دراسات قانونيةسلايد 1
بحث عن الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية
مقدمة :
لقد شكل الصلح عبر التاريخ الأداة المثلى للإستقرار الإجتماعي الذي يعتبر المدخل الرئيسي للإستقرار السياسي والاقتصادي، فهو غاية كبرى تسعى كل الدول إلى تحقيقها، خاصة في النزاعات ذات الطابع الإجتماعي، والتي يغلب عليها الطابع الإحتكاكي، ومنها العلاقات الشغلية التي يكونفيها المشغل هو المسؤول الفعلي عن مقاولته والسهر على التدبير السليم لها ولا يتأتى ذلك إلا بإعطاء كل ذي حق حقه، لكن الواقع العملي يعكس بالملموس التعسف في استعمال الحق من طرف المشغل، لذلك مراعاة لمصلحة الأجراء سارعت التشريعات الحديثة إلى إجراء الصلح بين المشغلين والأجراء كوسيلة بديلة لفض المنازعات بين الأطراف المتنازعة بطرق سلمية.
وقد أخذ المشرع المغربي بالصلح كوسيلة لحل النزاعات حفاظا على الوئام والمحبة والتآخي بين الأفراد وتسجيعها للحوار والسلم الاجتماعي ومن هذا المنطلق ظهر موضوع الصلح في نزاعات الشغل الذي يعتبر من خصوصيات التي تتميز بها الدعوى الاجتماعية حيث نص الفصل 277 من قانون المسرة المدنية على انه ” يحاول القاضي في بداية الجلسة التصالح بين الاطراف ” بمعنى انه يجب على القاضي او المحكمة انطلاقا من الفصل 277 وهي تنظر في المادة الاجتماعية ان تجري محاولة الصلح بين طرفي الدعوى قبل اصدار الحكم.
ويتخذ الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية إحدى الصورتين: ” الصلح المدني المبرم في وثيقة رسمية ” يتم غالبا أمام الموثقين لما يخوله من مزايا أهمها ما يتمتع به المحرر الرسمي من قوة ثبوتية بحيث لا يطعن فيه إلا بالزور، وبالتالي فعقد الصلح المبرم بين الأجير والمشغل بكيفية رسمية يكتسي هذه الحجية في الإثبات، بالإضافة إلى أن الصلح المبرم بكيفية رسمية ينتج أثره تجاه الأجير ولو كان أميا عملا بالفصل 427 من ق.ل.ع، أوالصلح المدني المبرم في وثيقة عرفية مصادق على صحة إمضائها في الغالب والوثيقة العرفية يمكن الطعن فيها بالزور والإنكار عملا بمقتضيات الفصل 431 من ق.ل.ع.
ويكتسي موضوع الصلح في نزاعات الشغل أهمية بالغة خصوصا على المستوى الاقتصادي وذلك من خلال الآثار التي تخلفها نزاعات الشغل على استقرار علاقات الشغل، والحفاظ على مناصب الشغل، ومحاربة البطالة وانعكاسات ذلك على مستوى الوتيرة الاقتصادية، كما تبرز أهمية الصلح في نزاعات الشغل على المستوى الاجتماعي، في الحفاظ على استقرار أوضاع الطبقة الشغيلة التي تشكل الفئة الغالبة في المجتمع، وبالتالي فإن استقرار أوضاعها وتحسين ظروف عملها سينعكس بالإ يجاب على المجتمع ككل.
ومن هذا المنطلق يمكننا أن نطرح التساؤل التالي : إلى أي حد استطاع المشرع المغربي من خلال المنظومة القانونية للصلح، الحفاظ على استقرار علاقات الشغل؟ وتكريس العدالة التصالحية في ضوء المستجدات التشريعية والعمل القضائي؟
هذا ما سوف نحاول الإجابة عنه من خلال تقسيم هذا الموضوع إلى مبحثين، نتدارس في المبحث الأول موقف التشريع والاجتهاد القضائي من الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية ، على أن نخصص الموقف القضائي من إعمال الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية.
