دراسات قانونيةسلايد 1
دراسة حول تعريف الجرائم ضد الإنسانية وفق الفقه والقضاء والاتفاقيات الدولية
” تمهيد “
إن مصطلح الجرائم ضد الإنسانية ورد أساساً في القانون الدولي الإنساني ومنه أخذ تراتيبيّته ثم انتقل الى القانون الدولي لحقوق الإنسان وإلى التشريعات الدولية المعنية بحقوق الإنسان ، وأصبح مصطلحاً يستخدم في القانونين في الوقت الحاضر [1].
والجريمة ضد الإنسانية تشير الى كل انتهاك صارخ للقوانين والأعراف الإنسانية لذاك تم إدخالها ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية [2].
ولكي يكون مفهوم الجرائم ضد الإنسانية واضحاً سوف نبحث تعريفها في الفقه والقضاء الدوليَين ثُمَّ نبحث في تطورها التأريخي أخيراً نبحث في موقف الاتفاقيات الدولية منها وكما يلي :
” أولاً : التعريف الفقهي “
انقسم الفقه الدولي تجاه الجريمة الى رأيَين : الأول موسع يمد في نطاق مفهومها ، والثاني مضيق يقلص منه .
-1- الاتجاه الموسع :
هذا الاتجاه يوسّع من نطاق الجرائم ضد الإنسانية كما قلنا ، ويرى أصحابه أن الجرائم ضد الإنسانية تشمل الأفعال المرتكبة في زمن السلم وزمن الحرب وينبغي ملاحقة مرتكبيها في كل زمان ومكان لحماية حقوق الإنسان ، من أنصار هذا الرأي (أورينيو) و(سوايكل) و(بوندي) [3].
فعرّفها أورينيو بأنها جريمة من جرائم القانون العام التي بمقتضاها تعد الدولة مجرمة اذا أضرت بدافع الجنس أو بدافع سياسي أو التعصب للوطن بحياة شخص أو جماعة أو حريتهم أو حقوقهم أو اذا تجاوزت أضرارها حين ارتكابهم لجريمة العقوبة المنصوص عليها [4].
ويعتبر أنصار هذا الاتجاه أنّ الجرائم مرتبطة بالسيادة باعتبار السيادة شيء دائم بينما الحرب شيء مؤقت ينتهي بعد مدة من الزمن وإنّ الدولة تمارس السيادة أثناء السلم وأثناء الحرب [5].
إن تحليل هذا التعريف يقودنا الى النتائج التالية :
أ- إنه يرى أن الجريمة ضد الانسانية من جرائم القانون العام .
ب- إنه يعد الدولة قد ارتكبت هذه الجريمة اذا أضرّت بدافع التعصب السياسي أو الديني أو العرقي أو التعصب للوطن .
ج- إنه لم يشترط وجود خطة ترمي الى القضاء على تلك الجماعة .
وفي تقديرنا المتواضع نرى أن هذا التعريف قاصر : فعن النتيجة الأولى لا يوجد في القانون شيء اسمه جرائم القانون العام وجرائم القانون الخاص فالدولة هي صاحبة السيادة وهي التي تختص بتوقيع العقوبة على كل الجرائم وإن كانت واردة في القانون الخاص فهي تعتبر نصوص عقابية مردها الى القانون العام ، وعن النتيجة الثانية نرى أن الأستاذ موفق في رأيه فمجرد الضرر يكفي لتحقق الجريمة وإن كانت بعض صور الجريمة كالقتل العمد والابادة لا تقع إلّا بموت المجنى عليه ، أما عن النتيجة الثالثة فنعتقد بإن الأستاذ أورينيو أغفل أهمية وجود خطة واسعة النطاق ، وصحيح ما ذهب اليه من اشتراط الدافع العنصري لكنه لا يكفي دون وجود المخطط وانعدامه يعني القصور في الركن المعنوي للجريمة مما يحول الجرائم المرتكبة الى جرائم أخرى تكون داخلية وتخضع لولاية القضاء الوطني
وطالب رأي آخر بإضافة جرائم الاغتصاب ، واختطاف الأشخاص ، والاعتداء على الشرف ، وتشويه الجثث الى قائمة محكمة نورمبرغ ، واعتبارها جرائم ضد الإنسانية ، وعرّف الجرائم ضد الإنسانية بأنّها جرائم حق عام ترتكبها الدولة لدوافع عرقية سياسية أو دينية تستمد صبغتها الإجرامية من القانون الدولي [6].
