دراسات قانونيةسلايد 1
دراسة حول أثر المتغيرات الجديدة على استقلال القضاء اللبناني
تمهيد
بات من المسلّمات أنّ مسألة استقلال القضاء هي من المسائل التي تستأثر باهتمام التواقين الى مجتمع افضل تشيع فيه الديموقراطية ، وتترسّخ ثقافة حكم القانون ، وتؤخذ حقوق الانسان بالاعتبار 0
وتختلف زاوية إطلاق المسألة باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات السياسية والتقاليد الاجتماعية وظواهر التمايز الأخرى 0 غير انّ جوهر الموضوع يبقى واحداً لأنه يتمثل بسؤالٍ لا مفرّ من طرحه لدى كلّ مقاربة ، وهو الآتي : ما معنى استقلال القضاء ، وما مداه ، وما هي تجلّياته في مجتمع من المجتمعات ، وما هي ضماناتُهُ ، وهل أنّه مصطلح لا يزال يحتاج الى تجارب متراكمة حتى يغدو كامل الدلالة وكامل الفاعليّة ، وما هي عوامل التأثير الطاغية عليه ؟ هذا فضلاً عن اسئلة أخرى متباينة الروافد ، كثيرة الشّعاب ، يُهرقُ في سبيلها حبرٌ كثير ، وتنشأ مواقف ومجادلات !
نوقشت في المركز العربي للبحوث القانونية والقضائية ، بيروت ، الاربعاء 12/8/2009 .
إنّنا ، في ورقة العمل هذه ، سنحاول ان نقارب الموضوع من منطلق يتعلّق بأثر المتغيرّات الجديدة على استقلال القضاء ، دون ان نهمل الدخول اليه من بابه التقليدي تمهيداً للإطلالة على مدار الاهتمام ، أي على المتغيرات الجديدة وآثارها .هذا وانّنا ، في سبيل بلورة الطرح الأصلي ، نمهّد له كذلك بضبط بعض عوامل التأثير الخارجي ، أي تلك الآتية من البيئة التي يعمل فيها القضاء 0 وقد رأينا أنه بالإمكان جمع ما نقوم به في محاور ثلاثة يتفرّع كل منها الى زاويتين اثنتين ،وذلك على الشكل الآتي :
– المحور الاول : المفهوم العام لاستقلال القضاء
– من زاوية المؤسسة القانونية .
– من زاوية الحالة الشخصية .
– المحور الثاني :استقلال القضاء وعوامل التأثير الخارجي
– من الزاوية السياسية .
– من الزاوية الاجتماعية .
– المحور الثالث : استقلال القضاء والمتغيّرات الجديدة
– من زاوية الآفاق الدولية .
– من زاوية الحقائق الداخلية .
ونشير ، في خاتمة التمهيد ، الى أنّنا عدنا ، في سبيل إغناء البحث ، الى مصادر ومراجع عديدة ، وعوّلنا كذلك على التجربة الشخصية ، وخصوصاً على جهة الممارسة العملية التي يظلّ أيّ عمل ، بدونها ، حبراً على ورق . وجُلنا جولات عامة متتبعين الوضع في بعض المواثيق وبعض البلدان ، ولكنّنا اتخذنا من النموذج اللبناني مسرحاً أساسياً لحركتنا ، على الاّ يشكّل التعويل على نموذح اكتفاءً وانغلاقاً على الآخر0
كما نشير، في الخاتمة ايضاً ، الى ان الطابع الغالب على هذه الورقة سيأخذ من الواقع القانوني بمقدار ، ومن الواقع الاجتماعي بمقدار . فهدف البحث ، في الحقيقة ، ليس قانونياً صرفاً بل هو خليط من القانوني والاجتماعي ، كما يوحي به عنوانه 0
كل ذلك مع التأكيد على أنّ عملنا سيكون مقتصراً ، في هذا المقام ، على اطلاق شررات افكار تفسح في المجال لتبادل الافكار وللاضاءة على جوانب الموضوع الاساسية 0
المحور الاول المفهوم العام لاستقلال القضاء
نطرح المسائل التي يمكن ان يحملها هذا المحور من خلال زاويتين :
اولا – من زاوية المؤسسة القانونية 0
ثانيا – من زاوية الحالة الشخصية .
أولاً – من زاوية المؤسسة القانونية
1 – في المواثيق الدولية
ان ما يتّصل ببحثنا ، في هذه المواثيق ، هو المتعلق بموضوع المحاكمة العادلة ، وبموضوع استقلال القضاء على الأخص.
نذكر ، في هذا الصدد ، ثلاثة صكوك :
1 – الاعلان العالمي لحقوق الانسان ،1948 .
ابرز المواد ذات العلاقة بالمحور المعالج هي التالية :
المادتان الثانية والسابعة اللتان تستبعدان أي تمييز 0 والمادة الرابعة التي تحظر تعريض أي انسان للعقوبات او المعاملات القاسية او الحاطة بالكرامة 0 والمادة الثامنة التي تضمن لكل شخص اللجوء الى المحاكم الوطنية للمطالبة بحقوقه 0 والمادة التاسعة التي لا تجيز الاحتجاز التعسّفي 0 والمادة العاشرة التي تعطي الحق لكل انسان في ان تنظر قضيته امام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً 0 والمادة الحادية عشرة المتعلقة بقرينة البراءة وبحماية الحياة الخاصة وبمنع انزال العقوبة الاشدّ من تلك التي كانت ملحوظة وقت ارتكاب الجرم 000
2 – العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ، 1966 .
