دراسات قانونيةسلايد 1
دراسة حول أسباب إمتناع المسئولية الجنائية في القانون الجنائي الدولي
تمهـــــيد
لا يُعد الفعل أو الترك جريمة دولية إذا كان مسموحًا به ومبررًا في العرف الدولي، ولم يجرم في المعاهدات والقوانين الدولية، وهذه الأفعال لا تُعد جرائم أصلاً.
ولكن هناك جرائم دولية ترتكب بالفعل ولكن ظروف واعتبارات معينة تحيط بالإرادة تجعل الفعل مبررًا، ومن أمثلة ذلك الدفاع الشرعي، و سلوك يرتكب استعمالاً لحق المعاملة بالمثل، مقاومة الشعب المحتل لقوات الاحتلال، مقاومة التمييز العنصري، والحق المستمد من قانون الحرب.
وقد نصت المادة 3 من نظام روما الأساس للمحكمة الجنائية الدولية على حالات امتناع المسئولية على نحو قريب من التشريعات القضائية الداخلية، وقد ضمت حالة الدفاع الشرعي وهو سبب للإباحة، أي من أسباب امتناع المسئولية وقد عدت أسباب امتناع المسئولية في المرض أو القصور العقلي، السكر الإجباري، الدفاع الشرعي، الإكراه، الغلط في الوقائع والغلط في القانون، وأوامر الرؤساء ومقتضيات القانون.
أولاً: حالة الدفاع الشرعي:
الدفاع الشرعي هو إتاحة الفرصة للإنسان أن يرد القوة بالقوة. وهو حق بالنسبة للمعتدى عليه، فمن الطبيعي أن يذود كل إنسان عن نفسه، فمن غير المعقول أن يترك الإنسان غيره يزهق روحه أو يعتدي عليه أو يسلب ماله دون أن يستخدم حقه الطبيعي في الدفاع عن نفسه، ومن أجل ذلك نجد أن كل التشريعات الدولية والداخلية تعدم مسئولية أي إنسان عند استخدامه حقه في الدفاع الشرعي.
وأباح “مونتسكيو” في كتابه روح القانون للدولة كما للفرد حق الحرب للدفاع عن نفسها، ولكي تحمي حقها في البقاء.
وظهرت في الكثير من الاتفاقيات ما يتيح للدول شن الحرب للدفاع الشرعي، وقد بدأت معالم الدفاع الشرعي أكثر وضوحًا مع ميلاد منظمة الأمم المتحدة سنة 1945م، إذ نص الميثاق على منع اللجوء للقوة مطلقًا (م 2/4) كما نص على الدفاع عن حق الدولة المعتدى عليها في الميثاق.
ويعرف الدكتور محمد خلف الدفاع الشرعي في القانون الدولي بأنه “الحق الذي يقرره القانون الدولي لدولة أو لمجموعة دول باستخدام القوة لصد عدوان مسلح حال يرتكب ضد سلامة إقليمها واستقلالها السياسي، وشريطة أن يكون استخدام القوة هو الوسيلة الوحيدة لدرء ذلك العدوان ومتناسبًا معه”.
ولهذا اعتبرت الحرب التي تقوم بها دولة لرد العدوان الواقع عليها من دولة أخرى حرب مشروعة واستخدامًا لحقها في الدفاع الشرعي، أي أن الدفاع الشرعي حق طبيعي أساسه أن مصلحة الدولة المعتدى عليها جديرة بالعناية، ولهذا يضحي القانون بمصلحة الدولة المعتدية وتكون تدابير الدفاع الشرعي داخلة في دائرة الإباحة.
وقد شرع حق الدفاع الشرعي بنص اتفاقي دولي حيث نصت م51 من ميثاق الأمم المتحدة “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول فرادى أو جماعات في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلام والأمن الدوليين”.
كما يظهر إقرار حق الدفاع الشرعي واضحًا في استقراء أحكام المحاكم العسكرية الدولية (نورمبرج وطوكيو) وإن أغفل النص صراحة حق الدفاع الشرعي أسوة بما نصت عليه صراحة في مجال المنع العام للجوء للقوة.
وينظم القانون الدولي مباشرة الدولة لهذا الحق فيشترط ما يلي:
1- أن يكون استخدام الدولة لحق الدفاع الشرعي لرد عدوان مسلح حال أو وشيك الوقوع عليها، ويوصف العدوان بأنه غير مشروع إذا استخدم ضد سلامة إقليم الدولة أو استقلالها السياسي وأن يكون على جانب من الخطورة.
