دراسات قانونية
بحث ودراسة قانونية تشرح حق الخيار في الدعوى المدنية التابعة
مقدمــــــــــــة:
تشكل الجريمة السبب الرئيسي في فساد و انحلال المجتمع، و بمجرد ارتكابها ينشأ للدولة الحق في عقاب من تسبب في وقوعها، وذلك من أجل تحقيق العدالة.
ولا يتحقق الحكم بإدانة الجاني أو ببراءته إلا عن طريق إقامة دعوى عمومية التي تباشرها النيابة العامة باعتبارها ممثلة عن المجتمع متى تم تحريكها، إلا أنه للجريمة وجه آخر، حيث أنه في الكثير من الحالات ينتج عن ارتكابها وقوع ضرر مادي أو معنوي يصيب الفرد، مما يخول للمضرور الحق في مطالبة الجاني بالتعويض عن الضرر الذي أصابه من الجريمة، و لا يتحقق ذلك إلا من خلال رفع دعوى مدنية.
والأصل في الدعوى المدنية أنها ترفع أمام القضاء المدني الذي يعد المرجع الطبيعي للنظر في دعوى المطالبة بالحق الشخصي، فإذا أقام المدعي المدني دعواه أمام هذا الأخير فإنها تخضع للقواعد العامة.
و لكن كما هو معروف لكل أصل استثناء، إذ يجوز للطرف المدني إقامة دعواه أمام القضاء الجنائي، وهذا ما نستشفه في نص المواد 7 و 8 و 9 و 10 و 11 و 12 و 13 و 14 من قانون المسطرة الجنائية[1]، مما يسمح للقاضي الجنائي بالنظر في الدعوى المدنية متى كانت تابعة للدعوى العمومية، و ذلك لما له من سلطات أوسع من سلطات القاضي المدني.
وعليه فللمدعي المدني الحق في الخيار بين القضاء المدني و القضاء الجنائي، لكن هذا لا يعني أنه حق مطلق، فإقامة و مباشرة الدعوى المدنية التابعة تخضع لبعض القيود و الإجراءات، كما أن القاضي الجنائي لا يفصل في هذه الدعوى إلا إذا كان موضوعها التعويض عن الضرر الناتج عن الجريمة، فهو الموضوع الرئيسي الذي تقوم عليه الدعوى المدنية التابعة للدعوى العمومية.
حيث أنه ومع إمكانية نشوء تبعية بين الدعويين إلا أنه يوجد فرق واضح بينهما و ذلك سواء من حيث السبب و الموضوع و الأطراف مما قد يولد آثارا تميز الدعوى المدنية عن الدعوى العمومية.
إن دراسة موضوع حق الخيار في الدعوى المدنية التابعة تكتسي أهمية بالغة و خاصة أن الدعوى المدنية التابعة وسيلة يلجأ إليها المضرور من الجريمة لاقتضاء حقه، و ذلك لا يتأتى إلا بالإدعاء المدني إما أمام قاضي التحقيق أو أمام المحكمة، و لهذا النوع من الدعاوى فوائد عملية تعود بالصالح على المضرور ذلك أنها توفر الوقت، و الجهد و المصاريف، كما أنها تمنع حصول تناقض بين الأحكام الصادرة من جهات الحكم المختلفة.
أما عن إشكالية هذا الموضوع فتتمحور أساسا حول الحدود التي رسمها القانون للمضرور عند لجوئه إلى القضاء الجنائي للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحقه من الجريمة، فإلى أي مدى تكمن حرية المدعي المدني في مباشرة الدعوى المدنية أمام القضاء الجنائي؟
للإجابة على الإشكالية المطروحة و إيمانا منا للمنهجية القانونية الأكاديمية التي تفرض علينا تناول هذا الموضوع في شقين، لذلك ارتأينا تقسيمه إلى مبحثين أساسيين:
المبحث الأول: ماهية الدعوى المدنية التابعة
المبحث الثاني: ممارسة الدعوى المدنية التابعة
المبحث الأول: ماهية الدعوى المدنية التابعة
عندما يتعرض أحد الأشخاص إلى الإصابة بضرر ناجم عن أفعال جرمية، فمن حقه هو أو من يقوم مقامه أن يطلب من القضاء تعويضه عما لحقه من ضرر تعويضا مدنيا، والسبيل إلى ذلك من حيث الأصل أن يكون أمام القضاء المدني، لكن القانون ومع ذلك أجاز للمتضرر من الجريمة رفع دعواه المدنية أمام القضاء الجنائي بالتبعية للدعوى العمومية، ويطلق على هذه الإمكانية ” خيار المتضرر بين الطريقين الجنائي والمدني”.
كما أن للدعوى المدنية التابعة كغيرها من الدعاوى طرفان، أحدهما إيجابي يسمى بالمدعي و ثانيهما سلبي و هو المدعى عليه ( المطلب الأول).
و إذا كان موضوع الدعوى العمومية هو تطبيق العقوبة أو التدبير الوقائي على الجاني أو الجناة، فإن موضوع الدعوى المدنية التابعة أكثر تشعبا، و هكذا فإننا نجد أن للدعوى المدنية التابعة موضوعا رئيسيا، و هو المطالبة بالتعويض عن الضرر الحاصل من جراء اقتراف الجريمة، ومواضيع فرعية وهي الرد واسترجاع مصاريف الدعوى (المطلب الثاني).
المطلب الأول: تعريف الدعوى المدنية التابعة وأطرافها
للدعوى المدنية التابعة تعريفا يميزها عن غيرها من الدعاوي الأخرى ( الفقرة الأولى)، كما لها طرفان، المدعي أو الطرف الإيجابي و المدعى عليه أو الطرف السلبي.
أما الطرف الإيجابي فهو الذي يقيم الدعوى المدنية ويمكن أن يكون هو ضحية الجريمة أو ورثته كما قد يكون هو أحد ذوي حقوق الضحية من غير الورثة.
وأما الطرف الثاني فهو الذي تقام عليه الدعوى فقد يكون هو الجاني أو ورثته أو المسؤول المدني عنه. ( الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: تعريف الدعوى المدنية التابعة
تعرف الدعوى المدنية التابعة بأنها مطالبة من لحقه ضرر من الجريمة، وهو المدعي المدني من المتهم أو المسؤول المدني عن الحقوق المدنية أمام القضاء الجنائي بجبر الضرر الذي أصابه نتيجة الجريمة التي ارتكبها فأضر بالمدعي المدني[2].