وهو ما أكده الأستاذ (Finkielkrout) باعتبارها الجرائم التي تمس الحقوق الجوهرية للإنسان والتي يعتبر حق الحياة في مقدمتها والمنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية [7].
وفي تقديرنا أنّ هذا التعريف مثير للتساؤل فما المقصود بجرائم الحق العام هل هي الجرائم التي تهدد الأمن العام والتي تقع على مصالح الدولة دون مصالح الأفراد ؟ ان قلنا ذلك فلِمَ تُدرَج جرائم تمس مصالح الأفراد الى جانب مصلحة الدولة كالقتل والاغتصاب ؟ فمصطلح (جرائم الحق العام) لا وجود له في القانون الدولي الجنائي ان لم يكن منعدم الوجود في القانون الجنائي الداخلي .
وذهب رأي الى تعريف الجرائم ضد الانسانية الى (الأفعال اللاإنسانية الجسيمة والاضطهادات التي ترتكب عمداً ضد شخص أو مجموعة أشخاص لأسباب قومية أو سياسية أو ثقافية أو اثنية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس (ذكر أم أنثى) [8].
ورغم شمول هذا التعريف للأفعال التي تصح أن يكون ارتكابها جريمة ضد الانسانية ، لكنه لم يضع الحد الفاصل بينها وبين الجريمة الداخلية التي تدخل في اختصاص القضاء الوطني للدولة المرتكبة على أراضيها ، فقتل أشخاص ممكن أن يعتبر جريمة قتل داخلية خاضعة لولاية القضاء الوطني ويمكن اعتبارها جريمة ضد الإنسانية تخضع لولاية القضاء الدولي ، فما الحد الذي يفصل بين الاختصاصين ؟ فلو أجبنا على هذا التساؤل بأن الفاصل هو الدافع التمييزي بقيت المشكلة قائمة فالجهة المرتكِبة (بكسر الكاف) لم تحدد في هذا التعريف مما يضعنا أمام تنازع الاختصاص بين القانون الدولي وبين القوانين الوطنية .
لقد لاقى الاتجاه الواسع عدّة انتقادات لأنه اتجاه يكتنفه الغموض فهو ذو طبيعة وصفية لا يضع معياراً محدداً ، كما أنه يشمل جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال في تعريفه للجريمة ضد الإنسانية مما يجعلها قريبة من جريمة الحرب .
إنّ مفهوم الجرائم ضد الإنسانية يهدف الى شمول الأفعال التي تضر بما هو انساني في الإنسان وهي حقوقه الأساسية (الحياة ، الكرامة ، الحرية ، المساواة). أما حقوقه المالية فهي تدخل ضمن تكييفات قانونية أخرى ولها حماية قانونية تختلف عن الحماية القانونية التي ينبغي توفيرها لهذه الحقوق الأساسية ، أضف الى ذلك أنّ حقوق الإنسان لها صبغة ذاتية ومتغيرة ولا يمكن بذلك تحديد القيمة أو المصلحة المحمية قانوناً مما يزيد المفهوم غموضاً وتشتتاً .
إنّ النظام القانوني لهذه الجريمة هو النظام الدولي ، فارتكابها يشكل خرقاً للقانون الدولي وبالتالي يعتبر جريمة دولية ، ويظهر الطابع الدولي للجرائم ضد الإنسانية من خلال النقاط التالية :
أ- هذه الجريمة ترتكب أثناء ممارسة الدولة لسيادتها مما يجعل أمر العقوبة عليها يخضع الى نظام قانوني أعلى من نظامها القانوني ، وهذا النظام هو النظام القانوني الدولي .
ب- إنّ التطور العضوي في أحداث السنوات الأخيرة كشف لنا النظام القانوني الذي تنتمي اليه الجريمة ضد الإنسانية هو نظام القوة العمومية ، فقوات الحلفاء حينما تدخلت وأوقفت نفي الضحايا وإعدامهم تدخلت بصفتها قوات دولية لا محاربين .