2- أن يكون استخدام القوة هو الوسيلة الوحيدة لصد العدوان، وأن يكون بقدر متناسب معه، وإذا زاد عن حق الدفاع أو كان بقدر أكبر وبحجم غير لازم أصبح عدوانًا يحق للدولة الواقع عليها الدفاع الشرعي عن نفسها.
3- أن يبلغ مجلس الأمن فورًا بالتدابير التي اتخذتها الدولة استعمالاً لحقها في الدفاع الشرعي.
4- أن توقف الدولة الأفعال التي ترد بها الاعتداء إذا صدرت قرارات من مجلس الأمن تتضمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين.
تعريف العدوان يُواجه بحق الدفاع الشرعي:
اختلفت الدول على تعريف العدوان، واستمر هذا الخلاف لمدة زادت عن ربع قرن، ولم يتم الاتفاق على تعريف العدوان حتى الآن، بل كان هناك اتجاه معارض لتعريف العدوان تتزعمه الولايات المتحدة، بحجة أن تركه كعرف دولي أفضل وأن الصلاحيات التي أعطيت للأمم المتحدة بموجب ميثاقها تغني عن إيجاد التعريف.
وانقسمت الدول التي نادت بضرورة صياغة تعريف للعدوان إلى 3 اتجاهات، الأول: يطالب بإيراد تعريف عام لفكرة العدوان، وقد طرحت عدة تعاريف منها تعريف الأستاذ بيلا بأنه ” كل لجوء إلى القوة من قبل جماعة دولية فيما عدا حالتي الدفاع الشرعي والمساهمة في عمل مشترك تعتبره الأمم المتحدة مشروعًا”، كما عرفه الفارو، دون ديو دي فابر، وغيرهم ويؤخذ على هذه التعريفات أنها غامضة وبصيغ عامة تتطلب إيضاحًا وتفسيرًا، وأما الاتجاه الثاني: فهو الاتجاه الحصري الذي يرى إعطاء حصر للأفعال والصور التي تُمثل عدوانًا، وظهر هذا الاتجاه وتبلور في مؤتمر نزع السلاح الذي ضم 61 دولة اجتمعت سنة 1933م.
ومن التعاريف التي قدمت يمكن إجمال الصور التي طرحت لتمثل العدوان ما يلي:
• إعلان دولة الحرب على دولة أخرى.
• غزو إقليم دولة حتى لو لم يكن هناك إعلان حرب.
• إنزال دولة قواتها المسلحة البرية أو البحرية أو الجوية داخل حدود دولة أخرى دون موافقة من حكومتها.
• الإخلال بشروط التصريح الممنوح للقوات المسلحة لدولة على أرض دولة أخرى، ويكون الإخلال بالشروط فيما يتعلق بسريان مدة إقامتها أو المساحة التي تقيم عليها.
• حصار الدولة لشواطئ أو موانئ دولة أخرى.
• مساعدة عصابات مسلحة تقيم على إقليمها لغزو دولة أخرى أو رفض مطالب الدولة الأخرى في قطع العون والمساعدة عن تلك العصابات.
وهناك اتجاه ثالث تبنى موقفًا وسطًا بين الاتجاهين السابقين لا يكتفي بتعريف العدوان ولا يقدم كل صور العدوان على سبيل الحصر، بل يقدم تعريفًا للعدوان وبعض الصور على سبيل الاسترشاد بها، وقد حظى هذا الاتجاه الأخير بتأييد جانب كبير في الفقه الدولي، وقد أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 3314 (29) لسنة 1974م، حيث اعتبر أن الصور التي أوردها للعدوان على سبيل المثال لا الحصر، وأن في استطاعة مجلس الأمن أن يعتبر صورًا غيرها عدوانًا لأحكام الميثاق.
وقد عرفت المادة الأولى من الميثاق العدوان بأنه “استخدام القوة المسلحة بواسطة دولة ضد السيادة أو السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لدولة أخرى، أو بأي شكل يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة”.
ونصت المادة الثانية على 7 أمثلة لصور العدوان، ونصت المادة الرابعة أن تلك الصور هي على سبيل المثال لا الحصر، كما أعطت المادة السابعة الحق للشعوب الخاضعة للاستعمار أو نظم الحكم العنصرية أو للأشكال الأخرى من السيطرة الأجنبية حق الكفاح من أجل تقرير المصير والحرية والاستقلال.