أبرز المواد ذات العلاقة هي :
المادة الثانية التي كفلت حق التظلم امام سلطة قضائية مختصة 0 والمادة السابعة التي تحظر الاخضاع للتعذيب او المعاملة او العقوبة اللاإنسانية او الحاطة بالكرامة 0 والمادة التاسعة التي تتطرّق على الأخص للمهلة المعقولة 0 والمادة العاشرة التي تلحظ معاملة المسجونين بهدف إصلاحهم .والمادة الرابعة عشرة التي تؤكد على الحق في المحاكمة امام محكمة مختصة مستقلة وحيادية ، وعلى قرينة البراءة ، على ضمانات المحاكمة ، وعلى اللجوء الى محكمة أعلى 0 والمادة السابعة عشرة المتعلقة بحماية الحياة الخاصة 0 والمادة السادسة والعشرين التي تستبعد كلّ أشكال التمييز 000
ومن البيّن ان الاعلان والعهد توجّها ، من زاوية المحور المعني ، الى اهتمامات متقاربة 0
3 – المبادئ الاساسية لاستقلال القضاء ، 1985 0
ومن ابرز المبادئ : كفالة الدولة استقلال السلطة القضائية ، وفصل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها دون تحيّز ، وحق الفرد في ان يحاكم امام المحاكم العادية ، ووجوب توافر صفتي النزاهة والكفاءة لدى القضاة ، وضمان أمن القضاة وأمانهم الاجتماعي .
2 – في الدستور والقوانين الداخليةّ
نعيد التذكير بانّ النموذج اللبناني هو نقطة انطلاقنا في عرض خطوط هذا الموضوع 0
أ-الدستور
– المادة 20 : السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاء والمتقاضين الضمانات اللازمة 0
أما شروط الضمانة القضائية وحدودها فيعيّنها القانون 0 والقضاة مستقلّون في اجراء وظيفتهم وتصدر القرارت والاحكام من قبل كل المحاكم وتنفّذ باسم الشعب اللبناني 0
وللدلالة على انصراف الدستور الى التأسيس لسلطة قضائية فعلية، لابدّ من القاء الضوء على الفقرة هـ من مقدمة الدستور وفيها ان النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها ، وعلى ان المادة 20 وردت في سياق الباب الثاني من الدستور ( الفصل الاول – احكام عامة ) وهو باب مخصص للسلطات 0
ب – وثيقة الوفاق الوطني
اكتفت وثيقة الوفاق الوطني ( الطائف ، 1989 ) ، تحت باب ” الاصلاحات الأخرى ” ، بالاشارة الى انه تدعيماً لاستقلال القضاء ينتخب عدد من اعضاء مجلس القضاء الاعلى من قبل الجسم القضائي 0 كما اشارت الى انه ضمانا لخضوع المسؤولين والمواطنين جميعاً لسيادة القانون يشكل المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ، وينشأ مجلس دستوري لتفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين وبت النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية .
ج- الاجتهاد الدستوري
رأي المجلس الدستوري في احد قرارته ( رقم 5/2000 تاريخ 27/6/2000 ، منشور في : المجلس الدستوري 1997-2000 ) ان استقلال القضاء ، فضلا عن النص الدستوري الذي يكرّسه ، يعتبر من المبادئ ذات القيمة الدستوريّة ” 0
د – قانون القضاء العدلي
المادة 3 : يقسم اعضاء مجلس القضاء الاعلى أمام رئيس الجمهورية وبحضور وزير العدل اليمين التالية :
” أقسم بالله بأن أقوم بمهامي في مجلس القضاء الاعلى بكل أمانة وإخلاص وان أحفظ سرّ المذاكرة وأن أتوخى في جميع أعمالي حسن سير القضاء وكرامته واستقلاله ” 0
المادة 4 : يسهر مجلس القضاء الاعلى على حسن سير القضاء وعلى كرامته واستقلاله وحسن سير العمل في المحاكم ويتخذ القرارت اللازمة بهذا الشأن 0
المادة 44 : القضاة مستقلّون في إجراء وظائفهم ولا يمكن نقلهم او فصلهم عن السلك القضائي إلاّ وفقاً لأحكام هذا القانون 000
هـ – نظام مجلس شورى الدولة
المادة 4 :000 إنّ القضاة الاداريين ( مجلس شورى الدولة والمحاكم الادارية ) مستقلون في إجراء وظائفهم ولا يجوز نقلهم او فصلهم او اتخاذ أيّ تدبير من شأنه المساس بأوضاعهم المسلكية إلاّ ضمن حدود هذا القانون 000
المادة 19 الفقرة 11 : يقسم رئيس وأعضاء مكتب مجلس شورى الدولة وهم مرتدون الثوب القضائي امام رئيس الجمهورية وبحضور وزير العدل اليمين الآتية :
” أ قسم بالله العظيم بأن أقوم بمهامي في مكتب مجلس شورى الدولة بكل أمانة وإخلاص وأن أحفظ سرّ المذاكرة وأن أتوخى في جميع اعمالي حسن سير القضاء وكرامته واستقلاله ” 0
د – قانون اصول المحاكمات المدنية
المادة 1 : القضاء سلطة مستقلة تجاه السلطات الأخرى في تحقيق الدعاوى والحكم فيها ، لا يحدّ من استقلالها أيّ قيد لا ينصّ عليه الدستور 0
نلفت النظر ، في هذا القسم من البحث ، الى انّ المشترع اللبناني ، وإن لم يفرد للسلطة القضائية فصلا مستقلاً في الدستور كما فعل بشأن السلطتين التشريعية والتنفيذية ، فقد شدّد على انّ القانون يعيّن شروط الضمانة القضائية 0 ولا يمكن الكلام على ضمانة قضائية بمعزل عن كلام موازٍ يتعلّق باستقلال القضاء ( راجع قرار المجلس الدستوري رقم 5/2000 ، ذاته ) الذي لا يكون كاملاً إلاّ من خلال سلطة قضائية مستقلة 0
ونلفت النظر كذلك الى ان الروح الديموقراطية التي لا مجال لإنكار رسوخها في الدستور ، هي حجة من الحجج التي تدعم وجهة نظر القائلين بسلطة قضائية مستقلّة 0
ومن الحجج أيضاً ما ورد في مقدّمة الدستور ، وفي اعتبار سلطات الدولة ثلاثاً ، كما سبق البيان0
في كلّ حال نشير ، ولو بشكل عابر ، الى أنّ دولاً شتّى ، أجنبية وعربية ، نظرت الى القضاء كسلطة مستقلة بصراحة ما ورد في دساتيرها 0
ثانيا : من زاوية الحالة الشخصية
أ – في الوثائق الاساسية الدولية والعربية ذات الصلة بالقضاء ( مبادئ بنغالور ، مبادئء الامم المتحدة ، وثيقة الشارقة ، وثيقة الرياض 00 )
لدى المقارنة بين بعض الوثائق الدولية والعربية ، يتبين انها توافقت على الاهتمام باستقلال القضاء من زاوية الحالة الشخصية ، لا من زاوية المؤسسة وحسب 0
لقد شدّدت هذه الوثائق ، في الغالب وعلى سبيل التمثّل ، على وجوب تحرّر القاضي من المؤثرات والاغراءات ، وعلى استقلاله تجاه المجتمع والأفراد ، وعلى حياده ، وعلى سلوكه الضامن لاكتساب ثقة الناس ، وعلى نزاهته ، وعلى لياقته وتحفظه ، وعلى اجتناب تغليب مصلحته الشخصية لدى الحكم ، وعلى معاملة المتقاضين بالتساوي 000 ( هذه الفقرة مستوحاة من الجدول المقارن بالمبادئ والقواعد الاساسية الدولية والعربية ذات الصلة بالقضاء ، المركز العربي لحكم القانون والنزاهة ، 2009 ) .
