دراسات قانونيةسلايد 1
مبدأ المواجهة وأثر إغفاله على فرض العقوبة التأديبية (بحث قانوني)
“دراسة مقارنة في التشريع العُماني والأردني والمصري”
مقدمة:
تعد المرافق العامة جسد الدولة وخلاياها، ولكي تقوم الدولة بوظائفها وأنشطتها المتنوعة فلا بد لها وأن تعتمد أساساً على تلك المرافق لغايات تحقيق أهدافها وذلك وفقاً لسياساتها العامة، إلا أن ذلك من غير الممكن القيام بتحقيق ذلك بمعزل عن العديد من الوسائل وأهمها الموظفون العموميون.
لذلك يعد الموظف العام البناء الأساس التي تقوم عليها تلك المرافق العامة والمعبر عن إرادتها في سبيل تحقيق أغراضها الأساسية وخاصة تلك المتمثلة بأداء الخدمة العامة للمجتمع.
ونظراً لازدياد نشاط الدولة واتساعه بعد أن انتقلت من دور الحارسة إلى دور المتدخلة في أغلب المجالات الاقتصادية والاجتماعية فمن شأن ذلك ازدياد دور الموظف العام، الأمر الذي يستدعي إلى صياغة تشريعات تقوم على تنظيم أجهزة الدولة وخاصة منها ما يتعلق بتنظيم المرافق العامة بصفة عامة وبذات الوقت علاقة الموظف العام فيها بصفة خاصة. وهذه العلاقة لا شك بأن هنالك من الالتزامات والواجبات التي قد تترتب عنهافي جهة الموظف العام تمليها التشريعات المختلفة ذات الصلة بالوظيفة العامة والتي من شأنها تحقيق المصلحة العامة وضمان حسن سير عمل المرافق العامة بانتظام واطراد، وحال إخلال الموظف بتلك الواجبات فإنه يعرض نفسه المساءلة الإدارية التأديبية.
والمساءلة تلك تعد ضمانة لجهة الإدارة لردع الموظف العام المخل بواجباته الوظيفية الناتجة عن الإهمال والتقصير وبذات الوقت حضه على السلوك الحصيف تجاه التزاماته الوظيفية. وفي المقابل كما أن للإدارة ضمانات لتحقيق أهدافها تجاه الموظف العام ” فلهذا الأخيرأيضاً” ضمانات تكفل له الحماية ضد احتمالات عسف الإدارة إن وجدت وقبل توقيع العقوبة عليه للوصول إلى مساءلة عادلة، ومن ضمن هذه الضمانات ما يسمى “المواجهة” بما أسند إليه من اتهامات، وأثر تجاهل واستبعاد المواجهة على العقوبة المفروضة وهو موضوع بحثنا.
أهمية الدراسة:
تنبع الدراسة من أهمية المواجهة في المسائلة الإدارية بالنسبة للموظف العام أثناء إحالته للتأديب لما له من أثر سلبي على حياته الوظيفية والاجتماعية.
أهداف الدراسة:
تهدف الدراسة إلى تكريس مبدأ المواجهة كضمانة من ضمانات تاديب الموظف العام في التشريعات المقارنة.
مشكلة الدراسة:
تنبع إشكالية الدراسة من التساؤلات التالية: هل تم تكريس مبدأ المواجهة في التشريعات المقارنة في مواجهة سلطات التأديب؟ وبيان أثر تجاهل هذا المبدا على العقوبة المفروضة.
نطاق وحدود الدراسة:
تركزت هذه الدراسة على مبدأ المواجهة كضمانة للموظف العام في التأديب الإداري في التشريعات العٌمانية لإفتقارها المؤلفات والدراسات التي تبرز هذا المبدأ، وبذات الوقت الأردنية والمصرية كونها سارت شوطاً طويلاً في هذا المجال، ولغايات ابراز هذا المبدأ وتغطيته في التشريعات العُمانية تمت وضع الدراسة المقارنة.
منهج الدراسة:
اتبع الباحث في هذه الدراسة المنهج التحليلي والمقارن للتشريعات والفقه والقضاء في الدول محل الدراسة.
وبناء على ذلك سوف يقوم الباحث بتوزيع هذه الدراسة على مبحثين:
المبحث الأول: يقوم فيه الباحث ببيان المفاهيم العامة للموظف العام والوظيفة العامة في التشريعات المقارنة محل الدراسة
المبحث الثاني: سيتناول فيه الباحث مبدأ المواجهة في التشريعات المقارنة محل الدراسة وأثر تجاهلها أو تجاوزها على العقوبة التأديبية.
المبحث الأول
ماهية الموظف العام في التشريعات المقارنة
يعد الموظف العام الركيزة الأساسية التي تبنى عليه المسائلة الإدارية تمييزاً له عن الموظفين في القطاع الخاص باعتباره محل المسائلة التأديبية الإدارية والتي لا تنطبق هذه الأخيرة إلا على من اكتسب صفة الموظف العام بالنظر لارتباطه بعلاقة قانونية وتنظيمية مع الإدارة، ونظراً لاختلاف مفاهيم الموظف العام وتعددها بصورة واضحة في الفقه القانوني والتشريع والقضاء لذا لا بد من الوقوف على تلك المفاهيم من هذه النواحي.
المطلب الأول
المفهوم الفقهي
نبدأ بالفقه الفرنسي باعتبار أن أساس القانون الإداري نشأته كانت فرنسا، فقد تعرض العديد منهم إلى وضع مفاهيم وتعاريف للموظف العام، فمنهم ذهب إلى أنه ” كل شخص يعمل في خدمة سلطة وطنية ويسهم بصورة اعتيادية في تسيير مرفق عام يدار بطريقة الإدارة المباشرة، ويشغل وظيفة دائمة مدرجة في الكادر الإداري”.[1] وهنالك من ذهب إلى أنه: ” ذلك الشخص الذي يسهم بصورة دائمة في تنفيذ نشاط مرفق عام”.[2]
نستخلص من تلك التعاريف لغايات اكتساب الشخص صفة الموظف العام لابد من توافر العناصر التالية: 1- اشغال وظيفة دائمة في خدمة سلطنة وطنية. 2- الاسهام وبشكل اعتيادي في تسيير مرفق عام بطريق الإدارة المباشرة. أما عناصره في التعريف الآخر نجده قد اشترط العمل بشكل دائم في تنفيذ خدمة المرفق العام. ونحن نرى بأن التعريف الثاني جاء قاصراً، لذلك نذهب مع التعريف الأول ونؤيده مقارنة مع التعريف الثاني.