تجاوز حق الدفاع الشرعي:
ويعني أن تكون درجة ووسائل الرد أكبر بكثير من درجة ووسائل العدوان، أي أن يكون هناك تجاوز من قبل مستعمل حق الدفاع الشرعي في القدر اللازم لدفع العدوان، وتجاوز حق الدفاع الشرعي أو عدم توافر شروطه يعتبر جريمة تستوجب العقاب، وتكون عقوبة التجاوز بحسن نية أقل من عقوبة التجاوز العمدي في القانون الدولي والداخلي على السواء.
ثانيًا: حــالة الضــرورة:
وهي حالة تقوم في القانون الجنائي الدولي والداخلي على السواء، وإن كان تطبيقها أوسع على النطاق الداخلي، ويقصد بها بصفة عامة الحالة التي تقتضي التضحية بإحدى مصلحتين مشروعتين عند القضاء بينهما، ويقصد بها في القانون الجنائي الدولي الحالة التي تواجه فيها الدولة خطرًا حقيقيًا حالاً أو وشيكًا يهدد كيانها ووجودها الإقليمي والشخصي أو نظام الحكم فيها، وترى هذه الدولة أنه في الحفاظ على استقلالها وأهليتها الأولية ما يبرر انتهاك المصالح الأجنبية لدولة أخرى يحميها القانون الدولي.
وقدم “جلاسر” مثلاً لها بحالة ما تكون الدولة مهددة بمقتضى تقديرها الموضوعي للأمور بخطر جسيم حال أو وشيك الوقوع يهدد وجودها أو نظامها الاجتماعي الأساسي أو شخصيتها أو استقلالها، بحيث لا تستطيع تفاديه إلا بإهدار مصالح أجنبية مشروعة بمقتضى أحكام القانون الدولي.
والمصلحتان التي يفاضل بينهما في حالة الضرورة مشروعتان، ففي حالة الدفاع الشرعي فالحق الذي يزاوله المدافع يواجه فعلاً غير مشروع ويواجه آثمًا، أما في حالة الضرورة فيوجه الاعتداء إلى مصلحة بريء.
ونظرًا لخشية الفقه الدولي الحديث من اتخاذ حالة الضرورة كحجة لتبرير الجرم الدولي أو لدفع المسئولية الناشئة عنه فقد رفض الاعتراف بها سواء أكانت كسبب إباحة أو مانع من موانع المسئولية، وكذلك فعلت محكمة نورمبرج إذ رفضت حالة الضرورة كمانع مسئولية بصفة عامة في دفوع التهميش من مجرمي الحرب.
وقد اعترف الفقه الدولي والسوابق القضائية بحالة الضرورة إذا كانت بين فردين أو أكثر متمتعين بالشخصية الدولية إذا كانت ذات صفة حربية، بشرط أن تكون في إطار ما تقتضيه قوانين الحرب وعاداتها.
ولكن هناك إجماع على أن الاستخدام المانع فيه لحالة الضرورة يفقد قوانين الحرب فاعليتها وحتى وجودها، لأنها كثيرًا ما تستخدم من جانب المنتصر لتبرير جرائمه التي سلكها، وتكون مخالفة لقواعد قانون الحرب.
وقد أكدت اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها الصادرة سنة 1949 على عدم ضرب الأهداف المدنية أو السكان المدنيين، ومراعاة مبدأ الإنسانية وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تقييد استخدام حالة الضرورة، وقد أكدت على عدم وجود أية ضرورة مهما كان نوعها تبيح الاعتداء على المدنيين فحظرت تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، كما حظرت كذلك مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين مهما كان الباعث، سواء لتجويعهم أو لحملهم على النزوح أو لأي باعث آخر.