المبحث الأول : موقف التشريع والاجتهاد القضائي من الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية
يثير تطبيق قواعد الصلح المدنية في نزاعات الشغل الفردية إشكالات عميقة مرتبطة أساسا بانعدام تكافؤ المراكز القانونية الاقتصادية والاجتماعية لطرفي العلاقة الشغلية، إشكالات عكستها الآراء الفقهية، والقضائية المتناقضة، إلا أن الأمر سوف يحسم بموجب مدونة الشغل عندما استبعدت تقنية الصلح المدني.
المطلب الأول : موقف التشريع من إعمال الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية
نص المشرع المغربي في الفصل 1098 من ق.ل.ع أن:” الصلح عقد بمقتضاه يحسم الطرفان نزاعا قائما أو يتوقيان قيامه، وذلك بتنازل كل منهما للآخر عن جزء مما يدعيه لنفسه أو بإعطائه مالا معينا أو حقا”.
وتطبيقا لمبدأ سلطان الإرادة وفق ما هو منصوص عليه بموجب مقتضيات الفصل 230 من نفس القانون:” الالتزامات التعاقدية المنشاة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة لمنشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون”، يتبين أن للأطراف الحرية الكاملة في إبرام أي عقد من العقود، من بينها عقد الصلح لوضع حد للنزاع القائم بينهما أو المحتمل الوقوع، ونتيجة لذلك ليس هناك ما يمنع كلا من الأجير والمشغل من الأخذ بالصلح المدني باعتباره عقدا من العقود المسماة [1] .
إلا أن هذا الرأي المبدئي المستنتج من ظاهر هذه المقتضيات العامة تفنده مقتضيات خاصة، بموجبها ذهب المشرع المغربي في اتجاه مخالف حيث نص في الفصل 1100 من ق.ل.ع على أنه:” لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام أو بالحقوق الشخصية الأخرى الخارجة عن دائرة التعامل، ولكنه يسوغ الصلح في المنافع المالية التي تترتب على مسألة تتعلق بالحالة الشخصية أو على المنافع التي تنشأ عن الجريمة”.
كما نص الفصل 754 من نفس القانون في فقرته الثانية على أنه” يبطل كل ما يصدر من الأجير في التوصيل من تنازل عن المكافئات المستحقة له تعويضا عن العطل التي لم يأخذها…”، كما نصت المادة 76 من مدونة الشغل على ما يلي:”… يعتبر الإبراء أو الصلح طبقا للفصل 1098 من ق.ل.ع، مجرد وثيقة بالمبالغ المبينة فيها”.
هذا ولا تفوتنا الإشارة مع بعض الباحثين [2] ، إلى اللبس الذي قد تحدثه المادة 76 من مدونة الشغل المشار إليها أعلاه، بحيث يتبين للوهلة الأولى أن هناك تعارض بين المادتين، إذ كيف يعقل أن يمنع المشرع الصلح المدني ويرتب عليه البطلان في المادة 73 ثم يعود في المادة 79 ويعتبره مجرد وثيقة بالمبالغ المبينة فيها؟
في هذا الصدد نوافق القراءة التي تعتبر أنه ليس هناك أي تعارض بين المادتين، بل إن الأمر لا يعدو أن يكون سوى نتيجة من نتائج خصوصيات قانون الشغل [3] . فإذا كان من آثار البطلان في القانون المدني إرجاع المتعاقدين إلى الحالة الأولى التي كانا عليها قبل التعاقد، فإن هذا الأمر غير ممكن ولا ينسجم مع مقتضيات قانون الشغل[4].
صفوة القول أن المشرع المغربي حسنا فعل عندما اتخذ موقفا إيجابيا ورتب البطلان على تقنية الصلح المدني نزاعات الشغل، وعيا منه بالآثار السلبية التي قد ترتبها هذه التقنية وهو نفس الموقف الذي أخذ به المشرع المصري[5] ، بل ودفعه حرصه على حماية مصالح الأجير إلى اعتبار الصلح المدني مجرد وثيقة بالمبالغ المبينة فيها في الحالة التي يتجاوز فيها الطرفان مقتضيات المادة 73 من م.ش، وهذا موقف يستحق عليه التنويه.
