دراسات قانونيةسلايد 1

جريمة التوسط والتوصية والرجاء صورة من صور الفساد الاداري

المقدمة

أصبح الفساد الإداري في الوقت الحاضر داء سرطاني ينخر في جسم الأمم والشعوب ويهدد أركانها ويعطل مسيرتها التنموية وتقدمها العلمي، مما دعاها إلى التصدي إليه بشكل جماعي عبر إبرام العهود والمواثيق والاتفاقيات الدولية . ولم يقتصر الفساد على نشاط محدد بل ظهر في صور متعددة وتعدى إلى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وسواها . لذلك قام بعض المختصين في معالجة الفساد إلى عده ظاهره وليس فعل، حيث إن التحديد الدقيق لمفهوم (الظاهرة) يمكن أن يعبر عنه على أنه تواتر حدوث الحالة وتكرار وقوعها بين الحين والآخر، فعلى هذا المنوال نجد أن ما أستجد وقوعه من حوادث يسمى حالة أو حادثاً، في حين أن ما تواتر وتكرر حدوثه يسمى ظاهرة، كما أن الظواهر لها ما يميزها من السمات التي تكاد تبدو متشابهة بين كل حدث متكرر من أحداثها، والفساد كفعل له صفة الاستمرارية والتكرار وبتوفر معظم حوادثه على صفات وقواسم مشتركة، أكتسب ما يجعله مستوفي لشروط الوصف على أنه ظاهرة، وبحكم كون المجتمع السياسي هو الوسط الذي ولدت ونمت في كنفه تلك الظاهرة، إذن هي من قبيل الظواهر السياسية. لذا فأن الفساد يشكل ظاهرة إجرامية او سلوك منحرف عن قواعد السـلوك الاجتماعي السائدة في المجتمع ، وذلك تأسيسا على إن السلوك الإجرامي ليس محض واقعة يجرمها القانون ، ولكنه سلوك يصدر من إنسان يعيش في بيئة معينة ووسط مجتمع معين ، ومن ثم فهو سلوك اجتماعي منحرف ، لذلك فان دراسة أسباب ودوافع الفساد يعطي التفسير لهذه الظاهرة وبالتالي فان تفسير هذه الظاهرة ينطبق عليه ما يقال عن تفسير الظاهرة الإجرامية بصفة عامة حيث يقرر علماء الجريمة إنها لا ترجع إلى مصدر واحد أو مصدرين بل تنبع عن مصادر عديدة متنوعة ومتشابكة ومعقدة، وبالمثل فالفساد المالي والإداري ، كظاهرة إجرامية لها خصوصيتها بين غيرها من الظواهر الإجرامية الأخرى ، ليس فعلا منعزلا أو عرضيا ولكنه ثمرة تضافر عوامل عديدة تحركه وتحدد تكوينه وهيئته وظهوره[1]، وفي ضوء ما تقدم ظهرت تقسيمات عدة للفساد مقترنة بسبب النشاط الذي يتخلله ومنها ما يلي : ـ

1. الفساد السياسي :

إذ أصبح الفساد يتسلل إلى كل أشكال الأنظمة الحاكمة ومنظومتها، ولم يقتصر على نظام ملكي دون جمهوري أو رئاسي دون برلماني، كما لا يتعلق بمذهب فكري أو سياسي دون غيره، بل نجده لدى معتنقي المذهب الاشتراكي كونه يتدخل في كل الأمور المتعلقة بالأفراد من الخدمات الأساسية، إلى السلطات الحاكمة كالسلطة العسكرية وحماية البلاد والدفاع والأمن وسواها . إلا أن مدى الفساد الأوسع هو الأنظمة الشمولية والدكتاتورية والاستبدادية، وذلك لتركيز جميع السلطات بيدها سواء كان الحاكم فرد أو مجموعة من الأفراد . وهذا يؤدي بدوره إلى منع أبناء الشعب من ممارسة حقوقهم السياسية ويحد من حرياتهم ويصادر إرادتهم في الاختيار ، المتمثل بالانتخابات أو حرية السكن والتعبير عن الإرادة وما شابه ذلك . وهذه الصورة من الصور الفساد الذي يتفرع منه وينتج عنه الفساد المالي والإداري .

2. الفساد الاقتصادي :

وهو الفساد الذي يؤدي إلى فشل الأنظمة الاقتصادية في معالجة المشاكل الاقتصادية وعدم القدرة على توفير الحاجات الأساسية للفرد وسوء العمل في مراكز الإنتاج القومي المتمثلة بالصناعة والتجارة والسياحة وغيرها من مصادر الإنتاج . وهذا النوع من الفساد يؤدي إلى انخفاض مستوى دخل الفرد مما ينعكس سلبا على منظومة المجتمع القيمية ويؤدي إلى استشراء الظواهر الجرمية ومنها الفساد الإداري والمالي .

3. الفساد الاجتماعي :

وهو الفساد الذي يصيب قيم وأخلاقيات المجتمع ويتجاوز على ثوابته العقائدية والتاريخية التي ورثها أسلافه العظام . لان الحضارات لم تنهض، إلا بقيم وثوابت اجتماعية سادت في المجتمع، وجعلت منها ركائز ينهض بها التقدم والتطور، الذي يؤدي إلى نشوء الحضارة، وهذا النوع من الفساد يحطم هذه القيم ويعدم الأخلاق، مما يبيح لكل فرد أن يعتدي على حقوق الآخرين دون رادع من ضمير أو قيم اجتماعية , ويسهم هذا النوع من الفساد في نشر الفساد المالي والإداري بشكل كبير وواسع . مما دعا المختصون إلى ملاحظته وإعداد برامج تربوية وتثقيفية للتصدي له داخل المجتمع .

4. الفساد الإداري :