أما الفقه المقارن محل الدراسة سنتعرض له في الفروع التالية:
الفرع الأول: الفقه العُماني
يعد الفقه العُماني شأنه شأن باقي الفقه يتلمس مفاهيم عامة للموظف العام كان قد استخلصها من المفاهيم التشريعية والقضائية التي تقوم على عناصر لا بد من توافرها لإضفاء صبغة الموظف العام على شخص ما، وتتمثل تلك العناصر في الخدمة الدائمة والعمل في خدمة مرفق عام وصدور أداة بالتعيين. حيث يرى هذا الفقه[3] “أن الوظيفة الدائمة يقصد بها العمل الدائم أو االلازم في مباشرة الشخص العام لنشاطه المرفقي الأساسي، أما عنصر العمل في خدمة مرفق عام فيرى أنه لكي يعتبر الشخص موظفاً عاماً فلا بد له من العمل في خدمة مرفق عام تديره سلطة إدارية كانت مركزية أو محلية أو مرفقية، كما ويرى في العنصر الثالث المتمثل في صدور أداة بالتعيين تقوم على طبيعة العلاقة بين الموظف والإدارة بحيث لا تقوم إلا بتعيين الشخص في الوظيفة وبالتالي لا يأخذ ذلك الشخص صفة الموظف العام إلا اعتباراً من تاريخ صدور أداة بتعيينه من قبل الجهة المعنية بذلك”.
الفرع الثاني: الفقه الأردني
يعد الفقه الأردني حديثاً بحداثة الدولة الأردنية في مجال دراسات الوظيفة العامة مقارنة بغيره من الدول، إلا أن ذلك لم يثنه عن الاجتهاد والتعمق في تلك الدراسات والتي أصبحت مرجعاً فقهياً على نطاق واسع في الوطن العربي.
من هذا الفقه من ذهب إلى أن الموظف العام هو “كل شخص يشغل وظيفة دائمة في مرفق عام تديره الدولة بطريق الاستغلال المباشر”.[4] بهذا فهو لغايات اعتبار الشخص موظفاً عاماً من الواجب توفر شرطي: شغل وظيفة دائمة، أي ديمومة الوظيفة لا الموظف، وكذلك خدمة في مرفق عام يدار بطريق الاستغلال المباشر، الأمر الذي ينفي فيه صفة الموظف العام عن الشخص الذي يعمل في المرافق التي لا تديرها الدولة كالمرافق التي تدار بطريق الامتياز أو الاقتصاد المختلط. وهناك من الفقه يرى بأن الموظف العام ذلك الشخص الذي يعمل بوظيفة دائمة أو مؤقته في خدمة مرفق عام يديره شخص معنوي عام أو يدار بالطريق المباشر.[5]
وهناك من يرى ضرورة توافر شرط دائمية الخدمة في مرفق عام لكي يصبغ على الشخص صفة الموظف العام.[6] ومنهم يذهب إلى أن الموظف العام هو ذلك الشخص المعين من المرجع المختص للعمل في خدمة مرفق عام مملوك للدولة أو إحدى دوائرها، ويدار من قبل الدولة أو أحد أشخاص القانون العام بشكل مباشر أو غير مباشر، بحيث يفهم من ذلك أن صفة الموظف العام للشخص من غير الممكن توافرها ما لم يعين من جهة مختصة بالتعيين، ويكون عمله في المرفق العام بشكل دائم أو مؤقت، وهذا المرفق يدار من قبل الدولة أو إحدى هيئاتها بطريق مباشر أو غير مباشر.[7]
الفرع الثالث: الفقه المصري
انقسم الفقه الإداري المصري في تبيان مفهوم محدد للموظف العام إلى قسمين: فمنهم من يرى اسباغ صفة الموظف العام على الشخص الذي يعمل في وظيفة تتسم بالديمومة في خدمة مرفق عام يدار من الدولة أو أي من اشخاص القانون العام. حيث يرى هذا القسم بأن الموظف العام هو كل من يعهد إليه بعمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الدولة، أو أحد أشخاص القانون العام الأخرى بالطريق المباشر.[8] ومنهم قال: ” كل شخص يعهد إليه بوظيفة دائمة في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد اشخاص القانون العام الأخرى بالطريق المباشر عن طريق شغله منصباً يدخل في التنظيم الإداري لذلك المرفق على أن يكون ذلك بصفة بصفة مستمرة لا عارضة وأن يصدر بذلك قرار من السلطة المختصة قانوناً بالتعيين”.[9] وذهب آخر إلى أنه الشخص الذي يعهد إليه بعمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام.[10] ويرى البعض من الفقه من خلال المفاهيم السابقة لهذا القسم أنه قد توسع في مفهوم الموظف العام.[11] ونحن نؤيده في ذلك، حيث أن البعض من هذا القسم لم يشترط ديمومة الوظيفة أو التثبيت فيها.
أما القسم الثاني فهم لا يذهبون إلى التوسع في تحديد المفهموم للموظف العام مثل إدارة المرفق بالأسلوب المباشر من قبل الدولة أو أحد اشخاص القانون العام. حيث منهم من أسبغ صفة الموظف العام على الشخص الذي يساهم في عمل دائم في مرفق عام تديره الدولة أو غيرها من الوحدات الإدارية، بأسلوب الاستغلال المباشر، وتكون مساهمته في ذلك العمل عن طريق إسناد مشروع لوظيفة ينطوي على قرار بالتعيين من جانب الإدارة وعن قبول لهذا التعيين من قبل الموظف.[12]
نخلص من ذلك الفقه المصري بملاحظة أن القسمين يجمعان على مسألة توافر شروط محددة لاسباغ صفة الموظف العام على الشخص تتمثل بديمومة العمل ولخدمة المرافق العامة شريطة أن تكون مدارة من قبل الدولة أو أي من الأشخاص القانونية العامة.
وعليه ومن خلال تتبع الآراء الفقهية العُمانية والأردنية والمصرية نجد بأن الفقه الأردني جاء متأثراً بالفقه المصري شأنه شأن الفقه العُماني، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن كل المفاهيم السابقة تدور حول العناصر أو الشروط الواجب توافرها في الشخص لاكتساب صفة الموظف العام.
وفي حقيقة الأمر ما هذه المفاهيم التي جاء بها الفقه المقارن وغيره للموظف العام إلا باعتقادنا لخلو التشريعات من وضع مفهوم ثابت ومحدد وشامل مانع له، مما حدى بالفقه إلى أن يدلوا بدلوه منهم من توسع في المفهوم ومنهم من ضيق فيه. ولهذا سنبين المفاهيم التشريعية والقضائية في المطلب الثاني.
المطلب الثاني
في التشريع والقضاء الإداري المقارن
تباينت تشريعات الخدمة المدنية أو الوظيفية في وضع تعريف ثابت وشامل مانع للموظف العام، وهذا التباين والاختلاف في أغلبه يدور حول مسائل تتعلق بماهية الشروط وعددها التي يجب أن يتطلبها الشخص لكي تسبغ عليه صفة الموظف العام. سوف نتناول ذلك في التشريعات المقارنة محل الدراسة في الفرع الأول، وموقف القضاء الإداري منه.