المطلب الثاني : موقف الفقه من إعمال الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية
إذا كانت مدونة الشغل قد حسمت الأمر عندما رتبت البطلان عن أي صلح أو إبراء يتم وفقا للنموذج المدني في نزاعات الشغل، فإن الأمر لم يحسم بعد على مستوى الساحة الفقهية، حيث تضاربت المواقف والآراء، مواقف تسير في تأييد العمل بالصلح المدني في نزاعات الشغل، وأخرى معارضة له.
حيث يذهب الاتجاه الأول [6] إلى الاعتراف بمشروعية الصلح المدني، كوسيلة فنية تحد من صرامة النصوص القانونية المقيدة لحرية الإرادة، وتمكن طرفي النزاع من إبرام عقد الصلح لحسم النزاع بشكل نهائي مقابل التنازل عن جزء من الحقوق التي تتولد عن عقد الشغل.
فيستند هذا الاتجاه [7] في تبريره الأخذ بفكرة الصلح المدني في نزاعات الشغل على مجموعة من الاعتبارات، أهمها أن الصلح يشكل وسيلة ناجعة لفض النزاعات قبل تعقدها وتشعبها مادام هذا الصلح المبرم بين المشغل والأجير لا يتنازل فيه هذا الأخير عن الحقوق التي نص عليها قانون الشغل كحد أدنى، هذا بالإضافة إلى حسن التفاهم والتوافق الذي يسود في الصلح عامة [8].
وفي نفس السياق يذهب بعض الفقه المقارن [9] إلى أن حسم الموضوع والجدل القائم يقوم بالأساس على الفترة التي يتم فيها هذا التنازل أو التصالح، حيث يعتبر باطلا بطلانا مطلقا كل تنازل أو تصالح تم خلال سريان علاقة الشغل اعتبارا لكون لتصالح يستلزم إرادتين حرتين متساويتين وهو الأمر الذي يتعذر تحققه أثناء سريان العلاقة الشغلية نتيجة لعنصر التبعية، في حين أنه يقوم صحيحا منتجا لكافة تبعاته بعد انتهاء العلاقة الشغلية وانصرام مدة على هذا الانتهاء. كما أن هناك موقف فقهي لا يمانع في تطبيق الصلح المدني، لكن شريطة التقيد بما جاء في القضاء الفرنسي من اشتراط وجود اتفاق حقيقي بين الأجير والمؤاجر ودون ممارسة أي ضغط منن طرف المشغل[10] .
ونشير في هذا الصدد إلى أن بعض الفقه في فرنسا، كان يستند في تبريره لمشروعية الصلح المدني إلى عدم وجود نص صريح يمنع إنهاء عقد الشغل بواسطة الصلح المدني. وعموما فإن هذا الاتجاه ظل محدودا ولم يعرف انتشارا واسعا بين الفقه، وقد كان محل انتقاد من طرف خصومه[11].
ومن ثم شكلت الانتقادات الموجهة إلى الاتجاه الداعي إلى إعمال الصلح المدني تبريرات لضرورة منع العمل به ورفضه، وفي هذا الصدد يرى الأستاذ إبراهيم قضا أنه: “… يمكن تصور حرية ومساواة بين الإرادة بين البائع والمشتري في حل نزاع بينهما بالصلح، إلا أنه يتعذر ذلك في الغلاقة بين المشغل والأجير، لأنه كما يقال لا يمكن تصور مساواة في إبرام العقود وإنهائها والتصالح بشأنها، إذ كيف يمكن أن تتساوى معدة جائعة فارغة تريد الطعام، والتي تمثل العامل الضعيف، الذي يريد التصالح بشأن نزاع الشغل، وبين كيس مملوء بالنقود والذي يمثل المشغل القوي برأسماله، وعليه فالمعادلة غير متوازنة الشيء الذي يؤدي بالعامل في إطار الصلح المدني بناء على الفصل 1098 ق.ل.ع، أن يبرم صلحا يتنازل فيه عن حقوقه تحت وطأة الحاجة” [12]
وفي نفس الاتجاه ذهب غالبية الفقه المغربي [13] إلى عدم مشروعية الصلح المدني، حيث أكد الأستاذ عبد اللطيف خالفي أن حقوق الأجراء تعد من النظام العام الأمر الذي يترتب عليه عدم إمكانية التنازل عنها سواء كان هذا التنازل قبل نشوء الحق أو بعد نشوئه وهو نفس الطرح المؤكد من قبل الأستاذة دنيا مباركة عندما اعتبرت أن المشرع قد توجه توجها صائبا يصب في اتجاه منع تنازل الأجير عن أي حق من حقوقه سواء كان ذلك خلال سريان العقد أو بعد انتهائه. هذا بالإضافة إلى أن الصلح المدني يفترض دائما المساواة في مراكز القوى بين الطرفين، وهذا ما لا يتوفر في العلاقة الشغلية على اعتبار أنها علاقة مختلة أساسا [14].
