دراسات قانونيةسلايد 1
الاقرار في الفقه والقانون البحريني
الإقرار… تعريفه… حكمه…. أنواعه…. أثره – الجزء الأول من الدراسة
التّعريف :
1 – من معاني الإقرار في اللّغة : الاعتراف . يقال : أقرّ بالحقّ إذا اعترف به . وأقرّ الشّيء أو الشّخص في المكان : أثبته وجعله يستقرّ فيه .
وفي اصطلاح الفقهاء ، الإقرار : هو الإخبار عن ثبوت حقٍّ للغير على المخبر ، وهذا تعريف الجمهور . وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه إنشاء ، وذهب آخرون منهم إلى أنّه إخبار من وجهٍ ، وإنشاء من وجهٍ .
والإقرار عند المحدّثين والأصوليّين هو : عدم الإنكار من النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قولٍ أو فعلٍ صدر أمامه . وتنظر أحكامه في مصطلح ( تقرير ) ، والملحق الأصوليّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ – الاعتراف :
2 – الاعتراف لغةً : مرادف للإقرار . يقال : اعترف بالشّيء : إذا أقرّ به على نفسه . وهو كذلك عند الفقهاء . يقول قاضي زاده : روي في السّنّة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « رجم ماعزاً بإقراره بالزّنى ، والغامديّة باعترافها » ، « وقال في قصّة العسيف : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها » . فأثبت الحدّ بالاعتراف . فالاعتراف إقرار ، وقال القليوبيّ : إنّه تفسير بالمرادف
ب – الإنكار :
3 – الإنكار : ضدّ الإقرار . يقال في اللّغة : أنكرت حقّه : إذا جحدته .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ( ر : مصطلح : إنكار ) .
والمنكر في الاصطلاح : من يتمسّك ببقاء الأصل .
ج – الدّعوى :
4 – الدّعوى في الاصطلاح : مباينة للإقرار ، فهي قول مقبول عند القاضي يقصد به طلب حقٍّ قبل الغير ، أو دفع الخصم عن حقّ نفسه .
د – الشّهادة :
5 – الشّهادة هي : الإخبار في مجلس الحكم بلفظ الشّهادة لإثبات حقٍّ للغير على الغير . فيجمع كلّاً من الإقرار والدّعوى والشّهادة أنّها إخبارات ، والفرق بينها أنّ الإخبار إن كان عن حقٍّ سابقٍ على المخبر ويقتصر حكمه عليه فإقرار ، وإن لم يقتصر : فإمّا ألاّ يكون للمخبر فيه نفع ، وإنّما هو إخبار عن حقٍّ لغيره على غيره فهو الشّهادة ، وإمّا أن يكون للمخبر نفع فيه ، لأنّه إخبار بحقٍّ له ، فهو الدّعوى .
كما تفترق من ناحية أنّ الإقرار يصحّ بالمبهم ويلزم تعيينه .
أمّا الدّعوى بالمبهم فإن كانت بما يصحّ وقوع العقد عليه مبهماً كالوصيّة فإنّها تصحّ . وأمّا الدّعوى على المدّعى عليه المبهم فلا تصحّ ، ولا تسمع .
وأمّا الشّهادة بالمبهم فإن كان المشهود به يصحّ مبهماً صحّت الشّهادة به كالعتق والطّلاق ، وإلاّ لم تصحّ ، لا سيّما الشّهادة الّتي لا تصحّ بدون دعوى .
الحكم التّكليفيّ :
6 – الأصل في الإقرار بحقوق العباد الوجوب ، ومن ذلك : الإقرار بالنّسب الثّابت لئلاّ تضيع الأنساب ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت آية الملاعنة : « أيّما رجلٍ جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب اللّه عنه وفضحه اللّه على رءوس الأوّلين والآخرين » ،وكذلك الإقرار بالحقّ الّذي عليه للغير إذا كان متعيّناً لإثباته ، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب .
دليل مشروعيّة الإقرار :
7 – ثبتت حجّيّة الإقرار بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول .
أمّا الكتاب فقوله تعالى : { وليملل الّذي عليه الحقّ } أمره بالإملال ، فلو لم يقبل إقراره لمّا كان لإملاله معنًى .
وقوله تعالى : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } أي شاهد كما قاله ابن عبّاسٍ .
وأمّا السّنّة : فما روي أنّه عليه الصلاة والسلام « رجم ماعزاً والغامديّة بإقرارهما » ، فإذا وجب الحدّ بإقراره على نفسه فالمال أولى أن يجب .
وأمّا الإجماع : فلأنّ الأمّة أجمعت على أنّ الإقرار حجّة قاصرة على المقرّ ، حتّى أوجبوا عليه الحدود والقصاص بإقراره ، والمال أولى .
وأمّا المعقول : فلأنّ العاقل لا يقرّ على نفسه كاذباً بما فيه ضرر على نفسه أو ماله ، فترجّحت جهة الصّدق ، في حقّ نفسه ، لعدم التّهمة ، وكمال الولاية .
أثر الإقرار :
8 – أثر الإقرار ظهور ما أقرّ به ، أي ثبوت الحقّ في الماضي ، لا إنشاء الحقّ ابتداءً ، فلو أقرّ لغيره بمالٍ والمقرّ له يعلم أنّ المقرّ كاذب في إقراره ، لا يحلّ له أخذ المال عن كرهٍ منه فيما بينه وبين اللّه تعالى ، إلاّ أن يسلّمه إيّاه بطيب نفسٍ منه فيكون تمليكاً مبتدأً على سبيل الهبة . وقال صاحب النّهاية ومن يحذو حذوه : حكمه لزوم ما أقرّ به على المقرّ .
حجّيّة الإقرار :
9 – الإقرار خبر ، فكان محتملاً للصّدق والكذب باعتبار ظاهره ، ولكنّه جعل حجّةً لظهور رجحان جانب الصّدق فيه ، إذ المقرّ غير متّهمٍ فيما يقرّ به على نفسه .
قال ابن القيّم : الحكم بالإقرار يلزم قبوله بلا خلافٍ .
