دراسات قانونيةسلايد 1

بحث يوضح متى يحتاج الشاهد إلى تزكية؟

لا يخلو الحال :
إما أن يعلم القاضي حال الشاهد أو لا ؟ . فهذه صورتان :

الأولى : أن يعلم القاضي حال الشاهد تعديلاً أو جرحاً .
حكم هذه الصورة : يعمل القاضي بعلمه في حال الشاهد بالإجماع ، قال ابن قدامة : (وأما الجرح والتعديل , فإنه يحكم فيه بعلمه , بغير خلاف ; لأنه لو لم يحكم فيه بعلمه , لتسلسل , فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما , فإذا لم يعمل بعلمه , احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين , ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين , فيتسلسل , وما نحن فيه بخلافه ) ( ) ، وحكى الإجماع أيضاً ابن رشد في بداية المجتهد( ) ، والقرافي في الذخيرة ( ) ، وابن فرحون في التبصرة ( ).

الثانية : ألا يعلم القاضي حال الشاهد .
وهذه الصورة لا تخلو من ثلاثة أحوال :
إما أن يقدح المشهود ضده في الشاهد ، أو يعدله ، أو لا يقدح فيه ولا يعدله .
1- فإن قدح : نُظر في قدحه ومدى ثبوته ، حتى يظهر رجحان أحد الجانبين .
2- وإن عدله فخلاف – نرجئ إيراده إلى ما بعد الصورة الثالثة –
3- وإن لم يقدح ولم يعدل : فاختلفوا على ثلاثة أقوال :

القول الأول : يُزكى في الحدود والقصاص دون غيرها ، وهذا قول أبي حنيفة ( ) .
القول الثاني : لا بد من تزكيته مطلقاً . وهذا قول صاحبي أبي حنيفة ( )، والمالكية ( )، والشافعية ( ) ، ورواية عن أحمد ( ).
القول الثالث : لا يزكى مطلقاً . وهذا قول الحسن ، وهو رواية عن أحمد ( ).
قال السرخسي مبيناً سبب الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه : ( قيل هذا اختلاف عصر وزمان ، فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يفتي في القرن الثالث , وقد شهد فيه رسول الله  بالصدق والخيرية بقوله : ” خير الناس قرني” الحديث ، وكانت الغلبة للعدول في ذلك الوقت ; فلهذا كان يكتفي بظاهر العدالة ، وهما أفتيا بعد ذلك في القرن الذي شهد رسول الله على أهله بالكذب بقوله  : ” ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد ” وكانت الغلبة في ذلك الوقت لغير العدول ، فقال لا بد للقاضي أن يسأل عن الشهود ) أهـ.( )

الأدلة :
أدلة القول الأول :
قالوا لا يزكى في الأموال – وإنما يُزكى في الحدود والقصاص خاصة – ؛ لما يلي :
1- ما روي مرفوعاً إلى النبي  وموقوفاً على عمر ابن الخطاب  : ” المسلمون عدول بعضهم على بعض ” ( ) ، قالوا : فهذا تعديل من صاحب الشرع لكل مسلم ، وتعديل صاحب الشرع أقوى من تعديل المزكي ( ) .
نوقش : المراد به أن ظاهرهم العدالة ، ولا يمنع ذلك من وجوب البحث ، والتحقق من عدالته ، بدليل أن عمر  عنه كان يتحقق ممن يشهد عنده – كما سيأتي في أدلة القول الثاني – ( ) ، وأيضاً كان  لا يقبل أن يحدث صحابي عن رسول الله  إلا بآخر يشهد معه أنه  نطق به ( ) .
ويمكن أن يناقش أيضاً : بأن الأثر لو صح فليس على إطلاقه بالإجماع ، فلو كان على إطلاقه لقبل قول المدعي المسلم بلا برهان ؛ لأنه مسلم .
ولما سُمع قدح المشهود ضده في الشهود أصلاً ؛ لأنهم مسلمون .
ولكان لازم إطلاقه من باب أولى أن ترد دعوى المدعي الكافر على المسلم إذا أنكرها المسلم من غير بينات .

2- ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : جاء أعرابي إلى النبي  فقال إني رأيت الهلال ، فقال  : ” أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ ” . قال : نعم . قال : ” أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ ” . قال : نعم . قال ” يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا ” ( ).
ووجه : أن النبي  قبل قول الأعرابي في رؤية الهلال لمجرد إسلامه ، فظاهر السياق أنه  كان لا يعلم حاله ؛ وإلا لو كان  يعلم حاله لما سأله عن إسلامه باستنطاقه الشهادتين .
نوقش بما يلي :
أ‌- الحديث مرسل ، قال الترمذي : (حديث ابن عباس فيه اختلاف وروى سفيان الثوري وغيره عن سماك عن عكرمة عن النبي  مرسلاً وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن النبي  مرسلاً ) ( ) . وقال ابن حجر بعد أن أشار إلى ما نقلته عن الترمذي : ( وقال النسائي إنه أولى بالصواب ، وسماك إذا تفرد بأصل لم يكن حجة ) ( ).
ب‌- ويناقش أيضاً – على فرض صحته – : بأن الصحابة كلهم عدول ، ولهذا لم يُسأل عن حاله ( ). قال السخاوي : ( وهم رضي الله عنهم باتفاق أهل السنة عدول كلهم مطلقاً ، كبيرهم وصغيرهم ، لابس الفتنة أم لا ) ( ) .
ت‌- ويقال لهم أيضاً : ( إن كونه أعرابياً لا يمنع من كونه عدلاً ، ولا من تقدم معرفة النبي  بعدالته ، أو أخبار قوم له بذلك من حاله ، ولعله أن يكون نزل الوحي في ذلك الوقت بتصديقه ، وفي الجملة فما نعلم أن النبي  اقتصر في قبول خبره على ظاهر إسلامه فحسب ، على أن بعض الناس قد قال : إنما قبل النبي  خبره لأنه أخبر به ساعة إسلامه وكان في ذلك الوقت طاهراً من كل ذنب بمثابة من علم عدالته ، وإسلامه عدالة له ، ولو تطاولت به الأيام لم يعلم بقاؤه على طهارته التي هي عدالة ) ( )
3- ولأن الأموال تثبت مع الشبة ، وإذا وقع الغلط فيها يمكن تداركه بإلزام من حُكِمَ له بالمال أن يرده ؛ ولهذا يُكتفى فيها بظاهر العدالة ( ) .
يمكن أن يناقش : بأن إمكان تدارك المال غير مضمون فقد يستنفق المال ويعسر من أخذه ، فيتعذر حينئذٍ تداركه . ودفع هذا الخطر قبل وقوعه بتزكية الشهود والتيقن من عدالتهم أسهل من رفعه .
4- ولأن العدالة أمر خفي سببها الخوف من الله تعالى ودليل ذلك الإسلام فإذا وجد فليكتف به ما لم يقم على خلافه دليل ( ) .
نوقش : وإن كان أمر العدالة خفياً إلا أن الاكتفاء بمجرد الإسلام للحكم بالعدالة يكذبه الواقع – كما سيأتي في أدلة القول الثاني – ، فإن عدد فساق المسلمين أكثر من عدولهم ، يصدقه قوله تعالى : {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } ، وقوله : {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } ، وقوله  : ” ثم يفشو الكذب ” ( ) .

قالوا ويزكى في الحدود والقصاص ، لما يلي :
1- احتيالاً لدرء الحد بالشبهات ، وقد أمرنا بدرء الحدود ، فيسأل عن الشهود عسى يطلع على ما يسقط به ( ).
2- ولأن الحدود والقصاص يتضمنان إتلافاً لا يمكن تداركه إذا تبينا الغلط ، ولهذا يحتاط فيهما ما لا يحتاط في غيرهما ( ) .

أدلة القول الثاني :
1- قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة } . قال القرطبي : ( في الآية دليل على فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة ) ( ) .