وهو الفساد الذي يصيب المؤسسات والهيئات الإدارية لأجهزة الدولة، وارتبط هذا النوع من الفساد بالوظيفة العامة والموظف العمومي . إذ لا يمكن الحديث عن الفساد الإداري دون ربطه بموظف أو وظيفة حكومية، حتى أصبح الموظف هو الفاعل المتفرد في ارتكاب جرائم الفساد الإداري . إذ يرى القانون الإداري إن الوظيفة في بداية نشأتها كانت عبارة عن صلة شخصية بين الحاكم والموظف، الذي يتم اختياره من قبل الحاكم، من بين الموظفين المقربين إليه دون الحاجة إلى معرفة كفائتة أو قدرته أو هل يوجد شخص أكثر كفاءة منه . وهذا النوع يكثر في الأنظمة الشمولية التي يكون فيها الحاكم مستبد وذو سلطة مطلقة[2] ثم تطورت الوظيفة إلى أن وصلت إلى ما عليه الآن، من كونها حق من حقوق الإنسان ونصت عليها العديد من المواثيق الدولية وكذلك دساتير الدول الحديثة ومنها الدستور العراقي الذي أشار إلى تشكيل مجلس خدمة متخصص بشؤون الوظيفة[3] ، وعلى الرغم من التطور الذي حصل في مفهوم الوظيفة أو الموظف العام الحكومي وكثرة القوانين والأوامر التي تنظم أعماله وسلوكه، إلا إننا نجد أن صور الفساد الإداري متوفرة في الأداء الوظيفي وبأشكال متعددة، منها ما ذكرته القوانين العقابية وعدت كل فعل من هذا القبيل هو جريمة يعاقب عليها القانون مثلما ورد في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1999 المعدل أو في القرارات الأخرى التي لها قوة القانون . ويعد من صور الفساد الإداري تلك التي اكتفى المشرع العراقي بعدها مخالفات إدارية تجزى بعقوبات تأديبية مثل الإنذار والفصل والعزل وعلى وفق ما ورد في قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14 ) لسنة 1991 المعدل[4]. ومن بين الأفعال المتعلقة بالوظيفة ما أشار إليه الباب السادس من قانون العقوبات العراقي في المواد (307 ـ 341 ) وذكر الجرائم التي تخل بواجبات الوظيفة وهي (الرشوة، الاختلاس، تجاوز حدود الوظيفة ) وهذا التوصيف لا يعني قصر جرائم الفساد الإداري بهذه الصور من الجرائم، إذ تعتبر العديد من الجرائم الأخرى غير التي ذكرت ، من صور الفساد الإداري منها على سبيل المثال لا الحصر (جريمة تزوير المحررات الرسمية ,التوسط أو الرجاء أو التوصية، السرقة ، استغلال النفوذ) وغيرها مما ذكر في القوانين العقابية، وفي هذا البحث سأتناول (جريمة التوسط أو الرجاء أو التوصية) في القانون العراقي كونها صورة من صور جريمة الفساد الإداري مع المقارنة ببعض التشريعات العربية . حيث تعد هذه الجريمة من أكثر الصور المتداولة في الحياة اليومية للأفراد ويؤدي هذا النشاط إلى ترسيخ الفساد الإداري في أنشطة الدولة، كافة لأنه سوف يؤدي إلى سرقة حقوق الآخرين والاعتداء على المال العام وقيم المجتمع، لأن هذا الاعتداء لم يكن لولا سعي بعض ذوي النفوذ إلى إلزام الموظف بأداء عمل نتيجة لتوسط أو توصيه أو رجاء على خلاف السياق العام للعمل الإداري، مما يؤدي إلى حرمان شخص آخر، أما من الانتفاع بالخدمة التي يقدمها ذلك الموظف من خلال عمله، أو تعيين شخص هو ليس الأكفأ بين أقرانه، وذلك إما بمقابل مال أو وجاهة له على حساب الآخرين، مما يؤدي وضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب، ويؤدي إلى تعطيل المنظومة الإدارية وتردي الخدمة العامة وظهور حالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي، التي هي نتاج الفساد الإداري . ومن خلال هذه الديباجة حول ( جريمة التوسط أو التوصية أو الرجاء) التي عدها المشرع جريمة يعاقب عليها القانون، بالإضافة إلى كونها مخالفة للقيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة في المجتمع ولكثرة تداولها في حياتنا اليومية من خلال استغلال ذوي النفوذ لنفوذهم في السلطات أو الوظائف التي يعتقد البعض إنها مهمة، على الرغم من ان كل الوظائف تعد مهمة من خلال تقديمها الخدمة للمواطن .

ومما تقدم وجدت من الضروري التعرض إليها بدراستها على وفق الأحكام القانونية النافذة بعدة مطالب وعلى وفق ما يلي : ـ

المطلب الأول

تعريف جريمة التوسط أو التوصية أو الرجاء

جريمة التوسط او التوصية او الرجاء ورد ذكرها في نص المادة (330) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل وبالنص التالي (يعاقب بالحبس كل موظف او مكلف بخدمة عامة امتنع بغير حق عن أداء عمل من أعمال وظيفته او اخل عمدا بواجب من واجباتها نتيجة لرجاء او توصية او وساطة او لأي سبب آخر غير مشروع.) وفي الفقرة (2) من المادة (297) من قانون العقوبات العراقي (إذا كان لطبيب او القابلة قد طلب او قبل او اخذ عطية او وعدا لإعطاء الشهادة او كان قد أعطاها نتيجة لتوصية او وساطة يعاقب هو ومن قدم او أعطى او وعد او تقدم بالتوصية او تدخل بالوساطة بالحبس او بإحدى هاتين العقوبتين.) وفي المادة (234) من قانون العقوبات العرااقي (يعاقب بالحبس وبالغرامة او بإحدى هاتين العقوبتين كل حاكم او قاض أصدر حكما ثبت انه غير حق وكان ذلك نتيجة التوسط لديه) والمادة (233) من قانون العقوبات (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة واحدة وبغرامة لا تزيد على مئة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل موظف او شخص مكلف بخدمة عامة توسط لدى حاكم او قاض او محكمة لصالح احد الخصوم أو الإضرار به.) . ومن خلال النصوص المشار إليها أعلاه نرى ان تعريف هذه الجريمة يتفرع الى ثلاثة فروع لتعلقها بمفردات التوسط والرجاء والتوصية لذلك سأعرض لها على وفق ما يلي : ـ

1. تعريف الرجاء

يقصد بالرجاء هو الفعل الذي يصدر من صاحب الحاجة مباشرة ويدعو بها الموظف او يستعطفه من اجل قضاء حاجته . أما في اللغة فان الرجاء مصدره اصل الفعل الثلاثي رجو والرجاء ، ممدود : نقيض اليأس . . رجا يرجو رجاء . ورجى يرجي . وارتجى يرتجي . وترجى يترجى . ترجيا ، ومن قال : رجاه أن يكون كذا فقد أخطأ ، إنما هو رجاء . والرجا ، مقصور : ناحية كل شئ . والاثنان : رجوان ، والجميع : أرجاء . والرجو : المبالاة[5]

2. تعريف التوصية

يقصد بالتوصية كل ما يصدر من شخص ذو نفوذ أو ذو سلطة أو مقام يطلب من الموظف قضاء الأمر المطلوب لصاحب الحاجة . إما التعريف اللغوي فان التوصية مشتقة من الفعل وصى ، والوصاية مصدر الوصي ، والفعل : أوصيت . ووصيته توصية في المبالغة والكثرة، وأما الوصية بعد الموت فالغالب من كلام العرب أوصى ويجوز وصى . والوصية : ما أوصيت به . والوصاية : فعل الوصي ، وقد قيل : الوصي الوصاية . وإذا أطاع المرعى للسائمة فإصابته رغدا قيل : وصى لها المرتع يصي وصيا ووصيا[6]

3. تعريف التوسط

التوسط أو الوساطة كلمة يقصد بها الفعل الصادر من الغير لمصلحة صاحب الحاجة للتوسط لدى الموظف العام[7] أما عن التعريف اللغوي لمفردة الوساطة او الواسطة فان مصدرها الفعل وسط وعندما يكون مخففا يكون موضعا للشئ ، تقول : زيد وسط الدار ، فإذا نصبت السين صار اسما لما بين طرفي كل شئ . ووسط فلان جماعة من الناس ، وهو يسطهم ، إذا صار في وسطهم . وسمي واسط الرحل ( واسطا ) ، لانه وسط بين الآخرة والقادمة ، وجمعه : أواسط . . وواسطة القلادة : جوهرة تكون في وسط الكرس المنظوم . وفلان وسيط الحسب في قومه ، وقد وسط وساطة وسطة ووسطه توسيطا[8]

المطلب الثاني

أركان الجريمة

إن الأفعال الجرمية تتكون من عدة عناصر إذا ما توفرت توفر معها الوصف بالتجريم وجريمة التوسط او التوصية كسائر الجرائم لابد من توفرها عن جملة من العناصر التي تسمى الأركان لذلك سأعرض لها على وفق ما يلي : ـ