والأصل أنّ الإقرار حجّة بنفسه ، ولا يحتاج لثبوت الحقّ به إلى القضاء ، فهو أقوى ما يحكم به ، وهو مقدّم على البيّنة . ولهذا يبدأ الحاكم بالسّؤال عنه قبل السّؤال عن الشّهادة . قال القاضي أبو الطّيّب : ولهذا لو شهد شاهدان للمدّعي ثمّ أقرّ المدّعى عليه حكم بالإقرار وبطلت الشّهادة . ولذا قيل : إنّه سيّد الحجج .
على أنّ حجّيّته قاصرة على المقرّ وحده لقصور ولاية المقرّ عن غيره فيقتصر عليه . فلا يصحّ إلزام أحدٍ بعقوبةٍ نتيجة إقرار آخر بأنّه شاركه في جريمته . وهذا ما جرى عليه القضاء في عهد الرّسول صلى الله عليه وسلم . فقد روي أنّ « رجلاً جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إنّه قد زنى بامرأةٍ – سمّاها – فأرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها فسألها عمّا قال ، فأنكرت فحدّه وتركها » .
غير أنّ هناك بعض حالاتٍ لا بدّ فيها للحكم بمقتضى الإقرار من إقامة البيّنة أيضاً . وهذا إذا ما طلب تعدّي الحكم إلى الغير . فلو ادّعى شخص على مدين الميّت أنّه وصيّه في التّركة ، وصدّقه المدين في دعوى الوصاية والدّين ، فإنّ الوصاية لا تثبت بهذا الإقرار بالنّسبة لمدينٍ آخر ينكر الوصاية وإنّما يحتاج إلى بيّنةٍ .
وفي الدّرّ المختار : أحد الورثة أقرّ بالدّين المدّعى به على مورثه ، وجحده الباقون ، يلزمه الدّين كلّه إن وفّت حصّته من الميراث به ، وقيل : لا يلزمه إلاّ حصّته من الدّين رفعاً للضّرر عنه ، لأنّه إنّما أقرّ بما يتعلّق بكلّ التّركة . وهو قول الشّعبيّ والبصريّ والثّوريّ ومالكٍ وابن أبي ليلى ، واختاره ابن عابدين ، ولو شهد هذا المقرّ مع آخر أنّ الدّين كان على الميّت قبلت شهادته ، ولا يؤخذ منه إلاّ ما يخصّه .
وبهذا علم أنّه لا يحلّ الدّين في نصيبه بمجرّد إقراره ، بل بقضاء القاضي عليه بإقراره . يقول ابن عابدين : ولو أقرّ من عنده العين أنّه وكيل بقبضها لا يكفي إقراره ، ويكلّف الوكيل إقامة البيّنة على إثبات الوكالة حتّى يكون له قبض ذلك . ثمّ الإقرار حجّة في النّسب ، ويثبت به النّسب إلاّ إذا كذّبه الواقع ، كأن يقرّ بنسب من لا يولد مثله لمثله .
سبب الإقرار :
10 – سبب الإقرار كما يقول الكمال بن الهمام : إرادة إسقاط الواجب عن ذمّته بإخباره وإعلامه ، لئلاّ يبقى في تبعة الواجب .
ركن الإقرار :
11 – أركان الإقرار عند غير الحنفيّة أربعة : مقرّ ، ومقرّ له ، ومقرّ به ، وصيغة ، وذلك لأنّ الرّكن عندهم هو ما لا يتمّ الشّيء إلاّ به ، سواء أكان جزءاً منه أم لازماً له . وزاد بعضهم كما يقول الرّمليّ : المقرّ عنده من حاكمٍ أو شاهدٍ ، وقال : وهذه الزّيادة محلّ نظرٍ ، إذ لو توقّف تحقّق الإقرار على ذلك لزم أنّه لو أقرّ خالياً بحيث لا يسمعه شاهد ، ولم يكن أمام قاضٍ ، ثمّ بعد مدّةٍ تبيّن أنّه أقرّ على هذا الوجه في يوم كذا ، لم يعتدّ بهذا الإقرار ، لعدم وجود هذا الرّكن الزّائد ، وهو ممنوع ، ولذا فإنّه لا يشترط .
وأمّا ركن الإقرار عند الحنفيّة فهو الصّيغة فقط ، صراحةً كانت أو دلالةً ، وذلك لأنّ الرّكن عندهم : ما يتوقّف عليه وجود الشّيء ، وهو جزء من ماهيّته .
المقرّ وما يشترط فيه :
المقرّ من صدر منه الإخبار عن ثبوت حقٍّ للغير على نفسه وتشترط فيه أمور :
الشّرط الأوّل : المعلوميّة :
12 – أوّل ما يشترط لاعتبار الإقرار والأخذ به أن يكون المقرّ معلوماً حتّى لو قال رجلان : لفلانٍ على واحدٍ منّا ألف درهمٍ لا يصحّ ، لأنّه إذا لم يكن معلوماً لا يتمكّن المقرّ له من المطالبة ، وكذلك إذا قال أحدهما : غصب واحد منّا ، أو زنى ، أو سرق ، أو شرب ، أو قذف ، لأنّ من عليه الحقّ غير معلومٍ ويجبران على البيان .
الشّرط الثّاني : العقل :
13 – ويشترط في المقرّ أن يكون عاقلاً . فلا يصحّ إقرار الصّبيّ غير المميّز والمجنون والمعتوه والنّائم والسّكران على تفصيلٍ يأتي بيانه .
إقرار المعتوه :
14 – لا يصحّ إقرار المعتوه ولو بعد البلوغ ، لأنّ حكمه حكم الصّبيّ المميّز ، فلا يلتزم بشيءٍ فيه ضرر إلاّ إذا كان مأذوناً له فيصحّ إقراره بالمال ، لكونه من ضرورات التّجارة : كالدّيون ، والودائع ، والعواريّ ، والمضاربات ، والغصوب ، فيصحّ إقراره . لالتحاقه في حقّها بالبالغ العامل . بخلاف ما ليس من باب التّجارة : كالمهر ، والجناية ، والكفالة ، حيث لا يصحّ إقراره بها لأنّها لا تدخل تحت الإذن .