2- قوله تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [ الأحزاب : 72 ]
قال ابن تيمية : ( وأما قول من يقول : الأصل في المسلمين العدالة فهو باطل ؛ بل الأصل في بني آدم الظلم والجهل ، كما قال تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [ الأحزاب : 72 ] ومجرد التكلم بالشهادتين لا يوجب انتقال الإنسان عن الظلم والجهل إلى العدل ) ( ). وقال ابن القيم : ( إذا شك في الشاهد هل هو عدل أو لا؟ لم يحكم بشهادته لأن الغالب في الناس عدم العدالة .
وقول من قال: “الأصل في الناس العدالة” كلام مستدرك ؛ بل العدالة طارئة متجددة والأصل عدمها ، فإن خلاف العدالة مستَنَده جهلُ الإنسانِ وظلمِه ، والإنسان خلق جهولاً ظلوماً ، فالمؤمن يكمل بالعلم والعدل ، وهما جماع الخير ، وغيره يبقى على الأصل ، أي : فليس الأصل في الناس العدالة ولا الغالب ) ( ).

3- قوله تعالى : {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [ الطلاق : 2 ] .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله 🙁 لا يخفي أن العدالة شرط في الشهداء كلهم سواء كانت شهادتهم شهادة أصل أو شهادة فرع تزكية وتعديل فلا بد من عدالة البينة ظاهراً وباطناً) . ( )

4- ما أخرجه مسلم في خبر طلاق فاطمة بنت قيس ، وفيه أن عمر  قال : ” لا نترك كتاب الله وسنة نبينا  لقول امرأة لا ندرى لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة قال الله  { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } ” ( ).
قال الخطيب البغدادي : ( الطريق إلى معرفة العدل المعلوم عدالته مع إسلامه وحصول أمانته ونزاهته واستقامة طرائقه لا سبيل إليها إلا باختيار الأحوال وتتبع الأفعال التي يحصل معها العلم من ناحية غلبة الظن بالعدالة … ، يدل على صحة ما ذكرناه : أن عمر بن الخطاب رد خبر فاطمة بنت قيس في إسقاط نفقتها وسكناها لما طلقها زوجها ثلاثاً مع ظهور إسلامها واستقامة طريقتها ) ( ).

5- ما جاء أن شاهدين شهدا عند عمر  فقال لهما : إني لا أعرفكما ، ولا يضركما أن لا أعرفكما ، ائتيا بمن يعرفكما . فأتاه رجل ، فقال : تعرفهما ؟ قال : بالصلاح والأمانة . قال : كنت جاراً لهما تعرف صباحهما ومساءهما ومدخلهما ومخرجهما قال : لا . قال : هل عاملتهما بهذه الدراهم والدنانير التي تعرف بها أمانات الرجال ؟ قال : لا . قال : فهل صحبتهما في السفر الذي يسفر عن أخلاق الرجال ؟ قال : لا . قال : فأنت لا تعرفهما ، ائتيا بمن يعرفكما ( ) .

6- ولأن العدالة شرط في الشهادة ، فلم يجب الاقتصار في معرفة الشاهد على الظاهر قياساً على الإسلام ( ) .

7- ولأن مبنى القضاء على الحجة ، وهي شهادة العدول فلا بد من تزكية الشهود تعرفاً على عدالتهما ( ) .

8- ولأن العدالة ليست وصفاً سلبياً فقط – وهو اجتناب المحارم – ؛ بل هي وصف ثبوتي أيضاً – وهو القيام بالواجبات – ، والأصل في الواجبات عدم الوجود .
ومن هنا يُعلم أن قول ( الأصل في المسلم السلامة ) لا يساوي في المعنى قول : ( الأصل في المسلم العدالة ) ؛ إذ العدالة ليست سلامةً من المحرمات فقط ، بل أداء للواجبات أيضاً ( ).

9- ولأن في السؤال عن الشهود بطلب تزكيتهم صيانة للقضاء عن البطلان على تقدير ظهور الشاهد كافراً أو فاسقاً ( ) .

10- ولأن القاضي لا يعرف عدالة الشاهدين في الباطن فلم يجز الحكم بشهادتهما قياساً على حال تجريح الخصم لهما ( ) .

أدلة القول الثالث :
يمكن أن يستدل لهم بأدلة القول الأول التي ذكروها فيما يتعلق بالمال وأنه لا يحتاج الشاهد إلى تزكية فيها ، مع طردها في كل شيء .