ثالثاً: تنفيذ أمر الرئيس الأعلى:
يُعد تنفيذ أمر الرئيس الأعلى من أسباب الإباحة التي إذا توافرت شروطها امتنعت المسئولية، وبالتالي فطاعة أمر الرئيس في القانون الداخلي يزيل عن الفعل وصف الجريمة، أما في القانون الدولي فإن الفقه الجنائي الدولي والمبادئ المستخلصة من محاكمات نورمبرج لا تعتبر أمر الرئيس الأعلى سببًا لعدم مشروعية الفعل. ويبرر هذا المبدأ بسمو القانون الدولي الجنائي على القانون الداخلي لأن الواجبات الدولية المفروضة على الأفراد مقدمة على واجب الطاعة لأوامر الدولة التي يتبعونها. كما فرق البعض بين تنفيذ المرؤوس لأمر قانوني أو غير قانوني؛ وأكد على مسئولية المرؤوس في الحالة الثانية، ولا يجوز له الدفع بوجود أمر من القيادة لانتفاء مسئوليته، وهذا الرأي يؤكد على أن التنفيذ حتى في ميادين المعركة لا يكون إلا للأوامر القانونية. وهناك آراء فقهية عديدة للتفرقة بين الأمر القانوني وغير القانوني.
وقد أقرت محكمة نورمبرج أن الأمر الصادر للجندي بالقتل والتدمير خلافًا لما تقضي به القوانين الدولية للحرب لا يمكن أن يبيح ما يصدر من هذا الأخير من جرائم.
وأكد المبدأ الرابع من مبادئ نورمبرج على عدم إعفاء مقترف الجريمة الدولية إذا نفذها بناءً على أمر صادر له من رئيسه الأعلى مادام الجاني كان حرًا في الاختيار.
وقد اعتبرت اتفاقيات جنيف الرئيس الذي أصدر أمره لمرؤوسيه بارتكاب إحدى الجرائم الجسيمة فاعلاً أصليًا، وهذا الاعتبار مخالف للقواعد العامة التي تقضي باعتبار الرئيس شريكًا في الجريمة التي يأتيها مرؤسيه.
ويحدد مشروعية الفعل المرتكب أو عدم مشروعيته ما ورد في القانون الدولي الاتفاقي أو العرفي.
ونظرًا لقيام الحياة العسكرية على واجب طاعة المرؤوس لرئيسه فيذهب اتجاه في الفقهاء إلى اعتبار أمر الرئيس سببًا من أسباب الإباحة مستندًا إلى أن المرؤوس يكون في ظل النظام العسكري في حالة إكراه أدبي، مما يبرر عقاب الرئيس فعلاً وإعفاء المرؤوس.
وقد نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على ألا يكون الامتثال لأمر الحكومة أو الرئيس عسكريًا كان أو مدنيًا سببًا للإعفاء من المسئولية، ومع ذلك فإن طاعة أمر الرئيس تكون مانعًا للمسئولية في حالتين هما:
1- أن يكون على الشخص التزام قانوني بهذا الامتثال.
2- إذا كان الشخص جهل الصفة غير المشروعة.
وقد اشترط النظام الأساسي للمحكمة أن يكون عدم مشروعية الأمر ظاهرًا، وتكون كذلك في حالتي الأمر بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية.
أما في جرائم الحرب فإن عدم المشروعية الظاهر رهن بتقدير المحكمة. وعلى الرغم من أن جميع الجرائم التي ترتكب ضد المدنيين في زمن النزاعات المسلحة غير قانونية، إلا أنه سيظل الدفع بارتكاب الجرم الدولي تنفيذًا لأمر أعلى على ساحة المحاكم لتخفيف العقاب، والمجتمع الدولي مازال يأمل في عامل الردع للرؤساء حتى لا يتجرأوا على القانون والحق عند إصدار الأوامر، ويكون هذا الردع ضمانة أكيدة لحماية المدنيين وقت النزاعات المسلحة والحروب.
رابعاً: الإكـــــــــراه:
الإكراه يجعل الشخص مجبرًا على تنفيذ السلوك المُجَرَّم. ويرتبط الإكراه بتنفيذ أمر الرئيس الأعلى؛ وقد رفضت محكمة نورمبرج جميع الدفوع المتعلقة بالدفوع تحت الضغط والإكراه، مبررة ذلك بصعوبة تقدير حجم الإكراه ومداه اللازم لانتفاء القصد الجنائي.
كما أخذت المحكمة بمعيار المواءمة بين ما يترتب على رفض تنفيذ الأوامر من مخاطر، والنتائج الأكثر خطورة المصاحبة للفعل المرتكب في حالة إطاعة الأوامر.
خامساً: المعاملة بالمثل (القصاص):
يُقصد بالمعاملة بالمثل الإجراءات القسرية المخالفة للقواعد العادية للقانون الدولي تتخذها دولة في أعقاب أعمال مخالفة للقانون ترتكبها دولة أخرى إضرارًا بها، وتهدف إلى إجبار هذه الدولة على احترام القانون.