ب – القواعد الاساسية لأخلاقيات القضاء في لبنان
ضبطت الوثيقة اللبنانية الدائرة حول القواعد الاساسية لاستقلال القضاء في لبنان ثماني قواعد ذات علاقة وثيقة باستقلال القاضي من زاوية الحالة الشخصية ، وهي : الاستقلال ، والتجرد ، والنزاهة ، وموجب التحفظ ، والشجاعة الأدبية ، والتواضع ، والصدق والشرف ، والأهلية والنشاط 0
ونرى مفيداً إثبات ما ورد تحت قاعدة الاستقلال ، وطرحه للمناقشة :
“استقلال القضاء ، واستقلال القاضي ، هما مفهومان متكاملان لصيانة مبدأ الشرعية ، ولإشاعة العدالة عن طريق تحقيق امنية المتقاضين في تأمين الظرف المؤاتي للدعوى العادلة 0 ولا بدّ من التذكير ، في هذا الصدد ، بأنّ لبنان منضّم الى العهد الدولي المختّص بالحقوق المدنية والسياسية، وهو عهد أقرّ للفرد بالدعوى العادلة المشار اليها 0
ولا مجال لتحقيق هذا الاستقلال إلاّ في ظلّ قوانين تعزّز السلطة القضائية وتضمن تمايزها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية في إطار التوازن والتعاون بين هذه السلطات ، وفي ظلّ ثقافة قضائية تعكس يقين القاضي الذاهب الى انّ المصدر الأساسي لاستقلاله هو شعوره الذاتي بجسامة مهماته ، وتصميمه على الانعتاق من كل العوامل الضاغطة الرامية الى التأثير على قناعاته بمعزل عن المعطيات الواقعية والقانونية التي يحملها الملف 0
2 – من شأن المبادئ الأساسية للسلوك القضائي ، المعالجة في هذه الوثيقة مع مبدأ الاستقلال ، ان تعزز كلها هذا المبدأ الأخير ، لأنها تمتّن ثقة الناس بالسلطة القضائية ، وبأعضائها 0 وكلّ كلام ٍ عن استقلال القضاء يظلّ كلاماً نظرياً ان لم يترافق مع ثقة النّاس بالقضاء 0 وهي ضرورية بدورها لصون مبدأ الاستقلال 0 على القاضي في ضوء ذلك ، ألاّ يكتفي بالقول إنه مستقل ، بل ان يعمل بطريقة توحي بأنّه مستقلّ بالفعل 0
3 – بات راسخاً في المجتمعات السياسية المتطورة ان استقلال القضاء هو علامة من علامات انتماء المجتمع الى الديموقراطية ، والى دولة القانون التي تمنح القاضي سلطات واسعة في سبيل تحقيق الامان القانوني ، وتأكيد رفعة القانون وخضوع الناس لسلطانه على حدّ سواء 0
4 – يكون القاضي مستقلاً إزاء المجتمع بوجه عام ، وإزاء فرقاء النزاع بوجه خاص 0
5- يمتنع القاضي عن اقامة أي علاقة غير ملائمة مع السطة التشريعية والسلطة التنفيذية 0 ويحمي نفسه من كلّ تأثير آتٍ من جانبهما 0
6 – من الوجوه التطبيقيّة لمبدأ الاستقلال ، ممارسة القاضي مهمّاته معتمداً على تقديره المهني للوقائع وللأسباب القانونية الملائمة ، وذلك بمنأى عن أي تأثير خارجي ، او تحريض ، او ضغط، أو تهديد ، او تدخل مباشر او غير مباشر من قبل أيّ كان ولأي سبب كان .