كما تعرف أيضا بأنها دعوى الحق الشخصي التي يرفعها المدعي المدني الناتجة عن ذات الجريمة، و الموجهة إلى نفس المتهم، أو المسؤول عن الحقوق المدنية أمام القضاء الجنائي للتعويض عن الضرر الذي لحقه جراء الجريمة التي ارتكبها المتهم و أضرت به.
و عليه فإن هذه الدعوى لها مكانة أمام المحاكم الجنائية، و يفصل فيها بعد الفصل في دعوى الحق العام ( الدعوى العمومية) لهذا يقال عنها أنها تابعة للدعوى العمومية.
و التبعية المقصود بها هنا هي التبعية الإجرائية، و ليس التبعية الموضوعية، بحيث أطلق عليها هذا الوصف بأنها ترفع أمام قضاء غير قضائها الأصيل، و يفصل فيها قاضي غير مدني.
الفقرة الثانية: أطراف الدعوى المدنية التابعة
كل دعوى تقام أمام القضاء يرفعها طرف يسمى المدعي (أولا)، ضد طرف آخر يسمى المدعى عليه (ثانيا).
أولا: الطرف الإيجابي في الدعوى المدنية ( المدعي)
جاء في المادة السابعة من ق.م.ج. ما يلي: “ يرجع الحق في إقامة الدعوى المدنية للتعويض عن الضرر الناتج عن جناية أو جنحة أو مخالفة لكل من تعرض شخصيا لضرر جسماني أو مادي أو معنوي تسببت فيه الجريمة مباشرة.
يمكن للجمعيات المعلن بأنها ذات منفعة عامة أن تنتصب طرفا مدنيا، إذا كانت قد تأسست بصفة قانونية منذ أربع سنوات على الأقل قبل ارتكاب الفعل الجرمي، وذلك في حالة إقامة الدعوى العمومية من قبل النيابة العامة أو الطرف المدني بشأن جريمة تمس مجال اهتمامها المنصوص عليه في قانونها الأساسي.
يمكن للدولة أو للجماعات المحلية أن تتقدم بصفتها طرفا مدنيا لمطالبة مرتكب الجريمة بأن يرد لها المبالغ التي طلب منها دفعها لموظفين أو لذوي حقوقهم طبقا للقانون الجاري به العمل“.
وجاءت بعد ذلك المادتان التاسعة و العاشرة[3] من نفس القانون لتمنح للمتضرر الخيار بين إقامة دعواه المدنية أمام المحكمة الزجرية المقامة لديها الدعوى العمومية أو منفصلة عنها لدى المحكمة المدنية المختصة.
نستخلص من المواد السابقة أنها تخول استعمال الدعوى المدنية للمطالبة بالتعويض عن الضرر الناجم عن جناية أو جنحة أو مخالفة لكل من لحقه شخصيا ضرر ذاتي أو مادي أو معنوي تسببت فيه الجريمة مباشرة و عليه يمكن إقامة الدعوى المدنية التابعة بدون إشكال من طرف الضحية التي تضررت شخصيا ومباشرة من الجريمة[4]
أما بالنسبة للأهلية اللازمة في الدعوى المدنية التابعة فهي أهلية الأداء،لا أهلية وجوب.
إذ يتعين على القاضي عندما توجه إليه الدعوى المدنية من طرف الشخص الطبيعي أن يتحقق من توافر أهليته والمقصود هنا بالدرجة الأولى طبعا هو أهلية الأداء، ما دامت أهلية الوجوب معترف بها لكل الأشخاص الطبيعيين.
وتثبت الأهلية للشخص الطبيعي إن كان راشدا أو تم ترشيده حسب مقتضيات الواردة في مدونة الأسرة[5]، شريطة أن لا يكون به خلل عقلي من جنون أو عته أو يبلغ سن الرشد وبه سفه، أو يكون قد سبق الحكم عليه بعقوبة جنائية لم ينته تنفيذها عليه بعد.
ومن ثم فإن الدعوى المدنية لا ينبغي سماعها إلا من الشخص الكامل الأهلية، أما إذا كان الشخص المتضرر فاقد الأهلية أو ناقصها أو محجورا عليه لسفه أو عته أو جنون فإن ممثله القانوني هو الذي يرفعها نيابة عنه سواء تعلق الأمر بوليه أو وصيه أو بالمقدم عنه[6].
أما بالنسبة للشخص الاعتباري، فإن القانون المنظم له والذي بسببه يعترف له بالشخصية الاعتبارية يتحدد فيه الذي يكون له الحق في الإدعاء عنه أمام القضاء، فتثبت له هكذا أهلية الإدعاء عنه أمام القضاء الزجري كمطالب بالتعويض، والمحكمة بطبيعة الحال لكي تقبل تمثيل شخص لشخص اعتباري عام (الدولة، الجماعات المحلية…) أو خاص (شركة، جمعية، حزب سياسي، نقابة…) تتأكد أولا من أن هذا الشخص الاعتباري له أهلية الوجوب التي يتطلبها القانون لاكتساب الشخصية الاعتبارية، وتستخلص من العقود أو القانون المنظم له من يمثله وعلى ضوء ما سبق تقبل تمثيله أو ترفضه[7].
ثانيا: الطرف السلبي في الدعوى المدنية التابعة(المدعى عليه)
تنص المادة الثامنة من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي:
” يمكن أن تقام الدعوى المدنية ضد الفاعلين الأصليين أو المساهمين أو المشاركين في ارتكاب الجريمة وضد ورثتهم أو الأشخاص المسؤولين مدنيا عنهم“.
فإذا كانت الدعوى العمومية تقام فقط ضد الفاعل والمساهم والمشارك، فإن الدعوى المدنية التابعة تقام في حق هؤلاء وورثتهم والمسؤولين مدنيا عنهم.
وذلك ما سندرسه على التوالي:
الدعوى المدنية المرفوعة ضد الجاني
ترفع الدعوى المدنية دون إشكال ضد الجاني أيا كانت صفته فاعلا أو مساهما أو مشاركا (المادة 8 من ق.م.ج)، وذلك لأن هؤلاء هم المسؤولون عن الضرر الحاصل من الجريمة، ولا يهم أن يكون الطرف المدعى عليه شخصا طبيعيا أو شخصا معنويا لأن نصوص القانون الجنائي المغربي تقرر المسؤولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية ولا تستثنيها من إمكانية الحكم بأداء التعويضات المدنية[8].