ج- أخيراً لو قبلنا بأن الدولة التي تقع ضحية لهذه الجريمة تعاقب مرتكبيها وفق قانونها الوطني فالتساؤل يثور ماذا لو دُمِّرت الدولة كلّها ؟ من سوف يطبق قانونها الوطني ؟ هل سوف نمتنع عن تطبيق العدل ؟ أليس وجود قضاء دولي ضروري لمعاقبة المذنبين ؟ [9].
لكل ذلك انتُقِد الاتجاه الواسع وحاول بعض الفقهاء تعريف الجرائم ضد الإنسانية بمفهوم ضيّق .
-2- الاتجاه المضيق :
يرى أنصار هذا الاتجاه إنّ مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية يهدفون الى المساس بحق الحياة وحده ، .
فعرّفها رأي بأنّها إبادة جماعة بسبب انتمائهم العرقي أو القومي أو الديني أو السياسي بتدخل من الدولة ، فالجريمة ضد الإنسانية مقصود بها ابادة الجنس البشري فقط [10].
وهذا التعريف ضيق جداً اذ أنّه يخرج الكثير من الأفعال التي يمكن عدّها جرائم ضد الإنسانية من نطاق مفهومها ، كما أنّه يخلط بينها وبين جريمة الإبادة الجماعية .
بينما ذهب الأستاذ Raphaol lenkin الى تعريف الجرائم ضد الانسانية أنها خطة منظمة ترمي الى هدم حياة جماعة أو جماعات وطنية بقصد القضاء على هذه الجماعات والغرض منه هدم النظم الاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية واللغة والقضاء على الأمن والحرية الشخصية لأفراد هذه الجماعات [11].
رغم أن التعريف الحالي أدق من التعريف الأول لكننا نرى فيه بعض القصور ، فهو يشترط وجود خطة ترمي الى القضاء على الجماعة كقصد خاص في الركن المعنوي ، وهذا يعتبر خلط بينها وبين جريمة الإبادة الجماعية ، في حين أن مجرد نية الاضرار بفئة معينة من السكان تكفي لتحقق الركن المعنوي وبالتالي تحقق الجريمة ضد الانسانية .
ينتقد الاتجاه المضيّق لأنه يحصر نطاق الجرائم ضد الإنسانية بالأفعال الماسة بحق الحياة ويخرج أفعال أخرى لا تقل خطورة عنها كالتي تمس بحق الكرامة والحرية والمساواة .
ونحن نرى أن التعريف المناسب للجريمة ضد الإنسانية : هي جرائم تمس بحق الحياة أو الكرامة أو السلامة البدنية أو الحرية الفكرية أو بالشرف والعرض أو بالحق في المساواة أو أي حق مماثل ، ترتكب عمداً ضد أي جماعة من السكان وفي إطار هجوم واسع النطاق بقصد الإضرار بها .
” ثانياً : التعاريف القضائية “
لم يضع القضاء في المحاكم الدولية الجنائية تعريف للجرائم ضد الإنسانية واكتفى بتكييف أفعال مرتكبة على أنها جرائم ضد الإنسانية [12].
لكن حاول اجتهاد القضاء في بعض الدول وضع تعريف للجرائم ضد الإنسانية ، وفي مقدمة تلك الدول فرنسا حيث نظر قضاءها عدد من الجرائم التي ارتكبت أثناء الحرب العالمية الثانية والتي تعتبر جرائم ضد الإنسانية ، فحاول القضاء الفرنسي إيجاد تعريفاً مناسب لها ، مثل قضية (ليغواي) (leguay) الذي توفي أثناء قيام النيابة العامة بأبحاثها في 2 تموز 1972 [13].
وقضية (رينيه بوسكي) (René bousket) الذي اغتيل في باريس بتاريخ 8 حزيران 1993 ، كذلك قضية (بولتوفيه) (Paul Touvier) عام 1975 ، حيث تعد هذه القضايا من أهم القضايا التي ساهمت من خلالها محكمة النقض الفرنسية في وضع تعريف للجرائم ضد الإنسانية وضبط نظامها القانوني [14].