الفرع الأول: في التشريع والقضاء الإداري العُماني
المشرع العُماني في قانون الخدمة المدنية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 120/ 2004 ولائحته الداخلية كغيره من التشريعات الأخرى لم يضع مفهوماً شاملاً جامعاً مانعاً للموظف العام، وإنما نجده قد حدد الموظفين المخاطبين بأحكامه وهم الموظفين المدنيين في جهاز الدولة الإداري فيما عدا الموظفين الذين تنظم شؤون توظيفهم مراسيم أو قوانين أو عقود خاصة فيما نصت عليه من أحكام في هذا الشأن.[13] كما نجده في المادة الثانية من قانون الخدمة المدنية بأن مصطلح الموظف المخاطب بأحكامه هو ” الشخص الذي يشغل وظيفة عامة بإحدى وحدات الجهاز الإداري”. ومع ذلك نلاحظه في التشريع الجزائي قد وسع من مفهوم الموظف العام حيث جاء فيه: ” يعد موظفاً عاماً في تطبيق أحكام هذا القانون أ-كل من يشغل منصباً حكومياً. ب-أعضاء مجلس عُمان، وأعضاء المجالس البلدية. ج-كل من كلف بالقيام بعمل معين من إحدى السلطات العامة المختصة في حدود تكليفه. د-ممثلوا الحكومة في الشركات، والعاملون بالشركات المملوكة للحكومة بالكامل، أو تلك التي تساهم الحكومة في رأس مالها بنسبة تزيد على (40%) أربعين في المائة. ه-أعضاء مجالس إدارة الجمعيات الأهلية العُمانية ذات النفع العام”.[14] وعليه نرى أن المشرع العُماني لم يرسو على مفهوم محدد وشامل للموظف العام، وقد فعل حسناً كما يرى البعض من الفقه.[15] وآية ذلك كما يرى البعض أن هذا المفهوم الذي أورده المشرع في قانون الخدمة المدنية يحكم في الواقع العديد من المؤثرات والمعطيات المختلفة ليس من دولة إلى أخرى، وإنما أيضاً من وقت لآخر في الدولة الواحدة وفقاً لما يسودها من أنظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية وغيرها.[16]
ولذلك كان لمحكمة القضاء الإداري العُمانية أن تتصدى لمفهوم الموظف العام بحكم اختصاصاتها الواردة في المادة (6) من قانونها وذلك بالقول: ” يمكن استخلاص تعريف للموظين العموميين بأنهم الموظفون والمستخدمون والعمال الشاغلون لوظائف دائمة بالجهاز الإداري للدولة والذين يتقاضون أجورهم من الخزانة العامة… أما العاملون في غير وحدات الجهاز الإداري للدولة، فإنهم يخضعون لقواعد قانون العمل”.[17]
الفرع الثاني: في التشريع والقضاء الإداري الأردني
يعد نظام الخدمة المدنية الأردني المنظم للوظيفة العامة والمخاطب بأحكامه كل من اتخذ صفة الموظف العام، لذلك بين مفهوم الموظف بانه الشخص المعين من المرجع المختص في وظيفة مدرجة في جدول تشكيلات الوظائف الصادر بمقتضى قانون الموازنة العامة أو موازنة إحدى الدوائر، بما في ذلك الموظف المعين بعقد ولا يشمل الشخص الذي يتقاضى أجراً يومياً.[18]وبذات الوقت جاء قانون العقوبات الأردني بمفهوماً له بشكل أوسع حينما نص على أنه يعد موظفاً بالمعنى المقصود في باب الجرائم التي تقع على الإدارة العامة، كل موظف عمومي في السلك الإداري أو القضائي، وكل ضابط من ضباط السلطة المدنية أو العسكرية أو فرد من أفرادها، وكل عامل أو مستخدم في الدولة أو في إدارة عامة.[19]
يتبين مما سبق أن المشرع الأردني قد أوضح لاكتساب صفة الموظف العام توافر في الشخص شرطي التعيين من مرجع مختص، وأن تكون الوظيفة سبق وأدرجت في جدول تشكيلات الوظائف في قانون الموازنة العامة أو إحدى الدوائر، سيان إن كانت دائمة أو مؤقته.
والملاحظ أيضاً بأن المشرع الأردني والمشرع العُماني كلاهما قد بينا مفهوماً للموظف العام في كل من نظام الخدمة المدنية وقانون العقوبات، وباعتقادنا جاء ذلك حرصهما على سير المرافق العامة بانتظام، فضلاً إلى قدسية المهام الملقاة على كاهل الموظف العام وأهميتها.
هذا وقد اسقر القضاء الإداري الأردني على مفهوم الموظف العام في العديد من قضائه بالقول:” هو كل شخص يعهد إليه بعمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام”.[20] وهذا المفهوم نرى أنه ينسحب على عمال المرافق التي تدار من قبل الدولة ممثلة بمؤسساتها القضائية والتنفيذية والتشريعية وكذا المؤسسات التي تعد من شخوص القانون العام.[21]
الفرع الثالث: في التشريع والقضاء الإداري المصري
لم يختلف التشريع المصري عن سابقيه كل من العماني والارني من حيث عدم وضع مفهوم شامل للموظف العام وذلك منذ القانون رقم (210) لسنة 1951قانون العاملين المدنيين بالدولة والمعدل رقم (47) ل سنة1978، وحتى الحالي رقم (81) لسنة 2016 قانون الخدمة المدنية، بل اكتفت بالنص على: ” يعتبر عاملاً في تطبيق أحكام هذا القانون كل من يشغل إحدى الوظائف الواردة بموازنة الوحدة”.[22]
فالمشرع هنا قد اعتبر الشخص المبين في النص المشار إليه موظفاً عاماً، سواء كانت ذات ديمومة أم مؤقته، وهذا التأقيت لا ينقص من أهميتها للمرفق العام.[23]
وباستعراض التشريع الجزائي المصري، فالمشرع هنا على خلاف الأردني والعُماني لم يورد نصاً خاصاً لتبيان تعريف للموظف العام.
وهناك من يذهب للقول: بأن التعريف ليس من مهمة ومسؤولية المشرع، لذلك يترك هذه المهمة للفقه والقضاء الإداريين.[24]
لذلك تصدت المحاكم الإدارية لهذه المسألة، حيث أفتت إدارة الفتوى في مجلس الدولة المصرية بالقول: ” بأن صفة الموظف العام لا تقوم بالشخص ولا تجري عليه احكام الوظيفة العامة، إلا إذا كانت علاقته بالحكومة مستقرة ودائمة في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام”.[25]
المبحث الثاني
مبدأ المواجهة وحق الدفاع في التشريعات المقارنة والقضاء الإداري.