وإذا تعدد المتهمون في الجريمة الواحدة ووقعت متابعتهم بدعوى عمومية واحدة، يكون للمتضرر من الجريمة الخيار في أن يطالب أيا منهم بالتعويض أو كلهم مجتمعين ولا يجوز لمن وقعت مطالبته دون الآخرين الدفع بعدم قبول الدعوى المدنية قبله بعلة وجود مسؤولين آخرين معه عن التعويض لم يقع إدخالهم من طرف المتضرر في مطالبته، لأن حق الخيار في ذلك مخول للمتضرر بصريح الفصل 109[9] من مجموعة القانون الجنائي، الذي قرر التضامن في أداء التعويضات بين جميع المسؤولين في الجريمة الواحدة إذ كل ما يجب هو أن المتضرر لا يتقاضى التعويض إلا مرة واحدة[10] من أي منهم أو كلهم، وإن هو أداه أحدهم لمطالبته لوحده به من قبل المتضرر، يكون له حق الرجوع على باقي المسؤولين معه بنسبة منابة كما يقضي بذلك الفصل 178[11] من قانون الالتزامات والعقود الذي يحيل على أحكام الوكالة و الكفالة فيما يتعلق بتضامن المدينين في أداء الدين[12].
2- الدعوى المدنية المرفوعة على ورثة الجاني
إن الدين المتعلق بالتعويض دين مدني عالق بذمة الجاني وعليه إذا كان ورثة الجاني لا يمكن مساءلتهم من الزاوية الزجرية عن الجريمة التي ارتكبها مورثهم فإنه على العكس من ذلك يسألون عن التعويض المدني المترتب في ذمته لضحية الجريمة(الفصل 8 من ق.م.ج) يتم ذلك في حدود التركة ويؤخذ منها لأنه دين عليها لا على الورثة أنفسهم ولا ميراث عندنا إلا بعد سداد ما يثقل التركة من ديون[13].
إذن قد تقع المطالبة المدنية من قبل المتضرر من الجريمة تبعا لدعوى عمومية وقع تحريكها من قبل النيابة العامة، ويحدث أن يتوفى المتابع فيها (المتهم بها) قبل صدور الحكم فيها، ففي هذه الحالة فإن الدعوى العمومية تسقط بلا خلاف، ويتابع نظر الدعوى المدنية في مواجهة الورثة عملا بالمادة 12 من ق.م.ج التي صرحت بأنه: “إذا كانت المحكمة الزجرية تنظر في الدعوى العمومية والدعوى المدنية معا، فإن وقوع سبب مسقط للدعوى العمومية يترك الدعوى المدنية قائمة، وتبقى خاضعة لاختصاص المحكمة الزجرية“.
3- الدعوى المدنية المرفوعة ضد المسؤول المدني
لقد قرر قانون الالتزامات والعقود بأن الشخص لا يكون مسؤولا فقط عن الضرر الذي يحدثه بفعله فحسب بل إنه يسأل أيضا عن الضرر الذي يحدثه الأشخاص الذين هم في عهدته[14]، وعبارة المسؤول المدني تستعمل للدلالة على نفر واسع من الأشخاص تتسم مسؤوليتهم المدنية بسمة التبعية أي أنها تابعة لمسؤولية الجاني ومنحدرة منها.
ويمكن القول بصفة عامة بأن المسؤول المدني هو كل شخص طبيعي أو معنوي يكون ملزما بمقتضى القانون أو الاتفاق برقابة شخص في حاجة إلى ذلك، إما نظرا لصغر سنه أو بسبب حالته الجسمانية أو العقلية، وإما لكونه تابعا له، وبعبارة أخرى فإن المسؤول المدني في الدعوى المدنية التابعة هو ذلك الشخص الذي كان بإمكانه تجنيب المتهم اقتراف الجريمة اعتبارا لما له من سلطة لرقابته ولم يقم بذلك فعلا، إن مصدر مسؤوليته إذن هو ما يمكن أن ينسب إليه من خطأ في رقابة أو توجيه الجاني[15].
هذا ونشير إلى أن حالات المسؤولية عن فعل الغير جاءت في القانون على سبيل الحصر لا يجوز أن يضاف إليها أشخاص آخرون إلا بموجب نص قانوني[16]، وأهم صورها وردت في قانون الالتزامات والعقود في الفصول 79 و85 و85 مكرر.
أما بالنسبة لمسؤولية الشخص المعنوي العمومي فقد جاء في المادة التاسعة من ق.م.ج ما يلي: ” يمكن إقامة الدعوى المدنية والدعوى العمومية في آن واحد أمام المحكمة الزجرية المحالة إليها الدعوى العمومية.
تختص هذه المحكمة سواء كان المسؤول عن الضرر شخصا ذاتيا أو معنويا خاضعا للقانون المدني، كما تختص بالنظر في القضايا المنسوبة لأشخاص القانون العام في حالة ما إذا كانت دعوى المسؤولية ناتجة عن ضرر تسببت فيها وسيلة من وسائل النقل“.
كما جاء في الفصل 79 من ق.ل.ع ما يأتي: “ الدولة والبلديات مسؤولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها“.
هكذا يتبين لنا من المواد أعلاه بأن المسؤول عن الحقوق المدنية إذا كان من أشخاص القانون العام كالدولة والجماعات المحلية ومجالس العمالات والبلديات وكل مرفق عام متمتع بالشخصية القانونية، فإنها لا تطالب أمام المحاكم الزجرية إلا إذا كانت الجريمة المقترفة من المتابع أمامها كانت بوسيلة من وسائل النقل كالسيارات والقاطرات والحافلات التي تستعمل في النقل والتنقل لحساب الشخص المعنوي العام حيث يمكن مطالبتها حينئذ بالتعويض باعتبار الضرر الحاصل ناتج عن تسيير مرافقها التي توسلت فيه تلك الوسائل للنقل التي حصل بها الضرر[17].
أما بخصوص الوضعية الخاصة بشركات التأمين فالملاحظ هو أن مدونة التأمينات ألزمت إدخال شركات التأمين لزوما في كل مطالبة بالتعويض عن الضرر الناجم عن حادثة سير، وسواء أمام القضاء الزجري أم المدني، وذلك بمقتضى الفقرة الثانية من المادة 129 من مدونة التأمينات، مما جعل المؤمن(شركات التأمين) بلا جدال مدعى عليها في الدعوى المدنية التابعة المنظورة أمام القضاء الزجري بكل الحقوق الثابتة للمدعى عليه فيها[18]
ويلاحظ أن لشركة التأمين المدخلة في الدعوى على هذا النحو مناقشة مسؤولية زبونها وشروط مسؤوليتها هي كما أن لها استعمال طرق الطعن في الحكم كما لو تعلق الأمر بأي مسؤول مدني عادي.