ولعل عنصر التبعية الذي يشكل ركنا خاصا في عقد الشغل ويجعله متميزا عن باقي العقود، هو الذي يجعل من الصعب إبرام صلح مدني بين الطرفين، هذا الأخير يفترض المساواة والتوازن بين الطرفين، فكيف يعقل إذن إبرام صلح بين تابع ومتبوع أو بين أجير ومشغل [15].
وعموما فإن هذا الاتجاه هو الذي تبناه المشرع المغربي في مدونة الشغل وذلك بموجب المادة 75 التي رتبت البطلان كجزاء على إبرام الصلح وفقا للفصل 1098 من قانون الالتزامات والعقود.
وفي ظل هذا الجدل الفقهي المتناقض لا يسعنا إلا أن نؤيد الموقف الرافض لإعمال الصلح المدني في نزاعات الشغل، فالأصل هو حماية الأجير وصيانة حقوقه وذلك لن يتأتى له إلا بتطبيق المقتضيات التشريعية الخاصة بتشريع الشغل بعيدا عن القواعد المدنية، إلا أن هذا الأصل في نظرنا يرد عليه استثناء وحيدا يجعل من عقد الصلح المدني سبيلا لاستيفاء الأجراء جزءا من حقوقهم ويتعلق الأمر أساسا بالأزمات الاقتصادية والمالية الخانقة التي تمر بها المقاولة والتي تجعلها عاجزة عن أداء جميع المستحقات الواجبة عليها، فالصلح في هذه الحالة قد يقوم وسيلة فعالة يتم بموجبها التفاوض من أجل التوصل إلى حل يرضي مصالح جميع الأطراف.
وإذا كان موقف كل من التشريع والفقه يقر في معظمه بعدم ملائمة قواعد عقد الصلح المدني الصرفة لخصوصيات قانون الشغل، فإننا نتساءل في ظل هذه المقتضيات عن موقف القضاء في هذا الموضوع، باعتباره التجسيد العملي والتطبيقي لقواعد ومبادئ الشغل.
المبحث الثاني : الموقف القضائي من إعمال الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية
شكل التضارب السمة الأساسية لوضع الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية أمام القضاء الاجتماعي، حيث ذهبت بعض المحاكم إلى الاعتداد به واعتباره صحيحا، في حين ذهبت بعض المحاكم الأخرى إلى رفض إعماله، بخلاف ما ذهب إليه القضاء الفرنسي [16] الذي حدد موقفه صراحة من المسألة بتأكيده على مشروعية إعمال هذا الصلح.
المطلب الأول : الموقف القضائي الرافض لإعمال الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية
تعددت هي الأحكام الصادرة عن القضاء الرافضة لعقود الصلح المبرمة إنهاء لعقد الشغل، حيث ذهبت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء [17] مؤيدة في ذلك حكم المحكمة الابتدائية، إلى رفض إعمال أي صلح مبرم وفقا للتصور المدني مستندة في ذلك إلى أسس قانونية صريحة جاء بها المشرع المغربي، في كل من مقتضيات الفصول 754 و1100و 1111 من ق.ل.ع.