ففي المرحلة الأولى صدر قرار في قضية (بولتوفيه) بتاريخ 6 شباط 1975 بتعريف الجرائم ضد الإنسانية بأنها (جرائم حق عام ارتكبت بظروف معينة ولأهداف خاصة) وضبطها النص الذي عرفها مشيراً بذلك الى المادة السادسة من ميثاق المحكمة العسكرية لنورنبرغ ، وهذا التعريف غير دقيق ويبدو أن المحكمة سعت من خلاله الى سحب القضية من محكمة أمن الدولة وإعطائها الى محكمة الحق العام ، من خلال القضايا الثلاثة مارّة الذكر حاول القضاء الفرنسي بلورة مفهوم الجرائم ضد الإنسانية ، من خلال التركيز على الركن المعنوي المتمثل بسياسة التفوق الإيديولوجي وقد أحدثت قرارات القضاء الفرنسي ثورة في القانون الدولي ، خصوصاً أنها تتفق مع نص المادة السادسة من ميثاق محكمة نورنبرغ ، لكن التساؤل هنا : ماذا يعني التفوق الإيديولوجي ؟ هل يعني قيام الدولة بتصفية من يعارض النظام السياسي والفكري الذي تراه صائباً وتسعى الى تحقيقه بأي وسيلة ؟ [15]
لقد تعرض القضاء الفرنسي للانتقاد لأنه استند الى أحداث ظرفية مرتبطة بالحرب العالمية الثانية في بلورة مفهوم الجرائم ضد الإنسانية وأهمل أفعالاً ارتكبت بعدها فاقت بشاعتها ما ارتُكب خلال الحرب المذكورة ، كما إن الجريمة ضد الإنسانية ليست جريمة رجل لرجل بل هي جريمة تستند الى خطة لإبعاد جماعة من السكان واضطهادهم ، كما أنه أدخل أفعال تعد جرائم حرب في نطاق الجرائم ضد الإنسانية
” ثالثاً : التطور التأريخي للجرائم ضد الإنسانية “
بالرغم من كون مصطلح الجريمة ضد الإنسانية حديث الظهور ، الّا إنَّ ارتكابها قديم بقدم التأريخ ، فقد كانت علاقات الإغريق مع الشعوب الأخرى مبنية على القوة والقسوة المفرطة لأن الإغريق كانو يعتبرون نفسهم فوق الشعوب الأخرى واعتبرو من حقهم شن الحروب والقيام بالفتوحات لذا ترى أن منطق القسوة المفرطة والتصرفات العدائية هو المنظم لتلك العلاقات ومن الطبيعي أن ترتكب جرائم دولية بما فيها جرائم ضد الإنسانية [16].
مما دعا رجال الفلسفة وبعض القديسين الى دعوة الأطراف المتحاربة الى نبذ العنف والعمل على الحوار من أجل احلال السلام [17].
كما إننا نجد بعض المحاولات لتنظيم عادات الحرب ومنع ارتكاب جرائم ضد المدنيين ، فقد وضع الفقيه الهولندي (غروسيوس) كتاباً أسماه (كتب ثلاث في قانون الحرب) تناول فيه عادات الحروب وأعرافها ، وطالب بمعاقبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد السلام والجرائم ضد الانسانية ، كما أيّد الفقيه الفرنسي (فاتيل) التدخل العسكري لأسباب إنسانية ، وهذا ما حدث حينما تدخلت الدول الأوروبية عسكرياً ضد الدولة العثمانية عام 1860 على أثر قتل آلاف المسيحيين في سوريا ولبنان ، وقيام الولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل لدى رومانيا لصالح اليهود عام 1906 [18].