ان بعض ما سيرد تحت مبدأ ” الشجاعة الأدبية ” قد يلتقي مع ما ذكر في الفقرة السابقة ، ذلك ان الشجاعة الأدبية هي وجه من وجوه ممارسة الاستقلال 0 وييبقى ان لكلّ من مبدأي ” الاستقلال ” و ” الشجاعة الأدبية ” مداه الخاص ، مما حتّم فصل كلّ منهما عن الآخر 0
7- من الوجوه التطبيقية أيضاً : استقلال القاضي إزاء زملائه القضاة ، سواء خلال المذاكرة التي تمنحه ملء الحرية في التعبير عن الرأي وفي اعتماد الموقف المنسجم مع قناعاته ، او لدى ممارسة مهمّاته القضائية في موقع آخر 0
8 – للاستقلال علاقة وثيقة بمفهوم الحرية ، والقاضي لا يكون مستقلاً الا اذا كان حراً 0 ويعني ذلك انه لا يكفي ان يشعر بالحريّة وحسب ، بل عليه ان يمارسها 0 والقضاة الأحرار هم حماة الحريّة والديموقراطية في المجتمع 0
9 – ان طرح استقلال القضاء غدا طرحاً آنياً يومياً في عالم اليوم ، ومنه لبنان 0 ولم تكن المسألة لتطرح بهذه الحرارة لولا الحاجة الى التصدّي لها بجدية ، وبالشكل الذي يعيد الثقة بالسلطة القضائية ، ويحول دون الافساح في المجال امام اساءة استعمال الطرح لتحقيق مآرب خارجة عن حسن سير القضاء وتحقيق العدالة المنشودة ” 0
ولعلّ سؤالا ً يطرح نفسه في خاتمة المحور الأول من هذه الورقة ، وهو : هل الاستقلال الحقيقي للقضاء يجد مسرحه الخصب وسنده الداعم في المؤسسة وقوانينها أم في الشخصية القضائية ومؤهلاتها ، أم في الاثنين معاً ؟
يستنتج الجواب مما سبق ، ومما سيلي من كلام 0 وهو ،في اية حال ، مطروح للتبصّر وللاضافة والإثراء من قبل المهتمّين ، واصحاب الخبرات والمبادرات 0
المحور الثاني
استقلال القضاء وعوامل التأثير الخارجي
يصحّ طرح المسائل التي يثيرها هذا المحور من خلال زاويتين :
– اولاً : من الزاوية السياسية .
– ثانيا : من الزاوية الاجتماعية 0
اولاً : من الزاوية السياسية
أ – المناخ الحرّ
من المفيد العودة في هذا المقام ، الى نظرية أ0ف – دايسي ( Albert Venn Dicey ) حول الخصائص الرئيسية لحكم القانون 0 فمن هذه الخصائص ، بعرفِهِ :
– سيادة القانون التي تعني ان الاشخاص جميعاً ( الافراد ، الحكومة ) خاضعون للقانون 0
– نشر مفهوم العدالة المرتبط ارتباطاً وثيقاً بمبدأ المساواة 0
– تقييد ممارسة السلطة الاستنسابية 0
– استقلال القضاء 0
( حول ذلك : حكم القانون ، غالب غانم ، المركز العربي لحكم القانون والنزاهة وال U N DP ، 2008 ، ص 14 ) .
وبالرغم من ان دولة القانون يمكن ان تنشأ في مناخ غير ديموقراطي طالما ان قيامها مرتبط بمصطلحات الشرعية والنظام القانوني ومبدأ تسلسل القواعد ، فانه لا مجال لشيوع حكم القانون الاّ في دولة ديموقراطية ( حكم القانون ، غالب غانم ، ذاته ، ص 34 ) .
ما من شك في ان هذا الطرح قد يستتبع نقاشاً واسعاً نابعاً من اختلاف الزاويا التي تنطلق منها الانظمة السياسية لبناء ديموقراطيتها ( النموذج الانكليزي ، النموذج الاوروبي القاري، النموذج الاشتراكي 000 ) ولكنّ ما لا جدال حوله هو ان استقلال القضاء لا ينمو الاّ إذا توافرت له فسحة مؤاتية وكافية من الحرّية 0
الحريّة هي الأرض الصالحة لنثر بذور الافكار العائدة الى استقلال القضاء 0 وبدونها لا انتظار لأيّ جنى بهذا الخصوص 000
ب – الحركة القانونية
ان المناخ الديموقراطي يفسح في المجال إذاً لنموّ مفهوم استقلال القضاء 0 ولكنّ شيوعه غير كاف بحدّ ذاته ، ذلك أنه من الضروري تجسيده في حركة قانونية شاملة تبدأ من القوانين التأسيسية ( الدساتير ) وتصل الى كل ما لا علاقة بالانتظام القانوني العام في بلد من البلدان ( القوانين العضوية ، القوانين العادية ، المراسيم وسائر الأنظمة 000 )
إنّ هذه الحركة القانونية الصابّة في مصبّ استقلال القضاء هي لون من الوان التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة ، والسلطة القضائية من جهة أخرى 0
ج – الممارسة العملية
من المناخ الحرّ ، الى الحركة القانونية التي هي ثمرة من ثماره ، الى الممارسة العملية التي لا استقلال للقضاء بمنأى عنها 0
من وجوه هذه الممارسة العملية أن تترسّخ في أذهان أهل السياسة ثقافة ” المسافة ” او الفاصل ” او ” الاختلاف ” أو ” الدور ” بين السياسي والقضائي 0 السلطة القضائية ليست فرعاً من أصل ، بل هي أصل قائم بذاته 0 ليست فرعاً من فروع السلطة التنفيذية التي عليها الإقرار بهذه المسلّمة0
إذا غاب هذا الإقرار نغدو أمام احتمالين : إمّا الانصياع وإما المواجهة 0 واذا كان القضاء لا ينشد المواجهة ، فما عليه ، في كلّ حال ، ان ينصاع 0 هذه هي المسالة ، بل المشكلة 0 وان حلّها لا يكون ألاّ بالعودة الى الدستور ، والمبادئ ذات القيمة الدستورية ، وحكم القانون 0 فلا طغيان ولا انصياع ، بل إإقرار ” بالمسافة ” و ” بالدور ” حتى لا تحصل أية مواجهة 0
فلماذا لا نفهم جيداً ما نصّت عليه مقدّمة الدستور ؟
ليس في هذا الكلام ما يرمي الى جعل القضاة يغالون في استغلال استقلالهم ، او انفصالهم ، الى درجة الميل الى الاضطلاع بدور يتخطى دورهم الأصلي ، غير السياسي 0 المغالاة ليست الحلّ المنشود ، وانحراف القضائي الى السياسي بحجة اصلاح المجتمع و ” تطهيره ” امر فيه الكثير من المخاطرة ، ومن تبديل الادوار .