إذ جاء في حكم المحكمة الابتدائية بابن مسيك سيدي عثمان بتاريخ 20 يناير 1994 ما يلي: “… أنه من الواجب أن تكون هناك مهلة فاصلة وكافية ما بين تاريخ إنهاء عقد العمل وتاريخ إبرام عقد الصلح الموقع من طرف العامل وصاحب العمل حتى يتمكن الأول من مناقشة شروط عقد الصلح بكل حرية ودون ضغط أو إكراه وليس الأمر كذلك لو أن العامل أمضى على عقد مقابل تعويضات معينة وهو لازال تابعا تبعية قانونية لصاحب العمل حيث أنه من الجائز أن تكون إرادته غير حرة ولا مستقلة وكيف لها أن تتفاوض بشأن صياغة شروط العقد وهي على هذا الحال…” [18].
وفي نفس الاتجاه أقرت ابتدائية الرباط [19] عدم نفاذ أي صلح يتم إبرامه مخالفا لمسطرة الصلح التمهيدي المقررة في المادة 41 من مدونة الشغل.
كما أن المجلس الأعلى عبر بدوره عن موقفه في الموضوع، في العديد من القرارات الصادرة عنه، وقد في إحدى قراراته الصادرة بتاريخ 21 شتنبر 1987 ما يلي: “… لكن حيث إن الإشهاد المدلى به والمحرر من طرف السلطة المحلية لا يوجد به، ما يفيد أن المطلوب في النقض غادر عمله تلقائيا لأنه ينص فقط على أن رئيس الدائرة استدعى الطرفين وأدى المشغل ما بذمته من واجبات… وليس له أن يتنازل عن حقوقه والتي لو وقعت لكانت باطلة حسب مقتضيات الفصل 754 ق.ل.ع [20].
كما جاء في قرار آخر للمجلس الأعلى بتاريخ 11 أكتوبر 2000 أنه”…حيث تبث صدق ما نعاه هذا الفرع من الوسيلة على القرار ذلك أن المحكمة المصدرة له اقتصرت في إبراز عناصر الفصل 754 من قانون الالتزامات والعقود على عنصر المدة وحدها للرفع من التعويض عن الطرد التعسفي دون إبراز باقي العناصر فجاء بذلك خارقا لمقتضيات الفصل المحتج بخرقه ومعرضا للنقض الجزئي”[21] .
المطلب الثاني : الموقف القضائي المؤيد لإعمال الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية
بالرغم من أن مدونة الشغل منعت وبكل صريح إعمال مقتضيات الصلح المدني وفق الفصل 1098 من ق.ل.ع ورتبت عليه البطلان، إلا أن القضاء المغربي عمد في كثير من قراراته وأحكامه بمقتضيات الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية معتبرا إياه مؤسسة عقدية ناجعة في حسم النزاع القائم بين الطرفين، وكأن المحاكم المغربية غير مسايرة للتطور والمستجدات التشريعية في ميدان الشغل التي يعرفها المغرب.
وفي هذا الإطار جاء في قرار صادر عن المجلس الأعلى عدد 665 بتاريخ 17/09/2002 تأكيدا على مسألة اعتماد الصلح المدني في المادة الاجتماعية، إذا في حيثيات هذا القرار ما يلي: “لكن حيث إنه لما قد ترتب على الصلح المبرم بين الطرفين، الانقضاء النهائي للحقوق والادعاءات التي كانت له محلا تبعا للفصل 1105 من ق.ل.ق فإنه لم يبق هناك سند قانوني يبرر مناقشة طلب مكافأة الأقدمية، ويبقى التعليل المنتقد بمثابة تعليل زائد يستقيم القرار بدونه ما أثير في الوسيلة عل غير أساس”.
وفي نفس الاتجاه ذهبت المحكمة الابتدائية بوجدة حيث جاء في أحد أحكامها الصادر تحت رقم 2136 مؤرخ في 20/10/2002 ما يلي: “…وحيث إنه بالرجوع إلى محضر الصلح المبرم بين الطرفين ثبت للمحكمة بأنه قد وقع اتفاق بين الطرفين على إنهاء العقد القائم بينهما بعد توصل المدعية بحقوقها المترتبة في ذمة المدعى عليه.
