دراسات قانونيةسلايد 1

الأعذار المبيحة للرجوع في الهبة (بحث قانوني)

تعتبر الهبة واحدة من الأسباب التي تكسب الملكية، وتندرج ضمن عقود التبرع، أو عقود العطايا حسب التسميات إلى جانب الصدقة ، فالهبة شرعها الله سبحانه لما فيها من تأليف القلوب وتوثيق عرى المحبة بين الناس مصداقا لقوله في سورة ال عمران ” قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء” .

الهبة مشروعة في السنة النبوية فعن ابي هريرة رضي الله عنه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” تهادوا تحابوا”،[1] فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل الهدية ويثيب عليها وكان يدعو إلى قبولها ويرغب فيها ولو كان شيئا حقيرا، فعن انس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لو أهدي إلي كراع[2] لقبلت، ولو دعيت عليه لأجبت” [3]

من خلال هذه الاحكام التي جاءت بها الشريعة الاسلامية دأبت التشريعات العربية ايضا على تنظيم الهبة انطلاقا من هذه المنطلقات فنظمت أركانها وشروطها، وكل ما يجيزها أو يمنعها كسبب من اسباب كسب الملكية من موانع الرجوع والاعذار التي تبيح الرجوع فيها.

كذلك المشرع الفرنسي لم يغفل عن التنظيم القانوني للهبة بل اشار إلى كل الأحكام التي تنظمها في القانون المدني، الفرق فقط بينه وبين التشريعات العربية يكمن في أن القانون المدني الفرنسي هو امتداد للقانون الروماني، بينما التشريع المغربي والتشريع العراقي هم امتداد للشريعة الاسلامية في قضايا وأحكام الهبة.

ودراستنا هذه لن تشمل في واقع الحال كل الأمور التي تنظم الهبة نظرا لشاسعتها وكثرتها، لهذا سنقصر هذه الدراسة على الشق المتعلق بالأعذار الموجبة للرجوع في الهبة فقط دون الموانع والشروط والأركان التي تحكم الهبة ، في مقابل ذلك سنحاول الانفتاح_ دون تقصير_ على أهم ما جاء به التشريع الفرنسي والتشريع العراقي في هذا الموضوع.

وسيكون ذلك وفق منهجية علمية نزاوج فيها المنهجين: الوصفي والمقارن، فالمنهج الوصفي سنقوم من خلاله بعرض أهم النصوص القانونية ذات الصلة بموضوعنا في كل من التشريعات المذكورة أعلاه ، والمنهج المقارن سيمكننا من إجراء مقارنة بين التشريع الفرنسي والعراقي من جهة، والتشريع المغربي من جهة ثانية لإبراز مظاهر التشابه والاختلاف من حيث الاعذار الموجبة للرجوع في الهبة، هذا أيضا سيكون وفق تصميم ثنائي على الشكل المومأ إليه اسفله:

المبحث الأول: أوجه التشابه من حيث الاعذار الموجبة للرجوع في الهبة في التشريع المغربي والتشريعين الفرنسي والعراقي

المبحث الثاني: أوجه الاختلاف من حيث الأعذار الموجبة للرجوع في الهبة في التشريع المغربي والتشريعين الفرنسي والعراقي

المبحث الأول: أوجه التشابه من حيث الاعذار الموجبة للرجوع في الهبة في التشريع المغربي والتشريعين الفرنسي والعراقي

الأعذار الموجبة للرجوع هي الأعذار التي لو تحققت لجاز للشخص الواهب امكانية الرجوع عن الهبة التي وهبها للشخص الموهوب له، وتسمى في الفقه الاسلامي بأعذار الاعتصار، أو حالات الاعتصار، أو موجبات الرجوع كلها تسميات لمسمى واحد، وهذه الحالات حددها المشرع المغربي حصرا في المادة 283 من مدونة الحقوق العينية، حيث جاء فيها: ” يراد بالاعتصار رجوع الواهب في هبته، ويجوز في الحالتين التاليتين :

أولا: فيما وهبه الأب أو الأم لولدهما قاصرا كان أو راشدا

ثانيا: إذا اصبح الواهب عاجزا عن الانفاق على نفسه أو على من تلزمه نفقته

من خلال هذا المادة يتضح لنا أن المشرع المغربي حدد حالات الاعتصار، أو حالة الرجوع في حالتين فقط، الأولى متاحة للأبوين _الأب أو الأم _ حيث بإمكانهما الرجوع عن الهبة التي وهبوها لولدهما، وهذه الحالة نجد سندها الشرعي في الحديث النبوي عن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده”[4]