الفرع الأول

ركن المشروعية

إن وصف أي فعل بأنه جريمة لابد من النص على تجريمه بموجب قانون أو قرار له قوة القانون وهذا ما يسمى بمبدأ المشروعية أو قاعدة ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص أو بناء على نص) ويعني هذا المبدأ أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، أي أن مصدر الصفة غير المشروعة للفعل هو نص القانون ويقال لهذا النص ” نص التجريم ” وهو في نظر القانون الجزائي يشمل قانون العقوبات والقوانين المكملة له والقوانين الجزائية الخاصة . وبالتالي يحدد في كل نص الشروط التي يتطلبها في الفعل كي يخضع لهذا النص ويستمد منه الصفة غير المشروعة ويحدد العقوبة المقررة لهذا الفعل، لذلك فان القاضي لا يستطيع أن يعدٌُ فعلاً معنياً جريمة إلا إذا وجد نصاً يجرم هذا الفعل، فإذا لم يجد مثل هذا النص فلا سبيل إلى عد الفعل جريمة، ولو اقتنع بأنه مناقض للعدالة أو الأخلاق أو الدين وفي تطبيقات القضاء ما قضت به محكمة تمييز إمارة دبي ( بان عدم توفر أركان الجريمة وخروجها عن نطاق التأثيم . كاف للقضاء بالبراءة طالما أقام الحكم قضاءه على أسباب تتفق وصحيح القانون)[9] . و أساس هذا المبدأ هو حماية الفرد و ضمان حقوقه و حريته و ذلك بمنع السلطات العامة من اتخاذ أي إجراء بحقه ما لم يكن قد ارتكب فعلا ينص القانون عليه و فرض على مرتكبيه عقوبة جزائية[10] ، ففي العصور القديمة لم تكن هذه القاعدة معروفة حيث كانت العقوبات تحكمية وكان في وسع القضاة أن يجرم أفعال لم ينص القانون عليها ويفرضوا العقوبة التي يرونها كما كانوا يرجعون إلى العرف لتجريم بعض الأفعال وتقرير العقوبة لها .وإن كان هناك بعض مؤرخي القانون الجزائي يقولون بأن مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات عرفت لأول مرة في القانون الروماني في العهد الجمهوري بدليل وجوده عند فقيهي الرومان (أولبيانوس ) و ( بولس ) أما العهد الإمبراطوري فلم تكن هذه القاعدة معروفة لأن القانون الروماني في هذا العهد كان يعطي للقاضي سلطة تقديرية واسعة في التجريم و العقاب[11] . ويرى بعض الكتاب[12] إن هذه القاعدة ترجع بذورها الأولى إلى الشريعة الإسلامية أي ترجع إلى مدة تزيد على أربعة عشر قرناً فمن القواعد الأصولية في الشريعة الإسلامية أنه ” لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص ” أي أن أفعال المكلف المسؤول لا يمكن وصفها بأنها محرمة مادام لم يرد نص بتحريمها ولا حرج على المكلف أن يفعلها أو يتركها حتى ينص على تحريمها ونفهم من ذلك بأنه لا يمكن اعتبار فعل أو ترك جريمة إلا بنص صريح يحرم الفعل أو الترك فإذا لم يرد نص يحرم الفعل أو الترك فلا مسؤولية ولا عقاب على فاعل أو تارك . والمعنى الذي يستخلص من هذا الكلام هو أن قواعد الشريعة الإسلامية تقضي بأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وهذه القاعدة في الشريعة لا تتنافى مع العقل والمنطق و تستند مباشرة على نصوص صريحة في هذا المعنى ومنها قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً )[13] وقوله تعالى : ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوى عليهم آياته)[14] وقوله تعالى : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )[15]. وغيرها من النصوص القاطعة بأنه لا جريمة إلا بعد بيان ولا عقوبة إلا بعد إنذار ، وطبقوا هذه القاعدة على الجرائم ولكنهم لم يطبقونه تطبيقا واحدا في كل الجرائم حيث طبقوه تطبيقا دقيقا في جرائم الحدود و القصاص بخلاف جرائم التعزير فلم يطبقونه بتلك الصورة والسبب في ذلك أن المصلحة العامة وطبيعة التعزير تقتضي ذلك، ومن الناحية الدستورية نجد إن هذا المبدأ قد احتل صدارة الاهتمام ففي الدستور الدائم اعتبر هذا المبدأ من المبادئ الدستورية الداخلة ضمن الحقوق الأساسية للفرد عندما نص عليه في باب الحقوق المدنية والسياسية في نص الفقرة (ثانيا) من المادة (19) ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة اشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة)، لذلك فان أي فعل جرمه القانون العراقي يكون محلا لجريمة، ولابد من الإشارة إلى أن بعض الأفعال أصبحت جرائم بموجب قرارات لها قوة القانون مثلما كان معمول به في فترة النظام السابق، إذ كان لمجلس قيادة الثورة المنحل ورئيس الجمهورية في ظل النظام المذكور سلطة إصدار القرارات التي لها قوة القانون على وفق أحكام المادة الثانية والأربعون من الدستور المؤقت الصادر عام 1970 التي نصها ( يمارس مجلس قيادة الثورة الصلاحيات التالية:أ ـ إصدار القوانين والقرارات التي لها قوة القانون.)، لكن مما يلاحظ عليه إن قانون العقوبات العراقي لم يحدد تعريف معين وواضح للجريمة[16]وإنما اكتفى بتقسيمها إلى عدة أقسام من حيث طبيعتها[17] وكذلك من ناحية جسامتها[18]، وهذا ما عملت به مجموعة من القوانين منها قانون العقوبات المصري والقانون الفرنسي[19]وفي المنظومة القانونية توجد العديد من القرارات التي لها قوة القانون قد أنشئت جرائم وحددت لها العقوبات[20]، وفي جريمة التوسط والتوصية والرجاء نجد عدم مشروعيتها في أي أكثر من نص في قانون العقوبات منها المواد (233، 234، 260، 290، 297، 330، 331) وتوجد بعض الإشارات إلى تلك الجريمة في عدد آخر من القوانين والقرارات التي لها قوة القانون في المنظومة القانونية العراقية.

الفرع الثاني

الركن المادي

الركن المادي هو سلوك إجرامي يصدر من الفاعل لتحقيق نتيجة معينة وعرفته المادة (28) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل على وفق ما يلي (الركن المادي للجريمة سلوك إجرامي بارتكاب فعل جرمه القانون او الامتناع عن فعل أمر به القانون) لذا فان عنصر السلوك او النشاط الإجرامي ويتوفر هذا النشاط عن عدد من العناصر التي تشكل جوهر ومظهر الركن المادي وهي كما يلي : ـ