بينا سابقاً مفهوم الموظف العام والاشتراطات الواجب توافرها لاكتساب تلك الصفة والذي هو المخاطب أساساً بالمساءلة الإدارية وذلك حينما يخل بالواجبات والمسؤوليات أو يخرج على مقتضى الأعمال الوظيفية أو يظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامتها مما يقتضي الأمر معه إحالته إلى الجهة المختصة بالتأديب لإنزال العقوبة بحقه، وهذا أمر في حقيقته لا يكفي بل لا بد من اتخاذ إجراءات تسبق ذلك من شأنها أن توفر ضمانة للموظف تكفل له الحماية تجاه احتمالية انحراف الإدارة وتعسفها في استعمال سلطتها التقديرية، وفي المقابل تحقيق مصلحة الإدارة في فرض الجزاء حماية للوظيفة العامة، وبمعنى آخر تحقيق التوازن بين المصلحتين.
ومن تلك الضمانات المكرسة للموظف والتي تسبق فرض الجزاء عليه ما تعرف بمبدا المواجهة والذي سنتناوله في المطلب الأول موضحين مفهومة والأساس الذي أقيم عليه.
المطلب الأول
مفهوم المبدأ وأساسه
النشأة:
تشير الدراسات إلى فرنسا بنشأته سنة 1905، حيث أقره المشرع الفرنسي صراحة بأحقية الموظف في الاطلاع على ما نسب إليه من مخالفات، الأمر الذي حدا بمجلس الدولة الفرنسي بجعله مبدأ قانوني عام ملزم للإدارة وإن لم ينص القانون عليه صراحة إلا ما استثني من قبل المشرع بصريح النص.[26]
يقصد بذلك المبدأ: إحاطة الموظف العام المحال للتأديب وإعلامه بما نسب إليه من مخالفات أو أخطاء لكي يتمكن من إبداء دفاعه وذلك قبل أن تتخذ بحقه أية إجراءات تحقيقية، وحقيقة الأمر يعد هذا التصرف مبني على أساس من قواعد العدالة التي جاءت بها التشريعات المختلفة.
وهي تعد مساهمة فعلية لأي شخص مسًت حقوقه ومصالحه قبل الإدارة، والهدف من ذلك لبيان طرق دفاعه أو إبداء موقفه.[27] أما في مجال المسئولية التأديبية، فتتمثل بتمكين الموظف من الإحاطة بالاتهامات المنسوبة إليه واخطاره بذلك واطلاعه على الملف الشخصي حتى يستطع إعداد دفاعه.[28]
ومن هنا نستطع القول: بأن هذا المبدأ ذو صلة وارتباط وثيق بحق الدفاع، وهو يشكل مرحلة أولية وتمهيدية من شأنها أن تساعد الموظف المراد توقيع الجزاء الإداري عليه أن يجهز دفوعه على التهم المسندة إليه. حيث أن الدفاع من الحقوق المقدسة والتي كفلتها الدساتير.
فالنظام الأساسي العُماني قد كفل حق الدفاع في العديد من مواده.[29] وكذلك الدستور المصري.[30]
أما الدستور الأردني فلم يرد فيه ما يشير إلى حق الدفاع، وإنما نجده في التشريعات العادية.
وعليه فمبدأ المواجهة يعد من أهم أسس حق الدفاع، والذي سبق وأن ابتكره القضاء الفرنسي من ضمن ما كشف عنه من مبادئ عامة والتي يجب تطبيقها وإن لم يتم النص عليها.
إلا أنه ما يمكن التأكيد عليه من خلال المفهوم العام لهذا المبدأ، أنه يتضمن مسالتين هامتين من الضرورة توافرها لكفالة مبدأ المواجهة، وهما ضرورة إخطار المتهم بالمخالفة أو التهمة المنسوبة إليه مع منحه الوقت الكاف لتحضير دفوعه والرد على التهمة، وبذات الوقت السماح له بالاطلاع على وثائق ملف التهمة. سوف نوضحهما في الفرعين التاليين:
الفرع الأول: الإخطار
يعد إخطار المتهم من أساسيات حق الدفاع، بحيث يتم إحاطته علماً يقينياً بكل ما اتخذ تجاهة من إجراءات واتهامات وما يرافقها من أدلة ومستندات حتى يكون على بينة من أمره بكل دقة بما هو منسوب إليه ليتسنى له التحضير والرد المناسب عليها مع منحه الوقت المناسب والكاف وفق تقدير المحقق.[31] فضلاً عن بيان الإدارة له بنيتها إلى فرض إحدى الجزاءات الواردة في القانون متى ما ثبتت التهمة المنسوبة إليه وذلك لتحفيزة في الدفاع عن نفسه[32].
وحقيقة إخطار الموظف بما هو مسند إليه ليس غاية بذاته بقدر ما هو افساح المجال له في تجهيز دفوعه بما يراه في صميم مصلحته، لأن باستبعاد الاخطار لن يكون بوسعه تحقيق دفاعه. وبالتالي من غير العدالة أن يؤخذ على حين غرة في تحقيق قد لا يكون هو من ارتكب المخالفة. وقد كرس الاخطار في العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ومنها اتفاقية الأمم المتحدة للحقوق المدنية والسياسية والتي نصت على: ” من حق المتهم أن يخطر في أقصر وقت ممكن وباللغة التي يفهمها وبطريقة مفصلة بطبيعة وسبب الاتهام الموجه إليه”.[33]
ونرى بأن إخطار الموظف بما هو متهم به ينسجم وروح العدالة في المحاكمات القانونية العادلة وإن لم يرد فيه نص تشريعي، وآية ذلك بأن غاية أية محاكمة مهما كانت نوعها ما هو إلا البحث عن الحقيقة واظهارها.
الفرع الثاني: الاطلاع على وثائق التهمة
يعد ملف الاتهام بما يتضمنه من وثائق، هو المخزن لكافة المعلومات من بينات ومستندات والتي من شأنها أن تدفع باتجاه اتهام الموظف بما نسب إليه من جهة الإدارة، لذلك يكون من حق المتهم الاطلاع عليه باعباره ضمانة جوهرية له وذلك قبل أن تتخذ الإدارة أية إجراءات تأديبية بحقه.[34] لذلك روح العدالة تقتضي أن يكون الموظف المتهم على اطلاع بكل تفاصيلها لغايات بناء دفوعه وتحضير مستنداته وأدلته التي من شأنها أن تدفع عنه التهمة، فضلاً عن مسايرة الشفافية في ظل تطورات نهج الإدارة في أعمالها والتي باتت تحت رقابة المجتمع والقضاء.
