دراسات قانونيةسلايد 1

أسباب ودوافع الاعتداء المادي على الأملاك العقارية (بحث قانوني)

تكتسي الأملاك العقارية بالمغرب أهمية قصوى في استدامة التنمية والدفع بعجلة الاستثمار على كافة المستويات والمجالات، باعتبارها توفر الأرضية الحقيقية لإنجاز المشاريع التنموية ذات البعد الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي…، محققة بذلك الاستقرار السياسي

وضابطة للسلم الاجتماعي. وأمام هذه المكانة الأساسية للأملاك العقارية، نجد المشرع المغربي قد خصها بضمانات هامة قصد حمايتها من كل تجاوز أو تعسف صادر من الإدارة، سواء من خلال الفصل 35 من الدستور، أو عبر المقتضيات القانونية التي تضمنتها باقي فروع القانون.

وتحتاج الإدارة عند تنفيذ برامجها وإنجاز مشاريعها التنموية لوعاء عقاري، وقصد تمكينها من ذلك بما يتطابق مع مبدأ الموازنة بين حماية الأملاك العقارية وتحقيق متطلبات المصلحة العامة، خول لها المشرع مجموعة من الوسائل القانونية للحصول على العقارات اللازمة، وفق المقتضيات القانونية والإجراءات الإدارية الجاري بها العمل. لكن الإدارة أو من يقوم مقامها في بعض الأحيان قد تقوم بالاستيلاء على عقارات الغير، لإنجاز الأشغال العامة والمرافق العمومية دون إتباع المقتضيات القانونية المنظمة لمساطر إقتناء الملك العقاري عن طريق المراضاة أو نزع الملكية وفق القانون رقم 81-7، مما يضفي على أعمالها الإدارية هذه صبغة الاعتداء المادي.

ويقصد بالاعتداء المادي ذلك النشاط الذي تقوم به الإدارة ماديا، من غير أن يكون له أي صلة بالمقتضيات القانونية والأعراف الإدارية الجاري بها العمل، وقد عرفه الأستاذ “ميشيل روسي- Michel Rousset”، بكونه “قرار صادر عن سلطة إدارية، بلغ خرقه للمشروعية درجة من الجسامة لم يعد معها ممكنا عزوه إلى أية صلاحية من الصلاحيات المخولة للإدارة، فضلا عن أنه كان أو سيكون موضوع تنفيذ مادي من شأنه أن يمس بالحرية أو بالملكية. وهكذا يكون القرار خارجا عن طبيعته أو عن أصله بمعنى من المعاني، إذ لم يعد بعد ذلك قرارا يستفيد من امتيازات القرار الإداري، لأنه مجرد اعتداء مادي”.

ويتحقق الإعتداء المادي على الأملاك العقارية بتوفر ثلاثة عناصر أساسية متكاملة، الأول يتجلى في وجود نشاط مادي للإدارة، والثاني يتعلق بالطبيعة غير القانونية لهذا النشاط حيث يكون في وضعية خارجة وبشكل جسيم عن مبدأ المشروعية، والعنصر الثالث يرتبط بمساس هذا النشاط الخارج عن المشروعية بالملكية العقارية.

ورغم الجهود المبذولة من طرف المحاكم الإدارية قصد التخفيف من وقائع الإعتداء المادي، إلا أن الواقع العملي والممارساتي ما فتىء يؤكد على استمرارية استيلاء الإدارة على الأملاك العقارية.

وأمام أهمية الأملاك العقارية في تقوية الإقتصاد الوطني وتعزيز فرص جلب الإستثمار الأجنبي، أصبح من الضروري وضع تشخيص لهذا التنامي السلبي، وذلك بالبحث عن الأسباب الأساسية التي تدفع الإدارة للإعتداء على الأملاك العقارية، وعليه يطرح الإشكال حول دوافع إعتداء الإدارة على الأملاك العقارية في ظل وجود مقتضيات قانونية تنظم مساطر الإقتناء؟

وتتفرع عن هذه الإشكالية المحورية مجموعة من التساؤلات الفرعية، فهل تنامي الإعتداء المادي الإداري على الأملاك العقارية نتيجة حتمية لعدم ملاءمة النصوص القانونية؟ أم أن الإعتداء المادي يرجع للإكراهات المؤسساتية؟
للإجابة على الإشكالية المطروحة وباقي التساؤلات الفرعية سيتم تقسيم الموضوع على الشكل الأتي:

المطلب الأول: مظاهر تأثير محدودية النصوص التشريعية على تنامي الإعتداء المادي
المطلب الثاني: الإكراهات المؤسساتية وتكريسها لتنامي الإعتداء المادي

المطلب الأول: مظاهر تأثير محدودية النصوص التشريعية على تنامي الإعتداء المادي
إن أولى الإشكالات التي أدت إلى تفاقم الإعتداء المادي على الأملاك العقارية هي ضعف النصوص القانونية، وسنقتصر في هذا الصدد على قانونين فقط، سواء ما تعلق بعدم ملاءمة بعض المقتضيات القانونية المنظمة لمسطرة نزع الملكية من أجل المنفعة العامة(الفقرة الأولى)، أو ما تعلق بمقتضيات القانون رقم90-12 المتعلق بالتعمير وتأثيراته السلبية على تنامي الإعتداء المادي، وبالخصوص في الجانب المنظم لتصميم التهيئة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: عدم ملاءمة بعض مقتضيات قانون نزع الملكية لمتطلبات الإدارة
شكلت مقتضيات القانون رقم 81-7 المتعلق بنزع الملكية لأجل المنفعة العامة أهم الاستثناءات التي تحد من السلطات الواسعة التي يمنحها حق الملكية العقارية لمالكه، بحيث تتيح لمؤسسات الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية نزع الملك العقاري، بهدف استكمال تشييد المشاريع التنموية المبرمجة ذات صبغة المنفعة العامة، وهذا الاستثناء القانوني رهين بسلوك الإدارة نازعة الملكية لمجموعة من الإجراءات الإدارية والقضائية التي وضعت من أجل جبر ضرر المنزوع ملكيته.

لكن تطبيق هذه القواعد الإجرائية في الواقع العملي أبان بشكل واضح عن جمود بعض مقتضيات القانون رقم 81-7 المتعلق بنزع الملكية بشكل لا يساير أهداف تحقيق المنفعة العامة، وهو ما يجبر معظم الإدارات والمؤسسات العمومية لسلوك آليات غير قانونية تتمثل بالخصوص في الإعتداء المادي على الأملاك العقارية، بمبرر استكمال مشاريعها التنموية. وتتجلى جمودية قانون نزع الملكية لأجل المنفعة العامة أساسا في تعقد المساطر القانونية وطول مدتها، فمن المعلوم أن المسطرة تشمل على مرحلة إدارية، ابتداء بإصدار إعلان المنفعة العامة ومرورا بنشر مقرر التخلي وحيازة العقار مع نقل ملكيته، وصولا للتقويم المادي للتعويض من طرف اللجنة. ولا شك أن قطع كل هذه المراحل قد يطول لسنوات عدة، خصوصا إذا علمنا أن النظام العقاري بالمغرب يعرف تعددا من حيث من مكوناته وتنوعا من حيث طبيعته.

إن سلوك الجهة النازعة للملكية العقارية لكافة تلك الإجراءات المتعلقة بإعلان المنفعة العامة ومقرر التخلي يجعل المسطرة الإدارية محكومة بالبطء التام، مما قد يكون المشروع المراد إنجازه غير قابل للتحقق في الوقت المحدد له حالة انتظار سلوك هذه المدة الزمنية الطويلة التي تستغرقها كل هذه المراحل الإدارية، وبسبب ذلك فإن تشييد المنشأة العمومية وطول المدة التي تفرضها المسطرة الإدارية لنزع الملكية واستطدامها بطبيعة الأملاك العقارية وأحيانا التضخم التشريعي الذي ينظمها، يجر الإدارات والمؤسسات العمومية إلى الإعتداء المادي تنفيذا للمشاريع المبرمجة، وذلك رغم كون- الإعتداء المادي- عمل إداري ليس له أي صلة بنص قانوني أو شرعي.

بالإضافة إلى كون الإدارة قد تعترضها في بعض الأحيان صعوبات ميدانية ترتبط بالملاك الخواص، سواء ما يتعلق بغيابهم أو عدم موافقتهم على القيمة المالية المقترحة من طرف الجهة النازعة، وهذه الصعوبة الأخيرة تكون في غالبيتها سببا لإدخال القضية في رحاب المسطرة القضائية، قصد حيازة العقار عبر قرار صادر من طرف القاضي الإستعجالي وكذا نقل الملكية للجهة النازعة بناءًا على قرار صادر من قاضي الموضوع، بعد اتباع للمساطر القضائية التي قد تأخذ وقتا لا يستهان به بالمقارنة مع الطابع الإستعجالي للمشروع المراد إنجازه.