ثانيا : من الزاوية الاجتماعية
أ- جدلية الانفصال والاتصّال
لم يعد ممكناً تصوّر القاضي شخصاً منعزلاً عن مجتمعه ، يعيش في برج عاجي ، او في مُتَنَسَّك ، او في غربة تعكس شكلاً من أشكال سوء الفهم المتبادل بين طرفين 0
وفي المقابل ، ليس مستحسناً انخراط القاضي في الشأن الاجتماعي مع كلّ ما يحمله من التزام مقيّد ، او من حريّة غير منضبطة ، او من منافسة لا تتآلف وروح مهنته الرسوليّة 0
إنّ جدليّة الانفصال والاتصّال هذه تحتّم البحث عن ” مسافة ” القاضي وتضفي على موقعه خصوصيّة نابعة من طبيعة مهامه 0 ولكنّها ” مسافة ” غير منقطعة عن المحيط الاجتماعي ، بل هي متصلة به اتصّالاً يضمن حقّين في آن : حقّ المجتمع في تعزيز حياد القاضي ونزاهته ومهابته من نحوٍ أول ، وحق القاضي في التمتّع بحياة عادية حرّة وكريمة وآمنة من نحوٍ مقابل 0
يرى بعضهم أنّه ” كلمّا استقل القضاء عن السلطة السياسية زاد تواصله وتكامله مع المجتمع وانتظمت رقابته وحمايته وصيانته للنسيج الاجتماعي ، وكذلك تفاعله مع القيم السّائدة ومع التغيير الاجتماعي بشكل سلمي …” ( ورقة خلفيّة عن القضاء في لبنان ، انطوان مسرّة وبول مرقص ، القضاء في الدول العربية ، بيروت 2007 ، ص 369 ) .
ب – ثقافة القانون والقضاء
بالرغم من شيوع العلم وانتشار الثقافة بروافدها المتشعبّة ، ثمّة حاجة ماسّة الى نشر ثقافة القانون وثقافة القضاء ، في اوساط الناس على اختلاف مشاربهم ونوازعهم واهتماماتهم واوضاعهم الاجتماعية 0
ما هو الدور الحقيقي للقانون ولحكم القانون ، للقضاء ولأحكام القضاء ؟ ما طبيعة المهّات الملقاة على عاتق القاضي ، وما قدراته وحاجاته ، وما المشاق التي يعانيها ، ومن يمثّل ، ومن مَنَحه هذا السلطان ، وكيف يكافأ وكيف يحاسَب ، وكيف تتمّ المحافظة عليه ؟ اسئلة تنهمر دون ان تلقى لدى المجتمع ومكوّناته أجوبة دقيقة ومنصفة ، في حالات كثيرة 0
من الضروري أذاً إشاعة الثقافة التي نلمح اليها ، بطرق عديدة لا مجال للخوض في تفاصيلها الآن ( على سبيل المثال : المدرسة ، الجامعة ، البرامج التثقيفية ، الحلقات والندوات ، المنشورات الصادرة عن المراجع المختّصة كوزارة العدل ومجلس القضاء الاعلى ، التعليق الموضوعي على القرارت القضائية … )
ونكاد نجزم ، بالمناسبة ، انّ دور القاضي لا يزال غير واضح المعالم من قبل وفرةٍ من النّاس 0
ج – في حماية المجتمع
ليس كافياً ان يحمي القاضي نفسه بالقوانين ، وليس مستساغاً ان يحمي نفسه بنفسه معتبراً ان ضمانة القضاة هم القضاة أنفسهم … الحماية الحقيقية تأتيه من صوب المجتمع المدني بكل شرائحه ومكوّناته وتنظيماته 0 وهذه الحماية هي وليدة ثقة الناس بالقضاء 0 إنّ ثقة الناس هي أقوى من المجلّدات التشريعية ةهي أصدق من ثقة الذات بالذات.
لدى التعليق على قاعدة ” التواضع” ، وهي إحدى القواعد الاساسية لأخلاقيات القضاء في لبنان ، جاء في بحث للقاضي طارق زياده ( رئيس هيئة التفتيش القضائي سابقا ): ” … إنّ القاضي وهو القائم بخدمة عامة ، يحظى بتقدير الناس حقاً وليس بقوة مركزه ، بل بما يجسّد في مواقفه وأحكامه من فضائل وقيم ومُثُل ” 0 ( اخلاقيات المهن القانونية ، بيروت 2008 ، ص 53) .
المجتمع المدني ( النقابات وفي طليعتها نقابة المحامين ، الجمعيات الحقوقية والثقافية وسواها، الاحزاب ، النوادي ،المراصِد والهيئات المراقبة على العموم …) والأفراد ذوي الدور الرائد أيضاً … هؤلاء جميعاً هم خير حماةٍ للقضاء ، لصورته الايجابية في المجتمع ، لدوره الخطير والريادي ، لصلابته في مواجهة القوى الضاغطة ، السياسية وغير السياسية …
وانّ في طليعة واجبات المجتمع المدني ان يردّ كلّ ضيم يلحق بالقضاء ، وان يُشارك في معركة استقلاله الحقيقي ، وان يدعم المطالبة بتعزيز الأمان المادي والاجتماعي للقضاة ، وان يُسلّط الاضواء على القرارات المميّزة الصادرة عن المحاكم ، خصوصاً في مجال حقوق الانسان ، والحريات ، وميادين تعزيز الديموقراطية على العموم ( راجع : Antoine Messarra , Ib p.33 .وهذا ما يحصل أحياناً 0
وإنّ للمجتمع دوراً اساسياً في العمل الصادق والشفّاف على تحقيق استقلال القضاء 0 الاستقلال يحصّن القاضي ، ويحمي المجتمع 0 ويوم تتأمّّن الحصانة والحمياة هاتان ، تتوطّد ثقة المجتمع بالقضاء 0 وقد يكون مفيداً نقل هذه المعادلة على الشكل التصويري التالي :
تحصين القضاء (يؤدي الى)
↓
حماية المجتمع من قبل القضاء (تؤدي الى )
↓
عودة ثقة القضاء بالمجتمع ( تؤدي الى )