إقرار النّائم والمغمى عليه :
15 – النّائم والمغمى عليه إقرارهما كإقرار المجنون ، لأنّهما حال النّوم والإغماء ليسا من أهل المعرفة والتّمييز ، وهما شرطان لصحّة الإقرار .
إقرار السّكران :
16 – السّكران من فقد عقله بشرب ما يسكر ، وإقرار السّكران جائز بالحقوق كلّها إلاّ الحدود الخالصة ، والرّدّة بمنزلة سائر التّصرّفات . وهذا عند الحنفيّة والمزنيّ من الشّافعيّة وأبي ثورٍ إذا كان سكره بطريقٍ محظورٍ ، لأنّه لا ينافي الخطاب ، إلاّ إذا أقرّ بما يقبل الرّجوع كالحدود الخالصة حقّاً للّه تعالى ، لأنّ السّكران يكاد لا يثبت على شيءٍ فأقيم السّكر مقامه فيما يحتمل الرّجوع فلا يلزمه شيء .
وإن سكر بطريقٍ غير محرّمٍ ، كمن شرب المسكر مكرهاً لا يلزمه شيء ، وكذا من شرب ما لا يعلم أنّه مسكر فسكر بذلك .
وقال المالكيّة : إنّ السّكران لا يؤاخذ بإقراره ، لأنّه وإن كان مكلّفاً إلاّ أنّه محجور عليه في المال ، وكما لا يلزمه إقراره . لا تلزمه العقود ، بخلاف جناياته فإنّها تلزمه .
وقال جمهور الشّافعيّة : إقرار السّكران صحيح ، ويؤاخذ به في كلّ ما أقرّ به ، سواء وقع الاعتداء فيها على حقّ اللّه سبحانه أو على حقّ العبد ، لأنّ المتعدّي بسكره يجب أن يتحمّل نتيجة عمله ، تغليظاً عليه وجزاءً لما أقدم عليه وهو يعلم أنّه سيذهب عقله .
17 – أمّا من تغيّب عقله بسببٍ يعذر فيه فلا يلزم بإقراره ، سواء أقرّ بما يجب فيه الحدّ حقّاً للّه خالصاً أو ما فيه حقّ العبد أيضاً .
وكذا فإنّه لا يصحّ إقرار السّكران في روايةٍ عند الحنابلة ، قال ابن منجّا : إنّها المذهب وجزم به في الوجيز وغيره . وجاء في أوّل كتاب الطّلاق عند الحنابلة أنّ في أقوال السّكران وأفعاله خمس رواياتٍ أو ستّة ، وأنّ الصّحيح في المذهب : أنّه مؤاخذ بعبارته .
إقرار السّفيه :
18 – السّفيه بعد الحجر عليه لا يصحّ إقراره بالمال ، لأنّه من التّصرّفات الضّارّة المحضة من حيث الظّاهر ، وإنّما قبل الإقرار من المأذون للضّرورة .
وإذا بلغ الصّبيّ سفيهاً أو ذا غفلةٍ وحجر عليه بسبب ذلك أو اعتبر محجوراً عليه فإنّه في تصرّفاته الماليّة الضّارّة يأخذ حكم الصّبيّ المميّز ، فإذا تزوّج وأقرّ بأنّ المهر الّذي قرّره لها أكثر من مهر المثل فالزّيادة باطلة ، وهكذا فإنّ القاضي يردّ كلّ تصرّفاته الماليّة الضّارّة . وعلى القول بأنّ الحجر عليه لا بدّ من الحكم به ولا يكون تلقائيّاً بسبب السّفه فإنّ السّفيه المهمل – أي الّذي لم يحجر عليه – يصحّ إقراره .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يصحّ إقراره بنكاحٍ ، ولا بدينٍ أسند وجوبه إلى ما قبل الحجر ، أو إلى ما بعده ، ولا يقبل إقراره بعينٍ في يده في حال الحجر ، وكذا بإتلاف مال الغير ، أو جناية توجب المال في الأظهر . وفي قولٍ عندهم يقبل ، لأنّه إذا باشر الإتلاف يضمن ، فإذا أقرّ به قبل إقراره ، ويصحّ إقراره بالحدّ والقصاص لعدم تعلّقهما بالمال ، وسائر العقوبات مثلهما لبعد التّهمة ، ولو كان الحدّ سرقةً قطع ، ولا يلزمه المال .
وذكر الأدميّ البغداديّ من الحنابلة : أنّ السّفيه إن أقرّ بحدٍّ أو قودٍ أو نسبٍ أو طلاقٍ لزم – ويتبع به في الحال – وإن أقرّ بمالٍ أخذ به بعد رفع الحجر عنه . والصّحيح من مذهب الحنابلة : صحّة إقرار السّفيه بالمال سواء لزمه باختياره أو لا ، ويتبع به بعد فكّ الحجر عنه ، وقيل : لا يصحّ مطلقاً ، وهو احتمال ذكره ابن قدامة في المقنع في باب الحجر ، واختاره هو والشّارح .