وخلاصة القول إن بطء مسطرة نزع الملكية عبر تعقد إجراءاتها الإدارية والقضائية يؤثر بشكل سلبي على تشييد المنشآت العمومية في الوقت القانوني المحدد له، وهو ما ساهم في تنامي ظاهرة الاعتداء المادي الإداري على الاملاك العقارية قصد إنجاز جميع المشاريع المبرمجة وفق الجدولة الزمنية المحددة لها.

وتنامي الإعتداء المادي لم يكون وليد عدم الملاءمة التي تتسم بها بعض مقتضيات قانون نزع الملكية فقط، بل كان أيضا نتيجة ضعف القانون رقم 90-12 المتعلق بالتعمير وقدم بعض مقتضياته، مما ساهم بشكل كبير في تفاقم هذه الظاهرة، وهو ما سيتم تبيانه في الفقرة الموالية.

الفقرة الثانية: ضعف قانون التعمير
لقد أدى التطور الاجتماعي والاقتصادي والصناعي إلى إحداث تغييرات كبيرة على مجرى نمو وتطور المدن، مما فرض حتمية خلق مجال عمراني حضري متكامل يمكنه أن يساير متطلبات المجتمع المختلفة من خلال توفير كافة مكونات البنيات التحتية والمرافق العمومية، ومعلوم أن تنظيم المجال يتطلب وجود مخططات تعميرية تتمثل عموما في المخطط التوجيهي للتهيئة العمرانية، وتصميم التنطيق، وتصميم التهيئة، وتصميم التنمية.

وبما أن تلك الوثائق تحتاج في تطبيقها إلى مجموعة من العقارات التي قد تكون مملوكة للمؤسسات العمومية أو للخواص، تعتمد الجهة المكلفة بالتنفيذ إلى تملكها عن طريق التخصيص أو الاقتناء بالمراضاة أو عن طريق نزع الملكية لأجل المنفعة العامة. ولخصوصية القانون رقم 90-12 المتعلق بالتعمير، فقد رتب المشرع على بعض مخططاته ووثائقه أثارا تتمثل في اعتبارها بمثابة مقرر لإعلان المنفعة العامة، ويتعلق الأمر بتصميم التهيئة.

وإعداد هذا التصميم يمر بمراحل عدة ابتداء من الإجراءات التمهيدية مرورا بالبحث العلني وصولا للمصادقة التي تتم عبر مرسوم رئيس الحكومة، ومن ثم يتم المرور لمرحلة تنفيذ مضامين هذا التصميم على أرض الواقع عبر إحداث كافة المرافق والمشاريع التي يتضمنها، ومضامين تصميم التهيئة هي من القيود القانونية الواردة على العقارات الواقعة في المجال المحدد للتصميم خلال مدة عشر سنوات.

وتنفيذ مقتضيات تصميم التهيئة لن يتأتى إلا عبر سلوك آليات قانونية، فنجد القانون رقم 90-12 المتعلق بالتعمير يؤكد في المادة 28 على كون تصميم التهيئة بمثابة إعلان للمنفعة العامة، حيث يتم عن طريقه الإشعار بسلوك مسطرة نزع الملكية لأجل المنفعة العامة بالنسبة للعقارات المحددة، بل إضافة إلى ذلك قد يتضمن هذا التصميم تحديدا للعقارات المراد نزعها ومساحتها ومشتملاتها بشكل يطبعه الدقة والتفصيل، وهذا ما أكده المشرع من خلال المادة 29 من نفس القانون.

ويترتب عن سلوك نزع الملكية أثار هامة تتمثل بالخصوص في تقييد تصرف الملاك على العقارات المحددة ابتداء من انتهاء البحث العلني إلى غاية صدور المصادقة على مرسوم التصميم، فخلال هذه الفترة لا يأذن رئيس الجماعة بأي عمل من أعمال التجزيء والتقسيم والبناء والغرس، وتبقى أثار المنفعة العامة سارية لمدة تساوي مدة سريان تصميم التهيئة وهي عشر سنوات، ويعتبر بمثابة قرار التخلي لما يترتب عنه من تحديد مباشر للعقارات المراد نزع ملكيتها وبيان مشمولاتها ومساحتها، وأسماء من يحتمل أن يكونوا مالكين لها، ومن ثم تطبق عليه الإجراءات والأثار التي يخضع لها مقرر التخلي بمقتضى الظهير المتعلق بنزع الملكية لأجل المنفعة العامة وبالاحتلال المؤقت.