وحتى عند دخول مدونة الشغل حيز التنفيذ يلاحظ أن القضاء ما زال يعترف بمشروعية الصلح المدني في نزاعات الشغل الفردية، وذلك من خلال القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء الذي جاء فيه ما يلي: ” وحيث بغض النظر عن باقي الوسائل فقد ثبت للمحكمة بعد اطلاعها على وثائق الملف وتصريحات الطرفين صدق ما عابته المشغلة، ذلك أن الأجير أنهى عقد عمله مع المشغلة بصفة رضائية وتوافقية بعدما وقع وصادق على توقيعه على عقد الصلح المبرم بينه وبين المشغلة، والذي أكد فيه بصفة قطعية توصله بمستحقاته وأنه يعلن صراحة وبصفة نهائية عدم مطالبته بأي مستحقات تجاه المشغلة.
وحيث إنه أمام هذا الالتزام والتصريح القطعي وحتى يكون هناك استقرار في المعاملات والثقة بين الطرفين الأجير والمشغل، وكذلك حفاظا لحقوق الطرفين يكون الاجير غير محق في طلبات التعويض عن الإخطار، والفصل والضرر مما يكون معه الحكم الابتدائي مجانبا للصواب عندما قضى بها لفائدة الاجير من جهة، وكذا التصريح بخصم مبلغ 2500 درهم من المبالغ المحكوم بها مما يتعين معه الحكم بإلغائه في هذا الجانب والحكم برفض الطلب بشأنها”[22].
وهو نفس ما ذهبت إليه المحكمة الابتدائية بمراكض في قرار لها صادر بتاريخ 20/04/2009، حكم عدد 713 في ملف رقم 360/11/09 جاء فيه:” وحيث أنه ما دام الطرفان قد اتفقا على الصلح على أساس أداء المدعى عليها لفائدة المدعي مبلغ 136200 درهم كتعويض إجمالي مقابل مغادرته العمل تلقائيا، فلا يسع المحكمة تبعا لذلك إلا الإشهاد على الصلح الواقع بين الطرفين…”[23] .
خاتمة :
يتبين من خلال هذا ، أن المشرع المغربي لم يقم برصد وخلق أجهزة خاصة للنظر في مثل هذه النزاعات وحلها ، وانما اكتفى فقط بحل هذه النزاعات اما عن طريق القواعد العامة ( قانون الالتزامات والعقود والمسطرة المدنية ) ومدونة الشغ ، وهذا مايفسر تشتت النصوص المنظمة للصلح وليس جعلها في نصوص خاصة يمكن تطبيقها على هذه النزاعات والحفاظ على حقوق الأجراء وحمايتها وتحقيق الطابع الحمائي لهم ، وكان حريا بالمشرع المغربي أن يخصص بابا خاصا لمعالجة مثل هذه النزاعات كما فعل بذلك بخصوص نزاعات الشغل الجماعية الذي خصص لها بابا كاملا في مدونة الشغل لمعالجتها وفضها.
الهوامش :
[1] أوزيان محمد: ” مسطرة الصلح في نزاعات الشغل الفردية على ضوء مدونة الشغل المغربية الجديدة، بين ضرورات الإبقاء على السلم الاجتماعي وحتميات التنمية الاقتصادية”، مجلة القصر، العدد 17، ماي 2007، ص107 وما يليها.
[2] محمد أسبول: ” واقع الصلح في المادة الاجتماعية”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، جامعة محمد الأول كلية العلوم القانونية الاقتصادية والاجتماعية، وجدة، السنة الجامعية 2004-2005، ص22.
[3] محمد أسبول، مرجع سابق.ص22.
[4] مليكة بن زاهير: ” مركز القانون المدني في المادة الاجتماعية”، تقرير لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، جامعة الحسن الثاني عين الشق، الدار البيضاء، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، السنة الجامعية 1998-1999، ص53.
[5] نصت المادة الخامسة من قانون العمل المصري رقم 12 لسنة 2003 في فقرتها الثالثة على ما يلي: …” وتقع باطلة كل مصالحة تتضمن انتقاصا أو إبراء من حقوق العامل الناشئة عنن عقد العمل خلال مدة سريانه أو خلال ثلاثة أشهر من تاريخ انتهائه متى كانت تخاف أحكام هذا القانون”.
[6] Azzedine KATTANI : transaction st droit social ;R.E.M.D.E.D.N° 22.1999 P358.
[7] عز سعيد: ” العمل القضائي في حل نزاعات الشغل الفردية، رسالة لنيل بلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الدار البيضاء، السنة الجامعية 1994، ص234.