المطلب الثاني
مبدأ المواجهة في التشريع والقضاء الإداريين المقارن
بينا سابقاً مفهوم المبدأ المتمثل بمواجهه الموظف المتهم بما أسند إليه من مخالفات لغايات بيان موقفه منها من خلال دفاعه، وبينا ضرورة وجود عناصر لذلك المبدأ والتي تعد ضرورة وضمانة أكيدة له تتمثل بعنصري الاخطار والاطلاع على ملف الاتهام. وعليه سوف نأتي على موقف المشرع والقضاء الإداري منه في كل من عُمان والأردن ومصر في الفروع التالية من هذا المطلب.
الفرع الأول: في التشريع والقضاء العُماني
حرص المشرع العُماني في قانون الخدمة المدنية على عدم جواز توقيع عقوبة على الموظف المحال للمساءلة التأديبية إلا بعد التحقيق معه كتابة وسماع أقواله.[35] وآية ذلك توفير ضمانة جدية التحقيق المسبق مع ذلك الموظف لما له من أثر في ضمان رقابة فعالة لجدية التحقيق وسلامته.[36]
إلا أن المشرع نجده قد استثنى شرط الكتابة في التحقيق واكتفى بالتحقيق الشفوي في المخالفات التي تكون بسيطة ذات العقوبات المبسطة كالإنذار والخصم من الراتب لمدة لا تجاوز ثلاثة أيام، ومع ذلك أوجب تدوين ذلك في القرار القاضي بتوقيع الجزاء. وقد جاءت اللائحة التنفيذية رقم 120/2004 لقانون الخدمة المدنية ببيان إجراءات المساءلة الإدارية. حيث بينت مسألة مواجهة الموظف المحال للتأديب من حيث تحديد جلسة التحقيق ودعوته إليها وإبداء دفاعه كتابة، كما له الحق بالاستعانة بوكيل عنه، وكذا طلب استدعاء شهود يرغب الاستماع إليهم.[37]
واستغرقت اللائحة تفصيلاً بأنه على المحقق فتح محضراً للتحقيق في اليوم الذي تحدد لسماع أقوال الموظف المحال بحيث يتضمن ما يلي:
أ – إثبات الحضور – أو عدم الحضور – الموظف المستدعى للتحقيق، وإثبات بياناته… وتاريخ إخطاره بالاستدعاء للتحقيق.
ب – إحاطة الموظف بموضوع المخالفة محل التحقيق وإثبات ما يوجه من أسئلة وسماع أقواله – دون يمين – وإثبات ما يجيب عليه.
ويجب ألا تخرج الأسئلة عن موضوع التحقيق وأن يعطى الموظف الفرصة الكافية لإبداء وجه نظره وأوجه دفاعه.
وتأكيداً على حق الدفاع، نجد بأن المشرع العُماني قد نص صراحة عليه في المادة (107) من قانون الخدمة المدنية، حيث نصت على ” لا يجوز توقيع عقوبة على الموظف إلا بعد التحقيق معه كتابة، وسماع أقواله، وتحقيق دفاعه.”.
بتحليل موقف المشرع العُماني من مسألة ضمانة مبدأ المواجهة قبل توقيع العقوبة على الموظف المحال للتأديب نجده قد حقق هذا المبدأ بعناصره، من حيث إخطاره بالتهمة المنسوبة إليه وإحاطته بها وبتفاصيلها مع منحه الفرصة الكافية لابداء وجهة نظره وأوجه دفاعه.
وبالتالي إذا لم تتحقق للموظف المتهم الضمانة تلك من قبل جهة التأديب وأصدرت قرار تأديبي بحقه تكون قد خالفت القانون وبالتالي يصبح قرار العقوبة مشوب بعيب مخالفة القانون. وهذ ما استقر عليه قضاء المحكمة الإدارية في العديد من أحكامها.[38]
الفرع الثاني: في التشريع والقضاء الأردني
تعد مواجهة الموظف المخالف بما أسند إليه من تهم وتفاصيلها وقبل توقيع العقوبة عليه وكما أسلفنا، ضمانة جوهرية غايتها تحقيق فعالية دفاعه، كونه يصبح على علم ودراية بكل ما يتعلق بملف الاتهام.[39]
لذلك من الأجدى ومراعاة لمبدأ المشروعية أن تقوم التشريعات على تقنين مبدأ المواجهة حتى تتحقق المشروعية من خلال إفساح المجال للمخالف لكي يتمكن من تحضير دفاعه بعد أن تقوم جهة التاديب بإخطاره بما نسب إليه تفصيلاً. وقد حرص المشرع الأردني على تقنين ذلك، حيث نص على ” اعلام الموظف خطياً بما هو منسوب إليه، بحيث يتضمن المخالفة المرتكبة والتهمة الموجهة إليه”.[40] ولم يتوقف المشرع عند ذلك بل ذهب إلى الزام الجهات التأديبية الرئاسية وقبل توقيع عقوبة ما على الموظف مما هو مخول لها، وحال إحالته إلى المجلس التاديبي أن يتم تزويده بنسخة من عريضة الدعوى، وأوراق التحقيق بكامل محتوياته من محاضر وبينات مع دعوته لاستلامها وتحديد موعد جلسة النظر في القضية.[41]
وبذلك يكون المشرع الأردني قد أخذ بمبدأ مواجهة الموظف المخالف من خلال النص صراحة عليه حتى يتمكن من تحقيق دفاعه، وذلك على اعتبار أنه من الحقوق المقدسة والتي كفلها القانون، حيث أجاز المشرع للموظف المحال للمساءلة التأديبية أن يطلع على جميع الأوراق المتعلقة بالمخالفة أو الشكوى التي يتم التحقيق معه فيها، وله أيضاً أن يوكل محامياً للدفاع عنه، وكذلك تمكينه من تقديم أدلته سواء كانت شخصية أم خطية والاستماع ومناقشة الشهود.[42]
وقد استقر القضاء الإداري الأردني على تكريس مبدأ المواجهة في العديد من أحكامه، حيث قرر على أنه: ” لا يجوز توقيع العقوبة على الموظف إلا بعد مواجهته بالتهمة المنسوبة”.[43] وفي حكم لها آخر قد قضت بأنه: ” من الضمانات الجوهرية التي أكد عليها المشرع وأوجب مراعاتها في التحقيق الإداري مواجهة المشتكى عليه بحقيقة التهمة المسندة إليه وإحاطته علماً بكل ما تنطوي تنطوي على التهم المنسوبة إليه والتي تثير إلى ارتكابه المخالفة حتى يتمكن من أن يدلي بدفاعه، ويكون على بينة من أمره وخطورة موقفه، ويستعد للدفاع عن نفسه كما يجب مواجهته بما يثبت ضده من أدلة إتضحت من وثائق ومناقشتها معه.[44] وفي حكم آخر تجلى فيه بإلغاء العقوبة، حيث قالت: ” فإن توقيع المستدعى ضده عقوبة التنبيه ضد المستدعية قبل استدعائها ومواجهتها بما هو منسوب إليها، ومنحها الفرصة لدفع التهمة عنها، فإن عدم مراعاة الضمانة تلك يصبح معه القرار حري بالإلغاء”.[45]
هذا وقد أبطلت المحكمة الادارية القرار الصادر بتوقيع عقوبة على موظف بسسب عدم مراعاة مبدأ المواجهة. حيث قررت ” إذا صدر قرار فصل المدعية بدون أن تتبلغ موضوع التهمة المنسوبة إليها وبدون أن تبلغ بالحضور أمام لجنة الموظفين بصفتها مجلس تأديبي فإن هذا القرار يكون قد صدر معيباً بعيب جوهري يقضى ببطلانه”.[46]
مما تبين نجد بأن التشريع والقضاء الإداريين قد كرسا مبدأ المواجه بشكل واضح وصريح.