نعود إلى الحالة الثانية وهي إذا ما عدل المشهود ضده الشاهد ، هل يُعْتَدُّ بتزكيته أم لا ، خلاف على قولين :
القول الأول : تعديل الخصم للشاهد يغني عن الاستزكاء . وهذا قول الصاحبين ( )، والمالكية( ) ، وقول عند الشافعية ( )، ووجه عند الحنابلة ( ) اختاره الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ( ).
القول الثاني : تعديل الخصم للشاهد لا يغني عن الاستزكاء . قال به الشافعية في قول وصفه النووي بالأصح ( )، وقال به الحنابلة في وجه ( ). وبه يقول أبو حنيفة تفريعاً على قول الجمهور المذكور في المسألة السابقة – في حال لم يجرحه ولم يزكه – والذين يرون السؤال عن الشهود ، وأما على قوله فلا يتأتى ذلك ؛ لأنه لا يرى السؤال عن الشهود أصلاً في حال السكوت فمن باب أولى إذا زكاهم الخصم ( ) .

الأدلة :
أدلة القول الأول :
1. لأن البحث عن عدالة الشاهد لحق المشهود عليه ، فإذا زكاه لم يكن للبحث معنى ( ).
2. ولأن إقرار المشهود عليه بعدالة الشاهد ، إقرار منه في الحقيقة أن هذا الشاهد شهادته صالحة بما يوجب الحكم عليه لخصمه ، فيؤخذ بإقراره ( ).

أدلة القول الثاني :
1. لأن اعتبار العدالة في الشاهد لحق الله تعالى ، ولهذا لا يجوز الحكم بشهادة فاسق وإن رضي الخصم ( ).
2. ولأن الحكم بشهادته يتضمن تعديله ، وتعديله لا يثبت بقول واحد ( ) .
3. ولأن المدعي وشهوده يرون المشهود عليه كاذباً ظالماً في جحوده ، وتزكية الكاذب الفاسق لا تصح ؛ إذ العدالة شرط في المزكي ( ) .

وهذا سياق ابن قدامة للمسألة بأدلتها : ( فصل : وإذا شهد عند الحاكم مجهول الحال , فقال المشهود عليه : هو عدل . ففيه وجهان ; أحدهما , يلزم الحاكم الحكم بشهادته ; لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه , وقد اعترف بها , ولأنه إذا أقر بعدالته , فقد أقر بما يوجب الحكم لخصمه عليه , فيؤخذ بإقراره , كسائر أقاريره . والثاني , لا يجوز الحكم بشهادته ; لأن في الحكم بها تعديلا له , فلا يثبت بقول واحد , ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى , ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بقول فاسق , لم يجز الحكم به , ولأنه لا يخلو ; إما أن يحكم عليه مع تعديله , أو مع انتفائه , لا يجوز أن يقال مع تعديله ; لأن التعديل لا يثبت بقول الواحد , ولا يجوز مع انتفاء تعديله ; لأن الحكم بشهادة غير العدل غير جائز , بدليل شهادة من ظهر فسقه . ومذهب الشافعي مثل هذا , فإن قلنا بالأول , فلا يثبت تعديله في حق غير المشهود عليه ; لأنه لم توجد بينة التعديل , وإنما حكم عليه لإقراره بوجود شروط الحكم , وإقراره يثبت في حقه دون غيره , كما لو أقر بحق عليه وعلى غيره , ثبت في حقه دون غيره ) أهـ( ).

