دراسات قانونية
وضع القضاء ومشكلة الإستقلال والإصلاح (بحث قانوني)
وضعية القضاء المغربي: إشكالية الاستقلال وسؤال الإصلاح
أحمد السكسيوي
باحث في العلوم القانونية والقضائية
طالب باحث بسلك الماستر قانون المنازعات العمومية بكلية الحقوق سلا، جامعة محمد الخامس الرباط,
تمهيد:
يعتبر القضاء الوجه الأهم للعدالة، والضامن لتنزيل القانون التنزيل السليم والصحيح، وان الحكم القضائي هو الغاية والأصل في أي منازعة يلتجأ بسببها إلى القضاء، والمقرر القضائي هو:
هو النتيجة القانونية الواقعية بالنسبة للقانون والواقع تترتب على عدد من المقدمات القانونية والواقعية القائمة على أساس من القانون ( نصوصه وأحكامه) وعلى أساس الواقع( وقائع محددة تثبت حق الخصم المدّعي) وعدد من المفردات الإثباتية (مستندات مكتوبة أو شهادة شهود)، وحيث لا يأتي الحكم من فراغ بل نتاج الاعتماد على شكليات وإجراءات محددة أو معروفة تأتي ثمرتها بالحكم إمّا لصالح الخصم المدعي أو لغير صالحه ، فإنه لا بد من مراعاتها، كل ذلك حسب أهمية الشكل المطلوب وفي ضوء الغاية من هذا الشكل ومكانته لدى القانون[1].
وبذلك وجب أن يكون معبرا عن سلطة قضائية مستقلة، تنطق باسم القانون والعدالة، من اجل حماية الحق وتكريس دولة الحق بالقانون، وتكريس هذا المبدأ المذكور سلفا لا يتأتى إلا اذا كان الحكم القضائي حكما متماسكا من ناحية الشكل والمضمون.
ويعتبر حق التقاضي مكفولا للجميع، والقضاء مهمة مقدسة عند الأمم المتحضرة،[2] لما يشمله من أهداف لحماية الحقوق بمفهومها الواسع، والقضاء يعتبر أسمى سلطة، لما يكرسه من مبدأ سيادة القانون، فالشعوب المتحضرة تحترم قضاءها، ويظهر جليا على أن القضاء لا يجب أن يكون محط ضغوط لا سياسية ولا اقتصادية أو اجتماعية تؤثر بذلك على جودة الأحكام [3] الصادرة عنه، وعن جودة الاجتهادات القضائية.[4]
وإن استقلال القضاء، هو المحور الأهم والأساسي في السير نحو إصلاح العدالة، هاته الأخير لا يمكن أن تتحقق، في غياب أحد مقوماتها الأساسية وهو استقلال القضاة وحماية هذا الاستقلال من أي تدخل وتأثير[5]، نخلص إذن من ما ذكر أعلاه، أن معظم الدول تهتم غاية الاهتمام، باستقلال السلطة القضائية، لما يحققه من تطبيق القانون، والرقابة على مختلف الأشخاص القانونية بما فيها الدولة نفسها.
و تقول الأستاذة نورة غزلان الشنيوي بهذا الصدد:
” نظرا لما للقضاء من درجة رفيعة واعتبارا للدور الحيوي الذي يؤديه في المجتمع، فإن الدولة ما فتئت تعتد به كدعامة لنظام حكم ديمقراطي تحمى في ظله الحقوق والحريات وتمارس فيه السلطة في إطار القانون، ولم تعد كمؤسسة تتولى فقط الفصل في النزاعات بين الأفراد والجماعات، وإنما أيضا كجهاز توجيه وضبط اجتماعي يقوم بوظيفته باسم الدولة، وكأداة للعدل وواجهة إشهارية يلعب الإعلام في بسطها على العيان دورا بارزا.
فرهانات العصر طرحت أمام الدولة مسؤوليات مختلفة، منها تنظيم القضاء ليتسنى له أن يشارك في التنمية بكيفية فعالة ومجدية وأن يواكب العولمة، وكذا تسليحه بالقوانين اللازمة التي من شأنها أن تساعده على النهوض بمسؤوليته “[6]
السؤال الذي يطرح نفسه:
ما مدى استقلال السلطة القضائية بالمغرب؟.