وفي الولايات المتحدة الأمريكية أصدر الرئيس (ابراهام لينكولن) تعليمات (ليبر) عام 1866 م. التي صاغها الفقيه الأمريكي من أصل ألماني (فرانسيس ليبر) وأمر الرئيس لينكولن بأن تطبق من قِبَل الجيوش الفيدرالية أثناء القتال . وقد أصبحت تعليمات ليبر الأساس لمعاهدات القانون الدولي الانساني [19]
بعد الحرب العالمية الأولى ، أسس الحلفاء لجنة للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها الألمان وفقاً لاتفاقية فرساي ، لكن اللجنة وجدت أن الأتراك ارتكبوا جرائم مخالفة لقوانين الإنسانية لأنهم قتلوا السكان الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى ، لكن الولايات المتحدة واليابان اعترضتا على تجريم هذه الأعمال واحتجتا بأن تلك الجرائم تخالف القانون الأخلاقي لا القانون الوضعي [20].
وبعد الحرب العالمية الثانية ، أُنشِأت منظمة الأمم المتحدة وامتلكت صلاحيات أوسع مما امتلكتها عصبة الأمم ، وأجاز ميثاقها التدخل في الدول لحماية السكان من انتهاكات حقوق الإنسان ولم يعُد ذلك انتهاكاً لسيادة الدولة والمساس باستقلالها وشؤونها الداخلية فأصبح مبدأ تدخل الدول لحماية حقوق الإنسان أعلى من مبدأ سيادة الدولة [21].
ثُمَّ تم تقنين الجرائم ضد الإنسانية واستُعمِلَ هذا المصطلح في النظام الأساسي لكل من محكمتي نورنبيرغ وطوكيو ، فوُجِّهت اتهامات لمجرمي الحرب بارتكاب جرائم حرب وجرائم عدوان وجرائم ضد الانسانية [22].
وتوالى الاهتمام الدولي بهذه الجرائم فورد ذكرها في المادة الثانية من مشروع قانون الاعتداء على السلم والإنسانية الذي وضعته لجنة القانون الدولي في الأمم المتحدة عام 1951 وكذلك في مشروع مدونة الأفعال المخلة بالسلامة الإنسانية الذي وضعته لجنة القانون الدولي عام 1996 [23].
وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثالثة والعشرين قراراً باعتماد اتفاقية منع تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية [24].
كما أصدرت عام 1973 قراراً يقضي بوجوب التعاون الدولي لتعقب وملاحقة وتسليم ومعاقبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية [25].
” رابعاً : موقف الاتفاقيات الدولية “
تعددت الاتفاقيات الدولية التي وضعت تعاريفاً للجرائم ضد الإنسانية ، لكن جميع هذه التعاريف تصب في مصب واحد تقريباً.
فالمادة السادسة من ميثاق المحكمة العسكرية لمحاكمة كبار مجرمي الحرب في أوروبا ، التي تسمى (محكمة نورمبرغ) تعرّف الجرائم ضد الانسانية بأنّها (القتل ، الابادة ، الاستعباد ، الابعاد ، والأفعال اللا إنسانية أخرى ، ترتكب ضد السكان المدنيين قبل أو أثناء الحرب أو على أساس ديني أو عنصري أو سياسي ، تدخل ضمن اختصاص المحكمة سواءاً أكانت معاقباً عليها في القانون المحلي للدولة التي ارتكبت فيها أم لا) ، التعريف نفسه مع بعض التغيير الطفيف جاء في ميثاق المحكمة العسكرية لمحاكمة مجرمي الحرب في الشرق الأقصى ، التي سميت (محكمة طوكيو) [26].
لكن التقدم الذي حققه المجتمع الدولي في تعريف هذه الجرائم ، كان في نظام المحكمة الجنائية الدولية لمعاقبة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة الصادر سنة 1993 ، اذ أصبح بالإمكان معاقبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية أثناء النزاعات المسلّحة الدولية وغير الدولية ، اذ نصّت المادة الخامسة(سوف تمارس المحكمة الجنائیة الدولیة لیوغسلافیا سابقاً الاختصاص » :
یعرفها كالآتي بمقتضاه الأشخاص المسؤولین عن الجرائم التالیة عندما ترتكب في النزاعات المسلحة سواءاً أكانت ذات طبیعة دولیة أو داخلیة وتكون موجهة ضد أي مجموعة من السكان المدنیین : 1-القتل العمد ، 2- الإبادة ، 3- الاسترقاق ، 4- الإبعاد ، 5- السجن، 6- التعذیب 7 الاغتصاب ، 8-الإضطهادات لأسباب سیاسیة ، عرقیة أو دینیة، 9- الأفعال اللاإنسانیة الأخرى).