لكن الواقع العملي أفرز بعض الثغرات التي يطرحها قانون التعمير وبالخصوص في الشق المتعلق بتنفيذ تصميم التهيئة، حيث نجد المعدل الزمني لدراسة تصميم التهيئة والمصادقة عليه يتراوح ما بين سبع وثماني سنوات، ورفع يد الملاك على عقاراتهم لطول هذه المدة أحيانا قد يشكل إجحافا واعتداء ماديا لا مثيل له.

وكذلك تظهر محدودية المقتضيات القانونية في الشق المتعلق بتنفيذ وثائق التعمير، حيث لم يتم تحديد أجل مقرر التخلي، وكذا الوثائق اللازم إرفاقها بالمقال الرامي إلى الإذن بالحيازة، ونقل الملكية في إطار تصميم التهيئة. فالمفارقة الموجودة بين عدم إنجاز التجهيزات العمومية بالمواقع المخصصة لها بتصميم التهيئة وارتفاع حالات الإعتداء المادي على العقارات لتشييد المرافق العمومية، يبرز حقيقة وجود اختلال في منظومة التخطيط الحضري من زاوية نوايا المخطط وواقع التخطيط.

وقد أفرز الواقع العملي إشكالا حقيقيا كان بالدرجة الأولى نتاجا لغموض وشح مضمون المادة 28 من القانون رقم 90-12المتعلق بقانون التعمير، حيث إن مضمون هذه المادة يؤكد بشكل إيجابي على استرداد المالك لملكه العقاري بقوة القانون فور انتهاء الأجل القانوني لتصميم التهيئة، دون تحديد دقيق ومفصل من طرف المشرع لكيفية هذا الاسترداد خصوصا أن العقار كان بيد جهة إدارية، فالغموض وانعدام المسطرة الواجب تتبعها سمح لإنتاج مجموعة من السلوكيات الخارجة عن المشروعية من قبيل الإعتداء المادي.

كما أن الوضع تميز بسكوت ملحوظ عن الجهة الإدارية المخاطبة بالاسترداد هل هي الإدارة المستفيدة من المنشأة العمومية المبرمجة، أم الوكالة الحضرية باعتبارها متدخلا أساسيا في إعداد وثيقة التعمير، أم الجماعة الترابية التي يتواجد العقار بدائرة نفوذها وباعتبارها تستأثر بصلاحيات في مجال التعمير، أم رئيس الحكومة بوصفه الجهة التي تملك التأهيل القانوني لإصدار النص المصادق بموجبه على تصميم التهيئة الذي يعطي لهذا الأخير مقومات النفاذ والدخول حيز الوجود القانوني.

وأحيانا قد تكون العقارات المخصصة لتصميم التهيئة محفظة أو في طور التحفيظ، مما يستدعي ضرورة تدخل المشرع المغربي عبر مقتضيات قانونية لأجل رفع اللبس والغموض حول طريقة التشطيب من الرسم العقاري على التخصيص لتصميم التهيئة عند انتهاء الآجال القانونية لسريان هذا الأخير، لأن الإبقاء على عمومية المادة 28 من القانون رقم 90-12 المتعلق بقانون التعمير، قد يعمق من إشكالات التباين بين إمكانية تدخل المحافظ بطريقة تلقائية عند انتهاء الأجل القانوني للتصميم، أو إنتظاره لمبادرة الجهة الإدارية المعنية بطلب التشطيب.

بالإضافة إلى ما سبق ذكره، هناك مبالغة من طرف القطاعات الإدارية والمؤسسات المعنية في برمجة عدد كبير من المرافق والتجهيزات بمساحات شاسعة يصعب في الواقع تحقيقها، ومن تم تكون عاجزة عن اقتناء أو نزع الأملاك اللازمة لذلك، فعدم جدية التوقعات التي تقام على أساسها وثائق التعمير وعدم برمجة الإدارات المعنية للميزانيات اللازمة لتعويض منزوعي الملكية، يدفع هذه الإدارات إلى الاستيلاء على عقارات الغير لإنجاز المشاريع المراد القيام بها.