↓
حماية القضاء من قبل المجتمع
المحور الثالث
استقلال القضاء والمتغيّرات الجديدة
على غرار ما فعلناه في المحورين السّابقين ، نرى انّه بالإمكان معالجة هذا المحور من زاويتين:
– اولا : من زاوية الآفاق الدولية
– ثانيا : من زاوية الحقائق الداخليّة
ونلفت النظر ، في مستهلّ هذا المحور الذي يعتبر صلب البحث وغايته الأصلية ، الى أنّ عبارة ” المتغيّرات الجديدة ” تترك المجال وسيعاً لتعدّد الخيارات 0 فهل المتغيّرات المعنيّة هي سياسية او اجتماعية او اقتصادية او مالية او علميّة او ثقافية ، او بعض من هذه كلّها ، ومن سواها كذلك؟
ما من شك في أن ما نعتبره متغيّرات جديدة، او معطيات ، او تحولات ، قد لا يكون على هذه الصورة في نظر السّوى 0
من هنا التشديد على انّ المسألة هي مسألة خيار ذاتي ، ولكنّه غير خالٍ من الضوابط الموضوعيّة التي تنقل الطرح الى مستوى الاهتمام العام وان انبثقت أصلاً من ثقافة وتجربة خصوصيتين 0
اولا : من زاوية الآفاق الدوليّة
أ -العولمة والسيادة
إنّ دائرة العولمة القانونية راحت تتّسع ، يوماً بعد يوم ، على حساب دائرة السّيادة الوطنيّة ، سواء على صعيد المبادئ الصادرة عن منظمة الامم المتحدة ، او على أصعدة المعاهدات والاتفاقيات ، أو المحاكمات ذات الطابع الدولي ، أو التجمعات والمنظمات الاقليمية ، او البعثات ، أو تبادل الزيارات والخبرات 0
لم يعد القانون الوطني ،إذاً ، الناظم الوحيد لحركة القضاء وواجباته وحقوقه وأخلاقياته ، واستقلاله على وجه أخصّ0 لقد بات للمجتمع الدولي رأيه في الطريقة التي ينظر فيها مجتمع سياسي وطني محدد الى مسألة استقلال القضاء عن السلطة السياسية 0
إنّ التأثير الذي يطال النظرة الوطنية الى القضاء ، من زاوية المنطلق الدولي ، يمكن ان يسلك مساراً من المسارين الآتيين :
إمّا مسار التعاون لترسيخ مفهوم الديموقراطية الذي يتصل به مفهوم استقلال القضاء اتصالا وثيقاً.
وإمّا مسار الضغط المعنوي الصادر عن المجتمع الدولي باتجاه وضع لا يراه مستجيباً للحالة الديموقراطية ولمقتضى فصل السلطات 0
هذا الواقع ينسحب على دول عريقة في الممارسة الديموقراطية حيث تتبلور مبادئ عامة تتقدّم على المبادئ الوطنية في حال تعارضها معها 0
إنّ السياسات المتبعة في العديد من الدول ( ومن بينها لبنان ) تعكس الرغبة في التواصل مع بلدان شتى في مجال تعزيز استقلال القضاء ، في حين ان سياسات اخرى لا تزال تخشى مثل هذا التواصل خشيةً منها على طبيعة نظامها السياسي وعلى تقاليدها الخاصة 0
وبين العولمة والسيادة ، وبين التواصل والانغلاق ، ينتشر مفهوم استقلال القضاء ، او ينحسر 0 هذا اذا كانت الحالة الوطنيّة مقصّرة عن اللّحاق بالركب العالمي في هذا الميدان 0
ب -العامل التكنولوجي
ما من شك في أنّ التطور التكنولوجي يُشكل مؤثراً جديداً من المؤثرات التي من شأنها تنمية القدرات وتطوير المفاهيم وتحسين الوسائل في حقولٍ شتّى ، وفي عدادها حقل القضاء 0
الانترنيت هو لغة جديدة من لغات هذا الزمن 0 من شأنه تعميم الخاص ، وتسريع المتأخر ، وكشف المستتر ، وتحريك الجامد ، ومن شأنه التوعية والحثّ والايصال 0
إنّ الحكومة الالكترونية هي وجه من وجوه هذا الجديد 0 وبالرغم من اهتماماتها الاقتصادية التي تتصدّر سائر الاهتمامات ، فإنّ لها أثراً بينّاً على مسار الحياة القانونية ، وبالتالي على عمل القضاء 0 وعندما يتناول الطرح عمل القضاء يغدو طبيعيّاً الكلام على استقلاله ايضاً 0 إنّ كل عمل قضائي يستتبع البحث عن هذا الاستقلال ، إذ لا عمل قضائياً سوّيا بدون استقلال القضاء 0
ج – السبل الاخرى لحلّ النزاعات
في صدارة هذه السبل ياتي التحكيم الذي راح يجذب الشركات والأفراد ، وأحياناً الدول ، باعتباره قضاء خاصا اختاره المتعاقدون ليعكس إرادتهم وليحسم نزاعاتهم بأيسر الطرق وبأسرعها .
إنّ نمو مؤسسة التحكيم على الصعيد الدولي كان له أثر بيّن على التحّول عن القضاء الوطني خصوصاً في البلدان التي لم تكتسب بعد ثقة كافية بقضائها من قبل المستثمرين الدوليين 0
من اسباب اللجوء الى التحكيم ، إذاً ، فضلا عن توخي العجلة ، تزعزع الثقة بالقضاء بعُرف الشركات الكبرى ، وأهل الاقتصاد على العموم ، والأطراف الأجنبية في العقود ، وكذلك الأفراد وسائر المعنيين بالشأن التعاقدي 0
ومن اسباب تزعزع الثقة الاعتقاد الذاهب الى أنّ القضاء العادي ليس مستقلاً الاستقلال الذي يمكنّه من حلّ النزاعات بالحياد والنزاهة اللازمين .