الشّرط الثّالث : البلوغ :
19 – أمّا البلوغ فإنّه ليس بشرطٍ لصحّة الإقرار فيصحّ إقرار الصّبيّ العاقل المأذون له بالدّين والعين ، لأنّ ذلك من ضرورات التّجارة ، ويصحّ إقراره في قدر ما أذن له فيه دون ما زاد ، ونصّ الحنابلة على أنّه المذهب وعليه جمهور الأصحاب ، وهو قول أبي حنيفة . وقال الشّافعيّ : لا يصحّ إقراره بحالٍ لعموم الخبر : « رفع القلم عن ثلاثةٍ ، عن الصّبيّ حتّى يبلغ ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النّائم حتّى يستيقظ » ولأنّه لا تقبل شهادته ، وفي قولٍ عند الحنابلة : إنّه لا يصحّ إقرار المأذون له إلاّ في الشّيء اليسير . إلاّ أنّه لا يصحّ إقرار المحجور عليه ، لأنّه من التّصرّفات الضّارّة المحضة من حيث الظّاهر . ويقبل إقرار الصّبيّ ببلوغه الاحتلام في وقت إمكانه ، إذ لا يمكن معرفة ذلك إلاّ من جهته ، وكذا ادّعاء الصّبيّة البلوغ برؤية الحيض . ولو ادّعى البلوغ بالسّنّ قبل ببيّنةٍ ، وقيل : يصدّق في سنٍّ يبلغ في مثلها ، وهي تسع سنين ، وقيل : عشر سنين ، وقيل : اثنتا عشرة سنةً ، ويلزمه بهذا البلوغ ما أقرّ به . وأفتى الشّيخ تقيّ الدّين : فيمن أسلم أبوه ، فادّعى أنّه بالغ ، بأنّه إذا كان لم يقرّ بالبلوغ إلى حين الإسلام فقد حكم بإسلامه قبل الإقرار بالبلوغ . وذلك بمنزلة ما إذا ادّعت انقضاء العدّة بعد أن ارتجعها ، وقال : هذا يجيء في كلّ من أقرّ بالبلوغ بعد حقٍّ ثبت في حقّ الصّبيّ ، مثل الإسلام ، وثبوت أحكام الذّمّة تبعاً لأبيه .
الشّرط الرّابع : فهم المقرّ لما يقرّ به :
20 – لا بدّ للزوم الإقرار واعتباره أن تكون الصّيغة مفهومةً للمقرّ فلو لقّن العامّيّ كلماتٍ عربيّةً لا يعرف معناها لم يؤاخذ بها ، لأنّه لمّا لم يعرف مدلولها يستحيل عليه قصدها ، لأنّ العامّيّ – غير المخالط للفقهاء – يقبل منه دعوى الجهل بمدلول كثيرٍ من ألفاظ الفقهاء ، بخلاف المخالط فلا يقبل منه فيما لا يخفى على مثله معناه . وبالأولى لو أقرّ العربيّ بالعجميّة أو العكس وقال : لم أدر ما قلت ، صدّق بيمينه ، لأنّه أدرى بنفسه والظّاهر معه .
الشّرط الخامس : الاختيار :
21 – ويشترط في المقرّ الاختيار ، مدعاةً للصّدق ، فيؤاخذ به المكلّف بلا حجرٍ ، أي حال كونه غير محجورٍ عليه . فإذا أقرّ الحرّ البالغ العاقل طواعيةً بحقٍّ لزمه .
وقال الحنابلة : إنّه يصحّ من مكلّفٍ مختارٍ بما يتصوّر منه التزامه ، بشرط كونه بيده وولايته واختصاصه ، ولو على موكّله أو مورثه أو مولّيه .
الشّرط السّادس : عدم التّهمة :
22 – ويشترط في المقرّ لصحّة إقراره أن يكون غير متّهمٍ في إقراره ، لأنّ التّهمة تخلّ برجحان الصّدق على جانب الكذب في إقراره ، لأنّ إقرار الإنسان على نفسه شهادة . قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم } والشّهادة على نفسه إقرار . والشّهادة ترد بالتّهمة . ومن أمثلته : ما لو أقرّ لمن بينه وبينه صداقة أو مخالطة .
23 – وممّن يتّهم في إقراره المدين المحجور عليه ، لإحاطة الدّين بماله الّذي حجر عليه فيه ، وهو ما يعبّر عنه بالمفلس .
بل صرّح المالكيّة أنّ هذا القيد – ألاّ يكون متّهماً – إنّما يعتبر في المريض ونحوه والصّحيح المحجور عليه ، لإحاطة الدّين بماله الّذي حجر عليه فيه . والصّحيح : أنّ المفلس بالنّسبة لما فلّس فيه متّهم في إقراره ، فلا يقبل إقراره لأحدٍ ، حيث كان الدّين الّذي فلّس فيه ثابتاً بالبيّنة ، لأنّه متّهم على ضياع مال الغرماء ، ولا يبطل الإقرار ، بل هو لازم يتبع به في ذمّته ، ويؤاخذ به المقرّ فيما يجدّ له من مالٍ فقط ، ولا يحاصّ المقرّ له الغرماء بالدّين الّذي أقرّ له به المفلس .
ونقل القاضي عن الإمام أحمد أنّ المفلس إذا أقرّ ، وعليه دين ببيّنةٍ ، يبدأ بالدّين الّذي بالبيّنة ، لأنّه أقرّ بعد تعلّق الحقّ بتركته ، فوجب ألاّ يشارك المقرّ له من ثبت دينه ببيّنةٍ ، كغريم المفلس الّذي أقرّ له بعد الحجر عليه ، وبهذا قال النّخعيّ والثّوريّ وأصحاب الرّأي . وفصّل الشّافعيّة ، فقالوا : لو أقرّ المفلس بعينٍ أو دينٍ وجب قبل الحجر ، فالأظهر قبوله في حقّ الغرماء لانتفاء التّهمة الظّاهرة ، وقيل : لا يقبل إقراره في حقّ الغرماء ، لئلاّ يضرّهم بالمزاحمة ، ولأنّه ربّما واطأ المقرّ له .
وإن أسند وجوبه إلى ما بعد الحجر لم يقبل في حقّهم ، بل يطالب بعد فكّ الحجر . ولو لم يسند وجوبه إلى ما قبل الحجر ولا لما بعده ، فقياس المذهب – على ما قاله الرّافعيّ – تنزيله على الأقلّ ، وهو جعله كالمسند إلى ما بعد الحجر .
إقرار المريض مرض الموت :
24 – وممّن يتّهم في إقراره : المريض مرض موتٍ في بعض الحالات على ما سنبيّنه في مصطلح ( مرض الموت ) وإن كان الأصل أنّ المرض ليس بمانعٍ من صحّة الإقرار في الجملة . إذ الصّحّة ليست شرطاً في المقرّ لصحّة إقراره ، لأنّ صحّة إقرار الصّحيح برجحان جانب الصّدق ، وحال المريض أدلّ على الصّدق ، فكان إقراره أولى بالقبول . غير أنّ المالكيّة نصّوا على أنّ من أقرّ بشيءٍ في صحّته : بشيءٍ من المال ، أو الدّين ، أو البراءات ، أو قبض أثمان المبيعات ، فإقراره عليه جائز ، لا تلحقه فيه تهمة ، ولا يظنّ فيه توليج ، والأجنبيّ والوارث في ذلك سواء ، وكذا القريب والبعيد والعدوّ والصّديق .