ويحسن أن نورد في خاتمة هذه المسألة مراتب الشهود عند المالكية :
المالكية يجعلون الشهود على إحدى عشرة رتبة ، وهذا سياق ابن فرحون لها بنصه :
( الأولى : الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة : فتجوز شهادته في كل شيء وتجريحه ، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك كله إذا أبهمه , ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة , وقد قيل : إن التجريح لا يقبل فيه أصلاً لا بالعداوة ولا بغيرها .
الثانية : الشاهد المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة : فحكمه كالأول إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .
الثالثة : الشاهد المعروف بالعدالة بما تصح به الشهادة : فتجوز شهادته إلا في ستة مواضع على اختلاف في بعضها , وهي : التزكية ، وشهادته لأخيه ، ولمولاه ، ولصديقه الملاطف ، ولشريكه في غير التجارة , وإذا زاد في شهادته أو نقص منها . ويقبل فيه التجريح بالعداوة وغيرها , ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .
الرابعة : الشاهد المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة : حكمه كذلك إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .
الخامسة : الشاهد المعروف بالعدالة إذا قذف قبل أن يحد : اختلف في إجازة شهادته فلم يجزها ابن الماجشون , وأصبغ وأجازها ابن القاسم وهو المشهور في المذهب ; لأن بالحد تسقط الشهادة .
السادسة : الشاهد الذي يتوسم فيه العدالة : تجوز شهادته دون تزكيته فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات على مذهب ابن حبيب ولا تجوز فيما سوى ذلك دون تزكية , فهذا هو المجهول الحال وقال المازري : الشاهد الذي لم تثبت له عدالة ولا جرحة يشهد فيما سوى الحدود مذهب مالك أنه يجب على القاضي البحث عن حاله , ولا يحمله على فسق ولا عدالة حتى ينكشف له إحدى الحالتين . وقال ابن رشد : أجاز بعض المتأخرين شهادة المجهول الحال في اليسير جداً من المال , وهو استحسان والقياس منعه واتفقوا في الحدود , والقصاص أنه لا يقبل فيها إلا العدل .
السابعة : الشاهد الذي لا يتوسم فيه العدالة ولا الجرحة : فلا تجوز شهادته في موضع من المواضع دون تزكية , إلا أن شهادته تكون شبهة في بعض المواضع عند بعض العلماء , فتوجب اليمين وتوجب الحميل وتوقيف الشيء على المدعى عليه .
الثامنة : الشاهد الذي يتوسم فيه الجرحة : فلا تجوز شهادته دون التزكية , ولا تكون شهادته شبهة توجب حكماً .
التاسعة : الشاهد الذي ثبت عليه جرحة قديمة أو يعلمها الحاكم فيه : فلا تجوز شهادته دون تزكية , ولا يقبل فيه التزكية على الإطلاق , وإنما تقبل ممن علم بجرحته إذا شهد على توبته منها , ونزوعه عنها , والمحدود في القذف بمنزلته على مذهب مالك ; لأن تزكيته لا تجوز على الإطلاق , وإنما تجوز بمعرفة تزيده في الخبر .
العاشرة : الشاهد المقيم على الجرحة المشهود بها : فلا تجوز شهادته ولا يقبل التزكية فيه وإن زكي , وإنما تصح تزكيته فيما يستقبل إذا تاب .
الحادية عشرة : شاهد الزور : فلا تصح شهادته وإن تاب وحسنت حاله , وروى أبو زيد عن القاسم : أن شهادته تجوز إذا تاب وعرفت توبته بتزيد حاله في الصلاح , قال ولا أعلمه إلا في قول مالك , فقيل : إن ذلك اختلاف من القول , وقيل : معنى رواية أبي زيد , إذا جاء تائباً مقراً على نفسه بشهادة الزور قبل أن يظهر عليه , وهو الأظهر ) ( ) .

بقي مسألة لها صلة بالمقدمة يحسن الإشارة إليها :
وهي : هل يغني عن تزكية الشاهد تحليفه ؟ .
سنورد أولاً الخلاف في حكم تحليف الشاهد ، ثم نتبعه بجواب السؤال المطروح .
اختلف الفقهاء في حكم تحليف القاضي الشاهد على قولين :
القول الأول : ليس للقاضي تحليف الشاهد . وهذا مذهب متقدمي الحنفية ( ) حتى قال بعضهم : إن السلطان إذا أمر قضاته تحليف الشهود يجب على العلماء أن ينصحوا السلطان ، ويقولوا له : لا تكلف قضاتك أمراً إن أطاعوك يلزم منه سخط الخالق ، وإن عصوك يلزم منه سخطك ( )
وقال بهذا القول أيضاً بعض المالكية ( )، و الشافعية ( ) .
والحنابلة قالوا به كذلك خلا موضعين : شهادة الكافر على الوصية في السفر ، وشهادة المرأة بالرضاع على رواية ( ) .