ليس بالامكان إنكار هذا الأمر الواقع 0 ولكنّ الملاحظ أنّ ثمّة مغالاة في الخشية من القضاء العادي وفي اللجوء الى التحكيم الذي تعود بعض قراراته وتخضع للمراجعة امام القضاء نفسه ، فضلاً عن انّ استقلال المحكمين هو امر حريّ بالطرح في حالات شتّى 0
في كلّ حال ، إنّ هروب الناس من القضاء الى السّبل الاخرى لحلّ النزاعات هو حافزٌ من الحوافز التي تدفع الى الاهتمام بتحصين القضاء والى تعزيز فعاليّته 0
إنّ حركة التجارة الدوليّة ، وحركة الاقتصاد على العموم ، لا تأتلفان مع بطء المحاكمات ، ومع الشوائب التي قد تعتري ايّ نظام من الأنظمة القضائية 0
د – شيوع مفهوم حكم القانون
سبقت الاشارة ، لدى النظرة الى الموضوع المطروح من الزاوية السياسية ، الى مفهومي دولة القانون وحكم القانون 0 نعود ونشدّد ، هنا ، على أنّ شيوع مفهوم حكم القانون هو عامل من العوامل الاساسية المؤثرة على استقلال القضاء 0 ولقد أضحى هذا المفهوم ثابتة من الثوابت التي ما تنفكّ تظهر كلّما تعلّق الأمر بالديموقراطية ، وبالحكم الصالح ( la bonne gouvernance ) وكذلك بالقضاء الصالح 0
إنّ هاجس ” حكم القانون ” هو من أبرز العوامل المؤثرة على استقلال القضاء ، والآتية من جهة الآفاق الدولية 0 وهو ، كلما شاع ، يحمل معه أرقى ما توصّل اليه المجتمع الدولي في مجال حقوق الانسان ، والمحاكمة العادلة ( راجع حولها : النيابة العامة والمحاكمة العادلة ، غالب غانم، 2008 ) .
ثانيا ً من زاوية الحقائق الداخلية
أ – الرأي العام القضائي
يلاحظ المتبصّر في الحالة القضائية في لبنان ان مبدأ استقلال القضاء ، غدا ، في وجهيه المعنوي والمادي ، في طليعة المبادئ والمطالب التي تتوجّه اليها أنظار الرأي العام القضائي 0 من لا يُدافع عن بيته لا حقّ له بطلب مؤازرة الآخرين 0 القضاة اللبنانيون ، على العموم ، يعون هذا الواقع ويؤيدون كلّ خطوة باتجاه بلورة استقلال مؤسستهم على الصعيدين القانوني والعملي 0 ولا بدّ لهذا الرأي العام النخبوي من ان يؤثر تأثيراً فعّالاً على حركة استقلال القضاء 0
أكثر من ذلك ، يحزّ في نفس القضاة الاعتقاد الشائع المنصرف الى انّ القضاء ليس مستقلاً 0 ومن المنتظر ان يقدّموا البرهان تلو الآخر ، كسلطة وكأفراد ، للتدليل على انهم يعملون لتحقيق الاستقلال ، ولو طالت الطريق !..
ب- الرأي العام القانوني
إنّ ثمّة إجماعاً ، لدى رجال القانون في لبنان ، على وجوب تحقيق استقلال القضاء ، لا بالحرف والقانون فقط ، بل بالفعل وبالممارسة 0
ولا بدّ من تسليط الضوء ، في هذا الصدد ، على المواقف الداعمة لاستقلال السلطة القضائية ، الصادرة عن كلّ من نقابتي المحامين في بيروت وفي الشمال 0
ج – الرأي العام على إطلاقه
تعتقد معظم شرائع الرأي العام ، في المجتمع ، انّ القضاء غير مستقل ، مؤسسةً ، وأفراداً على الخصوص 0 لهذا الاعتقاد أسباب بعضها عائد الى افتقار القضاء الى جهاز إعلامي يرافق عمله وبُطلّ على الناس ، من وقت الى آخر ، بالوقائع والإحصاءات 0 والبعض الآخر من هذه الاسباب عائد الى ثغرات في الثقافة القانونية العامة ، أشرنا اليها في كلامٍ سابق 0 والبعض الأخير له ما يبرّره وإنّ كان الاستثناء على القاعدة 0
د – الإعلام
الإعلام هو المرآة الأشفّ من مرايا الرأي العام 0 وها إنّ الناس ينظرون اليه كسلطة نظراً للدور المنوط به ، ولقدراته وميدان تحركه الواسع واتصاله المباشر على عدّ الثواني بعقول النّاس 0
ولفهم موقف الإعلام من القضاء نعود الى جدليّة العلاقة بين القضاء والمجتمع ، طالما ان الإعلام يعكس صورة القضاء في ذهن الجماعة وفي ذاكرتها 0
كيف ينظر المجتمع اللبناني الى القضاء والى القضاة ؟ في مطاوي هذا السؤال عناصر تقود الى مقاربة الموضوع من وجهين متعارضين ، أحدهما ايجابي ونظري ، والآخر سلبي وعملي 0
* في الوجه الايجابي النظري ، يثمّن المجتمع دور القضاء ويشدّد على جدواه ويدعو الى تحصينه. وهو ، الى ذلك ، ينظر الى القضاة ، كأفراد ، نظرته الى شريحة مميزّة من شرائحه 0 والتمييز ، هنا ، لا يعني الإخلال بمبدأ المساواة ، بل ينطلق من المهمات الخطيرة الملقاة على عاتق القاضي.