المطلب الثاني: موضوع الدعوى المدنية التابعة
لما كان سبب الدعوى المدنية هو الجريمة التي ترتبت عنها أضرار للغير، فإنه من حق هذا الأخير أن يطالب بتعويضه عنها، وبإصلاح تلك الأضرار وإعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبل ارتكاب الجريمة، و المطالبة كذلك بالمصروفات التي استلزمها حصوله على حقه و المدعى عليه في الدعوى المدنية التابعة هو الذي يلتزم بالتعويض و الأداء.
وقد تنصب الدعوى المدنية على المطالبة بالتعويض عن الضرر وكذلك على استرداد ما تم حجزه( الفقرة الأولى)، وترمي كذلك إلى استرداد ما تم دفعه بمثابة مصاريف الدعوى (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: التعويض و الرد
من خلال هذه الفقرة سنتناول التعويض ( أولا)، لننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الرد ( ثانيا).
أولا: التعويض
يعتبر التعويض الموضوع الرئيسي للدعوى المدنية التابعة، كما أن التعويض المدني أمام المحكمة الجنائية يخضع لنفس الأحكام التي تطبق على التعويض في المسؤولية التقصيرية المطالب به في إطار دعوى مدنية أصلية[19]، كما أنه يجب أن يكون تعويضا كاملا عن الضرر الشخصي الحال و المحقق الذي أصاب المتضرر من الجريمة كما تقضي بذلك المادة 108 من مجموعة القانون الجنائي[20].
و تحدد المحكمة مقدار التعويض على أساس جسامة الضرر الذي لحق المضرور من الجريمة، و تقدير التعويض أمر موضوعي بيد محكمة الموضوع، و لا رقابة عليه من قبل محكمة النقض.
وتجدر الإشارة أن هذا المقابل قد يكون ماديا، كما قد يكون معنويا كطلب نشرحكم ضد المتهم في الصحف[21].
ثانيا: الرد
الرد هو بحسب المادة 106 من مجموعة القانون الجنائي، إعادة الأشياء أو المبالغ أو الأمتعة المنقولة الموضوعة تحت يد العدالة إلى أصحاب الحق فيها، فهو بمثابة إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل وقوع الجريمة، و تجوز المطالبة بالرد من طرف الضحية أو حتى من طرف المتهم، ويمكن للمحكمة أن تحكم برد الأشياء المحجوزة من تلقاء نفسها أو برد ثمنها إذا كان قد تقرر بيعها خشية فسادها أو تلفها أو نتيجة تعذر الاحتفاظ بها.
و يمكن للمحكمة أن تأمر بالرد ولو لم يطلبه صاحب الشأن، و هذا ما يميز الرد عن التعويض الذي يجب أن يطلبه المتضرر من الجريمة، وهو نفس الأمر بالنسبة للمصاريف القضائية موضوع الفقرة الموالية.
وفقا لقانون المسطرة الجنائية الجديد، فإن رد الأشياء المحتفظ بها لدى العدالة كأدوات اقتناع، أو التي ضبطت أثناء البحث إلى أصحاب الحق فيها متى لم تكن لازمة لسير الدعوى أو خطيرة أو محلا للمصادرة، ولا تثار منازعة جدية بشأن ملكيتها أو حيازتها، والرد يمكن أن يكون في مختلف مراحل القضية من طرف النيابة العامة ( المادتان 40 و 49)، و من طرف قاضي التحقيق ( المادتان 142 و 216 )[22] ومن طرف المحكمة ( المادة 366)[23].
الفقرة الثانية: مصاريف الدعوى
العدالة في الأصل مجانية و لكن حاجة الدولة المتزايدة إلى المال جعلتها تسعى إلى التخلي عن هذه القاعدة[24]، و بذلك يستلزم دخول المدعي المدني أمام المحكمة الجنائية للمطالبة بتعويض عن الأضرار التي لحقته من الجريمة، أداء رسوم و مصاريف قضائية، ومن الطبيعي أن يطالب باستردادها و على المحكمة أن تحدد من يتحمل عبء تلك المصاريف.
و بالرجوع إلى الفصل 105 من مجموعة القانون الجنائي نجده يقضي بأن: “كل حكم بعقوبة أو تدبير وقائي، يجب أن يبت في الصوائر و مصاريف الدعوى طبق القواعد المنصوص عليها في الفصلين 347 و 493 من قانون المسطرة الجنائية.
و يجب أن يبت علاوة على ذلك، إذا اقتضى الحال في طلبات الرد و التعويضات المدنية“.
المبحث الثاني: ممارسة الدعوى المدنية التابعة
المبدأ العام أن الدعوى المدنية التابعة ترفع أمام المحاكم المدنية، لكن المشرع قد أوجد استثناء مهما في هذا الباب عندما تكون الدعوى المدنية نابعة من الجريمة ومؤسسة عليها، وهكذا وعلى سبيل الاستثناء يصح للمتضرر من الجريمة أن يقيم دعواه المدنية بحسب اختياره أمام القضاء المدني أو أمام القضاء الجنائي موازاة مع الدعوى العمومية، وهذا ما يسمى بحق الخيار المنصوص عليه في المادتين 9 و 10 من ق.م.ج (المطلب الأول) كما أن هناك آثار قانونية مختلفة وهامة تترتب على إعمال حق الخيار، وهاته الآثار تبرز في شق منها العلاقات الوثيقة التي تربط بين الدعوى الجنائية والدعوى المدنية التابعة، ولكي يتأتى استعراض أهم هاته الآثار القانونية الناتجة عن إعمال حق الخيار ينبغي التمييز بين الحالات التي يكون قد تم اللجوء فيها إلى الطريق الزجري والحالات التي يسلك فيها الطريق المدني (المطلب الثاني).
المطلب الأول: حق الخيار في الدعوى المدنية التابعة
يمارس الخيار من خلال سلوك أحد الطريقين الجنائي والمدني، مع إمكانية الرجوع إلى الطريق الآخر إذا توافرت شروط هذا الرجوع، مع العلم أنه في حالة سلوك الطريق المدني فذلك يترتب عنه قاعدة أساسية متمثلة في كون الجنائي يعقل المدني.
الفقرة الأولى: كيفية إعمال حق الخيار وشكلياته
للمتضرر من الجريمة إما التدخل في الدعوى الرائجة أمام قاضي التحقيق، أو أمام المحكمة إذا كانت قد بدأت في مناقشة الدعوى، كما للمتضرر الحق في إثارة الدعوى العمومية بنفسه إدا لم تكن النيابة العامة قد حركتها من قبل، ويكون ذلك إما عن طريق الادعاء أمام قاضي التحقيق أو أمام هيئة الحكم(أولا)، لكن في جميع هذه الحالات يجب عليه أن يحترم مجموعة من الشكليات(ثانيا).