يستدعي منا السؤال السابق الاستدلال عليه وفق المحاور التالية:
أولا: أعطاب في استقلال السلطة القضائية بالمغرب
ثانيا: أفاق تطوير استقلال القضاء بالمغرب
ثالثا: وضعية القضاء الإداري بالمغرب
رابعا: مراقبة أداء الأحكام ونشر الأحكام القضائية بين تكريس دولة الحق بالقانون وتقييد سلطة القضاء
أولا: أعطاب في استقلال السلطة القضائية بالمغرب
لقد كان القضاء في المغرب، غير معترف به دستوريا كسلطة قائمة الذات، إلى جانب السلطتين التنفيذية والتشريعية، لكن ومع دستور 2011، سلك المغرب منهاجا مغيرا، على مستوى الاعتراف الدستوري بالسلطة القضائية، لقد جاء في الفصل 107 من دستور 2011 المغربي:
” السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية. الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية.”
ومن المسلم به بديهيا أن المضامين الدستورية، لا تتحقق لوحدها، دون تنزيل حقيقي على أرض الواقع، وبذلك هناك مجموعة من الإشكالات والمعيقات، التي تحول دون استقلال القضاء في المغرب، ويمكن إجمالها في الأتي:
التبعية لسلطة التنفيذية:
يلاحظ من خلال العمل القضائي أن القاضي المغربي خاضع خضوعا غير مرغوب فيه لوزارة العدل باعتبارها سلطة تنفيذية، ويمكن الاستدلال بقول الأستاذ عبد العزيز بناني:
“… من الملامح الأساسية للدولة التسلطية خضوع قضاتها لسلطتها السياسية، من ثم فإنه لا يمكن الفصل بين الديموقراطية واستقلال القضاء عن السلطة السياسية.”[7]
ونحن نؤيد هذا الطرح تأييدا تاما، فالدولة المغربية تتعامل مع القضاء بمنطق المهنة التابعة للحكومة كتجل أساسي للسلطة التنفيذية، وهدا أمر غير صائب يؤدي إلى جعل القضاء في يد الحكومة وبدلك يقضي على كل أمل في تحقيق دولة الحق بالقانون[8].
وليس ذلك فحسب بل عدم توطيد سلطة القضاء في عملية مراقبة أعمال الإدارة، وكما تحدت الأستاذ نبيل بوحميدي عن الحذر من دولة اللاقضاة في مقال منشور له، فإن الحذر كل الحذر من تحول القضاء كاللعبة في يد السياسي، و أن هناك ارتباك واضح في الارتقاء بالقضاء كالسلطة، ويتجلى هذا الارتباك في أن القضاء مازالت وزارة العدل تسير مرافقه وموارده البشرية بمنطق الإدارة العمومية.
الإشكالات في التنظيم القضائي المغربي:
إلى جانب التبعية للسلطة التنفيذية، والتي قوت المركز الإداري على حساب المركز القضائي، هناك جملة من الإشكالات الأخرى، والتي تحد من مسلسل إصلاح العدالة، هده الأخيرة التي ترتكز أساسا على استقلال القضاء، باعتباره الضامن الأساسي لتطبيق العدالة.
أول هاته المشاكل، هي إشكالية توزيع المحاكم، وهذا ما يظهر وبقوة في المحاكم الإدارية، التي تتواجد في المدن الكبرى دون باقي المدن، مما يجعل التقاضي ضد الإدارة أمر يرهق المواطن ماديا ومعنويا.
عدم تنزيل الاختصاص الوظيفي بالمغرب، حيث ما زال المشرع المغربي يأخذ بتوحيد التنظيم القضائي في محكمة النقض، هذا يطرح إشكالات متعددة على مستوى النظر في القضايا والمنازعات، فيؤدي بذلك إلى بطء المسطرة، وكذلك عدم وجود عدد كافي من القضاة المتخصصون في المنازعات الإدارية والتجارية.
إشكالية أخرى متمثلة في عدم تنفيذ الأحكام القضائية، لأن تنفيذ المقررات القضائية هو الأمر الأهم في المسطرة القضائية، وعدم التنفيذ يفقد القضاء هيبته وسلطته، وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنة ” لا ينفع التكلم بحق لا نفاد له “، فما جدوى المقرر القضائي إن لم ينفد على ارض الواقع، وخصوصا المقررات الصادرة ضد الدولة والتي في الغالب لا تنفد، هذا ما يؤدي كذلك إلى إشكال حقيقي في مسألة استقلال القضاء.