* في الوجه السلبي العملي ، نشهد يوماً بعد يوم تفسّخاً في العلائق بين القضاء والمجتمع ، وتزعزعاً في الثقة 0 هذا هو الواقع الذي لا مفرّ منه ، والصورة التي لا فائدة من إخفائها 0 وممّا يدعو الى القلق أمران رئيسيان : الأول هو خطر التآلف مع هذا الواقع ، وهذا من شأنه الاستنكاف عن المعالجة ، والثاني هو التعميم الذي يأخذ الصالح بجريرة الطالح ، ويرسم صورة للقضاء على غير حقيقتها 0
وممّا يزيد في تفاقم العّلة ، أنّ التزعزع راح يصيب علاقة القضاء بالإعلام 0 فمن النادر ان يمرّ يوم واحد إلاّ ويكون هنالك موقف إعلامي من شأنٍ قضائي ، من منطلق غير ودّي في معظم الحالات 0
للإعلام دور لا سبيل الى نكرانه في شؤون كثيرة ، وللقضاء دوره المعلوم 0 والقضاء يصدر الأحكام باسم الشعب ، والإعلام هو مرآة هواجس هذا الشعب 0 فمن اللازم المحافظة على دور كل منهما ، بلا انتقاص وبلا افتئات 0
إنّ الحاجة غدت ماسّة ،كذلك ،الى العمل على ايجاد ميثاق قضائي اعلامي يحمي الحريّات دون ان يفتئت على القضاء 0
هـ – الأمان المادي
سيظلّ استقلال القضاء حلماً ، او فكرة مجردة غير قابلة للبلورة وللتحقيق الكامل ، إن لم يشعر القضاة بالأمان المادي الذي يقيهم شروراً شتّى 0
المثال والواقع ، برأينا ، ليسا نقيضين متضادين 0 إنّهما صورتان متكاملتان لحقيقة واحدة هي الحياة 0 وفي الحياة القانونية ، والقضائية ، لا جدوى للمثال إذا انفصل عن الهموم اليومية ، ولا جدوى للواقع إن لم يتُق الى الاتصّال بروح المثال وبعليائه 0 المعنوي والمادي صنوان 0 والأمان المادي ، وقل الاقتصادي ، للقضاة ، هو ضمانة من ضمانات استقلال السلطة القضائية 0
خاتمة
ما فعلناه في ورقة العمل هذه انطلق من الوثائق والحقائق ، ومن التشريع وأماني التشريع ، ومن عُصارة الأفكار والتجارب ، ومن كلّ جهد محمود دار في مدار استقلال القضاء 000 وانطلق على الأخصّ من معاناة خاصة وشعور بالمسؤولية بإزاء هذا الموضوع الذي قد يكون استوفى كثيراً من حقوقه على الصعيد النظري ، وقليللاً منها على الصعيد العملي 0
وأبواب النقاش مفتوحة للاحتكاك بأي فكر منّور ، ولتلقّي أيّ رأي مثمِر او مُنجِد .والطريق طويل ، والآمال عِراض ، والمعركة الراقية مفتوحة .
مصادر ومراجع
1- الدستور اللبناني .
2- قانون القضاء العدلي ( المرسوم الاشتراعي رقم 150 / 83، مع تعديلاته ) .
3- نظام مجلس شورى الدولة ( مشروع قانون صادر بالمرسوم رقم 10434 /75 ، مع تعديلاته ) .
4- قانون اصول المحاكمات المدنية ( المرسوم الاشتراعي رقم 90/83 ، مع تعديلاته ) .
5- وثيقة الوفاق الوطني اللبناني ، 1989 0
6- دليل الدستور اللبناني والاعلان العالمي لحقوق الانسان ، الحملة من اجل النزاهة في القضاء ، 2002 0
7- القواعد الاساسية لأخلاقيات القضاء ، لبنان ، 2005 0
8- أخلاقيات المهن القانونية ، جمعية الدفاع عن الحقوق والحريات “عدل ” بالتعاون مع AMIDEAST و USAID،2003 0
9- الاعلان العالمي لحقوق الانسان ، 1948 0
10 -العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ، 1966 0
11-المبادئ الاساسية لاستقلال القضاء ، الامم المتحدة ، 1985 .
12- الاعلان العالمي لحقوق الانسان واحوال العالم العربي ، المنظمة العربية لحقوق الانسان، (النمسا ، الندوات الفكرية ، دار المستقبل العربي ، القاهرة 1989 ) .
13- قرارات المجلس الدستوري ( منشورة في : المجلس الدستوري 1997-2000) 0
14- دليل تعزيز استقلال القضاء ونزاهته ، يناير 2003 ، IFES و UNDP.
15- استقلال القضاء ، مجلس النواب /لجنة حقوق الانسان النيابية وال UNDP ، الخطة الوطنية لحقوق الانسان ، 2008 .
16- مشروع قانون السلطة القضائية ، أحيل الى مجلس النواب بالمرسوم رقم 2013/99 ، ثم استردته الحكومة 0
17- اقتراح قانون السلطة القضائية ، مجموعة من النواب ، 1997 0
18- حكم القانون ، غالب غانم ، المركز العربي لحكم القانون والنزاهة وال UNDP ،
بالعربية والفرنسية والانكليزية ، 2008 0
19- النيابة العامة والمحاكمة العادلة ، غالب غانم ، دراسة في محورين بالانطلاق من النموذج اللبناني ، المركز العربي لحكم القانون والنزاهة ،2008 0
20 – القضاء والمحاماة ، قواعد اخلاقية وعلاقات ، غالب غانم ، محاضرة القيت في بيت المحامي ، 11/10/2006 .
21- حقوق الانسان في مجال إقامة العدل ، دليل بشأن حقوق الانسان خاص بالقضاة والمدّعين العامين والمحامين ، الامم المتحدة ، نيويورك وجنيف ، 2003 .
22 – جدول مقارن بالمبادئ والقواعد الاساسية الدولية والعربية ذات الصلة بالقضاء ، مبادرة الادارة الرشيدة لخدمة التنمية في الدول العربية ، المركز العربي لحكم القانون والنزاهة ،2009 .
23 – استقطاب القضاة / الواقع الحالي للقضاء اللبناني والمرتجى ، سامي منصور ، العدل ، عدد 2 -1999.
24– القضاء في الدول العربية ( الاردن ، لبنان ، المغرب ، مصر ) ، المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة وال UNDP – بيروت 2007 .
25- l΄ Etat de la magistrature aujourd΄ hui au Liban , Antoine Messarra,
IDLO, 2008 .
26-justice, tu poursuivras… Sélim Jahel ,l΄orient –le jour, 18 mars Justice,
2009.
Les principes de Bangalore,la Haye, 2002. 27-
28- La commission de réflexion sur l΄éthique dans la magistrature ,
France , 2003 .
29- l΄ indépendance et l΄ impartialité du juge , approche introductive sur la
situation libanaise , Ghaleb Ghanem, IdlO, Rome , 2008
30-Constitution , justice et déontologie judiciaire , relations et perspectives ,
Ghaleb Ghanem , 2008