العنصر الأول : الفعل المادي

يكون الفعل مادي حينما يصدر من الجاني تصرف او نشاط معين ، والفعل على وفق التعريف الذي ورد في نص الفقرة (4) من المادة (19) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل (كل تصرف جرمه القانون سواء كان إيجابيا أم سلبياً كالترك والامتناع ما لم يرد نص على خلاف ذلك ) بمعنى إن الجريمة لا تقع إذا لم يقع مثل هذا الفعل ويبرز للوجود معبرا عنه بحركات أو أعمال يقوم بها الإنسان تظهر إلى العلن وتخرج إلى المحيط الخارجي لكوامن النفس البشرية كان تكون حركة من حركات جسمه أو لسانه وغيرها من الحركات الجسمانية، ويضم كيان الفعل عنصرين : الأول هو الحركة العضوية ، أي تحريك الجاني عضواً في جسمه لإحداث أثر في العالم الخارجي ، والثاني : هو الأصل الإرادي لهذه الحركة والفعل من حيث ماهيته هو كيان مادي والتحديد الدقيق له رهن بتطبيق قوانين السببية الطبيعية التي تكشف عن أصله وتعين آثاره ، ودور الإرادة مقتصر على تحديد أصل الحركة العضوية وإثبات خضوعها لسيطرة من صدرت عنه . وما يعنينا في الإرادة هو التحقق من أن مرتكب الفعل قد أراد ما صدر عنه[21] ، حيث ان النوايا لا يحاسب عليها القانون، إلا إذا شكلت وصفا آخر مثل الاتفاق الجنائي[22]، وهذا الفعل المادي أو المظهر الخارجي للفعل يسمى ( السلوك الإجرامي ) بصوره المختلفة ويحتوي على الأفعال والأنشطة الايجابية والسلبية[23] ، وفي جريمة التوسط أو التوصية أو الرجاء فان الفعل الجرمي يكون يطلب الجاني أو الفاعل لنفسه أو لغيره من الموظفين أن يقوم بعمل او يمتنع عن أداء عمل بناءا على التوصية أو التوسط أو الرجاء . كذلك يجب أن يكون الفعل صادر من شخص يملك إرادة حرة، لان هذا الفعل يشكل اعتداء على الآخر أو على حق الغير ولا يعتد بأي فعل ما لم يصدر من شخص يملك إرادة كاملة وواعية للتصرف الذي يصدر ومن إنسان يدرك تماما فعله والأثر الذي سيترتب عليه، فإذا كان الفعل قد صدر من شخص فاقد الإدراك[24] أو مسلوب الإرادة مثل المكره على القيام بأفعال جنائية الذي اضطر للقيام بالفعل لضرورة دفعته على القيام بذلك[25] أو المجنون أو الصغير أو غير المميز[26]، وهذا يؤدي إلى أن يتوفر الجاني عن شرط إن يتذرع بصفة معينة تكون ذات حضور وتأثير على الموظف، ولا فرق في أن تكون هذه الصفة حقيقية أو مزيفة، لان مجرد اعتقاد الموظف بوجودها يشكل عاملا في انقياد ذلك الموظف تجاه تحقيق طلبات الجاني . حيث التعمد بإظهار صفته الوظيفية أو السلطوية هو دليل على إن الجاني يدرك فعله وعمله ، ولا يضر أو يؤثر على قيام الجريمة، أن يكون العمل الذي يؤديه الموظف ,بناء على ذلك التوجيه أو هذا الرجاء والتوسط , هو عمل يقع ضمن واجباته أو فيه مخالفة للقانون لان، الموظف اذا خالف القانون أو واجبات وظيفته سيكون تحت طائلة المسائلة القانونية .لكن يرى بعض فقهاء القانون الجنائي ومنهم الدكتور احمد فتحي سرور[27] ,التفرقة بين إن يكون الموظف العام يتمتع بسلطة تقديرية في أداء عمله أم انه مقيد بأداء العمل ولا اختيار له, فإذا كانت لديه السلطة التقديرية بين أن يؤدي عمله أو لا يؤديه دون سائلة قانونية فان استجاب لهذه التوصية فانه يكون قد ارتكب جرما على وفق جريمة التوسط والرجاء والتوصية .لان عنصر المحاباة واضح والتمييز في منح الميزة التي يوفرها هذا العمل إلى مواطن دون غيره فيه اعتداء على حق الآخرين، ومن الأمثلة على ذلك السلطة التقديرية الممنوحة لبعض الموظفين في قبول طلبات التعيين أو إعطاء المقاولات أو غيرها، فانه حينما يعطيها لشخص بناء على توصيه، يكون قد ارتكب الجريمة، حتى وان كان يملك حق الاختيار في ذلك . أما إذا كان الموظف ليس له إلا أن يقوم بالعمل ولا يملك خيارا بذلك، مثل طلب إقامة الشكوى لدى مراكز الشرطة أو المحاكم فان الموظف، إذا ما قام بالعمل بناء على التوصية أو الرجاء أو بدون ذلك، فانه لا يعد مرتكب للجريمة لان امتناعه يشكل إخلال بواجباته الوظيفية وسوف يخضع للمسائلة القانونية على وفق الأحكام القانونية التي تنظم سلوكه الوظيفي ، وفي الحياة اليومية صور كثيرة لهذه الجريمة ومنها منح القروض من قبل إدارات المصارف ، التعيينات في الوظائف ,المقاولات والمناقصات والمزايدات التي تعلن عنها الأجهزة والدوائر الحكومية ، وسواها من الحالات التي تواجهنا في نشاطنا اليومي .

العنصر الثاني : النتيجة الإجرامية للفعل

كل فعل لا يمكن أن يعد جريمة ما لم يقترن بالنتيجة الجرمية التي يحدثها والمتمثلة بالضرر الذي يلحقه ذلك الفعل المرتكب فافعال الفساد الاداري والمالي ترتب آثار فادحة في المنظومة القيمية للمجتمع بالإضافة إلى الآثار المادية ، ويقصد بالآثار هي الآثار أو النتائج المترتبة على السلوك وللنتيجة مفهومان: الأول تفهم فيه النتيجة على أنها حقيقة مادية ، وتتحقق النتيجة بكل تغيير يحدث في العالم الخارجي كأثر للنشاط الإجرامي وهذا التغيير أما أن يمس أحد الأشخاص أو أحد الأشياء، وفي جريمة التوسط أو التوصية فان النتيجة تتمثل باستجابة الموظف لتلك التوصية أو ذلك الرجاء والتوسط فان مجرد الاستجابة والمباشرة بأداء العمل تكون النتيجة محققة ، ولا يؤثر في ذلك عدم تحقق المنفعة للمستفيد مثل إلغاء أمر التعيين او تعطيل عقود المناقصات والمزايدات وسواها من الأفعال ،

العنصر الثالث : العلاقة السببية بين الفعل والنتيجة

كل فعل يرتكب سواء كان فعل ايجابي أو سلبي إذا لم يحدث نتيجة او لم يكن السبب في حدوث هذه النتيجة فانه لا يشكل جريمة ، وأهمية هذه العلاقة السببية تكمن في ربطها بين الفعل والنتيجة الذي سيشكل الركن المادي للجريمة، إلا أن ذلك لا يحدث دائما ، إذ تتظافر جملة من الأسباب في إحداث النتيجة الجرمية فهل يسأل الجاني أم يعفى ؟ الجواب هو لا يسأل الجاني إلا على النتيجة الناشئة عن فعله هو لا غيره وظهرت في هذا الاتجاه عدة نظريات منها نظرية تعادل الأسباب التي يرى أنصارها بان النتيجة لم تحدث إلا بتوفر مجموعة من العوامل التي ساهمت بحدوث النتيجة الجرمية فان فعل الجاني يكون مع العوامل الأخرى السبب في إحداث تلك النتيجة لان العوامل الأخرى بدون فعل الجاني لا يمكنها أن تحقق تلك النتيجة[28]، وعند النظر إلى قانون العقوبات العراقي نرى انه قد اخذ بهذه النظرية حينما أشار في المادة (29) إلى إمكانية مسائلة الجاني عن مساهمته في إحداث النتيجة[29] ويرى بعض الكتاب أن نص المادة المذكورة أنفا قد أخذت بتلك النظرية مع إيجاد ضوابط محكمة تتمثل في ربط الفعل بالنتيجة ربطا صحيحا يحدد ما للفعل من اثر في حدوث النتيجة ومدى مسؤولية فاعله[30]، وفي جريمة التوسط او التوصية او رجاء فان العلاقة لابد وان تكون قائمة، بمعنى أن يكون أمر تعيين المستفيد أو الجاني كان بسبب النشاط الذي قام به الموظف نتيجة لتلك التوصية أو الرجاء ، أما إذا توسط احد الجناة لدى موظف للتعين أو الحصول على مزية معينة ، ثم صدر أمر بتحقيق ذلك من جهة أخرى لا علاقة للموظف الذي تم التوسط لديه في أحداثة كلا أو جزءً ، فان الجريمة غير قائمة وان كان الموظف قد اخل بواجبات وظيفته ويحاسب على وفق قواعد السلوك الوظيفي .