ويقول الحطّاب : من أقرّ بشيءٍ في صحّته لبعض ورثته ، قدّم المقرّ له بعد موت المقرّ ، ويقيم البيّنة على الإقرار . قال ابن رشدٍ : هذا هو المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالكٍ المشهور في المذهب . ووقع في المبسوط لابن كنانة والمخزوميّ وابن أبي حازمٍ ومحمّد بن مسلمة أنّه لا شيء له ، وإن أقرّ له في صحّته إذا لم يقم عليه بذلك بيّنةً حتّى هلك إلاّ أن يعرف سبب ذلك ، فإن عرف ذلك فبها وإلاّ فإذا لم يعرف له سبب فلا شيء له ، لأنّ الرّجل يتّهم أن يقرّ بدينٍ في صحّته لمن يثق به من ورثته على ألاّ يقوم به حتّى يموت . وقيل : إنّه نافذ ويحاصّ به الغرماء في الفلس ، وهو قول ابن القاسم في المدوّنة والعتبيّة ، وقال ابن رشدٍ : لا يحاصّ به على قول ابن القاسم إن ثبت ميله إليه إلاّ باليمين ، واختار ابن رشدٍ إبطال الإقرار بالدّين مراعاةً لقول المدنيّين .
وعلى هذا فإقرار المريض مرض موتٍ بالحدّ والقصاص مقبول اتّفاقاً ، وكذا إقراره بدينٍ لأجنبيٍّ فإنّه ينفذ من كلّ ماله ما لم يكن عليه ديون أقرّ بها في حال صحّته عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وأصحّ الرّوايات عند الحنابلة ، وهو المذهب عندهم ، وجزم به في الوجيز ، لأنّه لم يتضمّن إبطال حقّ الغير وكان المقرّ له أولى من الورثة ، لقول عمر : إذا أقرّ المريض بدينٍ جاز ذلك عليه في جميع تركته ، ولأنّ قضاء الدّين من الحوائج الأصليّة ، وحقّ الورثة يتعلّق بالتّركة بشرط الفراغ . وفي رواية عند الحنابلة : أنّه لا يقبل ، وفي روايةٍ أخرى عندهم لا يصحّ بزيادةٍ على الثّلث .
قال ابن قدامة : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ إقرار المريض في مرضه لغير وارثٍ جائز ، وحكى أصحابنا روايةً أخرى أنّه لا يقبل ، لأنّه إقرار في مرض الموت أشبه الإقرار لوارثٍ . وقال أبو الخطّاب في روايةٍ أخرى : إنّه لا يقبل إقراره بزيادةٍ على الثّلث ، لأنّه ممنوع من عطيّة ذلك الأجنبيّ ، كما هو ممنوع من عطيّة الوارث ، فلا يصحّ إقراره بما لا يملك عطيّته بخلاف الثّلث فما دون . والمقصود بالأجنبيّ هنا أن يكون غير وارثٍ في المقرّ فيشمل القريب غير الوارث . ويصرّح المالكيّة بذلك فيقولون : إن أقرّ لقريبٍ غير وارثٍ كالخال أو لصدّيقٍ ملاطفٍ أو مجهولٍ حاله – لا يدرى هل هو قريب أم لا – صحّ الإقرار إن كان لذلك المقرّ ولد وإلاّ فلا ، وقيل : يصحّ .
وأمّا لو أقرّ لأجنبيٍّ غير صديقٍ كان الإقرار لازماً كان له ولد أم لا . وقال الشّافعيّة : للوارث تحليف المقرّ له على الاستحقاق .
وأمّا إقرار المريض لوارثٍ فهو باطل إلاّ أن يصدّقه الورثة أو يثبت ببيّنةٍ عند الحنفيّة والمذهب عند الحنابلة ، وفي قولٍ للشّافعيّة . وعند المالكيّة : إن كان متّهماً في إقراره كأن يقرّ لوارثٍ قريبٍ مع وجود الأبعد أو المساوي ، كمن له بنت وابن عمٍّ فأقرّ لابنته لم يقبل وإن أقرّ لابن عمّه قبل ، لأنّه لا يتّهم في أنّه يزري ابنته ويوصّل المال إلى ابن عمّه . وعلّة منع الإقرار التّهمة ، فاختصّ المنع بموضعها .
وأطال المالكيّة في تصوير ذلك والتّفريع عليه . وقالوا : من مرض بعد الإشهاد في صحّته لبعض ولده فلا كلام لبقيّة أولاده إن كتب الموثّق أنّ الصّحيح قبض من ولده ثمن ما باعه له ، فإن لم يكتب فقيل : يحلف مطلقاً . وقيل : يحلف إن اتّهم الأب بالميل إليه .
قال الموّاق : لا يقبل إقرار المريض لمن يتّهم عليه . وسئل المازريّ عمّن أوصى بثلث ماله ، ثمّ اعترف بدنانير لمعيّنٍ : فأجاب إن اعترف في صحّته حلف المقرّ له يمين القضاء . واستدلّ القائلون ببطلان الإقرار بما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا وصيّة لوارثٍ ، ولا إقرار له بالدّين » ، وبالأثر عن ابن عمر أنّه قال : ” إذا أقرّ الرّجل في مرضه بدينٍ لرجلٍ غير وارثٍ فإنّه جائز وإن أحاط بماله ، وإن أقرّ لوارثٍ فهو باطل إلاّ أن يصدّقه الورثة ” . وقول الواحد من فقهاء الصّحابة مقدّم على القياس . ولم يعرف لابن عمر في ذلك مخالف من الصّحابة فكان إجماعاً ، ولأنّه تعلّق حقّ الورثة بماله في مرضه ، ولهذا يمنع من التّبرّع على الوارث أصلاً ، ففي تخصيص البعض به إبطال حقّ الباقين .