القول الثاني : للقاضي تحليف الشاهد . وهذا ما عليه متأخروا الحنفية ( )بما في ذلك مجلة الأحكام العثمانية ( )، وهو قول لبعض المالكية ( )، واختاره ابن تيمية في كل من قبلت شهادته للضرورة ( ) ، وابن القيم اختار العمل به في حال ارتاب القاضي في الشهود ( ) .
وحكي القول به أيضاً عن محمد بن بشير و ابن وضاح ، قال ابن حزم : ( روي عن محمد بن بشير القاضي بقرطبة أنه أحلف شهودا في تزكيه : بالله إن ما شهدوا به لحق . وروي عن ابن وضاح أنه قال : أرى لفساد الناس أن يحلف الحاكم الشهود ) ( ).

الأدلة .
أدلة القول الأول :
1- أن الاستحلاف ينبني على الخصومة ، والشاهد ليس بخصم لأحد طرفي الدعوى ( ) .
2- ولأنا مأمورون بإكرام الشهود وليس من إكرامهم طلب اليمين منهم ( ) ، رُوي مرفوعاً : ” أكرموا الشهود فإن الله يستخرج بهم الحقوق ويدفع بهم الظلم “( ) .
3- ولأن الشاهد لا يخلوا إما أن يكون عدلاً أو لا .
• فالعدل قوله كافٍ لا يحتاج إلى تقويته باليمين ؛ لعلمنا بعدالته .
• وغير العدل لا تنفع فيه اليمين ، فقد لا يتورع عن الحلف كاذباً ( ).
4- ويمكن أن يستدل له بعموم قوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } .
5- كما يمكن أن يستدل له بأن تحليف الشاهد يؤدي في الغالب إلى إعراض أصحاب المروءات عن تحمل الشهادة وأدائها ، والذي يترتب عليه ضياع الحقوق ؛ بل إن الحنابلة يقولون : من توجهت عليه يمين هو فيها صادق , أو توجهت له فالأفضل له ( افتداء يمينه ; فإن عثمان افتدى يمينه , وقال : خفت أن تصادف قدراً , فيقال حلف فعوقب , أو هذا شؤم يمينه . وروى الخلال , بإسناده , أن حذيفة عرف جملاً سرق له , فخاصم فيه إلى قاضي المسلمين , فصارت اليمين على حذيفة فقال : لك عشرة دراهم . فأبى , فقال لك عشرون , فأبى , فقال : لك ثلاثون . , فأبى , فقال : لك أربعون . فأبى , فقال حذيفة : أتراني أترك جملي ؟ فحلف بالله أنه له ما باع ولا وهب . ولأن في اليمين عند الحاكم تبذلاً , ولا يأمن أن يصادف قدراً , فينسب إلى الكذب , وأنه عوقب بحلفه كاذباً , وفي ذهاب ماله له أجر , وليس هذا تضييعا للمال , فإن أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا ويغرمه له في الآخرة ) ( )قالوا هذا إذا كان الحق له ، فأولى أن يستنكف الشاهد عن الشاهدة التي لا بد فيها من بذل يمينه إذا كان الحق لغيره .