الفرع الثالث

الركن المعنوي

تطور وتقدم الحياة أدى إلى التطور في الجانب التشريعي، ومنها القوانين الجنائية التي بدأت تبحث وتهتم بشخصية مقترف الجرم، حتى وصلت إلى مرحلة من التطور حددت فيها الجريمة بثلاث أركان المادي والشرعي والمعنوي وفي الركن المعنوي للجريمة، الذي يمثل الحالة النفسية والذهنية للفاعل أثناء اقترافه للجريمة، فلم تعد التشريعات الجزائية تكتفي بوجود فعل مادي مجرم لقيام المسؤولية الجزائية بحق الفاعل، بل لابد من التعرف على الحالة النفسية للفاعل المرافقة لاقترافه الجرم، التي من خلالها يستطيع القاضي التعرف على مدى خطورة الفاعل والعقوبة المناسبة للحد من خطورته إصلاح حاله إن أمكن، لذلك للركن المعنوي أهمية خاصة، تتمثل في تحقيق العدالة بالعقوبات المفروضة، أما عن تعريف الركن المعنوي، فاغلب القوانين المعاصرة لم تعرف حالات الركن المعنوي، بل تركت هذه المهمة للفقه والاجتهاد، بما فيها قانون العقوبات العراقي، حيث لم يعرف الركن المعنوي بل ذكر مكوناته وعناصره المتمثلة بالقصد الجنائي والخطاء على وفق أحكام المواد (33ـ 38) وفي نص المادة (33) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل أشير إلى القصد الجرمي الذي يعد من مكونات الركن المعنوي ذلك وعلى وفق ما يلي (القصد الجرمي هو توجيه الفاعل إرادته إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة هادفا إلى نتيجة الجريمة التي وقعت او أية نتيجة جرمية أخرى.) وهذا ما تركه لتنازع آراء الفقهاء، وفي تحديد جوهر الركن المعنوي للجريمة نظريتان هما النظرية النفسية و النظرية المعيارية[31]، النظرية النفسية :وتحصر الركن المعنوي في العلاقة النفسية بين الفرد وبين السلوك الذي يسبب في نتيجة إرادية أو غير إرادية ولو لم يكن توقعها طالما أنها يمكن توقعها، والنظرية المعيارية : ترى أن الركن المعنوي يتألف بالإضافة إلى العناصر النفسية المتمثلة بالإرادة من عناصر معيارية تتمثل في القاعدة القانونية التي تمت مخالفتها التي تعطي تلك الإرادة الصفة الجرمية ، وظهر أكثر من تعريف للركن المعنوي من قبل فقهاء القانون الجنائي، أما في القانون العراقي فان توفر الركن المادي والشرعي لا يكفي لتحقق الفعل الجرمي ما لم يتوفر القصد الجنائي لدى الجاني، وان يكون مسؤول عن الجريمة بحسب نسبتها إليه، وان تكون إرادته قد انصرفت إليها وارتكبها دون أن يكون تحت أي مؤثر خارجي، وهذا ما يوصف بتحقق الخطأ الذي يسأل عنه ويستحق اللوم عليه، وهو أساس المسؤولية التي يرتكن إليها الركن المعنوي وفي نص المادة (33) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل أشير إلى القصد الجرمي الذي يعد من مكونات الركن المعنوي وعلى وفق ما يلي (القصد الجرمي هو توجيه الفاعل إرادته إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة هادفا إلى نتيجة الجريمة التي وقعت او أية نتيجة جرمية أخرى)، كمما يعد الخطاء من أهم أركان تحقق المسؤولية الجنائية، فانه يتدرج في الشدة والتخفيف حسب نوع الجريمة واشد الأنواع، هو الذي تنصرف فيه إرادة الجاني إلى ارتكاب الفعل الجرمي وإدراك تحقيق النتيجة الجرمية، وهو ما يسمى بالخطأ العمدي أو كما يصطلح عليه بالقصد الجنائي[32]، لذلك فان الركن المعنوي يتجسد بعدة صور منها القصد الجرمي والخطاء، والقصد الجنائي بالمعنى اللغوي هو توجه الإرادة لغرض معين، أما في الاصطلاح فان بعض الفقهاء، ومنهم جندي عبدالملك، بأنه توجه الإرادة للفعل أو الترك المعاقب له[33]، وتعريف القصد الجنائي تقاذفته عدة نظريات منها ما يلي :ـ

1. نظرية العلم: تعتبر أن القصد الجنائي يبنى على العلم فقط، فالقصد الجنائي حسب نظرية العلم هو( علم الفاعل بمخالفة الفعل الذي يأتيه للأخلاق والقانون أو هو معرفة الفاعل أنه يرتكب فعلا ممنوعا) [34].

2. نظرية الإرادة : و ترى أنه وتعرف القصد الجنائي بأنه (إرادة الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون ويعاقب على انتهاكه). فينبني على الإرادة فقط، والجريمة تكون قصدية، عندما يوجه الفاعل إرادته إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة بهدف تحقيق نتيجتها الإجرامية[35].

3. النظرية التوفيقية و لصعوبة القبول بأي من النظريتين دون الأخرى، ظهرت هذه النظرية، التي ترى إن القصد الجنائي هو علم وإرادة، أي وفقت بين النظريتين السابقتين، فالجريمة تكون قصدية إذا ارتكبها الجاني، وهو عالم بحقيقتها الواقعية وبعناصرها القانونية، حيث ينصرف العلم إلى أركان الجريمة (المادي والشرعي)، بينما تتجه الإرادة إلى السلوك الذي تقوم عليه الجريمة أو النتيجة المترتبة عنها[36].

4. عنها[37].

لذلك وجدت عدة صور للقصد الجنائي تختلف باختلاف الدور الذي يلعبه كل من عنصري العلم والإرادة، فكيفية ومدى توفر أحد أو كلا هذين العنصرين تؤدي إلى اختلاف وتنوع صور القصد الجنائي، حيث يوجد القصد البسيط والقصد المشدد (الإضمار) والقصد المباشر والقصد الاحتمالي والقصد المحدد والقصد غير المحدد، ولعل أهم صور القصد الجنائي، هي صورتي القصد العام والقصد الخاص، وأساس التمييز بينهما هو النظر إلي ما إذا كان المشرع يتطلب في الجريمة حصول نتيجة إجرامية معينة، أو وقوعها بباعث خاص أو كانت الجريمة تستلزم ذلك بحسب طبيعتها ولو لم يتطلبه المشرع صراحة في نص التجريم ، فيكون القصد اللازم في الجريمة من نوع القصد الخاص، الذي يتمثل في شمول إرادة الجاني وعلمه لهذه النتيجة، ولما كان الغالب من الجرائم ليس مما يتطلب فيه نتيجة بعينها أو باعث خاص، فان القصد العام يكون هو الأصل العام الكافي لقيام صورة الإثم الجنائي في الجرائم العمدية، ويتبع توصيف الجريمة العدمية وجود القصد الجرمي وعلى وفق نص المادة (34) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل ( تكون الجريمة عمدية إذا توفر القصد الجرمي لدى فاعلها وتعد الجريمة عمدية كذلك). وحيث إن جريمة التوسط والرجاء والتوصية تتطلب قصد جنائي خاص ، سأعرض للقصد الخاص بشرح ميسر حتى تكون الصورة واضحة في تلمسه عند النظر في الجريمة ، وفي جريمة التوسط او الرجاء او التوصيه يتمثل هذا الركن بتوفر القصد الجنائي الخاص الذي يسعى إلى احداثه الجاني، اذ يتطلب تنصرف نية الموظف تجاه أداء العمل أو الامتناع عنه بناء على التوصية او التوسط او الرجاء ، أما إذا كان الموظف يؤدي عمله اليومي والعمل محل التوسط او التوصية من الأمور الاعتيادية التي يقوم بها ذلك الموظف فان الجريمة غير متحققة مثل موظف الاستعلامات الذي قوم بإرشاد المواطنين سواء كان إرشاده لمواطن معين بناء توصيه او رجاء او بدون ذلك ، لان القصد الخاص تجاه ارتكاب الجريمة غير محقق ، فانه ملزم بالعمل فاذا امتنع فانه ارتكب مخالفة تتعلق بأدائه لوظيفته او الطبيب المعالج او سواه فاذا كان فعله ليس بناء على التوصيه على الرغم من وجودها فان الجريمة غير محققة لانعدام القصد الجنائي الخاص . وهذا القصد يقوم مبدئيا على العناصر نفسها التي ينبني عليها القصد العام، وهي :

1. العلم الذي يقوم به القصد الجنائي : يتوفر القصد الجرمي لدى الفاعل بمجرد أن يكون عالما بجميع العناصر الأساسية للجريمة، وهي العناصر التي يوجب القانون توفر علم الجاني بها، حتى ينهض القصد الجرمي في جريمته ومنها ما يلي : ـ

‌أ- العلم بطبيعة الفعل : فمن يتوسط او يترجى او يوصي موظف على ان يؤدي عمل على خلاف القانون او لتفضيل لمصلحة شخص على آخر او فيه محاباة او تمييز عن الآخرين الذين يرتب القانون لهم حق على الموظف في تقديم خدماته بالتساوي فان ذلك يدل على علمه بطبيعة الفعل الذي يقوم به ويدرك النتائج التي سيكسبها.