وفي كتب الحنابلة : لو أقرّت المرأة بأنّها لا مهر لها على زوجها لم يصحّ ، إلاّ أن يقيم بيّنةً أنّها أخذته .
إقرار المريض بالإبراء :
25 – إذا أقرّ المريض أنّه أبرأ فلاناً من الدّين الّذي عليه في صحّته لا يجوز ، لأنّه لا يملك إنشاء الإبراء للحال ، فلا يملك الإقرار به ، بخلاف الإقرار باستيفاء الدّين ، لأنّه إقرار بقبض الدّين ، وأنّه يملك إنشاء القبض فيملك الإخبار عنه بالإقرار . وهذا مذهب الحنفيّة . ويقرب منهم الشّافعيّة إذ يقولون : إذا أبرأ المريض مرض الموت أحد مديونيه ، والتّركة مستغرقة بالدّيون ، لم ينفذ إبراؤه لتعلّق حقّ الغرماء . بينما يقول المالكيّة في باب الإقرار : وإن أبرأ إنسان شخصاً ممّا قبله أو أبرأه من كلّ حقٍّ له عليه ، أو أبرأه وأطلق بريء مطلقاً ممّا في الذّمّة وغيرها معلوماً أو مجهولاً . وهذه العبارة بإطلاقها شاملة للمريض وللصّحيح ، وشاملة للإبراء من دين الصّحّة وغيره .
الرّكن الثّاني : المقرّ له ، وما يشترط فيه :
المقرّ له من يثبت له الحقّ المقرّ به ، ويحقّ له المطالبة به أو العفو عنه واشترط الفقهاء فيه ما يأتي :
الشّرط الأوّل : ألاّ يكون المقرّ له مجهولاً :
26 – فلا بدّ أن يكون معيّناً ، بحيث يمكن أن يطالب به ، ولو كان حملاً . كأن يقول : عليّ ألف لفلانٍ ، أو عليّ ألف لحمل فلانة ، وسيأتي تفصيل الإقرار للحمل . أو يكون مجهولاً جهالةً غير فاحشةٍ ، كأن يقول : عليّ مال لأحد هؤلاء العشرة ، أو لأحد أهل البلد ، وكانوا محصورين عند الشّافعيّة ، والنّاطفيّ وخواهر زاده من الحنفيّة .
الإقرار مع جهالة المقرّ له :
27 – أجمع الفقهاء على أنّ الجهالة الفاحشة بالمقرّ له لا يصحّ معها الإقرار ، لأنّ المجهول لا يصلح مستحقّاً ، إذ لا يجبر المقرّ على البيان ، من غير تعيين المستحقّ ، فلا يفيد الإقرار شيئاً .
وأمّا إذا كانت الجهالة غير فاحشةٍ بأن قال : عليّ ألف لأحد هذين أو لأحد هؤلاء العشر : أو لأحد أهل البلد وكانوا محصورين ، فهناك اتّجاهان :
الأوّل : ما ذهب إليه الشّافعيّة ، وهو ما اختاره النّاطفيّ وخواهر زاده من الحنفيّة . أنّ هذا الإقرار صحيح ، لأنّه قد يفيد وصول الحقّ إلى المستحقّ بتحليف المقرّ لكلٍّ من حصرهم ، أو بتذكّره ، لأنّ المقرّ قد ينسى ، وهو ما يفهم من مغني ابن قدامة ، لأنّه مثّل بالجهالة اليسيرة . والثّاني : ما ذهب إليه جمهور الحنفيّة ، وهو ما اختاره السّرخسيّ : من أنّ أيّ جهالةٍ تبطل الإقرار ، لأنّ المجهول لا يصلح مستحقّاً ، ولا يجبر المقرّ على البيان ، من غير تعيين المدّعي .
الشّرط الثّاني : أن تكون للمقرّ له أهليّة استحقاق المقرّ به حسّاً وشرعاً :
28 – فلو أقرّ لبهيمةٍ أو دارٍ ، بأنّ لها عليه ألفاً وأطلق لم يصحّ الإقرار ، لأنّهما ليسا من أهل الاستحقاق . أمّا لو ذكر سبباً يمكن أن ينسب إليه ، كما لو قال : عليّ كذا لهذه الدّابّة بسبب الجناية عليها ، أو لهذه الدّار بسبب غصبها أو إجارتها ، فالجمهور على أنّ هذا الإقرار صحيح ، ويكون الإقرار في الحقيقة لصاحب الدّابّة أو الدّار وقت الإقرار وهو اختيار المرداويّ ، كما جزم به صاحب الرّعاية ، وابن مفلحٍ في الفروع من الحنابلة .
لكن جمهور الحنابلة على أنّ هذا الإقرار لا يصحّ ، لأنّ هذا الإقرار وقع للدّار وللدّابّة ، وهما ليستا من أهل الاستحقاق .
الإقرار للحمل :
29 – إن أقرّ لحمل امرأةٍ عيّنها بدينٍ أو عيّن فقال : عليّ كذا ، أو عندي كذا لهذا الحمل وبيّن السّبب فقال : بإرثٍ أو وصيّةٍ ، كان الإقرار معتبراً ولزمه ما أقرّ به لإمكانه . وكان الخصم في ذلك وليّ الحمل عند الوضع ، إلاّ إذا تمّ الوضع لأكثر من أربع سنين – من حين الاستحقاق مطلقاً – الّتي هي أقصى مدّة الحمل – كما يرى فريق من الفقهاء – أو لستّة أشهرٍ فأكثر – الّتي هي أقلّ مدّة الحمل – وهي فراش لم يستحقّ ، لاحتمال حدوث الحمل بعد الإقرار . ولا يصحّ الإقرار إلاّ لحملٍ يتيقّن وجوده عند الإقرار ، ويكون ذلك بما إذا وضعته لأقلّ من ستّة أشهرٍ ، أو لأكثر من ذلك إلى سنتين عند الحنفيّة ، وإلى أربعةٍ عند الشّافعيّة . وينصّ المالكيّة : ولزم الإقرار للحمل ، وإن كان الإقرار أصله وصيّةً فله الكلّ ، وإن كان بالإرث من الأب – وهو ذكر – فكذلك ، وإن كان أنثى فلها النّصف ، وإن ولدت ذكراً وأنثى فهو بينهما بالسّويّة إن أسنده إلى وصيّةٍ ، وأثلاثاً إن أسنده إلى إرثٍ ، إلاّ إذا كانت جهة التّوريث يستوي فيها الذّكر والأنثى كالإخوة لأمٍّ ، وإن أسند السّبب إلى جهةٍ لا تمكن في حقّه كقوله : باعني شيئاً فلغو للقطع بكذبه ، وعند الشّافعيّة قول بغير ذلك .