أولا: كيفية إعمال حق الخيار
للمتضرر أن يلجأ إلى الطريق الزجري إما عن طريق التدخل في الدعوى الجنائية الرائجة أمام هيأة التحقيق أو الحكم، وإما عن طريق الإدعاء أي إثارة الدعوى بنفسه.
طريق التدخل:
للمتضرر أن يتدخل في الدعوى الجنائية أمام قاضي التحقيق عندما يكون هذا الأخير هو الذي وضع يده على القضية، أو أمام المحكمة إذا كانت قد اتصلت بالدعوى المقامة على المتهم، ويصح للمتضرر أن يلجأ إلى التدخل في سائر مراحل الدعوى إلى أن يتم إغلاق باب المناقشة، هذا ما صرحت به المادة 354[25] من قانون المسطرة الجنائية، التي سمحت بتقديم المطالبة بالحق المدني في سائر أطوار المسطرة إلى غاية ختم المناقشات.
طريق الإدعاء:
أما إذا لم تكن الدعوى العمومية قد حركت من طرف النيابة العامة فإن المتضرر يمكنه أن يلجأ إلى طريق الإدعاء، أي إثارة الدعوى العمومية بنفسه أمام قاضي التحقيق أو أمام هيأة الحكم.
وعلى أي فإن المطالب بالحق المدني سواء أقر أن يتدخل في الدعوى العمومية بعد إثارتها، أو ارتأى أن يثيرها بمبادرة منه يتعين عليه أن يحترم بعض الشكليات.
ثانيا: شكليات حق الخيار
ينبغي أن يكون الشخص الذي يريد أن يطالب بالحق المدني متمتعا بأهلية الأداء وإلا وجب تقديم الطلب لفائدته من طرف نائبه القانوني[26].
نزولا عند مقتضيات المادة 96 من ق. م.ج[27] يتعين على المطالب بالحق المدني أن يعين محلا مختارا في دائرة نفوذ المحكمة التي يجري التحقيق فيها إن لم تكن سكناه في دائرة نفوذ هذه المحكمة، وهو إن لم يقم بذلك حرم من إمكانية الاحتجاج بعدم تبليغه بالوثائق التي يوجب القانون تبليغها إليه[28].
لابد أن يؤكد المطالب بالحق المدني تدخله بعد إحالة القضية على المحكمة بواسطة إيداع مذكرة (قبل الجلسة لدى كتابة الضبط ) تكون مكتوبة ومرفقة بوصل أداء الرسم القضائي الجزافي ما لم يعفى من ذلك لحصوله على المساعدة القضائية، وينبغي أن تكون هذه المذكرة شاملة لبيان تفصيلي بكل مطالبه وعلى الخصوص مبلغ التعويض الذي يطالب به، وكل إهمال في تقديم هذه المذكرة أمام المحكمة المحالة عليها القضية ينزل منزلة التنازل عن المطالبة بالحق المدني.
المطالب بالحق المدني إذا كان هو المثير للدعوى العمومية أمام قاضي التحقيق عن طريق الاشتكاء المرفق بالمطالب المدنية، عليه أن يودع في كتابة الضبط المبلغ المالي المظنون بأنه لازم لصوائر الدعوى وإلا فترد شكايته ولا تقبل، وهذا المبلغ يحدده قاضي التحقيق بأمر قضائي آخذا بعين الاعتبار الإمكانيات المالية للمشتكي[29].
وهناك حالة أخرى قد يتدخل فيها المطالب بالحق المدني في الدعوى الرائجة أمام القضاء الزجري ليطلب له الحكم بالتعويض، ففي هذه الحالة تكون النيابة العامة هي التي حركت الدعوى العمومية، وعملا بالمادة 350 من ق.م.ج[30]، يكون على المتضرر الاختيار بين تقديم مذكرة بمطالبه إما لدى كتابة الضبط أو بين يدي الرئيس أو يكتفي فقط ببسطها شفويا أمام المحكمة، فيقوم كاتب الضبط بتدوينها ويكون هذا الحق مخولا له في سائر أطوار المحاكمة لغاية اختتام المناقشات الجارية في القضية[31].
الفقرة الثانية: شروط إعمال حق الخيار
هناك على الأخص ثلاثة شروط تتلخص فيما يلي:
أولا: ينبغي أن يكون الضرر الحاصل للمدعي ناتجا عن الجريمة وأن تكون المطالبة بالتعويض عنه مؤسسة على ذلك
الدعوى المدنية التي تعتبر من اختصاص القضاء الزجري بصفة استثنائية هي الدعوى الناتجة عن الضرر الخاص الذي تسببت فيه الجريمة مباشرة، وعليه إذا لم يكن الضرر اللاحق بالمدعي ناشئا عن الجريمة فلا يحق له الخيار بين الطريقين الجنائي والمدني ولا يبقى أمامه سوى نهج السبيل العادي ورفع الدعوى أمام القضاء المدني[32]
كما أنه يجب أن يكون الأساس الذي ترتكز عليه المطالبة بالحق المدني هو الخطأ الجنائي لا الخطأ المدني، وعليه فإنه لا يكفي أن يكون الضرر الخاص المطالب بالتعويض عنه ناتجا عن الجريمة بل ينبغي بالإضافة إلى ذلك استناد المطالبة بجبره إلى نفس الخطأ الجنائي لا إلى خطأ ذي طبيعة مدنية فقط.
ثانيا: ينبغي أن تكون إمكانية إثارة الدعوى العمومية متوفرة
هذا الشرط متطلب لأن الدعوى المدنية الناتجة عن الجريمة هي دعوى مدنية تابعة ولا يمكن رفعها بمفردها أمام القضاء الزجري فإذا تعذرت إثارة الدعوى العمومية أصبح الطريق الجنائي مغلقا أمام المطالب بالحق المدني.
وإمكانية تحريك الدعوى العمومية قد لا تتأتى بصفة مؤقتة أو دائمة، فقد توجد موانع تحول بين النيابة العامة وبين تحريك الدعوى العمومية، وهاته الموانع قد تكون مؤقتة أو نهائية ، كما أن الدعوى العمومية قد تسقط قبل رفع الدعوى المدنية أمام القضاء الجنائي[33].