‌ب- العلم بطبيعة النتيجة : يجب أن يعلم الفاعل بان الفعل الذي يقدم عليه يحدث النتيجة الجرمية.

فالفرق بين القصد العام والقصد الخاص ليس في عناصرهم فهما علم وإرادة، وإنما الاختلاف في الموضوع الذي يتعلق به العلم والإرادة، فهو أوسع نطاقا في القصد الخاص منه في القصد العام، والإرادة تأتي بعد العلم، فالجاني بعد أن يتيقن من طبيعة الفعل الذي سيقدم عليه يدرك أبعاده والنتائج المترتبة عليهن فيتخذ قرارا إراديا ببدء التنفيذ وهذا ما يتعلق بالجريمة المقصودة[38]، ويعرف بعض الفقهاء الإرادة بأنها، عبارة عن قوة نفسية أو نشاط نفسي يوجه كل أعضاء الجسم أو بعضها نحو تحقيق غرض غير مشروع، أي نحو المساس بحق أو مصلحة يحميها القانون الجنائي، وبعبارة أخرى فإن الإرادة هي المحرك نحو اتخاذ السلوك الإجرامي بالنسبة للجرائم ذات السلوك المجرد، وهي المحرك نحو تحقيق النتيجة، بالإضافة للسلوك الإجرامي بالنسبة للجرائم ذات النتائج[39]، أما عن تأثير الإرادة في تكوين الركن المعنوي والقصد الجرمي، فانها تأخذ أكثر من اتجاه منها ما يلي : ـ

1. إرادة سلوك : وهي عنصر لازم في الركن المعنوي لجميع الجرائم القصدية وغير القصدية على حد سواء، فلا يسأل الشخص عن سلوكه ونتيجته إلا إذا كان هذا السلوك تعبيرا عن إرادته، ومنها إقدامه على فعل التوسط او الرجاء او التوصية على خلاف مقتضى القانون، فإنها إرادة واعية للسلوك المتخذ في تكوين عناصر هذه الجريمة.

2. إرادة النتيجة : فلا تكون عنصر لازم في الركن المعنوي إلا في الجرائم المقصودة أما في الجرائم غير المقصودة، فيكفي أن يريد الفاعل السلوك حتى يقوم لديه الركن المعنوي للجريمة غير المقصودة، والإرادة المعتد بها في مجال القصد الجرمي هي الإرادة الواعية المتمتعة بالقدرة على الاختيار، فإذا انتفى الوعي أو الاختيار لا يعود صاحب تلك الإرادة مسؤول عن فعله، فالمجنون والمكره لا يسألان عن أفعالهم، لأن الجنون ينفي الوعي و الإكراه يعدم الاختيار[40]، فالقصد الخاص هو قصد الفاعل تحقيق هدف معين من وراء جرمه[41]،

ومن ذلك نجد إن جريمة التوسط او التوصية او الرجاء يكون القصد الخاص واضح المعالم من خلال توسمها ببعض الصفات منها ما يلي : ـ

1- أن تكون التوصية او الرجاء او التوسط صادرة من قبل شخص يملك نفوذ او مرتبة سواء كانت سياسية او اجتماعية ثقافية اقتصادية وسواها مما يمتاز به بعض الأشخاص الذين يؤثرون في مسيرة الحياة العامة .إما اذا كان صاحب الرجاء هو مواطن ليس له أي مرتبة او نفوذ سوى كونه صاحب مطلب وحاجة والموظف استجاب لذلك لوازع إنساني فان الجريمة لا تقع لانعدام شرط النفوذ والمرتبة في طالب حاجة .

2- أن يكون الرجاء أو التوسط أو التوصية متوجه نحو موظف حكومي فإذا كانت تلك التوصية موجه نحو شخص في القطاع الخاص مثل التاجر أو الطبيب في عيادته أو المقاول او سواهم فان الجريمة لا تقع لأنها لا تتعلق بأعمال الخدمة العامة التي تقدمها الدولة إلى أبناء الشعب وتدفع لقاءها رواتب للموظفين .

ومن خلال ما تقدم فان هذه الجريمة لا تنهض تجاه أي متهم ما لم تتوفر الاركان المشار إليها في أعلاه .

المطلب الثالث

العقوبات

العقوبة هي جزاء يقرره القانون على مرتكب الجريمة لمصلحة الهيئة الاجتماعية، ويوقعه القاضي على من تثبت مسئوليته عن فعل يُعد جريمة في نظر القانون ليصيب به المتهم في شخصه أو ماله أو شرفه، ومن هنا يمكن أن نستدل على جوهر العقوبة ، ونقول بأن جوهر العقوبة هو الألم الذي تسببه لمن يتحملها ، والألم المقصود بجوهر العقوبة ليس هو إذلال المجرم أو إشعاره بالخزي والهوان ، وإنما المقصود منها كيفية تأثيرها على حق من الحقوق اللصيقة بشخص المتهم سواء كان حقاً مالياً أو حقه في الحياة والحرية[42]، ومن بين عقوبات جريمة التوسط أو الرجاء أو التوسط، نوعين من العقوبات الحبس والغرامة وذلك في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل بينما تصل العقوبة إلى السجن في بعض القوانين الأخرى مثل قانون العقوبات العسكري رقم19 لسنة 2007 وسأعرض لتعريفهم على وفق ما يلي : ـ

‌أ- السجن

وردت الإشارة إلى كلمة السجن في القرآن الكريم في قصة سيدنا يوسف (عليه السلام) عند قوله تعالى ﴿ يَا صَاحِبَيِ السّجْن أأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْر؟ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهّار﴾ [43]، وكانت هذه الآية حول رؤيا لسيدنا يوسف (عليه السلام)، وقوله تعالى أيضا ﴿ قَال رَبّ السجنُ أحَبُّ إليَّ ممّا يَدْعُونَنَي إِلَيْه…﴾[44] ومعنى السجن في اللغة هو الحبس، والحبس معناه المنع، ومعناه الشرعي هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء أكان في بلد أو بيت أو مسجد أو سجن معد للعقوبة أو غير ذلك ، والسجن الكبير المحبس، وصاحبه سجان، والسجين المسجون، أما اصطلاحا فيقصد بالسجن تلك المؤسسات المعدة خصيصا لاستقبال المحكوم عليهم بعقوبات مقيدة للحرية وسالبة لها ، حيث يحرم المحكوم عليهم من الخروج أو متابعة الحياة بشكل عادي وفي أجواء طليقة، والحيلولة دون ممارسة أي نشاط ما، وعادة ما يرتبط بالسجون عدة مفاهيم وتسميات مثل الإصلاحيات أو مراكز التأديب أو دور الإصلاح والتهذيب أو التقويم أو مؤسسات إعادة التربية أو غير ذلك من التسميات[45]

عقوبة السجن هي عقوبة مقررة للجنايات ، وتدل على أنها وضع المحكوم عليه في أحد السجون العمومية ، وتشغيله داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعنيها الحكومة للمدة المحكوم بها السجين. ومدة العقوبة هو السجن أكثر من خمس سنوات إلى خمس عشرة سنة[46].