أدلة القول الثاني :
1- لتعذر تزكية الشهود في الأزمان المتأخرة بسبب زيادة الفسق ، حيث تكون عدالة الشاهد مجهولة ، وعدالة المزكي أيضاً مجهولة ، فلا تظهر عدالة الشاهد بتزكية المجهول ؛ لأن حقيقتها سلسلة مجاهيلٍ فلم تفد علماً بل ولا ظناً ( ) .
قال ابن نجيم : ( وفي التهذيب : وفي زماننا لما تعذرت التزكية بغلبة الفسق اختار القضاة استحلاف الشهود ، كما اختاراه ابن أبي ليلى لحصول غلبة الظن ) أهـ( ) .
2- قياساً على أمر الله جلَّ وعلا تحليف الشاهدين إذا كانا من غير أهل الملة على الوصية في السفر وذلك في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) } ( ) .
3- قياساً على ما روي عن ابن عباس  من تحليف المرأة إذا شهدت بالرضاع وحدها وهو رواية عن أحمد . أخرج البيهقي في الكبرى : أن ابن عباس  سئل عن امرأة شهدت أنها أرضعت امرأة وزوجها ، فقال : استحلفها عند المقام فإنها إن كانت كاذبة لم يحل عليها الحول حتى يبيض ثدياها ، فاستحلفت فحلفت ، فلم يحل عليها الحول حتى ابيض ثدياها ( ).
4- قياس الأولى على جواز تفريق الحاكم الشهود إذا ارتاب فيهم ، قال ابن القيم ( وإذا كان للحاكم أن يفرق الشهود إذا ارتاب فيهم , فأولى أن يحلفهم إذا ارتاب بهم ) ( ).

5- أن تحليفهم من باب السياسة الشرعية ، ويحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدثون من الفجور ، قال ابن فرحون : ( قال ابن وضاح : قلت لسحنون … : أن ابن عاصم عندنا يحلف الناس بالطلاق يغلظ عليهم , فقال لي : ومن أين أخذ ذلك ؟ قلت له : من الأثر المروي من قول عمر بن عبد العزيز : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور , فقال لي : مثل ابن عاصم يتأول هذا )( ) وكان ابن عاصم محتسباً في سوق الأندلس ( ) .
قال ابن عابدين : ( باب التعزير هو المتكفل لأحكام السياسة.., وبه علم أن فعل السياسة يكون من القاضي أيضاً , والتعبير بالإمام ليس للاحتراز عن القاضي بل لكونه هو الأصل , والقاضي : نائب عنه في تنفيذ الأحكام .., وفي الدر المنتقى عن معين الحكام : للقضاة تعاطي كثير من هذه الأمور حتى إدامة الحبس والإغلاظ على أهل الشر بالقمع لهم , والتحليف بالطلاق وغيره , وتحليف الشهود إذا ارتاب منهم ذكره في التتارخانية , وتحليف المتهم لاعتبار حاله أو المتهم بسرقة يضر به ويحبسه الوالي والقاضي . ا هـ ) ( ) .

وبعد إيراد خلافهم في حكم تحليف الشاهد بقي أن نجيب على السؤال الذي طرحناه، وهو : على القول الثاني هل تغني يمين الشاهد عن استزكائه ؟
لم أقف على من نصَّ على جواب هذا السؤال غير علي حيدر في شرحه لمجلة الأحكام العثمانية ، حيث قال : ( والظاهر أن تحليف الشهود لا يغني عن التزكية السرية والعلنية ، فإذا طلب تحليف الشهود بعد التعديل والتزكية جاز ، وفي هذه الصورة لا يكون تحليف الشهود بدلا للتزكية ) ( ).
هذا ما نصَّ عليه ، والظاهر أن يمين الشاهد – على القول به – تغني عن استزكائه ؛ لأن المقصود من التزكية الوصول إلى ظنٍ غالب بصدق الشاهد ، واليمين توصل إلى هذا المقصود وزيادة .
ولأنه لا معنى للجمع بين التزكية واليمين إذ لا يخلو الحال :
إما أن يكون المزكي معلوم العدالة ، وحينئذٍ فلا معنى ليمين الشاهد ؛ لأنا عرفنا عدالة الشاهد بتعديل المزكي – الذي عرفت عدالته – له .
وإما أن يكون المزكي غير معلوم العدالة ، وحينئذٍ فلا معنى للتزكية ؛ لأنها تزكية مجهول لمجهول لا تفيد علماً ولا ظناً غالباً ، فكان وجودها كعدمها – عند أصحاب القول الثاني القائلين بتحليف الشاهد – .

قصارى المقدمة : أن الشاهد لا يحتاج إلى تزكية إن علم القاضي عدالته ، أما إذا لم يعلم عدالته ولم يطعن فيه الخصم أو يزكه وجب على القاضي في قول جمهور أهل العلم البحث عن حاله بطلب المزكين سواء في حقوق الخالق أو المخلوقين .

إغلاق