دراسات قانونية

دراسة قانونية في العقد الطبي

العقد الطبي

الأستاذ حافـــظ بــن زلاط

باحث في قسم الدكتوراه

جامعة سيدي بلعباس

كلية الحقوق

الجزائر

مقدمة:

إن حياة الفرد هي بمثابة درب،تتخللها مشاكل مختلفة باختلاف مصدرها،ومن أهم المشاكل التي يخشى منها الفرد هي حالته الصحية،التي تقتضي عليه في حالة مرضه اللجوء إلى الطبيب.

المريض حين إقباله على الطبيب لطلب العلاج،فهو إما أن يتوجه إلى المستشفى أو المصحة العمومية،كما قد يختار و يتوجه إلى الطبيب الخاص،فيقصده إلى مخدعه الطبي أو عيادته الخاصة.

بمعنى أن العلاقة التي تربط بين الطبيب و المريض في الحالة الأولى،تختلف عن الحالة الثانية(1).

وكان في الماضي القريب لا يفرق القانون بين هاتين العلاقتين و يجعل أحكامهما على قدم المساواة،إلى غاية صدور قرار “مارسيي”الشهيربتاريخ20ماي1936عن محكمة النقض الفرنسية”الغرفة المدنية”الذي أحدث ثورة في الميدان الطبي،كونه أصبح يعترف بوجود عقد يربط بين الطبيب و المريض.

ومؤدى ذلك ان بين المريض و الطبيب الخاص،عقد حقيقي،و أن المفهوم الذي كان سائدا في القضاء الفرنسي قبل سنة 1936بإعتبار أن مسؤولية الأطباء تقصيرية حتى في حالة وجود عقد و اتفاق بين الطرفين لم يعد له معنى بعد صدور قرار “مارسيي”(2).

ولقد تبنت معظم التشريعات هذه الفكرة،بما فيها التشريع الجزائري،خاصة بعد انتشار ظاهرة الطب الحر أو الخاص،في الآونة الأخيرة،بشكل مفزع،لدرجة أن أصبح يزاحم بل قد يتعدى خدمات القطاع العام،وحتى الدول المتقدمة منها في بعض الأحيان،فلقد أصبح اليوم من بين العقود الأكثر استعمالا،فاتساع مجال استعماله بين الأفراد،أخد يثير الكثير من الانشغالات القانونية،و المشاكل العلمية،علما أنه عقد ينصب على أقدس مخلوق على وجه الأرض ألا وهو الإنسان(3).

ومن هنا نطرح التساؤل التالي:ماهي الطبيعة القانونية للعقد الطبي وما خصائصه؟

أولا:الطبيعة القانونية للعقد الطبي:

إن تنظيم العلاقة بين الطبيب و المريض و تحديد طبيعتها القانونية صعبة جدا،فلم يتطرق القانون المدني و لا القوانين الأخرى لهذه الطبيعة،مما اضطر الفقه إلى محاولة سد هذا الفراغ معتمدا على المصادر العامة للالتزامات و النظريات العامة للعقود.

فمنهم من يراه بأنه عقد وكالة ومنهم من يصنفه بأنه عقد عمل والبعض الآخر يجزم بأنه عقد مقاولة له أحكام خاصة.

1_ العقد الطبي عقد وكالة:

بالقدر الذي يتشابه العقد الطبي مع عقد الوكالة في بعض أحكامه،فإنه يختلف عنه في أحكام أخرى.

أ_ أوجه التشابه بين العقدين:

ذهب فريق من الفقهاء إلى تحديد طبيعة العقد الطبي كونه عقد وكالة.

وعقد الوكالة هو”عقد بمقتضاه يفوض شخص شخصا آخر للقيام بعمل شيء لحساب المكل و باسمه”(4).

فطرفي عقد الوكالة هما الموكل و الوكيل،وعلى الموكل أن يلتزم في حدود ما وكل إليه للقيام به لحساب موكله و باسمه.

فيرى أنصار هذا الرأي أن الموكل في العقد الطبي(المريض)يوكل الطبيب(الوكيل) للقيام بأعمال علاجية بغية شفائه، فبين الطبيب والمريض علاقة تعاقدية تدرج ضمن أحكام عقد الوكالة،ويذهبون لأبعد من هذا،إذ يقسمون طبيعة الخدمة المقدمة إلى نوعين:

_ فإذا كانت الخدمة المقدمة ذات طبيعة مادية فتطبق قواعد إيجار الخدمة.

_ أما إذا كانت طبيعة الخدمة المقدمة ذات طبيعة معنوية تطبق قواعد الوكالة(5).

غير انه يستحيل تصور العقد الطبي أنه بمثابة عقد وكالة نظرا للانتقادات الموجه لأصحاب هذا المذهب.