وإن أطلق الإقرار ولم يسنده إلى شيءٍ صحّ عند الحنابلة ، لإطلاقهم القول بصحّة الإقرار بحال حمل امرأةٍ ، لجواز أن يكون له وجه . وقال أبو الحسن التّميميّ : لا يصحّ إلاّ أن يسنده إلى سببٍ من إرثٍ أو وصيّةٍ ، وقيل : لا يصحّ مطلقاً . قال في النّكت : ولا أحسب هذا قولاً في المذهب .
وصحّ في الأظهر عند الشّافعيّة ، ويحمل على الممكن في حقّه ، صوناً لكلام المكلّف عن الإلغاء ما أمكن . وفي قولٍ عند الشّافعيّة : لا يصحّ ، إذ المال لا يجب إلاّ بمعاملةٍ أو جنايةٍ ، وهما منتفيان في حقّه ، فحمل الإطلاق على الوعد . وقال أبو يوسف من الحنفيّة : إن أجمل الإقرار لا يصحّ ، لأنّ الإقرار المبهم يحتمل الصّحّة والفساد ، لأنّه إن كان يصحّ بالحمل على الوصيّة والإرث فإنّه يفسد بالحمل على البيع والغصب والقرض ، كما أنّ الحمل في نفسه محتمل الوجود والعدم ، والشّكّ من وجهٍ واحدٍ يمنع صحّة الإقرار ، فمن وجهين أولى . وقال محمّد : يصحّ حملاً لإقرار العاقل على الصّحّة .
ولو انفصل الحمل ميّتاً فلا شيء على المقرّ للحمل أو ورثته ، للشّكّ في حياته وقت الإقرار . فيسأل القاضي المقرّ حسبةً عن جهة إقرارٍ من إرثٍ أو وصيّةٍ ليصل الحقّ لمستحقّه . وإن مات المقرّ قبل البيان بطل . وإن ألقت حيّاً وميّتاً جعل المال للحيّ .
الإقرار للميّت :
30 – لو قال : لهذا الميّت عليّ كذا فذلك إقرار صحيح ، وهو إقرار في الحقيقة للورثة يتقاسمونه قسمة الميراث ، لكن إن كان المقرّ له حملاً ثمّ سقط ميّتاً بطل الإقرار ، إن كان سبب الاستحقاق ميراثاً أو وصيّةً ، ويرجع المال إلى ورثة المورث ، أو ورثة الموصي .
الإقرار بالحمل :
31 – نصّ الحنفيّة : على أنّ من أقرّ لرجلٍ بحمل فرسٍ أو حمل شاةٍ فإنّ إقراره صحيح ولزمه ما أقرّ به ، لأنّ له وجهاً صحيحاً وهو الوصيّة بالحمل ، بأن تكون الفرس أو الشّاة لواحدٍ ، وأوصى بحملها لرجلٍ ، ومات والمقرّ وارثه ، وقد علم بوصيّةٍ مورثه .
الإقرار للجهة :
32 – الأصل أنّه يصحّ الإقرار لمن كان لديه أهليّة ماليّةٍ أو استحقاقٍ كالوقف والمسجد ، فيصحّ الإقرار لهما . على نفسه بمالٍ له ، ويصرف في إصلاحه وبقاء عينه ، كأن يقول ناظر على مسجدٍ أو وقفٍ : ترتّب في ذمّتي مثلاً للمسجد أو للوقف كذا . فإنّ الإقرار لهذا ومثله كالطّريق والقنطرة والسّقاية ، يصحّ ، ولو لم يذكر سبباً ، كغلّة وقفٍ أو وصيّةٍ ، لأنّه إقرار من مكلّفٍ مختارٍ فلزمه ، كما لو عيّن السّبب ويكون لمصالحها ، فإذا أسنده لممكنٍ بعد الإقرار صحّ . وفي وجهٍ عند الحنابلة ذكره التّميميّ : أنّ الإقرار للمسجد ونحوه من الجهات لا يصحّ إلاّ مع ذكر السّبب .
الشرط الثالث : ألا يكذب المقر في اقراره :
33 – يشترط الفقهاء لصحّة الإقرار ألاّ يكذّب المقرّ له المقرّ فيما أقرّ به ، فإن كذّبه بطل إقراره لأنّ الإقرار ممّا يرتدّ بالرّدّ إلاّ في بعض مسائل : منها الإقرار بالحرّيّة والرّقّ والنّسب وولاء العتاقة والوقف والطّلاق والميراث والنّكاح وابراء الكفيل وإبراء المدين بعد قوله : أبرئني . فلو قال المقرّ له للمقرّ : ليس لي عليك شيء ، أو لا علم لي ، واستمرّ التّكذيب فلا يؤاخذ بإقراره . والتّكذيب يعتبر من بالغٍ رشيدٍ .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه إن كذّب المقرّ له المقرّ وكان قد أقرّ له بعينٍ ، ترك المال المقرّ به في يد المقرّ في الأصحّ ، لأنّ يده مشعرة بالملك ظاهراً ، والإقرار بالطّارئ عارضه التّكذيب فسقط ، فتبقى يده على ما معه يد ملكٍ لا مجرّد استحفاظٍ . ويقابل الأصحّ أنّ الحاكم ينزعه منه ويحفظه إلى ظهور مالكه . وإذا ادّعى المقرّ له جنساً آخر بعد أن كذّب المقرّ حلف المقرّ . أمّا إذا أقرّ المقرّ بشيءٍ ثمّ ادّعى أنّه كاذب في إقراره حلف المقرّ له أو وارثه على المفتى به – عند الحنفيّة – أنّ المقرّ لم يكن كاذباً في إقراره . وقيل : لا يحلف ، وفي جامع الفصولين : أقرّ فمات فقال ورثته : إنّه أقرّ كاذباً فلم يجز إقراره ، والمقرّ له عالم به ليس لهم تحليفه ، إذ وقت الإقرار لم يتعلّق حقّهم بمال المقرّ فصحّ الإقرار ، وحيث تعلّق حقّهم صار حقّاً للمقرّ له .