وفقاً للمادة الخامسة من النظام الأساسي تكون للمحكمة سلطة محاكمة الأشخاص المسؤولین عن الجرائم ضد الإنسانیة ، سواءاً ارتكبت في نزاع كان ذو طابع دولي أو داخلي ضد السكان المدنيين [27].
ورغم أنّ هذا التعريف لم يشترط ارتباط الجرائم ضد الانسانية بالجرائم الأخرى لإمكانية المعاقبة عليها مما يوسع نطاق صلاحياتها[28].
لكن التعريف ينتقد أيضاً لأنه يشترط وقوع الجرائم ضد الانسانية أثناء نزاع مسلح ، في حين أنه من الممكن وقوع الجريمة المذكورة دون أن يحدث ذلك النزاع .
أمّا في نظام المحكمة الجنائية الدولية رواندا الصادر عام 1994 ، فلم يختلف الوضع كثيراً عن محكمة يوغسلافيا سوى أن نظام محكمة رواندا لم يشترط ارتباط الجرائم ضد الانسانية بنزاع مسلح ، لكنه اشترط أن تقع ضمن هجوم واسع النطاق ، أمّا الأفعال المعاقب عليها فهي نفسها في نظام محكمة يوغسلافيا السابقة [29].
وفي نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية جاء التعريف أكثر دقةً مما سبقه ، حيث نصت المادة (7) الفقرة (1) على تعريف الجرائم ضد الانسانية بقولها :((لغرض هذا النظام الأساسي، يشكل أي فعل من الأفعال التالية “جريمة ضد الإنسانية” متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم)). ثم عددت الأفعال المعاقب عليها والتي تشكل جريمة ضد الانسانية ، وأوردت تعاريفاً لبعض المصطلحات في الفقرة الثانية منها . وهذا التعريف يتلافى العديد من الانتقادات الموجهة الى المحاكم السابقة ، حيث أنه لم يشترط أن تقع الجريمة ضد الانسانية أثناء نزاع مسلح ، كما أنه أوجب أن تكون الأفعال المرتكبة ضمن خطة واسعة أو هجوم موجه ضد فئة من السكان لكي تعتبر جريمة ضد الانسانية [30].
كما أنه استحدث أفعالاً اعتبرها جرائم ضد الإنسانية كاستحداث جريمة النقل القسري للسكان ، ووسع في مفهوم جرائم أخرى كتوسيع مفهوم السجن ليشمل الحرمان الشديد من الحرية البدنية بما يخالف مبادئ القانون الدولي [31].
أخيراً هو لم يحصر الأفعال التي تعد جرائم ضد الانسانية إنما ترك المجال لإضافة أفعال أخرى ذات الطابع المماثل لما أوردها في النص ، وفي رأينا المتواضع هذا يخرجنا عن مبدأ مستقر في القوانين الجنائية (سواءاً أكانت وطنية أم دولية) وهو مبدأ لا جريمة ولا عقوبة الّا بنص مما قد يجعل المحكمة تدخل أفعالاً لا ترقى في جسامتها الى الجرائم ضد الإنسانية بل أن قضاة المحكمة قد يختلفون بينهم في شأن جريمة لم يرد ذكرها في المادة وكان الأفضل حصر الأفعال التي يعتبر ارتكابها جرائم ضد الإنسانية وإنأرادت الدول الأطراف توسيع نطاق المادة فذلك يكون بتعديلها .
_________________________________________________
” الهوامش “
1 * وليم نجيب جورج نصار ، مفهوم الجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي ، الطبعة الأولى ، بيروت ، 2008 ، ص 37 .
2 * زانا رفيق سعيد ، الجرائم ضد الإنسانية ، دار شتات للنشر والبرمجيات ، أربيل ، 2013 ، ص 11 .
3 * عبد القادر البقيرات ، الجرائم ضد الإنسانية ، أطروحة دكتوراه مقدمة الى كلية الحقوق / جامعة الجزائر ، 2012 ، ص90 .