إلا أنه ينبغي التأكيد على أن أسباب سقوط الدعوى العمومية يجب أن تتوفر قبل رفع الدعوى المدنية أمام القضاء الزجري، فلو أخذنا على سبيل التوضيح حالة سقوط الدعوى العمومية بوفاة المتهم فإن هاته الوفاة يتعين أن تكون قد طرأت قبل أن تكون الدعوى المدنية قد عرضت على المحكمة الجنائية بالفعل.
أما إذا سقطت الدعوى العمومية والدعوى المدنية رائجة أمام القضاء الزجري فإن هذا الأخير يظل مختصا بالبت في الدعوى المدنية التي تبقى جارية وحدها أمامه، ويعمل بذلك تطبيقا للفصل 12[34]، من قانون المسطرة الجنائية.
ثالثا: ينبغي أن يكون الطريقان المدني والجنائي مفتوحين معا
يستفاد من هذا الشرط أن حق الخيار بين الطريقين الجنائي والمدني يعرف بعض الاستثناءات وتتمثل هاته الأخيرة في أن المشرع لاعتبارات خاصة، قد يفرض على المدعي المدني ولوج سبيل دون آخر لأن السبيل الباقي يكون مغلقا في وجهه بمقتضى القانون.
و بعبارة أخرى قد يكون المشرع منع إحدى المحكمتين الزجرية أو المدنية من الاتصال بالدعوى المدنية وفي ما يلي تفصيل ذلك:
الحالات الاستثنائية لانغلاق الطريق الزجري:
وغالبا ما تكون تلك الحالات أمام المحاكم الاستثنائية كما هو الشأن أمام المحكمة العسكرية ما عدا في حالة طلب المراجعة أمامها، حيث يحق للمتضرر المطالبة بالتعويض بحسب ما يقضي به الفصل 125 من القانون العدل العسكري[35]، القديم، في حين أن بعد التعديل الجديد الذي أدخله المشرع على هذا القانون سنة 2015 أصبح يمنح للمتضرر الحق في المطالبة المدنية أمام المحكمة العسكرية حيث جاء في الفقرة الأولى من الفصل 9 الجديد ما يلي: ” يمكن لكل من تضرر مباشرة من جريمة تختص المحكمة العسكرية بالنظر فيها، أن ينتصب طرفا مدنيا أمام هذه المحكمة…”[36]
الحالات الإستثنائية لانغلاق الطريق المدني:
الأصل يقضي بكونه الطريق العادي للفصل في الدعاوى المدنية، إلا أن المدعي المدني قد يمنع من اختيار هذا الطريق في حالات محدودة واستثنائية من بينها الحالة المنصوص عليها في المادة 75 من قانون الصحافة، بخصوص عدم إمكانية فصل متابعة الدعوى المدنية التابعة عن جنحة القذف الواردة في هذا القانون عن الدعوى العمومية إلا في حالة وفاة مرتكب الفعل أو في حالة العفو.
الفقرة الثالثة: عدم جواز الرجوع عن حق الخيار
الخيار المخول للمدعي المدني في الاختيار بين الطريقين الجنائي والمدني ليس حقا مطلقا وهذا يعني أن المشرع لم يترك ذلك لمحض إرادة المتضرر يختار كيف يشاء للطريق الذي يراه مناسبا لمصلحته، وإنما اعتبر الخيار حقا من الحقوق لا ينبغي أن يمارس بدون ضابط.
ترتيبا على ما سبق نجد أن الخيار أضحى محكوما بالمبدأين التاليين:
المبدأ الأول:
إذا اختار الطرف المدني الطريق الزجري فيمكن له تركه والرجوع إلى الطريق الأصلي الذي هو الطريق المدني، وهذا المبدأ لا يحتاج إلى نص يؤسسه باعتبار أن المتضرر ولو أنه اختار الطريق الاستثنائي فإن ذلك لا يسد عليه حق العودة للمرجع الطبيعي لاقتضاء حقوقه الذي هو الطريق المدني المختص أصلا بالبت في الدعوى المدنية خصوصا وأن هذا الرجوع ليس فيه أي ضرر على المتهم الذي قد يراه نوعا من تخفيف حمل العبء عليه من جهة، في الإفلات من مواجهة خصمين (النيابة العامة والمتضرر) ومن جهة أخرى البطء الذي تتسم به إجراءات المحاكمة أمام المحكمة المدنية بسبب إعمال قاعدة الجنائي يوقف المدني[37].
المبدأ الثاني:
يلزم التمييز هنا بين حالتين حالة لجوء المتضرر إلى القضاء المدني بعد تحريك الدعوى العمومية من طرف النيابة العامة وحالة لجوئه لذلك القضاء قبل ذلك.
في الوضعية الأولى: إذا كانت النيابة العامة قد حركت الدعوى العمومية ضد المتهم، ولجأ المتضرر بعد ذلك للقضاء المدني مطالبا بجبر الضرر الذي أصابه من الجريمة، هنا يمكن اعتبار لجوئه للقضاء المدني على إثر إثارة الدعوى الجنائية تنازلا ضمنيا عن حقه في التدخل أمام القضاء الزجري ويستفاد ذلك من صريح المادة 11 من ق.م.ج[38] والحاصل أن خيار المدعي المدني في الحالة التي ندرسها لا رجعة فيه.
في الوضعية الثانية: فإن المتضرر يكون قد لجأ إلى القضاء المدني قبل أن تحرك النيابة العامة الدعوى العمومية، وهنا إذا بادرت النيابة العامة إلى إثارة الدعوى الجنائية فإن من حق المتضرر إذا ارتأى ذلك أن ينضم إليها عن طريق التدخل في تلك الدعوى وذلك ما تقره الفقرة الثانية من الفصل 11 الذي أشرنا إليه سلفا، وينبغي إذاك مراعاة شرط منطقي ذكره الفصل المشار إليه وهو ألا تكون المحكمة المدنية قد أصدرت حكمها في الموضوع، وتخويل المتضرر التراجع عن خياره هنا قد يكون القصد منه هو تلافي المساوئ الناجمة عن البت في النزاع الجنائي والمدني المنحدر من واقعة واحدة من طرف جهتين قضائيتين مختلفتين واجتناب إرهاق المتضرر من جراء إعمال قاعدة إيقاف البت في الدعوى المدنية إلى أن يفصل في الدعوى الزجرية[39].
المطلب الثاني: آثار إعمال حق الخيار وسقوط الدعوى المدنية التابعة
يمارس الخيار من خلال سلوك أحد الطريقين الجنائي أو المدني، مع إمكانية الرجوع إلى الطريق الآخر إذا توافرت شروط هذا الرجوع، مع العلم أنه في حالة سلوك الطريق المدني فذلك يترتب عنه قاعدة أساسية متمثلة في كون الجنائي يعقل المدني.