الرّكن الثّالث : المقرّ به :
34 – المقرّ به في الأصل نوعان : حقّ اللّه تعالى ، وحقّ العبد . وحقّ اللّه تعالى نوعان : حقّ خالص للّه ، وحقّ للّه فيه حقّ وللعبد أيضاً .
ولصحّة الإقرار بحقّ اللّه شروط هي : تعدّد الإقرار ، ومجلس القضاء والعبارة . حتّى إنّ الأخرس إذا كتب الإقرار فيما هو حقّ اللّه بيده ، أو بما يعرف أنّه إقرار بهذه الأشياء يجوز ، بخلاف الّذي اعتقل لسانه ، لأنّ للأخرس إشارةً معهودةً فإذا أتى بها يحصل العلم بالمشار إليه ، وليس ذلك لمن اعتقل لسانه ، ولأنّ إقامة الإشارة مقام العبارة أمر ضروريّ ، والخرس ضرورة لأنّه أصليّ ، وكذلك فإنّه لا يشترط لصحّة الإقرار بحقّ اللّه تعالى الصّحو حتّى يصحّ إقرار السّكران ، وفي ذلك كلّه تفصيل وخلاف مبيّن في الحدود ، وعند الكلام عن حقّ اللّه تعالى .
وأمّا حقّ العبد فهو المال ، من العين والدّين والنّسب والقصاص والطّلاق والعتاق ونحوها ، ولا يشترط لصحّة الإقرار بها ما يشترط لصحّة الإقرار بحقوق اللّه تعالى . فهي تثبت مع الشّبهات ، بخلاف حقوق اللّه تعالى . والشّرائط المختصّة بحقوق العباد نوعان :
نوع يرجع إلى المقرّ له ، وهو أن يكون معلوماً على ما سبق ،
ونوع يرجع إلى المقرّ به ، فيشترط لصحّة الإقرار بالعين والدّين الفراغ عن تعلّق حقّ الغير . فإن كان مشغولاً بحقّ الغير لم يصحّ ، لأنّ حقّ الغير معصوم محترم ، فلا يجوز إبطاله من غير رضاه ، فلا بدّ من معرفة وقت التّعلّق .
35 – ولمّا كان الإقرار إخباراً عن كائنٍ ، وذلك قد يكون معلوماً وقد يكون مجهولاً ، فإنّ جهالة المقرّ به لا تمنع صحّة الإقرار بغير خلافٍ . فلو أتلف على آخر شيئاً ليس من ذوات الأمثال فوجبت عليه قيمته ، أو جرح آخر جراحةً ليس لها في الشّرع أرش مقدّر فأقرّ بالقيمة والأرش ، فكان الإقرار بالمجهول إخباراً عن المخبر عنه على ما هو به . ويجبر على البيان لأنّه هو المجمل ، فكان البيان عليه ، قال اللّه تعالى : { فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه ثمّ إنّ علينا بيانه } ويصحّ بيانه متّصلاً ومنفصلاً ، لأنّه بيان محض فلا يشترط فيه الوصل . 36 – لا بدّ أن يبيّن شيئاً له قيمة ، لأنّه أقرّ بما في ذمّته ، وما لا قيمة له لا يثبت في الذّمّة ، وإذا بيّن شيئاً له قيمة فإن صدّقه المقرّ له وادّعى عليه زيادةً ، أخذ ذلك القدر المعيّن ، وأقام البيّنة على الزّيادة ، وإلاّ حلّفه عليها إن أراد ، لأنّه منكر للزّيادة ، والقول قول المنكر مع يمينه ، وإن كذّبه وادّعى عليه مالاً آخر أقام البيّنة ، وإلاّ حلّفه عليه ، وليس له أن يأخذ ما عيّنه ، لأنّه أبطل إقراره بالتّكذيب .
وعلى هذا فإذا قال : لفلانٍ عليّ مال ، يصدّق في القليل والكثير . لأنّ المال اسم ما يتموّل ، وهذا يقع على القليل والكثير ، ويصحّ بيانه متّصلاً ومنفصلاً . وبهذا قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . ونقل ابن قدامة عن أبي حنيفة أنّه لا يقبل تفسيره . بغير المال الزّكويّ ، وأنّ بعض أصحاب مالكٍ حكوا عنه ثلاثة أوجهٍ : أحدها كغير المالكيّة ،
والثّاني : لا يقبل إلاّ أوّل نصابٍ من نصب الزّكاة من نوع أموالهم ،
والثّالث : ما يقطع فيه السّارق ويصحّ مهراً .
ويقول الزّيلعيّ : لم يصدّق في أقلّ من درهمٍ ، لأنّ ما دونه لا يطلق عليه اسم المال عادةً وهو المعتبر . ولو قال : له عليّ مال عظيم فالواجب نصاب ، لأنّه عظيم في الشّرع حتّى اعتبر صاحبه غنيّاً . وعن أبي حنيفة أنّه لا يصدّق في أقلّ من عشرة دراهم ، لأنّه نصاب السّرقة والمهر ، وهو عظيم حيث تقطع به اليد ويصلح مهراً .
ويجبره القاضي على البيان ، ولا بدّ أن يبيّن ما له قيمة ، لأنّ ما لا قيمة له لا يجب في الذّمّة.