اما الحالة الثانية فهي متاحة للجميع وليس للابوين فقط ، كما لو وهب الشخص لشخص اخر عقارا وبعد مدة اصبح الشخص الواهب عاجز عن الانفاق عن نفسه، أو عن من تجب نفقته عليه كالأبناء وأصبح في أمس الحاجة إلى ذلك العقار لبيعه أو كرائه، ففي هذه الحالة يحق له الاعتصار والرجوع عن الشيء الموهوب لأن حفظ النفس أولى من غيرها، وهذه الحالة اشار اليها ايضا المشرع العراقي في المادة 621 – فقرة ب – من القانون المدني حيث جاء فيها ما يلي : يعتبر بنوع خاص سبباً مقبولاً للرجوع في الهبة:

ب – ان يصبح الواهب عاجزاً عن أن يوفر لنفسه اسباب المعیشة بما يتفق مع مكانته الاجتماعية أو أن يصبح غیر قادر على الوفاء بما يفرضه علیه القانون من النفقة على الغیر.

مقارنة هذا المقتضى العراقي بالمقتضى المغربي نجد أن هناك تشابه تام من حيث الأحكام، فالمشرع العراقي جعل هو الآخر العجز عن الانفاق على النفس والعجز عن الانفاق على من تجب نفقته سبب مبرر وعذر قانوني يمكن من خلاله ممارسة حق الرجوع عن الهبة، والفرق بين هذين النصين يكمن فقط في أن المشرع العراقي أضاف عبارة ( بما يتفق مع مكانته الاجتماعية) وهي عبارة أكثر دقة تحسب للمشرع العراقي ، لأن الشخص الواهب في بعض الأحيان قد يدعي مكانة أخرى غير المكانة التي كان عليها قبل العجز عن الانفاق على نفسه أو غيره.

أما بالنسبة للتشريع الفرنسي نجده ينص على إمكانية الرجوع بسبب عذر الانفاق، ولكن ليس بالصيغة التي جاء بها التشريع المغربي والعراقي، بمعنى عجز الواهب عن الانفاق عن نفسه أو غيره، وانما بسبب امتناع الموهوب له عن الانفاق عن الواهب، فالمشرع الفرنسي ذكر هذه الحالة ضمن حالات الجحود[5]، والجحود يكون كما لو انكر الموهوب له نعمة الواهب بعد الهبة، حيث جاء في المادة 955 – الفقرة 3 – من القانون المدني الفرنسي[6] ما يلي : الهبة بين الأحياء تبطل بسبب الجحود في الحالات التالية :

3 – حالة الامتناع عن الانفاق

هذا النص وإن كان ينص على حالة الامتناع والعجز عن الانفاق فإنه جاء عكس ما نص عليه المشرع المغربي والمشرع العراقي، فهذين التشريعين الاخيرين ربطوا العجز عن الانفاق بعسر الواهب بعد الهبة، والمشرع الفرنسي ربط العجز عن الانفاق بامتناع الموهوب له عن الانفاق على الواهب بعد عجزه.

وما أحوجنا إلى تضمين لفظ الجحود ضمن حالات الاعذار الموجبة للرجوع عن الهبة المنصوص عليها في مقتضيات المادة 283 من مدونة الحقوق العينية المغربية، فالمشرع الفرنسي هو الاخر ينسخ القواعد القانونية في تشريعنا السماوي ونحن أولى منه فلفظ الجحود نصت عليه هذه الآية القرآنية الكريمة في سورة النمل : ” وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا “

عموما فالتشريع المغربي يلتقي بالتشريع العراقي في قضية الاعتصار في الهبة في حالة واحدة، وهي حالة عجز الواهب عن الانفاق عن نفسه أو من تجب نفقته عليه، أما التشريع الفرنسي فهو يلتقي بالتشريع العراقي في حالات ثلاث وهي:

حالة الجحود جحود الموهوب له
حالة ازدياد ولد وبقاؤه حيا الى حين الرجوع
حالة الاخلال بشروط العقد المتفق عليها

وهذه الحالات نصت عليهما المادة 621 من القانون المدني العراقي على الشكل التالي: ” يعتبر بنوع خاص سبباً مقبولاً للرجوع في الهبة:

أ – ان يخل الموهوب له اخلالاً خطیراً بما يجب علیه نحو الواھب، بحیث يكون ھذا الاخلال من جانبه جحوداً غليظا.

ج – ان يرزق الواهب بعد الهبة ولداً يبقى حیاً الى وقت الرجوع، او ان يكون للواهب ولداً يظنه میتاً وقت الهبة فإذا ھو حي.

د – ان يقصر الموھوب له في القیام بما اشترط علیه في العقد من التزامات بدون عذر مقبول.