الفرع الثالث: في التشريع والقضاء المصري
تشكل العقوبة التأديبية خطورة على العامل بما يترتب عليها من آثار، لذلك وجب توافر ضمانات تسبق فرضها تتمثل بالقيام بإجراءات تسبقها، وغايتها اظهار حقيقة التهمة المسندة إليه لكي يكون قرار فرضها مقاماً على أسس سليمة من الواقع والقانون من ناحية، ومن ناحية أخرى نجاح وفعالية النظام التأديبي الذي يتوقف على وجود ضمانات من شأنها أن تجلب للعامل المحال للتأديب الشعور بالعدالة والاطمئنان أمام اللجان التأديبية.[47]وهذه الضمانات إما أن تكون سابقة على العقوبة وإما أن تكون معاصرة وإما أن تكون لائحقة. وما يعنينا هنا يتعلق بالضمانة السابقة المتمثلة بالمواجهة، فما هو موقف المشرع والقضاء المصري منها؟
باستعراض التشريعات المصرية المتعاقبة، تبين لنا بأن القانون رقم 210 لسنة 1951، قد نص على وجوب إخطار العامل بما هو مسند إليه من مخالفات، إذ جاءت المادة 89 منه بالنص: ” يتضمن قرار الإحالة إلى المحكمة التأديبية بياناً بالمخالفة المنسوبة للموظف، ويخطر الموظف بهذا القرار وبتاريخ الجلسة المعينة لمحاكمته قبل هذا التاريخ بخمسة عشر يوماً على الأقل”.
كما أن القانون رقم 117 لسنة 58 وفي المادة 23 منه قد نصت كسابقه على: ” يتضمن قرار الإحالة بياناً بالمخالفات المنسوبة للموظف، ورئيس المحكمة يبين جلسة للنظر في الدعوى بالتحديد، ويتولى سكرتير المحكمة إخطار العامل بقرار الإحالة وموعد الجلسة خلال أسبوع من تاريخ توديع الأوراق، وذلك بموجب كتاب مسجل مصحوب بعلم الاستلام”.
إلا أن القانون اللاحق له رقم 47 لسنة 78، لم يتضمن مثل تلك النصوص وإنما جاء في المادة 79 منه بعدم جواز فرض عقوبة على العامل إلا بعد أن يتم تحقيق كتابي معه، وسماع أقواله، وتحقيق دفاعه”.
ويستنتج من ذلك بأنه مما لا شك فيه، بأن حق الدفاع لم يكن مغيباً عن النص التشريعي، حيث أكده القانون الحالي المشار إليه في المادة 79 منه، بأنه لا يجوز توقيع جزاء على العامل إلا بعد التحقيق معه كتابة، وسماع أقواله، وتحقيق دفاعه. وإن أي انتقاص أو اخلال بهذا الحق يصبح معه التحقيق معيباً. كما أن تعليمات النيابة العامة الإدارية ذهبت إلى أن من الضرورة احترام مبدأ المواجهة حينما قررت في المادة 120 على عضو النيابة الإدارية مراعاة مواجهة المتهم والشهود بعضهم ببعض وفق الأحوال، وذلك إذا اختلفت أقوالهم أو تضاربت في شأن واقعة جوهرية ويثبت في إجراء المواجهة موضوعها ونتيجتها، كما على عضو النيابة عقب الانتهاء من تحقيق دفاع المتهم أن يواجهه بما نتج عن التحقيق من مخالفات مسندة إليه لم يسبق مواجهته بها.[48]
وبناء على ما سبق نجد أن المشرع المصري قد راعى مبدأ المواجهة بشكل واضح وصريح واعتبره ضمانة ضرورية يجب مراعاتها وعدم الاخلال بها. وقد استقر القضاء الإداري المصري على هذا المبدأ، وقد ذهب إلى أن الاخلال أو الانتقاص منه من شأنه إبطال العقوبة المفروضة على الموظف المحال للمساءلة التأديبية.
وهذا ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية العليا في العديد من أحكامها، حيث قالت: ” عدم مواجهة المتهم بالاتهام المنسوب إليه وتمكينه من ابداء دفاعه من شأنه اهدار أهم ضمانة من ضمانات التحقيق على نحو يعيبه، الأمر الذي يترتب عليه بطلان الجزاء المبني سواء صدر بهذا الجزاء قرار إداري أو حكم تأديبي”.[49] وفي حكم آخر قالت: ” مواجهة الموظف بالمخالفة المسندة إليه تعتبر من الضمانات الأساسية التي يجب توافرها في التحقيق، والحكمة من تقرير هذه الضمانة هي إحاطة العامل بما نسب إليه ليدلي بأوجه دفاعه”.[50] فضلاً عن تصدي القضاء الإداري لمبدأ المواجهة، أيضاً تصدى إلى حق الدفاع وقالت: ” حق الدفاع أصالة أو وكالة مكفول، لا يجوز توقيع جزاء على العامل إلا بعد سماع أقواله وتحقيق دفاعه.”.[51]
ونخلص إلى أن القضاء الإداري المصري شأنه شأن المشرع قد أكد على مبدأ المواجهة وحق الدفاع كضمانة أساسية يتمتع بها العامل المتهم بمخالفات تأديبية لدى إحالته إلى الجهات التأديبية.