من خلال كل ما سبق نخلص إلى أن القضاء يعاني من مجموعة من المشاكل التي تعيق استقلالية سلطته. ثانيا: أفاق تطوير استقلال القضاء بالمغرب
إذن كيف يمكن النهوض باستقلال القضاء بالمغرب، هذا السؤال يمكن الإجابة علية في ظل المعطيات السابقة التي سبق البيان عليها أعلاه:
أولا، وقبل كل حديث عن إصلاح القضاء والعدالة بالمغرب، يجب على السلطة القضائية أن تتخلص من التبعية إلى السلطة التنفيذية، وعدم تضييق الخناق على السادة القضاة، والمغرب صار في هذا التوجه من خلال التنصيص الدستوري على استقلال القضاء صراحة عن باقي السلط، وبإعادة النظر في تركيبة المجلس الأعلى للقضاء( المجلس الأعلى للسلطة القضائية ) وذلك بإلغاء عضوية وزير العدل في المجلس والتي كانت محل انتقاد باعتبار وزارة العدل مؤسسة تنفيذية ومن شان ذلك ان يؤثر على استقلال سلطة القضاء، هذا بالإضافة إلى بعض المبادئ والضمانات الدستورية التي من شانها تعزيز هذه الاستقلالية وترسيخها.[9]
ثانيا، محاولة احترام القضاء، من خلال تنفيذ أحكامه وقراراته، والتشديد على المسؤولية الجنائية للممتنع عن التنفيذ، تنزيل الفصل 266 والدي جاء فيه:
” في قضية ما. يعاقب بالعقوبات المقررة في الفقرتين الأولى والثالثة من الفصل 263 على:
1 – الأفعال أو الأقوال أو الكتابات العلنية، التي يقصد منها التأثير على قرارات رجال القضاء، قبل صدور الحكم غير القابل للطعن
2 – الأفعال أو الأقوال أو الكتابات العلنية، التي يقصد منها تحقير المقررات القضائية، ويكون من شأنها المساس بسلطة القضاء أو استقلاله.”
ثالثا، وجب التفكير في مجلس الدولة أو المحكمة الإدارية العليا لتتوج التنظيم القضائي وتقوي استقلالية السلطة القضائية، وتعزيز مراقبة أعمال الإدارة، لأن دولة الحق بالقانون يجب أن تراقب أعمالها أولا، قبل أي تقييد أو مراقبة لأفراد المجتمع، وليس هذا فحسب بل التوجه نحو تأسيس محكمة تجارية عليا توحد مختلف الاجتهادات القضائية في المادة التجارية، ومحاولة إجاد لبنات أساسية لتوزيع المحاكم التجارية و الإدارية، حتى يتمكن المتقاضون من الاستفادة من حق التقاضي، دون أي عناء مادي ومعنوي.
رابعا، كفانا إذن من المزايدة في قضية التسوية المادية للقضاة باعتبارهم محور السلطة القضائية بالمغرب، والناطقون الرسميون باسم العدالة والحق والقانون، كيف يعقل أن يكون للوزراء هيبة الدولة، وكذلك منحهم ضمانات مادية وقانونية، والبرلمانيون الحصانة، أما القضاة فيتم المزايدة عليهم وعلى قضائهم، فبالنسبة لي أنا أن القضاء يجب أن يكون أهم من الوزراء والبرلمانيون باعتبارهم حماة العدالة، لان شعارات التي ترفع بأننا يجب أن نسير نحو دولة الحق بالقانون، لا يتأتى إلا بتسوية الأوضاع المادية والقانونية للقضاة.
ثالثا: وضعية القضاء الإداري بالمغرب
لا يمكن أن تمارس على الإدارة التقييد، دون وجود سلطة قضائية تراقب أعمال الإدارة والمتمثل بالأساس في القضاء الإداري، إن الإدارة تكتسب سلطات واسعة على أرض الواقع، بعيدا عن التقييد القانوني، وبذلك فالحل الوحيد من أجل الحد من سلطاتها، هو القضاء الإداري، الذي يشكل ضمانة أساسية وفعلية في يد المواطن، وعلى غرار باقي الدول الأخرى فان القضاء الإداري يحتل مكانة متميزة في المغرب، فالطريق لدولة الحق بالقانون، لا يمكن السير فيه دون مراقبة الدولة نفسها.
وهذا ويعد القضاء الإداري ملجأ المظلوم ومتضرر بالأعمال وتصرفات الإدارة بالإضافة للتحكيم كآلية استثنائية[10]، قصد الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم وحل نزاعات مع الإدارة، وهذه الأخيرة كسلطة عامة تستهدف تحقيق المصلحة العامة في قيامها بأنشطتها ومهامها قد تتجاوز السلطة أو تتعسف في استعمالها، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى المساس بالحقوق والحريات.[11]
لكن لا يمكننا القول بأن القضاء الإداري بالمغرب ليس في المستوى، فمن نحن لنقول هذا، بل العكس من ذلك أتبث القضاء الإداري جدارة وقوة في أحكامه، واجتهادا قضائيا أغنى به القانون الإداري الذي يعتبر قانونا قضائيا بالدرجة الأولى، وأخص بالذكر محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط، باعتبارها المركز الأساسي للقضاء الإداري بالمغرب، إلى جانب الغرفة الإدارية بالمحكمة النقض.