إن إعداد تصميم التهيئة والمصادقة عليه من طرف رئيس الحكومة، لا يخول لرؤساء الجماعات الترابية الإستيلاء على عقارات الغير وتملكها، بل يجب عليهم الحرص على التطبيق السليم لكافة المقتضيات القانونية، خصوصا ما يرتبط بمسطرة نزع الملكية لأجل المنفعة العامة أو إجراءات الاقتناء بالتراضي وفقا لما هو منصوص عليه في المادة 28 و29 من القانون 90-12 المتعلق بالتعمير.

وعلى المشرع المغربي أن يتدخل بجرأة في تعديل مقتضيات قانون التعمير بشكل يساير متطلبات التعمير، فتبعا للإشكالات العملية التي نتجت عن الغموض الذي يشوب بعض المقتضيات القانونية، وبالخصوص الفورية في انتهاء أجل تصميم التهيئة التي تنص عليها المادة 28 من القانون أعلاه.

المطلب الثاني: الإكراهات المؤسساتية وتكريسها لتنامي الإعتداء المادي
إن تنامي الإعتداء المادي على الأملاك العقارية لم يكن نتاجا محضا لمحدودية المقتضيات القانونية فقط، بل ساهم فيه الإطار المؤسساتي بشكل كبير، وإذا كانت الأسباب التي تقف وراء ذلك كثيرة، فإن أبرزها ما يتأرجح بين محدودية التكوين القانوني للمسؤول الإداري(الفقرة الأولى) وضعف الموارد المالية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: محدودية التكوين القانوني للمسؤول الإداري
إن الإدارات العمومية تعد مكونا أساسيا لدولة المؤسسات وعنصرا هاما لإرساء ركائز دولة الحق والقانون، ويتجلى ذلك أساسا في حفظ النظام، وتأطير المواطنين وتحقيق التنمية الشاملة. لكن ومما لا شك فيه أن ذلك لن يتأتى إلا بوجود عنصر بشري مؤهل، باعتباره المحرك الحقيقي لكل عملية تنموية وأساس تنفيذ كافة الأنشطة والمشاريع المبرمجة وتنزيلها على أرض الواقع، سواء تعلق الأمر بموظفي وأعوان الإدارات العمومية من جهة أو بالمنتخبين الجماعيين من جهة ثانية.

ولعل أول واجب يقع على عاتق رؤساء الجماعات الترابية باعتبارهم المشرف الأول على المصالح الإدارية المحلية المنتخبة، هو التطبيق السليم للمقتضيات القانونية والقرارات المتخذة بشكل يتماشى مع روح التشريع ويحقق الحماية والاستقرار العام. وإذا كان تنفيذ الجماعات الترابية لمشاريعها التنموية يحتاج في الضرورة لرصيد عقاري من أجل التنزيل على أرض الواقع، وهو ما يفرض بالضرورة توفر المسؤول الإداري على مستوى تعليمي وقانوني يفقه من خلاله المساطر القانونية الواجب اتباعها.

والمشرع المغربي قد أناط برؤساء الجماعات الترابية مجموعة من الاختصاصات والصلاحيات الهامة، تتمثل بالخصوص في السهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة بمجال التعمير دون إخلال بأي ضابط من ضوابط تصاميم إعداد التراب ووثائق التعمير، وهذا ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 101من القانون التنظيمي رقم 14-113 المتعلق بالجماعات.

أما الممارسة الإدارية اليومية فقد أكدت بشكل واضح على وجود مجموعة من الاختلالات التي تشوب العمل الإداري خصوصا في التطبيق السليم للقواعد القانونية، لأسباب متعددة أبرزها ضعف المستوى التعليمي والوعي القانوني لرؤساء الجماعات الترابية.
والقضاء الإداري ما فتئ يؤكد في مجموعة من الأحكام والقرارات على سوء التطبيق للقوانين والمساطر الإدارية، مما أدى إلى تفشي ظاهرة الإعتداء المادي، وفي هذا الصدد فقد جاء في قرار عن محكمة الإستئناف الإدارية بالرباط ما يلي:

“وحيث من جهة ثانية، فلئن كانت الإدارة متمسكة بأن العقار مشمول بتصميم التهيئة الذي يعتبر بمثابة إعلان للمنفعة العامة، فإن ذلك الإعلان لا يخولها ولوج العقار وإحداث البناية العمومية قبل إستصدار الإذن في الحيازة أو قبل الاتفاق بالتراضي، والحال أن البناية العمومية قد تم إحداثها دون أن تدلي الإدارة لحد الساعة بما يفيد إستصدار الإذن في الحيازة، فتكون بالتالي في وضعية اعتداء مادي لعدم استكمال الإجراءات المتطلبة قانونا قبل الإقدام على إحداث أبنية في عقارات الخواص مما يجعل الفرع المرتبط بانتفاء الاعتداء المادي مردودا”. وفي نفس الإتجاه أكدت محكمة النقض في قرار لها :

“لا يكفي لإضفاء المشروعية على وضع الإدارة يدها على عقار الغير مجرد كونه مخصصا في إطار تصميم التهيئة كمرفق عمومي وكونها شرعت في سلوك المسطرة الإدارية لنزع ملكيتها، بل إن هذه المشروعية لا تتأتى إلا بحصول التفويت بالتراضي أو بسلوك المسطرة القضائية لنزع الملكية باستصدار أمر قضائي بحيازته وتقديم طلب من أجل الحكم بنقل ملكيته إليها، وأن كل تصرف من الإدارة خارج هذا الإطار يشكل إعتداء ماديا يخول مالك العقار الحق في المطالبة بالتعويض عن الضرر الناتج عنه”.

ومن خلال هذين القرارين يلاحظ عدم تتبع المسؤول الإداري للإجراءات الإدارية المحددة واكتفائه بصدور تصميم التهيئة من أجل تشييد البناية أو المنشأة العمومية، وهو ما يسقطه في حالات الإعتداء المادي. فالقانون كان واضحا عند إقراره بكون تصميم التهيئة يعتبر بمثابة إعلان المنفعة العامة، لكنه لا يخول للإدارة وضع يدها على العقار بشكل مباشر وتلقائي بمجرد صدوره، بل يستتبع ضرورة الاقتناء بالتراضي أو نزع الملكية بشكل قضائي.

واحترام الجماعات الترابية لحقوق وحريات الأفراد بما فيها حق الملكية العقارية، واقتناء العقارات بالطرق القانونية يفرض ضرورة تواجد كفاءات ذات مستوى تعليمي مناسب وذات إلمام ولو بالحد الأدنى من القواعد القانونية المتبعة في هذا المجال. ولهذا يجب على الأحزاب السياسية أن تعيد النظر في مرشيحها للانتخابات المحلية، وتعتبر مسألة تكوين تلك النخبة مسألة ضرورية للحد من ظاهرة الإعتداء المادي للجماعات الترابية على حق الملكية العقارية.

إن طبيعة الدولة وأدوارها والصلاحيات المخولة للإدارة في الوقت الحالي أصبح يتطلب وجود طاقات بشرية ذات كفاءة عالية وخبرة ميدانية، ومستوى تعليمي وتكوين قانوني بالأساس، وذلك لأجل فهم المشاكل العميقة المطروحة بشكل يومي على الصعيد المحلي، بغية تسطير برامج تنموية وإعطاء حلول ناجعة للمشاكل وللاستجابة لكافة المتطلبات اليومية.

ولا يكفي امتلاك الشرعية السياسية في الوصول لمراكز التدبير لأداء المهام المنوطة بتسيير الشأن المحلي العمومي، بل أصبح لزاما على رؤساء الجماعات الترابية توفرهم على مستوى تعليمي وتكوين قانوني ملائم لطبيعة المهام المنوطة بهم، إضافة للخبرة والتجربة لأجل بلورة كافة البرامج التنموية بشكل يتلاءم مع المقتضيات القانونية الجاري بها العمل. وعليه فإنتاج عنصر بشري مؤهل لن يكون إلا عبر تقنين شرط حصول المنتخب الجماعي على شهادة تعليمية جامعية لأجل قبول الترشح في الانتخابات الجماعية، وفي هذا الإتجاه نجد الأستاذ أحمد أجعون يؤكد ضرورة اشتراط حصول المنتخب الجماعي على مستوى البكالوريا كحد أدنى من المؤهلات العلمية الكفيلة وإسنادهم مسؤولية تدبير الجهاز التنفيذي، فاختصاصات رئيس المجلس الجماعي متعددة ومتناثرة، وبالتالي فهي تستعصي حتى على ذوي الشواهد العليا والمؤهلات العلمية العالية، فكيف يمكن لمن يتوفر فقط على مستوى ضعيف أو لا يتوفر على أي مستوى أصلا، أن يطبق ويسهر على تنفيذ قوانين التعمير ونزع الملكية لأجل المنفعة العامة. لكن السؤال المطروح حول أسباب تغييب المشرع المغربي لشرط المستوى التعليمي في قانون الجماعات الجديد؟