ب_ أوجه الاختلاف بين العقدين:

انتقد الرأي القائل أن العقد الطبي عقد وكالة في عدة جوانب من أهمها:

_ إن الطبيب لا يلتزم لموكله(المريض)للقيام بما وكل إليه أمام الغير،ولا يلتزم الغير في مواجهته،إذ يقوم بتقديم أعمال شخصية و تقديم خدمات كإجراء الفحوصات و التشخيصات باسمه وليس لغيره أو موكله كما هو الأمر في عقد الوكالة،إذ يتم ذلك بصفة محددة(6).

_ إن عقد الوكالة عقد تبرعي بدون مقابل إلا إذا كان هناك اتفاق مخالف لذلك،غير ان الغالب في العقود الطبية هي عقود بعوض(7).

_ إن عقد الوكالة يقتضي أن يكون قيام أعمال مفوضة للوكيل لحساب الموكل،غير أن الطبيب عند قيامه بأعماله تكون المذاخيل و الأتعاب لحسابه وليس لحساب الغير(8).

_ إن الوكيل مجبر أن يمد الموكل بالمعلومات الضرورية عما وصل إليه في تنفيذ الوكالة و أن يقدم له حسابا عنها،غير أن الطبيب غير مجبر بأن يمد المريض بكل المعلومات المتعلقة بتنفيذ أعماله،بل له أن يخبره فقط بالمعلومات المتعلقة بمرضه(9).

لهذا و نظرا للانتقادات الموجه لأنصار هذا الطرح،تم هجر هذا الرأي ليحل محله طرح آخر،باعتبار أن العقد الطبي عقد عمل.

2_ العقد الطبي عقد عمل:

يتشابه العقد الطبي مع عقد العمل في بعض أحكامه،ويختلف عنه في البعض الآخر.

أ_ أوجه التشابه بين العقدين:

هناك من يرى أن العقد الطبي بمثابة عقد عمل نظرا للعلاقة الرابطة بين الطبيب و المريض.

ولقد عرفت المادة 2من القانون 90_11 المتعلق بعلاقة العمل باعتبار العامل الأجير”كل شخص يؤدي عملا يدويا أو فكريا مقابل مرتب في إطار التنظيم و لحساب شخص آخر،طبيعي أو معنوي،عمومي أو خاص يدعى المستخدم”(10).

وبالمقارنة بين العلاقة التي تربط بين المريض و الطبيب و بين العامل و المستخدم يتضح لأن الطبيب يلتزم بالقيام بعمل خاضع للإشراف و الرقابة،وعليه أن يبدل جهدا و عملا يدويا و فكريا مقابل أتعاب،في إطار منظم و لحساب شخص.

ب_ أوجه الاختلاف بين العقدين:

بالرغم من تشابه العقدين،إلا أنه يجب الإشارة إلى أن العقد الطبي قد ينقلب إلى عقد عمل في حالة لو كان الطبيب خاضع لإشراف عميله،و أن هذا الإشراف و الرقابة يكون من الناحية الإدارية فقط،مع بقاء الطبيب مستقلا من الناحية الفنية،كحالة إذا ما كان الطبيب يعمل في مستشفى مثلا،أو كان طبيبا خاصا لأحد الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين،هنا قد تأخذ صورة الطبي مفهوم عقد عمل(11).

غير أن الطبيب قد يباشر عمله دون إشراف و لا رقابة من مستخدمه كحالة العيادة الخاصة،هنا يتنافى مفهوم عقد العمل مع العقد الطبي(12).

لهذا انتقد أيضا هذا الرأي، مما سمح ببعض الفقهاء الآخرين،على اعتبار العقد الطبي عقد مقاولة.

3_ العقد الطبي عقد مقاولة:

يتشابه العقد الطبي مع عقد المقاولة في كثير من أحكامه،إلا انه يختلف عنه في البعض الآخر.

أ_ أوجه التشابه بين العقدين:

هناك جانب آخر من الفقه،وعلى رأسه الأستاذ عبد الرزاق السنهوري،يرى أن العقد بين الطبيب و المريض هو عقد مقاولة.

المقاولة”عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين أن يصنع شيئا أو أن يؤدي عملا مقابل أجر يتعهد به المتعاقد الآخر”(13).

غير أن الأستاذ السنهوري(14)يميز المقاولة التي يعتبر بها العقد الطبي،عن بقية المقاولات بما يلي:

_ إن التزام الطبيب هو التزام ببدل عناية لا بتحقيق نتيجة،فالطبيب إنما يتعهد بعلاج المريض دون أن يلتزم بشفائه،أما غالبية عقود المقاولة فان المقاول يلتزم فيها بتحقيق نتيجة،فمقاولات تشييد الأبنية مثلا يتعهد بها المقاول بإنهاء البناء حسب المواصفات المطلوبة مما يتطلب تحقيق عناية.

