلان مباشرة الوكيل بالخصومة دون سند الوكالة او تجاوزه حدود الوكالة بطلانا نسبيا تلحقه الإجازة ويرد عليه التصحيح بمجرد إقرار الموكل بان الشخص المباشر لخصومته هو وكيله او تنظيم سند الوكالة بتاريخ لاحق على تاريخ مباشرة الخصومة. ويبدو ان القضاء المصري يشارك الفقه المصري في موقفه فقد قضت محكمة النقض(29) بان (مباشرة المحامي للإجراء قبل الحصول على سند بالوكالة لا تبطله طالما تأكدت صفته في مباشرته باصدار توكيل له)، وقضت(30) بانه (لا يجوز – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – ان تتصدى المحكمة لعلاقة الخصوم بوكلائهم الا اذا انكر صاحب الشأن وكالة وكيله ، فاذا باشر المحامي اجراء قبل ان يستصدر توكيلا له من ذوي الشان الذي كلفه بالعمل فلا يعترض عليه بان وكالته لم تكن قبل اتخاذ الاجراء ما لم ينص القانون على خلاف ذلك). كما وان من أوجه الاختلاف بين العقدين ، انه إذا تم تعيين عدة وكلاء بعقد واحد فانه يجوز في عقد(31) الوكالة بالخصومة لاحدهم الانفراد بالعمل ما لم يكن ممنوعا من ذلك بنص صريح في سند الوكالة، بينما تقضي القواعد العامة لعقد الوكالة في هذه الحالة بان عليهم –الوكلاء– ان يعملوا مجتمعين ، ويبرر الاستثناء الوارد على عقد الوكالة بالخصومة صعوبة اجتماع وكلاء الخصومة في جلسات المرافعة والإصرار على اجتماعهم يؤدي إلى إرباك عمل المحكمة ويسهم في تأخير حسم الدعوى نتيجة عدم حضور الوكلاء كلهم او ان الحاضر منهم غير مأذون له بالعمل على انفراد(32).

ومن أوجه الاختلاف بين العقدين ان الوكيل بالخصومة اذا كان قد باشر خصومة موكله فانه لا يستطيع بعدها ان يتمسك بقاعدة الدفع بعدم التنفيذ لإرغام الموكل على تنفيذ التزاماته تجاه الوكيل بالخصومة(33) ، وبهذا المعنى قضت محكمة تمييز العراق(34) بان (الثابت من أوراق الشكوى ان المميز (المحامي) لم يقم بالطعن بالحكم الصادر بحق موكله متذرعا ان موكله لم يراجعه لدفع رسم الطعن ، في حين كان عليه تقديم الطعن ضمن مدته المحددة وتسديد الرسم من ماله الخاص وعدم اضاعة فرصة الطعن على موكله لان رجوعه على الموكل بما انفق من مصاريف مضمون بنص القانون)، بينما يحق للوكيل بصورة عامة التمسك بقاعدة الدفع بعدم التنفيذ بغية اجبار الموكل على تنفيذ التزاماته في أية مرحلة من مراحل تنفيذ العقد. ومن أوجه الاختلاف ان المحامي بوصفه وكيلا بالخصومة يستحق(35) كامل الأتعاب المتفق عليها مع موكله في حالة عزله دون سبب مشروع بعد مباشرته خصومة الموكل ، بينما تقضي القواعد العامة(36) لعقد الوكالة بحق الوكيل الذي يعزل في وقت غير مناسب وبغير عذر مقبول بالتعويض عن الضرر الذي أصابه نتيجة هذا العزل. ومن أوجه الاختلاف الأخرى انه في حالة انتهاء الوكالة بالخصومة بالعزل أو الاعتزال فانه لا يحتج في مواجهة المحكمة بهذا الانتهاء ما لم يتم إشعارها تحريريا بذلك وتحقق احد أمرين هما إما تعيين وكيل بالخصومة بديلا عن الوكيل المعزول او المعتزل، او باعلان الموكل عن عزمه مباشرة الدعوى بنفسه دون وكيل وإلا فان المحكمة تستمر في سير الإجراءات في مواجهة الموكل(37).

ويبدو ان الحكمة من ذلك منع اتخاذ العزل أو الاعتزال سببا لتأجيل السير في إجراءات الخصومة وأسلوباً للمماطلة لما في ذلك من إعاقة لعمل المحكمة وتأخير في حسم النزاع ، بينما تقضي القواعد العامة(38) لعقد الوكالة ان انتهاء الوكالة بالعزل او الاعتزال يتحقق بحصول العلم للطرف الثاني على ان لا يحتج بهذا الانتهاء للوكالة تجاه الغير الحسن النية إلا بعد علمه به. وأخيراً فان بعض القوانين المقارنة(39) تجيز للوكيل بالخصومة ان ينيب عنه غيره من المحامين لمباشرة خصومة موكله ما لم يكن ممنوعا من توكيل غيره صراحة في سند الوكالة، بينما تقضي القواعد(40) العامة لعقد الوكالة بعدم أحقية الوكيل أن يوكل عنه غيره فيما وكل به الا إذا أذن له الموكل بذلك. ويبدو ان الحكمة في هذا الاختلاف ، انه في الوكالة بالخصومة قد تقتضي مصلحة الموكل قيام غير الوكيل بتنفيذ التزام المتمثل بمباشرة خصومة الموكل، وان الوكيل بالخصومة هو الأجدر بتقدير ذلك من الموكل نفسه لذا يعمد إلى توكيل غيره ما لم يكن ممنوعاً من ذلك صراحة، اما الوكالة في التصرفات فان الموكل هو الذي يقدر ذلك فاذا رأى ان مصلحته تقتضي إعطاء الوكيل حق إنابة الغير فيما وكل به منحه هذا الحق ، وان رأى خلاف ذلك قصر تنفيذ الالتزامات على الوكيل حصراً.

 

(محاماه نت)

إغلاق