[8] حسن عبد الرحمن قدوس: ” إنهاء علاقات العمل لأسباب اقتصادية” مكتبة الجلاء الجديدة المنصورة-المطبعة العربية الحديثة، 1990، ص54.
كيرة حسن: ” أصول قانون العمل: عقد العمل”، الإسكندرية، منشأة المعارف، الطبعة الثالثة 1979، ص75.
[9] – القرشي جلال مصطفي: شرح قانون العمل الجزائري ج أ علاقات العمل الفردية”، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1984، ص27.
[10] إبراهيم البهالي: وضعية الأجراء بين نظام صعوبات المقاولة ومدونة الشغل، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، كلية القوق الدار البيضاء، 2004-2005، ص120.
[11] Jean Pellissier ; Le recours à la négociation individuelles. Les accords de ruptures des contrats de travail. Juin 1987.p : 481.
[12] قضا إبراهيم، “تنظيم الصلح في منازعات الشغل الفردية”، مقال منشور بمجلة المرافعة، عدد مزدوج 18-19 نونبر 2008، ص162.
[13] حداد فاطمة: ” الإعفاء لأسباب تكنولوجية أو هيكلية أو اقتصادية وإغلاق المقاولات دراسة مقارنة”، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة الحسن الثاني، عين الشق، الدار البيضاء، 2004-2005، ص197.
– بناني محمد سعيد: ” قانون الشغل بالمغرب في ضوء مدونة الشغل علاقات الشغل الفردية، ج2، المجلد الثاني”، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2007، ص1340.
– خالفي عبد اللطيف: ” استقلالية قانون الشغل بين الواقع والطموح”، مجلة المرافعة، عدد 2-3، ماي1993، ص38.
– مباركة دنيا: ” الوجيز في القانون الاجتماعي”، مطبعة دار الجسور، الطبعة الثالثة، وجدة 1999، ص26.
[14] ميمون الوكيلي: ” الآثار القانونية للإعفاء الجماعي لأسباب اقتصادية”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، جامعة الحسن الثاني، كلية الحقوق، عين الشق، الدار البيضاء، 1998/1999، ص: 71.
[15] Gernard couturier : Droit du travail.T1. Les relations individuelles de travail.P.U.F.1990.P.74.
[16] منذ القرار الصادر بتاريخ 18 ماي 1953 استقر القضاء الفرنسي على إعمال الصلح المدني في نزاعات الشغل وقد جاء في هذا القرار:
« … Ne supprime pas pour autant la possibilité entre employeur et employé d’une transaction obéissant aux règles des articles 2052 et 2053 de code civile ».
[17] قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، رقم 174 بتاريخ 1 فبراير 1988، ملف اجتماعي عدد 87/435.
Cité par : Kettani Azzdine .op.cit ; P159 et 160.
[18] أشار إليه إدريس فجر: مساهمة في دراسة نظرية أسباب انقضاء عقد اعمل، الجزء الثاني، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الحقوق، كلية الحقوق الدار البيضاء، السنة الجامعية 1998-1999، ص 380.
[19] حكم رقم 1280 صادر عن المحكمة الابتدائية، الرباط في ملف رقم 11/939/50 بتاريخ 10 أكتوبر 2006، غير منشور.
[20] قرار صادر بتاريخ 21 شتنبر 1987 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 41 ص161.
[21] قرار صادر عن المجلس الأعلى، رقم 895/2000 في الملف الاجتماعي عدد 159/200أوردته:
– يامنة حركات: الصلح بين مفتشية الشغل والقضاء، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، كلية الحقوق السويسي، الرباط، السنة الجامعية 2008 -2009، ص103.
[22] قرار رقم 5310، صادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء بتاريخ 18/06/07 في ملف اجتماعي رقم 3028/06 القرار أورده محمد المكي: الصلح في نزاعات الشغل بين التشريع والقضاء، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي، الرباط، السنة الجامعية 2008/2009، ص39.
[23] حكم المحكمة الابتدائية بمراكش صادر بتاريخ 20/04/09، عدد 753 في ملف رقم 360/11/09، غير منشور.