‌ب- الحبس

عقوبة الحبس التي تصل إلى حد الحبس لمدة خمس سنوات ، هذا النوع من العقوبة يعتبر من العقوبات المؤثرة على الحرية، وجوهر هذه العقوبات هو المساس بحرية المحكوم عليهم وقد تكون عن طريق سلبها منهم أو عن طريق تقييدها ، وأصبح لها المقام الأول في نظرية العقاب في العصر الحديث،. فتكون العقوبة سالبة للحرية عندما يحكم على المتهم بعقوبة الحبس .

‌ج- الغرامة

الغرامة في اللغة: جمعها غرامات، وهي كما قال أهل اللغة ما يلزم أداؤه، كذلك أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه، ومثل هذا: المَغرَم والغُرم، وعرَّف مجمع اللغة العربية بالقاهرة الغرامة بأنها: ما يلزم أداؤه من المال تأديباً أو تعويضاً، يقال: حكم القاضي على فلان بالغرامة، ومن الواضح شمول هذا التعريف واستيعابه لصورتي الغرامة التأديبية والتعويضية، اللتين لا ثالث لهما والغريم: المدين والدائن، وسُمي الدائن بذلك؛ لملازمته المدين، وفي التنزيل العزيز: (إن عذابها كان غراما)[47] وأَغرَمه وغَرَّمه: جعله غارِماً وألزمه تأدية الغرامة. وغَرِمتُ الدِّية والدَين وغير ذلك: أدَّيته غُرماً ومَغرماً وغَرامة. وفي التنزيل العزيز في مصارف الزكاة (والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)[48] والغارمون، هم الذين لزمهم الدين في غير معصية، كتحمُّل الحَمالة حال الإصلاح بين الناس، كما جاء لفظ المَغرَم بمعنى الغرامةِ والغُرمِ في الحديث الشريف: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم ؟ فقال: (إن الرجل إذا غَرِم حدَّث فكذب، وَوَعد فأخلف)[49] وفي ضوء ما سبق يكون معنى الغرامة في اللغة: أن يَلزَم الإنسانَ ما يجب عليه أداؤه، سواء كان ذلك بإلزام غيره له على وجه الإجبار، كما يفيده تعريف المجمع في قوله: (تأديباً وتعويضاً) لأن التأديب بالمال يقع هنا على الإنسان على وجه الإجبار، وكذلك بعض صور التعويض يُحكم بها على الإنسان على وجه الإجبار . والغرامة في الاصطلاح كما قال بعض الفقهاء: ما يُعطَى من المال على كُره الضرر والمشقة، وهذا يتفق مع ما ذكره آخرون، بأن معناها الاصطلاحي: لا يخرج إجمالاً عن معناها اللغوي، وفي ضوء هذا يبدو أن تعريف مجمع اللغة العربية للغرامة – الذي تقدم ذكره – هو الأوفى و الأشمل دلالة[50] . كما ان الأصل في الغرامة أن تكون عقوبة أصلية ، وذلك في الجنح والمخالفات. إلا أنها قد تكون عقوبة تكميلية ، كما هو الحال في الجنايات الخاصة بجرائم الأموال العامة ، كالرشوة والاختلاس والاستيلاء. تنقسم الغرامة عادة إلى نوعين : أحدهم الغرامة المحددة أو البسيطة وهى التي يتولى أمر تحديد مقدارها المشرع أو يحدد لها حدا أدنى وحدا أقصى تاركاً للقاضي حرية تقديرها. والأخرى الغرامة النسبية وهي التي لا يتحدد مقدارها في النص بمبلغ ثابت أو ما بين حدين ثابتين ولكن يجرى ربطها بمقدار الضرر الفعلي أو المحتمل للجريمة ، أو ربطها بالفائدة أو ما كان يطمع الجاني في تحقيقه من كسب مادي أو فائدة. وقد تكون الغرامة النسبية مطلقة الحدود بأن يترك تحديد مقدارها ابتداًء وانتهاءً ليتحدد وفقاً لحجم الضرر أو الكسب غير المشروع.

لذلك فان العقوبات التي تفرض على مرتكب جريمة التوسط والرجاء والتوصية إما الحبس او الغرامة ويترك تقدير أي العقوبتين إلى محكمة الموضوع والعقوبات التي تفرض على هذه الجريمة في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل وفي القوانين العقابية الأخرى النافذة من المنظومة القانونية العراقية هي كما يلي : ـ

‌أ- المادة (167) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل[51]

1 ـ من طلب لنفسه او لغيره او قبل او اخذ ولو بالواسطة من دولة أجنبية أو من احد ممن يعملون لمصلحتها نقودا او اية منفعة اخرى او وعدا بشيء من ذلك بقصد ارتكاب عمل يعلم ان من شانه الاضرار بمصلحة وطنية يعاقب بالسجن المؤقت وبغرامة لا تقل عن الف دينار ولا تزيد على ما طلب او اعطي او وعد به.

2 – تكون العقوبة السجن المؤبد وغرامة لا تقل عن الف دينار ولا تزيد على ما طلب او اعطي او وعد به اذا كان الجاني شخصا مكلفا بخدمة عامة او اذا ارتكبت الجريمة في زمن الحرب. ويعاقب بالعقوبة ذاتها:

ا – من اعطى وعدا او عرض شيئا مما ذكر بقصد ارتكاب عمل ضار بمصلحة وطنية ولو لم يقبل عطاؤه او وعده او عرضه.

ب – من توسط في ارتكاب جريمة من الجرائم المذكورة في هذه المادة وفي كل الاحوال المتقدمة اذا حصل الطلب او القبول او العرض او (التوسط) كتابة فان الجريمة تتم بمجرد اصدار المكتوب.

‌ب- المادة (233) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل

يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة واحدة وبغرامة لا تزيد على مائة دينار او بإحدى هاتين العقوبتين كل موظف او شخص مكلف بخدمة عامة توسط لدى حاكم او قاض او محكمة لصالح احد الخصوم او الإضرار به.

‌ج- المادة (234) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل

يعاقب بالحبس وبالغرامة او بإحدى هاتين العقوبتين كل حاكم او قاض أصدر حكما ثبت انه غير حق وكان ذلك نتيجة التوسط لديه.

‌د- المادة (297) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل

1 – يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين او بغرامة لا تزيد على مائتي دينار كل طبيب او قابلة أعطى على سبيل المجاملة شهادة يعلم بأنها غير صحيحة في احد محتوياتها بشأن حمل او ولادة او مرض او عاهة او وفاة او غير ذلك مما يتصل بمهنته فإذا كانت الشهادة قد أعدت لتقدم الى القضاء او لتبرر الإعفاء من خدمة عامة تكون العقوبة الحبس او الغرامة التي لا تزيد على ثلاثمائة دينار.

2 – إذا كان لطبيب او القابلة قد طلب او قبل او اخذ عطية أو وعدا لإعطاء الشهادة او كان قد أعطاها نتيجة لتوصية او وساطة يعاقب هو ومن قدم او أعطى او وعد او تقدم بالتوصية او تدخل بالوساطة بالحبس او بإحدى هاتين العقوبتين.

3 – يعاقب بالعقوبات ذاتها – حسب الأحوال – كل من زور او اصطنع بنفسه او بواسطة غيره شهادة من قبيل ما ذكر في الفقرة (1).

‌ه- المادة (330) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل

يعاقب بالحبس كل موظف او مكلف بخدمة عامة امتنع بغير حق عن أداء عمل من أعمال وظيفته او اخل عمدا بواجب من واجباتها نتيجة لرجاء او توصية او وساطة او لأي سبب آخر غير مشروع.