الخاتمة
يعد الموظف العام الطرف الأضعف في مواجهة الإدارة، لذلك لا بد وأن يتمتع بكفالات تشريعية وقضائية في مواجهتها حال تعسفها في استخدام سلطاتها، ومن هنا كانت دراستنا للبحث في تلك الكفالات أو الضمانات السابقة على إحالته للمحاكمة التأديبية وبالذات على مواجهته بما ينسب إليه من اتهامات وقبل إجراء اية تحقيقات معه وفرض عقوبة تأديبية عليه قد تلحق به أشد الضرر في مستقبله الوظيفي وقبله الشخصي، وذلك في التشريعات محل البحث نظراً للتباين بينها فيما يتعلق بماهية الموظف العام ومتى يكتسب هذه الصفة هذا من جهة، ومن جهة أخرى التباين في طرائق مواجهته بما هو منسوب له من اتهامات من حيث التوسع والتضييق وموقف الفقه والتشريع والقضاء من اغفال مبدأ المواجهة على المحاكمة التأديبية وفرض العقوبة. وقد استخلصنا إلى نتائج وتوصيات نبينها تالياً.
النتائج:
تبين لنا من خلال الدراسة ما يلي:
تشريعات الدول محل الدراسة الخاصة بتنظيم الوظيفة العامة لم تعرف الموظف العام بشكل واضح ودقيق، حيث جاءت عبارة عن دلالات مقتضبة تشير للشخص المخاطب بأحكامها، إلا أنها توسعت في مفهوم وتعريف الموظف العام في التشريعات الجزائية.
خطورة التأديب وما ينتج عنه من آثار من شأنها أن تلحق بالموظف أضرار قد تنهي حياته الوظيفية، الأمر الذي اقتضى أن يتم تحصينه بضمانات تكفل له محاكمة عادلة تقيه من احتمالية عسف الإدارة إن وجدت، وبذات الوقت تحقق مصلحة الوظيفة العامة بالتزامن مع شعور الموظف بالإطمئنان بمحاكمة عادلة من خلال مواجته بما هو متهم به، وإجراء تحقيق شفاف مع اتاحة المجال له بالدفاع عن نفسه، نجدها قد تضمنتها التشريعات محل الدراسة.
العقوبات التأديبية في الدول المقارنة خاضعة لرقابة القضاء الإداري.
جهات التأديب في التشريعات محل الدراسة تختلف في إجراءاتها التأديبية، وفي تشكيل هيئاتها التأديبية وطرائق الطعن في قراراتها.
التوصيات:
نوصي المشرعين في كل من سلطنة عُمان وجمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية أن يتصدوا لتعريف الشخص الذي يكتسب صفة الموظف العام بشكل واضح ودقيق في التشريعات الخاصة بالوظيفة العامة.
نوصي المشرعين العُماني والأردني والمصري أن يتم النص على مبدأ المواجهة في قانون وليس في لائحة.
نوصي المشريعين المعنيين النص في قانون الوظيفة العامة الخاص بها على ما استقر عليه القضاء الإداري ببطلان أي إجراءات تحقيقية تتجاهل مبدأ المواجهة.
نوصي المشرعين المعنيين سن قانون إجراءات محاكمات تأديبية مستقل على غرار قانون الإجراءات المدنية والتجارية وقانون الإجراءات الجزائية، وأن يكون من ضمن تشكيلة السلطات التأديبية عضواً من الهيئات القضائية.
قائمة المصادر والمراجع
أولاً: الكتب
المراجع باللغة العربية:
احمد حافظ نجم، القانون الإداري، ج2، دار الفكر العربي، 1981.
احمد طه خلف الله، الموظف العام في قانون العقوبات، رسالة دكتوراه، مقدمة إلى جامعة القاهرة، كلية الحقوق، 1991.
احمد عودة الغويري، قضاء الإلغاء، ط1، مطبعة الدستور التجارية،عمًان، 1989.
احمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، دار الشروق، 2001.
توفيق شحاتة، مبادئ القانون الإداري، ج1،ط1، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة، 1955.
رمضان بطيخ، المسؤلية التأديبية لعمال الحكومة فقهاً وقضاءاً، دار النهضة العربية، القاهرة، 1999.
رمضان بطيخ، الوسيط في القانون الإداري، دار النهضة العربية، القاهرة، 1997.
سعد الشتوي، التحقيق الإداري في نطاق الوظيفة العامة، ط1، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، 2008.
سليمان الطماوي، الوجيز في القانون الإداري، مطبعة عين شمس، 1984.
شهاب بن أحمد بن علي الجابري، شرح قانون الخدمة المدنية العُماني، دار النهضة العربية، القاهرة، 2013.
عبد القادر الشيخلي، النظام القانوني للجزاء التأديبي، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان، 1983.
عزوز بن تمسك، ” حماية القضاء التونسي لمبدأ حق الدفاع” مجلة الاجتهاد القضائي، جامعة بسكرة، عدد3، 2006.
علي جمعة محارب، التأديب الإداري في الوظيفة العامة، دراسة مقارنة، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 2004.
علي خطار، الوجيز في القانون الإداري، دار وائل للنشر، عمًان، 2003.
علي خطار، مبادئ القانون الإداري الأردني، ك3، الوظيفة العامة، مؤسسة وائل للنسخ السريع، عمًان،1994.
كمال رحماوي، تأديب الموظف العام في القانون الجزائري، ط3، دار هومة للطباعة، الجزائر، 2006.
ماجد راغب الحلو، القانون الإداري، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2006.
محسن غالب محسن، سلطة تأديب الموظف العام في القانون اليمني، رسالة دكتوراه، جامعة عين شمس، 1997.
محمد علي العريان، شرح قانون الخدمة المدنية العماني، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2012.
محمد ماجد ياقوت، شرح القانون الضريبي، منشأة المعارف، الإسكندرية، 2006.
محمود عاطف البنا، مبادئ القانون الإداري، أساليب النشاط الإداري ووسائله، دار الفكر العربي، القاهرة، 1979.
مصطفى لطفي شاكر، ضمانات تأديب الموظف العام، دار الكتاب الجامعي، الامارات، 2018.
منصور العتوم، المسؤولية التأديبية للموظف العام، رسالة دكتوراة مقدمة إلى كلية الحقوق، جامعة دمشق، 1984.
نوفان العقيل العجارمة، سلطة تأديب الموظف العام، دار الثقافة والنشر، عمًان، ط1، 2007.
ثانياً: التشريعات:
الدستور الاردني لسنة 1952 وتعديلاته
الدستور المصري لسنة 2014.
النظام الأساسي العماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 101/96.
قانون الخدمة المدنية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 120/2004.
نظام الخدمة المدنية الاردني رقم (30) لسنة 2007 وتعديلاته.
قانون العقوبات الأردني رقم 16 لسنة 196 وتعديلاته.
قانون الجزاء العماني رقم 7/2018.
ثالثاً: المجلات القانونية:
مجلة نقابة المحامين الأردنيين، العدد، 7-8 لسنة 1976.
مجموعة أحكام المحكمة الادارية العليا المصرية،س2.ق.57.