4 * زانا رفيق سعيد ، المرجع السابق ، ص12 .
5 * عبد القادر البقيرات ، المرجع السابق ، ص92 .
6 * J.Graven : Le crime contre l’humanité ; R.C.A.D.I.1950. P 476 .
7 * عبد القادر البقيرات ، المرجع السابق ، ص92 .
8 * رابح أشرف رضاونة ، الجريمة الدولية وضوابط إعمال المحكمة الجنائية الدولية ، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الحقوق / جامعة منتوري قسنطينة ، الجزائر ، 2006 ، ص91-92 .
9 * عبد القادر البقيرات ، المرجع السابق ، ص94 .
10 * Boissarie : Rapport général sur la répréssion des crimes nazis contre l’humanité et la protection des libertés démocratiques R.I.D.P.N° 1 Année 1947-P 11-26.
11 * زانا رفيق سعيد ، المرجع السابق ، ص11 .
12 * عبد القادر البقيرات ، مرجع سابق ، ص97 .
13 * Crim. 21 octobre 1982 Bull.N°231.
14 * Crim.31 Janvier 1991 ,Bull.N°143 Dalloz 1991 ;p 259 note Braunshweig .
15 * عبد القادر البقيرات ، مرجع سابق ، ص98 .
16 * روان محمد الصالح ، الجريمة الدولية في القانون الدولي الجنائي ، أطروحة دكتوراه مقدمة الى كلية الحقوق / جامعة منتوري قسنطينة ، الجزائر ، 2009 ، ص8-9 .
17 * روان محمد الصالح ، المرجع السابق ، ص13 .
18 * لمياء ديلمي ، الجرائم ضد الإنسانية والمسؤولية الدولية الجنائية للفرد ، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الحقوق / جامعة مولود معمري ، الجزائر ، 2012 ، ص14 .
19 * وليم نجيب جورج نصّار ، مرجع سابق ص39-40 .
20 * محمود شريف بسيوني ، الجرائم ضد الانسانية ، تقرير منشور على الرابط التالي :
http://www.gilgamish.org/viewarticle…-20070411-1314
21 * ابراهيم يُسري ، المراحل والتطورات : القضاء الجنائي الدولي والجرائم ضد الإنسانية ، منشور على الرابط التالي :
المراحل والتطورات: القضاء الجنائي الدولي والجرائم ضد الإنسانية
22 * محمد المجذوب وطارق المجذوب ، القانون الدولي الإنساني ، الطبعة الأولى ، منشورات الحلبي الحقوقية ، بيروت ، 2009 ، ص79 .
23 * سلوان علي الكسار ، اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر في الجرائم ضد الإنسانية ، دار آمنة للنشر والتوزيع ، عمّان ، 2014 ، ص196 .
24 * لمزيد من التفاصيل يُراجع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المرقم (2391 ألف (د-23) المؤرخفي 26 تشرينالثاني /نوفمبر 1968 ، وكذلك تُراجع نصوص الاتفاقية آنفة الذكر ، وقد بدأت بالنفاذ في 11 تشرين الثاني 1970 طبقاً لنص المادة الثامنة منها .
25 * لتفاصيل أكثر يُراجع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (3074 (د-28) المؤرخفي 3 كانونالأول/ديسمبر 1973 .
26 * Darryl Robinson، Defining “Crimes Against Humanity” at the Rome Conference ، بحث منشور في المجلة الأمريكية للقانون الدولي ، العدد 93 ، 1999 ، ص45 .
27 * لمياء ديلمي ، مرجع سابق ، ص18-19 .
28 * أحمد التميمي ، مفهوم الجرائم ضد الانسانية ، تقرير منشور على الرابط التالي :
https://www.dorar-aliraq.net/showthread.php?t=171329
29 * لمياء ديلمي ، مرجع سابق ، ص20 .
30 * لتفاصيل أكثر تنظر المادة 7 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الصادر في 17 تموز / يوليو 1998 .
31 * نسرين عبد الحميد نبيه ، الجرائم الدولية والأنتربول ، المكتب الجامعي ، الاسكندرية ، 2011 ، ص43 .