_ إن المؤهلات الشخصية لطبيب هي محل إعتبار في التعاقد معه،لذلك العقد ينتهي بموته،كما لا يحق أيضا لطبيب أن يوكل أمر معالجة المريض إلى غيره من الأطباء،في حين يستطيع المقاول في كثير من عقود المقاولة أن يقاول من الباطن(15)،كما ان عقد المقاولة لا ينتهي تلقائيا بموت المقاول كما ينتهي العقد مع الطبيب بمجرد وفاته(16).

_ عند فسخ العقد الطبي يلتزم فاسخ العقد أن يعوض الطرف الآخر،دون أن يعوض المريض مافات الطبيب من كسب لو أتم العمل،على خلاف عقود المقاولة التي يوجب فيها القانون على رب العمل تعويض ما فاته من كسب لو أتم العمل،وهو مانصت عليه المادة 566من القانون المدني الجزائري(17).

ب_ أوجه الإختلاف بين العقدين:

بالرغم من أن هناك جانب كبير من الفقه العربي يؤيد رأي الأستاذ السنهوري في إعتبار أن العقد الطبي هو عقد مقاولة ذو أحكام خاصة،غير أن هذه الأحكام الخاصة-في اعتقادنا- بحد ذاتها تخرج العقد الطبي من دائرة عقد المقاولة،كون الطابع المميز لها في هذه الأحكام الخاصة،فمن باب الأولى أن لا يصنف و لا يعتبر عقد مقاولة،ويبقى العقد هو عقد طبي هذا من جهة. ومن جهة أخرى،فهناك من يرى أن عقد المقاولة عقد اقتصادي و تجاري بالدرجة الأولى و يهدف إلى توزيع الأشياء و البضائع،ومن تم فهو ينصب تماما على أعمال تختلف تماما عن المهن الحرة التي هي أعمال فكرية بالدرجة الأولى مثلها مثل العقود الطبية(18). . كما أن المقاول يعتبر تاجر في حين أن الطبيب ليس تاجرا(19).

و في الختام نخلص إلى أنه بالرغم من تضارب الآراء الفقهية حول الطبيعة القانونية للعقد الطبي إلا أنه يبقى عقدا يتميز بأحكام و خصائص متميزة عن سائر العقود(20).

ثانيا:خصائص العقد الطبي.

من خلال التطرق لطبيعة القانونية للعقد الطبي،يتضح بأنه يتميز بخصائص معينة.فهو عقد شخصي و مدني،عقد ملزم لجانبين و قابل للفسخ،و أنه عقد معاوضة و مستمر.

1_ العقد الطبي عقد شخصي و مدني:

إن العقد الطبي يعتبر عقدا شخصيا و مدنيا.

أ_ عقد شخصي:

في العقد الطبي نجد ان المريض يختار الطبيب الذي يتولى مهمة علاجه،وفقا لما له من مؤهلات،فالمريض يضع ثقته في الطبيب الذي يتولى علاجه باختياره الحر ماعدا في مستشفيات القطاع العام أو حالة الاستعجالات القصوى.

و لقد نصت الفقرة الثانية من المادة 80من المرسوم92-276المتعلق بأخلاقيات مهنة الطب على ضرورة احترام حق المريض في حرية اختياره لطبيب أو جراح الأسنان(21).

ولقد أكد الأستاذ السنهوري على هذه الاعتبارات بقيام العقد الطبي على مؤهلات شخصية التي هي محل اعتبار في التعاقد مع الطبيب.

ب_ عقد مدني:

إن مهنة الطب مهنة حرة،و أن العقد الطبي لا يخرج عن نطاق العقود المدنية،ولا يمكن تصنيفه ضمن العقود التجارية.

فالطبيب ليس تاجرا،كون التاجر هو” كل من يباشر عملا تجاريا و يتخذه حرفة معتادة له”(22)والطبيب عمله يتمثل في تقديم العلاج الصحي و الارشادات الطبية،التي هي بعيدة كل البعد عن الأعمال التجارية و لا يمكن تصنيف أعماله من قبيل الأعمال التجارية لا بحسب الموضوع و لا بحسب الشكل(23).

الطبيب عند حصوله على مقابل الأتعاب لا يمكن تفسير ذلك على ذلك تاجر،إنما يتحصل على الأتعاب مقابل الجهد المبذول من طرفه فقط،وليس بغرض الحصول على الفوائد و المضاربة على رأس المال كما هو الحال عند التاجر،إذ يمنع أي عمل طبي يكون الغرض منه جني الأرباح(24).