وفي انتظار تنزيل حقيقي للاختصاص الوظيفي والذي سيضمن تأسيس محكمة إدارية عليا توحد الاجتهاد القضائي في المادة الإدارية، لكن رغم الفعالية والنجاعة على مستوى إصدار المقررات القضائية ضد الدولة، والتي يعيشها قضائنا الإداري، فإن هناك عديد من المشاكل التي يطرحها القضاة الإداريون أنفسهم، يعاني منها القضاء الإداري، ويمكن إجمالها في مستويين:
على المستوى الشكلي: والمتمثل أساسا في التنظيم القضائي الإداري و الموارد البشرية، وكل ما له علاقة بالجانب الشكلي والإجرائي في المنازعات الإدارية.
على المستوى الموضوعي: أي مضمون المقرر القضائي ومواجهته لدولة باعتبارها طرفا في العلاقة حيث نقصد بالقضاء الإداري ذلك القضاء المتخصص في نظر المنازعات القضائية التي تكون الإدارة طرفا فيها باعتبارها سلطة عامة تتمتع بها تضفيه عليها هذه السلطة من مزايا خاصة.
رابعا: مراقبة أداء الأحكام ونشر الأحكام القضائية بين تكريس دولة الحق بالقانون وتقييد سلطة القضاء
أقدمت جمعية عدالة إلى التفكير بمشروع لمراقبة أداء المحاكم ونشر الأحكام، وقدم هذا المشروع في ندوة بالرباط في 28/2/2014، وبحضور السفير الهولندي.
والرأي في ما أعتقد أن هذا الأمر ليس بجديد بل إن مختلف المجالات القانونية سوءا الالكترونية أو الورقية تخصص ركنا لنشر الأحكام وتعليق عليها، وبذلك وجب أن يعطي هذا المشروع الدفعة القوية، للمثابرة على هذا العمل، وكما يقول الفيلسوف والمفكر طه عبد الرحمان:
أن العمل القانوني منقسم إلى عمل تشريعي يحاول أن يضع لنا القواعد القانونية لتنظيم مختلف الظواهر الاجتماعية، والى عمل قضائي الذي يعمل بسم القانون، ويقوم بتحريك القواعد القانونية من جمودها وبذلك يساعد على تطوير النص القانون، ومنقسم كذلك إلى عمل فقهي يحاول أن يكون مراقبا وشارحا للقانون.
ولا ضير من أن نجزم القول، بأن هذا الثالوث لا يمكن أن يمارس عمله دون الأخر، وبما أن القضاء والفقه يعملان بجهد لشرح القاعدة القانونية وإظهار نواقصها، وبذلك تحفيز السلطة التشريعية على سن القانون بنوع من الجد. فان لا مانع من نشر الأحكام القضائية وتعليق عليها حتى يتمكن المواطن والباحث، من الاطلاع على مستوى التي وصلت إليها المقررات القضائية ومدى جودتها، وهذا يجعل القاضي أكثر حرصا على تطبيق العدالة التطبيق السليم.
لكن وجب التلميح لنقط التالية:
أن هذا المشروع جاء لتأسيس لجنة علمية تراقب لنا الأحكام، وهذا أمر مهم وجيد لتكريس دولة الحق بالقانون، لكن لا يجب أن يستخدم هذا المشروع من أجل ضرب كل سلطات القاضي. والعمل على تكريس المصالح الخاصة.
ورغم لما لهذا المشروع من ايجابيات، فانه سيفتح النقاش على مستوى المس باستقلالية القضاء.
والخوف كل الخوف أن نسقط في حفرة التشويش على قناعات القاضي وقرارته، وهذا ما يتعارض مع الفصل 266 والدي جاء فيه:
” في قضية ما. يعاقب بالعقوبات المقررة في الفقرتين الأولى والثالثة من الفصل 263 على:
1 – الأفعال أو الأقوال أو الكتابات العلنية، التي يقصد منها التأثير على قرارات رجال القضاء، قبل صدور الحكم غير القابل للطعن.
2 – الأفعال أو الأقوال أو الكتابات العلنية، التي يقصد منها تحقير المقررات القضائية، ويكون من شأنها المساس بسلطة القضاء أو استقلاله.”
لكن عموما نرى أن هناك نية سليمة في نشر الأحكام وتقويمها لكن لا يجب أن يكون التقويم لكل من هب ودب.
خلاصة:
من خلال ما تقدم نخلص إلى أن شوط إصلاح منظومة العدالة لطويل جدا، ويجب المثابرة عليه، والتضامن بين كل الفاعلين والمؤسسات، وكما رأينا فإن إشكالية استقلال القضاء بالمغرب لموضوع من بين المواضيع التي إن تم إصلاحها، سنصلح بذلك العدالة بالمغرب.
(محاماه نت)