ويسميها جانب من الفقه بالقصاص أو الانتقام وتأييدًا لذلك يعرفها البعض بأنها “رد مثل الأذى على فاعله” وهذا الفعل غير جائز ومجرم في القانون الداخلي، لأن الانتقام والقصاص أمر متروك لقضاء الدولة.
أما المجتمع الدولي الذي يفتقر إلى السلطة العليا التي تفرض أوامره وأحكامه بالقصاص من المخطئ، فإن دولة قد تلجأ إلى الانتقام بنفسها أو القصاص أو المعاملة بالمثل لإجبار الدولة الخصم على الخضوع لأحكام القانون الدولي، وتعديل تصرفها مثار الشكوى وسبب النزاع.
ولاشك أن العلم باحتمال قيام الدول بالمعاملة بالمثل أو القصاص يجعل الدول تتردد في ارتكاب جريمة قد تقابل بمثلها، أي أن المعاملة بالمثل تحقق هدف وقائي هو إيقاف الدولة المعتدية من الاستمرار في عدوانها مع التعويض عن الضرر، أي لا يتصور حدوث المعاملة بالمثل أو الانتقام إلا بعد تمام وقوع العدوان.
وقد حددت محكمة للتحكيم في 21 يوليو سنة 1928م بصدد دعوى رفعتها التشيك ضد ألمانيا نتيجة لغزو الجيوش الألمانية لانجولا البرتغالية، وقد دفعت ألمانيا مسئوليتها بأن هذا الغزو كان مشروعًا استنادًا إلى فكرة المعاملة بالمثل. وقد حددت المحكمة في حكمها شروط استعمال مبدأ المعاملة بالمثل، ومنها أن يكون الإجراء ردًا على فعل غير مشروع يُعد جريمة دولية أو مُخالفًا لقواعد الأخلاق الدولية. ويُشترط أن يتناسب الإجراء أو التدبير الذي اتخذته الدولة مع العدوان الذي وقع عليها، وأن يكون تعويضها عن الضرر من جراء العدوان مستحيل عن طريق التحكيم أو المفاوضات الدبلوماسية، ويشترط ألا تتسم التدابير المتخذة بالوحشية أو عدم الإنسانية.
ويراعى إذا تمت المعاملة بالمثل أو الانتقام وقت الحرب أن يصدر بها أمر من قائد الجيش أو ضابط كبير على الأقل، وأن تكون هناك علاقة سببية بين إجراءات المعاملة بالمثل أو أعمال الانتقام أو القصاص وبين ظروف الزمان والمكان وكافة الملابسات الدولية القائمة وقت وقوع العدوان، وأن يُعهد باتخاذ تدابير المعاملة بالمثل لرجال الجيش وليس لغيرهم من أفراد الشعب.
وتهدف المعاملة بالمثل في زمن الحرب حمل الخصم على وقف مخالفته لقواعد القانون الدولي واحترامها مرة أخرى، فإخلال طرف بالقواعد الدولية لمعاملة أسرى الحرب يجبر الطرف الآخر على الإخلال بها مع أسرى الخصم، ورغم أن التدابير في مجال المعاملة بالمثل يمثل خروجًا عمديًا على قواعد القانون الدولي، إلا أنها تعد أمرًا مباحًا حكمته كما سبق القول حمل المتحاربين على احترام قواعد الحرب.
ويتجه الفقه الحديث إلى عدم الاعتراف بالمعاملة بالمثل في زمن السلم أو الحرب، ولكن ينادي الكثير باستمرار المعاملة بالمثل حتى تقوم سلطة عليا في المجتمع الدولي تكون قادرة على القصاص من المعتدي، وتعويض المعتدى عليه.
ومن المؤكد أن مبدأ المعاملة بالمثل سينهار تمامًا في المجتمع الدولي إذا تم تقنين الجرائم الدولية والاعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة؛ ليكون القصاص بمقتضى القانون وقوته، وحتى لا يترك الأمر لتقدير الدولة المعتدى عليها.