2_ العقد الطبي عقد ملزم لجانبين:

إن العقد الطبي عقد ملزم لجانبين و قابل للفسخ.

أ_ عقد ملزم لجانبين:

إن العقد الملزم لجانبين هو العقد الذي يرتب على عاتق المتعاقدين التزامات متقابلة و مرتبطة بعضها البعض(25).

ويرى المشرع الجزائري أنه تكون بصدد عقد ملزم لجانبين متى تبادل المتعاقدان الالتزام لبعضهما البعض(26).

فالعقد الطبي يلقي على عاتق الطرفين التزامات متقابلة،إذ يلتزم الطبيب بعلاج المريض و بدل العناية اللازمة و المطلوبة،وبالمقابل يقع على عاتق المريض التزام بمد الطبيب كافة المعلومات المتعلقة بمرضه،ودفع ثمن العلاج(27).

لذا فالعقد الطبي يعد عقد ملزم لجانبين.

ب_ عقد قابل للفسخ:

الفسخ هو جزاء يترتب على امتناع أحد المتعاقدين عن تنفيذ ما التزم به،ولقد نصت المادة 119من التقنين المدني”في العقود الملزمة لجانبين،إذا لم يوف أحد المتعاقدين بالتزامه،جاز للمتعاقد الآخر بعد اعذاره للمدين أن يطالب بتنفيذ العقد أو فسخه،مع التعويض في الحالتين إذا اقتضى الحال ذلك”(28).

غير انه لا مجال لتعريض حياة المريض للخطر بفسخ العقد في أي وقت كان،خاصة في حالة الاستعجال و الضرورة فلا يمكن ترك المريض أمام الخطر اللاحق به(29).

3_ العقد الطبي عقد معاوضة و مستمر.

من خصائص العقد الطبي أنه عقد معاوضة و مستمر.

أ_عقد معاوضة:

عقد المعاوضة هو العقد الذي يأخذ فيه المتعاقد مقابل لما يعطي(30).وكما نعلم فان الطبيب بمقابل تقديمه للعلاج و النصائح اللازمة للمريض،يلزم بالمقابل مع هذا الأخير ثمن العلاج.ولا مانع من أن يقدم الطبيب علاجا مجانيا لزميل له أو لأشخاص تحت كفالته أو لطلبة الطب،وإن مثل هذا التصرف لا يخرج العقد الطبي من كونه عقد بعوض،إذ العلاج المقدم مجانا لزملاء إنما بغرض المجاملة فقط.

ويبقى الأصل أن يتحصل الطبيب على قيمة مقابل تنفيذ التزامه،بحيث لا يفتقر عند تنفيذ ماالتزم به نتيجة الأتعاب المحصل عليها(31).

ب_عقد مستمر:

العقد المستمر(الزمني)هو الذي يكون فيه عنصر الزمن عنصرا جوهريا،حيث تقاس به التزامات المتعاقد أو محل العقد،فتكون التزامات المتعاقدين مقترنة بزمن،وقد يكون العقد المستمر محدد المدة أو غير محدد المدة(32).

فالمريض حينما يعالجه الطبيب ليس بمعنى أن العقد قد انتهى بمجرد انتهاء الفحص،بل العلاج يتطلب مهلة و مدة طويلة لبلوغ الهدف المرجى تحقيقه ألا وهو الشفاء(33).

فالعقد الطبي ليس كعقد البيع أين يستلم المشتري شيء المبيع،وفي نفس الوقت و فورا يدفع ثمنه.بل انه يتطلب مدة الزمن،لأن عملية العلاج عادة ما تتبع بعملية مراقبة مستمرة خاصة في العمليات الجراحية و أن أثر العلاج يتطلب مدة و زمنا معينا (34).

الخاتمة:

من خلال دراستنا للعقد الطبي،أنه لا يكاد يختلف كثيرا عن بقية العقود من حيث التكوين و الآثار المترتبة عنه،لكنه يتميز عن غيره من العقود كونه،يرد على جسم الإنسان.

وانطلاقا من هذه الفكرة،يتعين الإشارة إلى أن المريض عادة ما يكون ضحية الأعمال الطبية،خاصة في الآونة الأخيرة أين أصبح العقد الطبي من العقود الأكثر استعمالا.

ولا يخفى على أحد أن المريض لم يعد يجد تلك الطمأنينة أو الراحة التي يتوخاها من خلال توجهه إلى الطبيب،بل أصبح تخوفه من الأخطاء الطبية تفوق خوفه من مرضه الذي يعاني منه،مما يسبب زوال الثقة الرابطة بينه و بين طبيبه،التي هي أساس العقد الطبي.

 

(محاماه نت)

إغلاق