ولإعمال حق الخيار آثار قانونية مهمة سنعمل على توضيحها ( الفقرة الأولى)، كما أن هناك عدة أسباب تؤدي إلى سقوط و انقضاء الدعوى المدنية التابعة ( الفقرة الأولى).
الفقرة الأولى: آثار إعمال حق الخيار
تترتب على إعمال حق الخيار لصالح أحد الطريقين عدة أثار، ويمكن التمييز في هذا الإطار بين الحالات التي يتم اللجوء خلالها إلى الطريق المدني ( أولا)، و الحالات التي يسلك فيها الطريق الجنائي ( ثانيا).
أولا: آثار إعمال حق الخيار لصالح الطريق المدني
إذا تم اللجوء إلى الطريق المدني فإن الآثار القانونية تختلف اعتبارا لتعاقب الدعويين المدنية و الجنائية، أو تزامن الدعويين.
حالة تعاقب الدعويين المدنية و الجنائية
يقصد بتعاقب الدعويين أن ترفع الدعوى المدنية إما في فترة سابقة أو في فترة لاحقة على تحريك الدعوى الجنائية، أي أن الدعويين لا تكونان جاريتين معا في نفس الوقت.
و يجب التمييز هنا بين حالتين، حالة ما إذا رفعت الدعوى المدنية قبل إثارة الدعوى الجنائية، و حالة ما إذا رفعت الدعوى المدنية بعد صدور حكم بات في الدعوى الجنائية.
إذا رفعت الدعوى المدنية قبل إثارة الدعوى الجنائية
يترتب على رفع الدعوى المدنية أمام القضاء المدني قبل إثارة الدعوى العمومية، اعتبار الدعوى المدنية المرفوعة أمام القضاء المدني دعوى مدنية صرفة شكلا و موضوعا كسائر الدعاوى المدنية العادية[40]، كما يترتب على ذلك أيضا أن الحكم الصادر عن المحكمة المدنية لا حجية له فيما بعد على القاضي الجنائي، أي أنه إذا تم تحريك الدعوى العمومية بعد صدور حكم في الدعوى المدنية، فإن القاضي الزجري غير ملزم إطلاقا بالتقيد بما قضت به المحكمة المدنية.
إذا رفعت الدعوى المدنية بعد صدور حكم بات في الدعوى الجنائية
على العكس من الحالة السابقة، فإذا رفعت الدعوى المدنية بعد أن صدر حكم بات في الدعوى الجنائية، فيلاحظ هنا وجود قيد هام يغل يد القاضي المدني يتجلى في ضرورة احترام هذا القاضي لحجية الأمر المقضي به في الدعوى الجنائية، أي أن ما قضت به المحكمة الجنائية يلزمه عند الفصل في الدعوى المدنية و لا يصح له مناقضته، و ترتبط هذه القاعدة أيضا بما للجنائي من أولوية على المدني.
حالة تزامن الدعويين
يحدث تزامن الدعويين، عندما ترفع الدعويان معا في نفس الوقت أو تثار إحداهما وقبل أن يتم الفصل فيها بحكم بات تثار الدعوى الثانية.
و في مثل هاته الأحوال فإن الدعوى المدنية نظرا لكونها مترتبة عن الجريمة و تهدف إلى المطالبة بالتعويض عن الأضرار الناتجة عنها تخضع لقاعدتي الجنائي يعقل المدني و الجنائي يقيد المدني، وذلك نظرا لإعطاء أولوية للقضاء الجنائي على القضاء المدني بقصد تلافي تناقض الأحكام فيما بينهما.
هذا و تتفرع عن قاعدة الجنائي يعقل المدني نتيجتان هامتان، تجلى الأولى في ضرورة إرجاء البث في الدعوى المدنية إلى أن يتم البث في الدعوى العمومية والثانية في حجية الأمر المقضي به في الجنائي على الدعوى المدنية.
ثانيا: آثار إعمال الخيار لصالح الطريق الزجري
تتعلق بعض هاته الآثار بالدعوى العمومية، و بعضها الآخر يتعلق بالدعوى المدنية.
الآثار المتعلقة بالدعوى العمومية
من أهم الآثار الناتجة عن إعمال حق الخيار لصالح الطريق الزجري، هو تحريك الدعوى العمومية، و لإعمال الخيار لصالح السبيل الجنائي عدة مزايا أهمها أن تحريك الدعوى العمومية على هذا الشكل فيه تلطيف لسلطة النيابة العامة في تقدير ملائمة المتابعة، بالإضافة إلى أنه يمكن المدعي المدني من الاستفادة من سرعة و فعالية الدعوى الجنائية،
إن استعمال الخيار لصالح الجانب الزجري كما علمنا من قبل يجعل المطالب بالحق المدني طرفا في الدعوى المدنية التابعة، فتصبح له حقوق منها ضرورة إعلامه بالإجراءات المنجزة من طرف قاضي التحقيق أو هيأة الحكم، و إمكانية استعماله لطرق الطعن سواء في مقررات قاضي التحقيق أو في أحكام الهيأة الجنائية[41].
الفقرة الثانية: أسباب انقضاء الدعوى المدنية التابعة
الهدف المتوخى من الدعوى المدنية التابعة وهو إلزام المتسبب في الضرر الناجم عن الجريمة بالتعويض، و الحق في التعويض له طبيعة خاصة.
و بالتالي فإنه يعتبر دينا أو التزاما في ذمة المسؤول عنه، و على هذا الأساس فإنه قد ينقضي بأحد الأسباب العامة التي تنقضي بها الالتزامات عادة و التي يحددها الفصل 319 من ق.ل.ع[42].
وإلى جانب هذه الأسباب العامة التي ينقضي بها الحق في التعويض بكيفية غير مباشرة و التي تبحث في نظرية الالتزامات عموما، هناك أسباب خاصة و مباشرة تنقضي بها الدعوى المدنية المعروضة على القضاء الزجري تبعا للدعوى العمومية مستقلة عن الأولى، وردت في قانون متعلق بالمسطرة الجنائية في المادين 13 و 14، باستثناء صدور حكم بات في موضوع الدعوى المدنية الذي يرجع فيه للمبادئ العامة الواردة في ق.ل.ع ( الفصل 451 و ما يليه).