مجموعة أحكام المحكمة الادارية العمانية، 2014/2015
مجموعة أحكام محكمة العدل العليا الاردنية، 2001
رابعاً: المراجع الاجنبية:
A.Plantey: Traite pratique dela fonction publique, 1973
[1]- M.Waline: Traite elementaire droit adminstratif, Paris,S.Gene e di,p.324.
[2] – A.Plantey: Traite pratique dela fonction publique, 1973.L.G.D.J.Tom.1 No 44.
أشار إليهما: د. علي خطار، الوجيز في القانون الإداري، دار وائل للنشر، عمًان، 2003، ص414.
[3] شهاب بن أحمد بن علي الجابري، شرح قانون الخدمة المدنية العُماني، دار النهضة العربية، القاهرة، 2013،ص11.
[4] – منصور العتوم، المسؤولية التأديبية للموظف العام، رسالة دكتوراة مقدمة إلى كلية الحقوق، جامعة دمشق، 1984،ص18.
[5] – احمد عودة الغويري، قضاء الإلغاء، ط1، مطبعة الدستور التجارية،عمًان، 1989،ص122.
[6] – علي خطار، مبادئ القانون الإداري الأردني، ك3، الوظيفة العامة، مؤسسة وائل للنسخ السريع، عمًان،1994، ص30.
[7] – نوفان العقيل العجارمة، سلطة تأديب الموظف العام، دار الثقافة والنشر، عمًان، ط1، 2007، ص36.
[8] – محمود عاطف البنا، مبادئ القانون الإداري، أساليب النشاط الإداري ووسائله، دار الفكر العربي، القاهرة، 1979، ص98.
[9] – أحمد حافظ نجم، القانون الإداري، ج2، دار الفكر العربي، 1981، ص119.
[10] – سليمان الطماوي، الوجيز في القانون الإداري، مطبعة عين شمس، 1984، ص427.
[11] – احمد طه خلف الله، الموظف العام في قانون العقوبات، رسالة دكتوراه، مقدمة إلى جامعة القاهرة، كلية الحقوق، 1991، ص134.
[12] – توفيق شحاتة، مبادئ القانون الإداري، ج1،ط1، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة، 1955،ص457.
[13] – محمد علي العريان، شرح قانون الخدمة المدنية العماني، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2012، ص23.
[14] – المادة (10) من قانون الجزاء العماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 7/2018.
[15] – شهاب الجابري، مرجع سابق، ص9.
[16] -رمضان بطيخ، الوسيط في القانون الإداري، دار النهضة العربية، القاهرة، 1997،ص382.
[17] -محكمة القضاء الإداري العمانية، جلسة 30/4/2001، مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة، 2001-2002،المكتب الفني، ص83.
[18] – المادة (2) من نظام الخدمة المدنية الأردني المعدل رقم 37 لسنة 2007.
[19] – المادة (169) من قانون العقوبات الأردني رقم 16 لسنة 196 وتعديلاته.
[20] – عدل عليا، قضية رقم 72/1973، مجلة نقابة المحامين الأردنيين، العدد، 7-8 لسنة 1976.
[21] – عدل عليا، 182/83، مجلة نقابة المحامين، عدد5 لسنة 84، ص649.
[22] – المادة (2) من القانون رقم 81 لسنة 2016.
[23] – محسن غالب محسن، سلطة تأديب الموظف العام في القانون اليمني، رسالة دكتوراه، جامعة عين شمس، 1997، ص2.
[24] – رمضان بطيخ، المسؤلية التأديبية لعمال الحكومة فقهاً وقضاءاً، دار النهضة العربية، القاهرة، 99،ص16.
[25] -إدارية عليا مصرية، قضية رقم 1470/57، مجموعة، س2، ق، ص832.
[26] – كمال رحماوي، تأديب الموظف العام في القانون الجزائري، ط3، دار هومة للطباعة، الجزائر، 2006، ص146.
[27] – عزوز بن تمسك، ” حماية القضاء التونسي لمبدأ حق الدفاع” مجلة الاجتهاد القضائي، جامعة بسكرة، عدد3، 2006، ص29.
[28] – علي جمعة محارب، التأديب الإداري في الوظيفة العامة، دراسة مقارنة، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 2004، ص335.
[29] – المواد (23-24) من النظام ألاساسي الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 101/96.
[30] – المادة (96) من دستور جمهورية مصر العربية 2014.
[31] – محمد ماجد ياقوت، شرح القانون الضريبي، منشأة المعارف، الإسكندرية، 2006، ص835.
[32] – سعد الشتوي، التحقيق الإداري في نطاق الوظيفة العامة، ط1، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، 2008، ص101.
[33] – المادة (13/14).
[34] – عبد القادر الشيخلي، النظام القانوني للجزاء التأديبي، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان، 1983، ص407.
[35] – المادة (107) من قانون الخدمة المدنية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 120/2004.
[36] – ماجد راغب الحلو، القانون الإداري، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2006، ص299.
[37] – المادة (135) من اللائحة الداخلية.
[38] – أنظر تفصيلاً: الحكم رقم (430) لسنة (15) ق.س. مجموعة المبادئ القانونية/ العام القضائي الخامس عشر، 2014-2015، ص1423.
– حكم رقم (882) لسنة (14) ق.س، ص207.
[39] – احمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، دار الشروق، 2001، ص740.
[40] – المادة ( 140/أ/1)، من نظام الخدمة المدنية رقم (30) لسنة 2007 وتعديلاته.
[41] – المادة (145/أ/1) و (147/ب) من نظام الخدمة المدنية الأردني، مرجع سابق.
[42] – أنظر: المواد ( 147، 151، 152) من ذات النظام.
[43] – عدل عليا، قضية رقم 12/1998، تاريخ 30/5/ 1998، مجلة نقابة المحامين، لسنة 1999، ص571.
[44] – عدل عليا، 466/2011، تاريخ 17/4م2011.
[45] – حكم رقم 12/1998، مجلة نقابة المحامين، لسنة 99، ص571.
[46] – عدل عليا، 142/71، تاريخ 31/1/73، مجلة نقابة المحامين، عدد1، لسنة 71، ص25.
[47] – د. رمضان بطيخ، الوسيط في القانون الإداري، مرجع سابق، ص612.
[48] – مصطفى لطفي شاكر، ضمانات تأديب الموظف العام، دار الكتاب الجامعي، الامارات، 2018،ص58.
[49] – محكمة إدارية عليا، طعن رقم 1464 لسنة 32ق، 10/6/1989.
[50] – محكمة إدارية عليا، طعن رقم 339 لسنة 30 ق، 28/10م86.
[51] – محكمة إدارية عليا، طعن رقم 951،س32ق،ص452.
د. محمد عبد الله الشوابكة، أستاذ القانون العام المشارك (جامعة ظفار – سلطنة عُمان)