إن عدم اشتراط المشرع المغربي لأي مستوى تعليمي في القانون التنظيمي رقم 14-113 المتعلق بالجماعات، يؤكد لا محالة ضعف الصناعة التشريعية بالمغرب وعدم ملاءمتها للواقع مادامت قائمة على مبدأ إرضاء المكونات السياسية، بدل مبدأ إقحام المكونات البشرية المؤهلة لتسيير وتدبير الشؤون المحلية. ويبقى من العبث التنصيص على التكوين لفائدة أعضاء مجلس الجماعة وهم قد لا يتوفرون حتى على شهادة استكمالهم للمستوى الابتدائي، لأن أساس نجاح التكوين في العنصر البشري وبلورته في الواقع العملي هو ضرورة التوفر على مستوى تعليمي يليق براهنية الإشكالات المطروحة.

هذا، ويظل حق الملكية العقارية نواة متقاطعة مع السياسات العمومية للإدارات والجماعات الترابية بالخصوص، وتكريسا لحماية هذا الحق وتحصينه من الإعتداء المادي فإن ذلك يستدعي بالضرورة التطبيق السليم للمقتضيات القانونية، باتباع كافة المراحل والإجراءات الإدارية المنصوص عليها قانونا، ولن يتأتى تحقيق ذلك إلا بوجود عنصر بشري يتوفر على مستوى تعليمي جامعي، مع تكوين قانوني يلائم تدبير الشأن المحلي العمومي، وتبقى مسؤولية تأهيل العنصر البشري مسؤولية مشتركة بين الدولة في أجهزتها التشريعية والأحزاب السياسية، من خلال تقديمها لنخب ذات كفاءة قانونية وتقنية، وأخلاق تستجيب لتطلعات المواطن في إطار سيادة القانون.

الفقرة الثانية: ضعف الموارد المالية للمؤسسات الإدارية
باتت الموارد المالية للإدارات العمومية والجماعات الترابية غير كافية لتنفيذ المشاريع التنموية المبرمجة، فاقتناء الوعاء العقاري الذي يعد أساس تنزيل أي مشروع على أرض الواقع، يتطلب موارد مالية غالبا ما تكون غير متوفرة خاصة لدى بعض الجماعات الترابية إن لم نقول أغلبها.

ويشكل ضعف الموارد المالية وطول مدة برمجتها في الميزانية السنوية، عائقا حقيقيا ومنفذا أساسيا نحو اتجاه معظم الإدارات للإعتداء على الأملاك العقارية، ومن هنا فتوفر الاعتمادات المالية في الوقت المحدد سيساهم في نجاح مسطرة الاقتناء بالتراضي التي تعد نواة الحد من تبعات ومتاهات الإعتداء المادي.

إن غياب الاعتمادات المالية لدى الإدارة يساهم في تعثر مسطرة الاقتناء بالتراضي من الخواص لتوفير الاحتياجات العقارية اللازمة لتنزيل كافة المشاريع المبرمجة سواء على المدى القريب أو البعيد، فوجود موارد مالية حقيقية وكافية من شأنه أن يساهم في إقتناء الوعاء العقاري خلال مدة زمنية وجيزة، وبدون أي تعقد للإجراءات الإدارية التي قد تفرضها مساطر نزع الملكية خصوصا في المرحلة القضائية.

وقد أصبح من الضروري على الدولة سن ورسم استراتيجية مالية مضبوطة تتوافق مع الاختصاصات الممنوحة للإدارات العمومية والجماعات الترابية، لأجل تسهيل إقتناء الوعاء العقاري اللازم لتنزيل المشاريع التنموية المبرمجة بشكل يتوافق مع المساطر القانونية والقواعد الجاري بها العمل، ذلك أن من شأن وجود سياسة مالية وطنية ومحلية وازنة خاضعة لمنطق الحساب الإقتصادي، أن يعزز من الدعم المخصص للإدارات العمومية بصفة عامة، وللجماعات الترابية على وجه الخصوص.