أولا: ترك الدعوى المدنية التابعة
استعملنا في هذه الفقرة عبارة ترك الدعوى المدنية لجمع شتات وضعيات متقاربة تنقضي بها الدعوى المدنية التابعة و هي المصالحة ( الصلح ) و التخلي والتنازل و كل هذه الوضعيات تنحدر من المبدأ العام الذي يقضي بأن الدعوى المدنية نظرا لطبيعتها الخاصة و المالية ملك للمتضرر يمكنه أن يتصرف فيها كما يشاء في الحدود القانونية.
المصالحة ( الصلح):
ليس هناك أي مانع من أن يتصالح المتضرر بشأن حقوقه المدنية، و ذلك في الحدود التي لا تخالف النظام العام[43]، والمصالحة هذه أو الصلح يتم إما قبل رفع الدعوى المدنية أو بعد رفعها و يكون ذلك غالبا مقابل دفع مبلغ من المال معلوم للمتضرر يتفق عليه بين هذا الأخير و مرتكب الجريمة، و بمقتضى هذا الاتفاق يفقد المتضرر إمكانية الإدعاء مدنيا بصورة نهائية قبل مرتكب الجريمة المتضرر منها أمام القضاء بسبب انقضاء الدعوى المدنية التي كانت له قبل التصالح مادام الضرر قد عوض اتفاقا بالتصالح عليه[44].
التخلي عن الحق في الإدعاء:
خلافا للمصالحة التي يمكن أن تعقد قبل إثارة الدعوى المدنية أو بعد ذلك، فإن التخلي عن الحق في الإدعاء يكون قبل تحريك الدعوى المدنية، و يجب التأكيد على أن التخلي يجب أن يصدر عن المتضرر بصورة صحيحة و أن يفهم منه بدون لبس أنه يسمح في حقه في الادعاء من الضرر اللاحق به.
ج- التنازل
التنازل عن الدعوى المدنية حق عام و مطلق يملكه الطرف المدني، و إذا كان التخلي عن الدعوى المدنية يقع قبل تحريكها فإن التنازل يحدث بعد ذلك.
أما فيما يخص نطاق التنازل فإنه ينصب فقط على صفة المدعي كطرف مدني أمام الهيئة الزجرية، ولا يمس أصل الحق في التعويض طبقا لما نصت عليه المادة 356 من ق.م.ج[45]، و من خلال استقرائنا لهذا النص نستفيد من جهة بأن التنازل إذا كان منهيا للدعوى المدنية المقامة استثناء أمام القضاء الزجري فإنه قد لا ينهي حتما الحق في التعويض الناشئ عن الجريمة حيث يجوز و الحالة تلك للمتنازل أن يعرض مطالبه في التعويض أمام المحكمة المدنية المختصة ولا يحتج عليه بسبق تنازله.
و أخيرا فإن التنازل عن الدعوى المدنية لا أثر له على الدعوى العمومية التي تظل رائجة بدون إشكال ( المادة 13 من ق.م.ج ).
ثانيا: التقادم و صدور حكم بات في الدعوى المدنية التابعة
التقادم
تنص المادة 14 من ق.م.ج على أن تقادم الدعوى المدنية تتم وفقا للقواعد المعمول بها في القانون المدني.
و بالرجوع إلى الفصل 106 من ق.ل.ع نجده ينص على: “أن دعوى التعويض من جراء جريمة أو شبه جريمة تتقادم بمضي 5 سنوات تبتدئ من الوقت بلغ فيه إلى علم الفريق المتضرر الضرر و من هو المسؤول عنه و تتقادم في جميع الأحوال بمضي 20 سنة تبتدئ من وقت حدوث الضرر”.
و ترتيبا على ما سبق أن لتقادم الدعوى المدنية الناجمة عن العمل غير المشروع مدتان إحداهما قصيرة و الأخرى طويلة.
بالنسبة للمدة الأولى و هي 5 سنوات لابد من توافر الشرطين معا العلم بوقوع الضرر فعلا و معرفة المسؤول عنه و هو الفاعل آو المساهم آو المشارك، و إذا توفر أحد هذين الشرطين فقط فإن الأجل الثاني هو الذي يعمل به.
فيما يخص الأجل الثاني و هو 20 سنة فإنه يبدأ منذ حدوث الضرر، و لا أهمية لعلم المتضرر أو عدم علمه بحدوث الضرر.
صدور حكم بات في الدعوى المدنية
إن المدعي المدني الذي صدر ضده أو لفائدته حكم لم يعد يستطيع رفع دعواه المدنية مجددا، وهذا الحكم وارد أيا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم المدني زجرية أو مدنية على أنه يشترط أن تكون المحكمة قد بثت في جوهر الدعوى و أنهت بذلك صلب النزاع، بالإضافة إلى الشرط التقليدي الذي هو ضرورة توفر وحدة الأطراف و السبب و الموضوع[46].
الخاتمــــــــــــــــة:
وختاما تجدر الإشارة إلى أنه و بتطور المجتمعات في شتى ميادين الحياة ظهرت هناك الحاجة إلى سن قوانين بغية مواكبة هذا التطور، و من بين أهم المبادئ القانونية ممارسة الدعوى المدنية بالتبعية و التي مكنت التمييز بين العقاب الذي هو حق خالص للمجتمع و بين التعويض الذي هو حق للمضرور، فالأول مصدره الدعوى العمومية و الثاني نتيجة حتمية للدعوى المدنية.
و من خلال دراستنا لموضوع حق الخيار في الدعوى المدنية التابعة نستنج أن هناك علاقة وطيدة و تبعية بين الدعوى المدنية و الدعوى العمومية، ذلك أن مصدرهما واحد وهو وقوع جريمة يتم الفصل فيهما بإتباع الإجراءات المستمدة من قانون المسطرة الجنائية، و التي يصدر بموجبها حكم واحد يتضمن تجريم المتهم و تعويض المضرور.
إن للدعوى المدنية التابعة عناصر لا يمكن قيامها في غياب أحدها، و التي و كما سبق و أن تطرقنا إليها تتمثل في السبب، الموضوع، و الأطراف. فالعنصر الأول لا يتحقق إلا بوجود جريمة تؤدي إلى حدوث ضرر، أما العنصر الثاني يتمثل في وجوب المطالبة بالتعويض، أما العنصر الثالث فهو وجوب رفع الدعوى المدنية التابعة من الشخص المضرور أو ورثته على المدعى عليه أو ورثته أو المسؤول المدني.
إن قيام الدعوى المدنية سواء متصلة بالدعوى العمومية أو منفصلة عنها يولد أثرين هما:
– امتثال القاضي المدني لقاعدة الجنائي يوقف المدني.
– حجية الحكم الجنائي على القاضي المدني.