وهذه الحالات التي جاء بها المشرع العراقي نجد مثيلاتها في المادة 953 من القانون المدني الفرنسي[7] والتي جاء فيها : الهبة بين الاحياء لا يجوز الرجوع فيها الا في هذه الحالات :

1 – حالة جحود الموهوب له

2 – حالة ولادة ابن للواهب

3 – الحالة التي لم تنفذ فيه الشروط المتفق عليها

المبحث الثاني: أوجه الاختلاف من حيث الأعذار الموجبة للرجوع في الهبة في التشريع المغربي والمقارن

أوجه الاختلاف هي التي تجسد عادة المنهج المقارن بكل تفاصيله وهي المراد من اجراء المقارنة، لهذا فالاختلاف من حيث الحالات الموجبة للرجوع في الهبة في كل من التشريع المغربي من جهة، والتشريع الفرنسي والعراقي من جهة ثانية كثيرة ونذكر منها على سبيل المثال حالة الرجوع عن الهبة لعذر جحود الموهوب له للواهب، فهذه الحالة لم ينص عليها المشرع المغربي لا من قريب ولا من بعيد وهي التي رفعنا من خلالها توصية وقلنا لم تم ادراجها في صلب المادة 283 من مدونة الحقوق العينية لكان الأمر أفضل، فكثير من الحالات تستوجب الرجوع في الهبة لسبب الجحود التي يظهر على الموهوب له بعد الهبة .

حالة ولادة ابن للواهب وبقاؤه حيا الى حين الرجوع عن الهبة، فهذه الحالة أيضا وإن كان المشرع الفرنسي والمشرع العراقي نظموها في صلب مواد القانون المدني لكلا البلدين، فإن المشرع المغربي لم ينظمها في صلب نصوص مدونة الحقوق العينية.

أيضا حالة الاخلال بالشروط المتفق عليها في صلب عقد الهبة، هذه الحالة هي الاخرى استبعدها المشرع المغربي بحيث لم يشر إليها عندما استعرض حالات الرجوع في المادة 283 من مدونة الحقوق العينية، في مقابل ذلك نجد المشرع العراقي لم ينص في القانون المدني على حالة رجوع الوالد فيما يعطي ولده التي نص عليها المشرع المغربي، نفس الشيء بالنسبة للمشرع الفرنسي لم ينص عليها في مقتضيات القانون المدني.

خاتمة

زبدة القول فالهبة وفق الأحكام التي جاءت بهما مدونة الحقوق العينية المغربية لا يمكن الرجوع فيها إلا بعد تحقق شرطين اساسيين وهما :

أولا: الاشهاد على الاعتصار من قبل عدل موثق والتنصيص عليه في صلب عقد الهبة وموافقة الموهوب له لذلك .

ثانيا: عدم وجود مانع من موانع الاعتصار المشار اليهما في المادة 285 من مدونة الحقوق العينية، وهي على الشكل التالي :

إذا كانت الهبة من أحد الزوجين للآخر ما دامت رابطة الزوجية قائمة؛
إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل الاعتصار؛
إذا مرض الواهب أو الموهوب له مرضا مخوفا يخشى معه الموت، فإذا زال المرض عاد الحق في الاعتصار؛
إذا تزوج الموهوب له بعد إبرام عقد الهبة ومن أجلها؛
إذا فوت الموهوب له الملك الموهوب بكامله، فإذا اقتصر التفويت على جزء منه جاز للواهب الرجوع في الباقي؛
إذا تعامل الغير مع الموهوب له تعاملا ماليا اعتمادا على الهبة؛
إذا أدخل الموهوب له تغييرات على الملك الموهوب أدت إلى زيادة مهمة في قيمته؛
إذا هلك الملك الموهوب في يد الموهوب له جزئيا جاز الاعتصار في الباقي.

[1] – البيهقي 169/ 6 والادب المفرد 184 .

[2] – الكراع هو ما دون الكعب من الدابة

[3] – حديث حسن صحيح اخرجه البخاري 201/3 كتاب الاحكام باب ما جاء في قبول الهدية واجابة الدعوة .

[4] – رواه الترمذي وابي داود والنسائي.

[5] – جحد جحدا قل خيره لفقر أو بخل، يقال جحد العيش بمعنى ضاق واشتد وقل

[6] La donation entre vifs ne pourra être révoquée pour cause d’ingratitude que dans les cas suivants : 1° Si le donataire a attenté à la vie du donateur ; 2° S’il s’est rendu coupable envers lui de sévices, délits ou injures graves ; 3° S’il lui refuse des aliments.

[7] La donation entre vifs ne pourra être révoquée que pour cause d’inexécution des conditions sous lesquelles elle aura été faite, pour cause d’ingratitude, et pour cause de survenance d’enfants.

د/ بوبكر امزياني

عدل موثق متمرن

إغلاق