‌و- المادة (331) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل

يعاقب بالحبس وبالغرامة او بإحدى هاتين العقوبتين: كل موظف أو مكلف بخدمة عامة ارتكب عمدا ما يخالف واجبات وظيفته او امتنع عن أداء عمل من أعمالها بقصد الأضرار بمصلحة احد الأفراد او بقصد منفعة شخص على حساب آخر او على حساب الدولة.

‌ز- المادة (66) من قانون العقوبات العسكري رقم 19 لسنة 2007[52]

يعاقب بالسجن كل من نظم او قدم تقريرا او بيانا او اوراقا رسمية اخرى خلافا للحقيقة وكان ذلك متعلقا بالخدمة او الوظيفة وكل من توسط لتقديم ذلك الى الاعلى رتبة مع علمه بأنه مخالف للحقيقة .

المطلب الرابع

موقف الشريعة الإسلامية

من أهم القيم التي نادى بها الإسلام مبدأ المساواة ولنا في الرسول الأكرم (ص) مثلا عاليا في السمو حينما ابعد صحابته والمقربين منه وعامة المسلمين عن الأهواء التي تحط من شأن الإنسان وقيمه وحثهم على الالتزام بالدين الحنيف وعدم الميل تجاه أكل حقوق الآخرين تحت أي وجه كان سواء بالقرابة أو الجاه أو النفوذ، كما أوصاهم بوصاياه المهمة تجاه تقلدهم مناصبهم، حينما أكد على إن الوظيفة العامة أمانة بأعناق من يتولاها وليس هبة أو مزية للموظف، وتوج هذا التوجه بالآية الكريمة ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ))[53] ويرى بعض فقهاء المسلمين، إن هذه الآية نزلت بحق ولاة الأمور في الدنيا من حكام وغيرهم، بان يؤدوا أمانة الوظائف العامة إلى أهلها، و إلا عدو خائنين لهذه الأمانة، وما جاء بقول الرسول الأكرم (ص) ((من ولى من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح لمسلمين منه فقد خان الله ورسوله ))[54] .ونرى في الحديث دلالة واضحة إلى أولياء الأمور من المسلمين الذين تقلدوا المناصب والوظائف الاقتصادية والسياسية والمالية وغيرها مما يدخل في أمور الخدمة العامة للوظيفة، فأي من هؤلاء إذا ما أدى عمله بدفع احد الأشخاص للتعين في وظيفة بناء على رجاء او توجيه أو استغلال نفوذ أو بناء على قرابة أو صداقة أو مودة ولأي سبب مما يدخل في فلك الأسباب المذكورة أنفا، وكان من يوجد من بين المسلمين من هو أكفأ منه ، فانه قد خان الله ورسوله وعامة المسلمين .وفي واقعة تسليم مفاتيح الكعبة إلى شيبه دون عم الرسول بأمر من الرسول الأكرم (ص) دليل على إن الكفاءة والمعرفة العلمية هي الأساس في ذلك ولا للقرابة من وجود، كذلك في حادثة طلب عبد الرحمن بن سمره الإمارة لنفسه فقال الرسول الأكرم (ص) ((يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فانك إن أعطيتها من غير مسألة اعنت عليها وان أعطيتها من مسألة وكلت إليك ))[55] وفي الأولى إعانة من الله وثواب على العمل والثانية تكليف وحساب على العمل . وفي سير الخلفاء الراشدين الكثير من الشواهد التاريخية التي تدل على حرمة التوسط والترجي . وان فعل الوساطة والرجاء والتوجيه يعد إثما جنائيا في القانون الجنائي الإسلامي، وثبت إن الشريعة الإسلامية قد حرمته تحريما قاطعا . وفي سبب اختيار موقف الشريعة لإيماني بان الإسلام كان الأول في نبذ المحاباة والتوسط وان بعض القائمين الآن في شؤون العراق ممن يحسبون على التيار الإسلامي او من ذوي الثقافة والمعرفة الإسلامية.

الخاتمة

بعد أن عرضنا إلى جريمة التوسط والرجاء والتوصية، نجد إنها مثل سائر الجرائم يجب أن تتوفر عن أركان عدة ، منها المادي والمعنوي والمشروعية، كما إنها تتميز بتوفر القصد الخاص، لأنها من الجرائم العمدية ، ومن الملاحظ إن المشرع العراقي أشار إليها وحدد لها عقوبات على وفق التفصيل الذي عرضناه، إلا أن الملاحظ إن فلسفة المشرع تجاه فرض العقوبة قد اختلف تبعا للفترة الزمنية والحقبة التي صدرت بها الأحكام ، ففي مرحلة ما قبل عام 2003 كان توجه المشرع العراقي إلى جعل هذه الجريمة من جرائم الجنح، وحدد لها أقصى عقوبة هي الحبس وعلى وفق أحكام المواد العقابية في قانون العقوبات العراقي المشار إليها في الدراسة ، إلا أن مرحلة ما بعد عام 2003 ، نهج المشرع العراقي نهجا جديدا نحو تشديد العقوبة، وان كان في إطار قانون العقوبات العسكري رقم 19 لسنة 2007، إذ يرى البعض انه قانون يتسم بصفة خاصة تتعلق بالأمن الوطني وسيادة البلاد، إلا أني أرى في توجه جديد يؤسس لفلسفة أخرى مغايرة تجاه مكافحة الفساد ، على الرغم من إننا وجدنا إن المشرع العراقي في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل قد غلظ العقوبة تجاه جريمة التوسط وان كان في صورة محدد في المادة 167 التي تقع ضمن باب الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي والخارجي حيث جعل العقوبة السجن ، ومع ان هذه الجريمة من أوسع الجرائم حدوثا وأكثرها انتشارا ، إذ لا نرى احد إلا وتوسط او اوصى او ترجى معتمدا على جاه او نفوذ ، إلا إننا لم نجد لها تطبيق في القضاء العراقي ، وان كان موجود فهو قليل وخجول ، وهذا ناجم ، على ما اظن ، عن عدم وعي وإدراك الناس إلى وجود النص العقابي ، والى الثقافة الاجتماعية السائدة في تقبل الوساطة وتبجيل ذوي السلطة والوجاهة في المجتمع ، على الرغم من إنها تحرك فيها الشكوى تلقائيا وبمجرد الاخبار ومن أي شخص او جهة كانت ، لأنها لا تحتاج إلى إن تحرك من قبل المحنى عليه وانما لاي شخص ان يتقدم بالشكوى، كما للادعاء العام الدور والحظ الأوفر في تحريكها وفي مرحلة ما بعد عام 2003 ، ظهرت مؤسسات وتشكيلات جديدة منها هيئة النزاهة العامة والمفتشين العموميين ، وهذه بامكانها أن تساهم في تحريك الشكوى ضد من يتوسط او يترجى او يوصي او من يقبل ذلك التوسط او الترجي او الوصية وعلى وفق مقتضيات قانون العقوبات ، وارى في ذلك مساهمة كبيرة في محاربة الفساد الإداري والمالي، لان معظم الجرائم التي تدخل ضمن مفهوم جرائم الأموال أو الفساد الإداري والمالي تبدأ من هذه الجريمة فان وأدها سيؤدي حتما إلى الحد من محاربة الفساد في الدوائر الحكومية ، كما لابد من الإشارة إلى إننا بحاجة إلى حملة تثقيف تجاه هذه الجرائم وبيان أبعادها القانونية والأخلاقية ونهي الشريعة الإسلامية عنها ، وأشرت في احد المطالب إلى موقف الشريعة الإسلامية من هذه الجريمة والنهي عنها ونبذها وتوعد مرتكبيها بعذاب أخروي يوقعه الخالق عز وجل . وفي الختام أتمنى أن أكون قد ساهمت بهذا الجهد المتواضع في إيقاد الجذوة تجاه معالجة هذه الصورة من صور الفساد والسعي نحو إيجاد الحلول لمكافحتها .

والله ولي التوفيق

القاضي

سالم روضان الموسوي

إغلاق