ومعلوم أن نسبة امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها ضمن منازعات الإعتداء المادي في ارتفاع، وذلك راجع بالأساس لضعف وأحيانا انعدام الاعتمادات المالية المرصودة لتنفيذ الأحكام القضائية، وهو ما يجعل حقوق الأفراد مهددة رغم إقرار القضاء لقيمة التعويض.

وعليه يجب أن يتم رصد اعتمادات مالية كافية وخاصة بتنفيذ الأحكام خلال برمجة الميزانية السنوية، وتكون غير قابلة للتحويل، ويجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في تحديد الاعتمادات المرصودة إليه حاصل الأحكام الصادرة في مواجهة الدولة والدعاوى الجارية ضدها أمام القضاء، وأن تكون تلك الاعتمادات مبنية على تقديرات حقيقية وواقعية تشكل ضمانا لتنفيذ الأحكام القضائية.

وتماشيا مع هذا الإشكال العويص فقد ذهب المشرع المغربي في القانون 14- 113 المتعلق بالجماعات من خلال المادة 263، إلى التأكيد على ضرورة برمجة الجماعات الترابية في ميزانيتها السنوية مبالغ مالية تخصص لتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها، لكن ضعف الوعي القانوني يجعل الكثير من منتخبي الجماعات الترابية يخصصون أغلب الاعتمادات المالية لإنجاز مشاريع وإنجازات من أجل كسب ثقة المنتخبين، دون الاهتمام بالمساس اللاحق بهيبة الإدارة وقدسيتها الناتج عن عدم تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها.

وهنا نقترح إعطاء الإمكانية للمحاكم الإدارية قصد تجميد كافة الاعتمادات المالية المخصصة لتنفيذ المشاريع غير المرتبطة بسير المرفق العمومي، وذلك للدفع بالإدارة لأداء المبالغ المالية المحددة في الأحكام القضائية الصادرة ضدها في إطار منازعات الإعتداء المادي.

ويجب على الجهات المسيرة للشؤون الإدارية بمختلف المؤسسات العمومية وكذا الجماعات الترابية، وضع سياسة استباقية لتوفير الاحتياط العقاري اللازم لاحتواء كافة المشاريع المستقبلية، وبالتالي وضع حد تلقائي لإمكانية السقوط في وقائع الإعتداء المادي الإداري التي تمس بهيبة الإدارة العمومية، وكذا بحقوق أصحاب الأملاك العقارية، وبهيبة الأحكام القضائية خاصة تلك الحائزة لقوة الشيء المقضي به.

لقد حاولت قدر المستطاع الوقوف على الدوافع والأسباب المشتركة في إنتاج واستمرارية ظاهرة الإعتداء المادي على الاملاك العقارية، والتي تعد بحق بصمة سلبية في واقع الممارسة الإدارية المغربية، وذلك لتأثيراتها المتعددة سواء على ما يتعلق بتحقيق رهان الأمن العقاري بصفة عامة، أو للمكتسبات القانونية والقضائية، مما أضحى من الضروري تظافر جهود مجموعة من الجهات قصد الحد من تبعات هذه الظاهرة.

وأولى هذه الجهات المؤسسة التشريعية، فواقع الحال يفرض من المشرع المغربي مراجعة شاملة لبعض القوانين التي شكلت منفذا حقيقيا للإدارة من أجل تنامي اعتداءاتها المادية على الأملاك العقارية، خصوصا ما يتعلق بمسطرة نزع الملكية وقانون التعمير، لأن الإشكالات الناتجة عن تطبيق هذه القوانين أصبحت تستدعي تعديل المقتضيات القانونية بما يتلاءم مع متطلبات الإدارة وحماية الأملاك العقارية، وتساعد الإدارة على تنزيل برامجها التنموية، بالإضافة لضرورة تقوية أدوار الإطار المؤسساتي عبر تأهيل العنصر البشري وتدعيم الموارد المالية للإدارة العمومية بجميع مكوناتها، بشكل يتطابق مع الإختصاصات الممنوحة لها، ويجيب على الإشكالات الميدانية التي تساهم في تفشي الإعتداء المادي على الأملاك العقارية.

بقلم ذ عبد المنعم بلوزير
حاصل على شهادة الماستر المتخصص قانون العقار والتعمير بالكلية المتعددة التخصصات بالناظور

إغلاق