سادساً: رضـا المجـني عليـه:
يساير القانون الدولي الجنائي القانون الجنائي الداخلي في عدم الاعتراف برضا المجني عليه كسبب لإباحة الجريمة، حيث أن العبرة في عدم مشروعية الفعل هو ما يتضمنه القانون الدولي الجنائي من أحكامه الواردة في العرف أو الاتفاقات الدولية، ولسمو القانون الدولي على القانون الداخلي، فإن الفعل يعد جريمة دولية ولو لم تكن هذه الصفة في القانون الداخلي.
ويقرر القانون الدولي الجنائي هذا الحكم سواء وقعت الجريمة على الدولة، كما في رضوخ إحدى الدول لإجراءات ضارة بمصالحها تحت تأثيرات صادرة من دولة ذات نفوذ وسلطة.
كما قد تقع على شخص متمتع بالشخصية الدولية لو وقع أسيرًا لديها، وفي الحالتين يكون الرضا غير صحيح لصدوره من إرادة معيبة.
أما إذا كان انعدام الرضا ركنًا في الجريمة الدولية فإن توافر الرضا يحول دون قيام الجريمة؛ ومثال ذلك ما نصت عليه المادة 53 من الاتفاقية الثالثة من اتفاقيات جنيف الخاصة بمعاملة أسرى الحرب من حظر تشغيل أسرى الحرب في الأعمال الضارة بالصحة ما لم يكن ذلك برضاهم.
سابعاً: الخطأ أو الجهل بالقانون:
من القواعد المسلم بها في القانون الجنائي الوطني أنه لا يجوز الاعتداد بالجهل بأحكام القانون. ويميل معظم الفقهاء إلى القول بأن قاعدة عدم الاعتداد بالجهل بالقانون يجب أن تطبق في القانون الجنائي الدولي أسوة بالقانون الجنائي الداخلي. ويدلل أصحاب هذا الرأي على أن قوانين الحرب معظمها إن لم يكن كلها قوانين تعاهديه صادرة في صكوك دولية معلومة لدى الجميع، كما أن البروتوكولين الإضافيين (1977) لاتفاقيات جنيف الأربعة (1949) نصت على إدخال دراسة الاتفاقيات والبروتوكولين ضمن برامج التعليم للعسكريين للإلمام بالتزاماتهم.
قائمة بأهم المراجع
1. د. أشرف توفيق شمس الدين، مبادئ القانون الجنائي الدولي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1998م.
2. عميد. حسين عيسى مال الله، مسئولية القادة والرؤساء والدفع بإطاعة الأوامر العليا، دراسة ضمن مؤلف القانون الدولي الإنساني، مطبوعات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، القاهرة، 2003م.
3. د. طاهر عبد السلام إمام منصور، الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية ومدى المسئولية القانونية الدولية عنها، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة عين شمس، 2005م.
4. د. عائشة راتب، النظرية المعاصرة للحياد، دار النهضة العربية، القاهرة، 1968م.
5. د. عبد العظيم مرسي وزير، شرح قانون العقوبات، القسم العام، الجزء الأول، النظرية العامة للجريمة، دار النهضة العربية، 2010م.
6. د. محمد بهاء الدين باشات، المعاملة بالمثل في القانون الدولي الجنائي، الهيئة العامة للمطابع الأميرية، القاهرة، 1974م.
7. د.محمد سيد عبد التواب، الدفاع الشرعي في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة، عالم الكتب، القاهرة، 1983م.
8. د. محمد عبد المنعم عبد الخالق، الجرائم الدولية، دراسة تأصيليه للجرائم ضد الإنسانية والسلام وجرائم الحرب، الطبعة الأولى، دار النهضة العربية، 1989م.
9. د.محمد عيد الغريب، شرح قانون العقوبات، القسم العام، الجزء الأول، النظرية العامة للجريمة، 1994م.
10. د. محمد محمود خلف، حق الدفاع الشرعي في القانون الجنائي الدولي، دراسة تأصيليه تحليلية مقارنة، مكتبة النهضة المصرية، 1973م.
11. د. محمد محيي الدين عوض، الجرائم الدولية تقنينها والمحاكمة عنها، بحث، المؤتمر الأول للجمعية المصرية للقانون الجنائي، 1987م، ص12.
12. د. محمود سامي جنينه، أصول القانون الدولي العام، الجزء الثاني، القاعدة الدولية، دار المطبوعات الجامعية، الطبعة السابعة، 1995م.
13. د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم العام، دار النهضة العربية، 1977م.
14. د. مصطفى أحمد فؤاد، فكرة الضرورة في القانون الدولي العام، دار المعارف، 1987 م.