دراسات قانونية

إثبات النسب بوثائق الحالة المدنية (بحث قانوني)

إثبات النسب بوثائق الحالة المدنية

عبد الرحيم بنمبارك
طالب باحث بسلك ماستر
أحكام الأسرة في الفقه والقانون
كلية الشريعة ـ اكادير

مقدمة

الحالة المدنية هي عبارة عن نظام إداري يؤرخ لبعض الوقائع الهامة في حياة الفرد، من حيث الزمان ومن حيث المكان، ومن ذلك تاريخ ولادته، وتاريخ وفاته، وتاريخ زواجه ، وتاريخ طلاقه، ومن ولد على فراشه، إضافة إلى ضبط اسمه الشخصي واسمه العائلي.[1]
أما النسب فهو أقوى الدعائم التى تقوم عليها الأسرة، ويربط أفرادها برباط دائم من الصلة تقوم على أساس وحدة الدم ، ورابطة النسب هي نسيج الأسرة الذي لاتنفصم عراه، وهو نعمة عظمى أنعمها الله على الإنسان إذ لولها لتفككت أواصر الأسرة، وذابت الصلات بينهما، ولما بقي أثر من حنان وعطف ورحمة بين أفرادها ، لذا امتن الله عز وجل على الإنسان بالنسب، فقال سبحانه:”وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا، وكان ربك قديرا”[2] ورعاية النسب أحد مقاصد الشريعة الخمسة.

ونظرا لأهمية النسب فقد حدد الشريعة الاسلامية مجموعة من الوسائل الشرعية لإثباته ، كالفراش، أو الإقرار أو البينة.
كما أن مدونة الأسرة أشارت إلى وسائل إثبات النسب في المادة 158 حيث تنص المادة على أنه : « يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الاب, أو بشهادة عدلين , أو ببينة السماع وبكل الوسائل الاخرى المقررة شرعا بما في ذلك الخبرة القضائية». فهل هذه الوسائل جاءت على سبيل الحصر؟ أم أنه يمكن إثبات النسب بوسائل أخرى غير المنصوص عليها في المدونة، ومن ذلك مثلا وثائق الحالة المدنية، وهذا هو الإشكال الذي نلتمس الإجابة عنه من خلال التشريع والعمل القضائي المغربين.

المبحث الأول : موقف القانون المغربي من إثبات النسب بوثائق الحالة المدنية

قبل الحديث عن موقف المشرع المغربي في المسألة ، لا بأس أن نلقي نظرة موجزة عن ماهية وثائق الحالة المدنية ؟

المطلب الأول : التعريف بوثائق الحالة المدنية :

يراد بوثائق الحالة المدنية تلك السجلات الممسوكة من قبل ضابط الحالة المدنية والتى غالبا ما تعطى عنها نسخ أو نظائر في شكل شهادات ، هذه السجلات تحفظ نظائر عنها لدى النيابة العامة بعد مراقبتها .

ويقصد بها أيضا شهادة الولادة أوعقد الإزدياد أو الدفتر العائلي الذي يسلمه
ضابط الحالة المدنية بناء على التصريح المباشر من الأب أو الأم ، أو من أطراف أخرى حسب الحالات ، أو بناء على أمر قضائي يسمح بالتقييد.
وقد نظم المشرع المغربي التصريح بالولادة في قانون الحالة المدنية الجديد رقم 37.99 ومرسومه التطبيقي الصادر في 9 أكتوبر 2002 تحت رقم 655.00.2 ، إذ جعل التصريح إجباريا وإلزاميا. ووقت هذا التصريح بأجل قانوني حدده في 30 يوما من تاريخ وقوع الولادة، لدى ضابط الحالة المدنية لمحل وقوعها، من طرف الأشخاص المؤهلين لذلك قانونا، وبهذا الخصوص يتعين التمييز بين :

1ـ التصريح المباشر:

فالأصل أن يتولى الأب الشرعي للمولود أو الأم التصريح بولادته ، ويلاحظ هنا أن القانون الجديد جعل الأب والأم في مرتبة واحدة في تحمل مسؤولية تسجيل الطفل، وفي حالة تعذر قيام أمه بذلك، ينتقل حينئذ واجب التصريح إلى وصي الأب، ثم الأخ من بعده ثم ابن الأخ ،الأخ للأب…. ولا ينتقل واجب التصريح من أحد الأشخاص المذكورين إلى الذي يليه في المرتبة إلا إذا تعذر التصريح من الأول لسبب أو لأخر.[3]
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي تدخل لوضع حد للمشاكل التي يعاني منها الأطفال المولودون من ابوين مجهولين ، وحمل النيابة العامة عبء التصريح بالطفل في هذه الحالة تفعيلا منه لإلزامية التسجيل التي نص عليها قانون الحالة المدنية.

وفي حالة ما إذا كان الطفل مجهول الأب فإن أمه ـ أو من يقوم مقامها من نائب عنها أو وصيها ـ تتكفل بواجب التصريح به ، كما تختار له اسما شخصيا واسم أب مشتق من أسماء العبودية لله تعالى واسما عائليا خاصا به .

2: التصريح بحكم قضائي:

إن مقتضيات المادة 30 من قانون الحالة المدنية لا تجيز لضابط الحالة المدنية تسجيل الولادات التي لم يصرح بها في الآجال القانونية ، وفي هذه الحالة يتعين على من له المصلحة أن يقيد دعوى أمام المحكمة الابتدائية لمحل سكنى الطالب، أو أمام المحكمة الابتدائية بالرباط إذا لم يكن للطالب محل سكنى بالمغرب للحصول على حكم في الموضوع يؤمر ضابط الحالة المدنية بتسجيل ٌ الطفل. [4]
والمشرع لما أناط بالمحكمة في المادة 30 من القانون رقم37-99 إصدار الأحكام التصريح بالازدياد ، يكون قد أتاح فرصة جديدة للشخص الذي لم يتمكن من التصريح داخل الأجل القانوني أن يتدارك ما فاته.

المطلب الثاني : القيمة الإتباثية لوثائق الحالة المدنية .

إن التساؤل عن القيمة الإتباثية لسجلات الحالة المدنية وما إذا كانت تصلح كطريقة من طرق إثبات النسب هو الإشكال الذي نلتمس الإجابة عنه في هذا البحث .

ـ القيمة الإتباثية لشهادة الميلاد :

إن هذه الشهادة تعتبر وثيقة رسمية لصدورها عن موظف عمومي مختص بمقتضى وظيفته ، وتتضمن بيانات هامة. وهذه البيانات يقع تدوينها بناء على تصريح من عدة أشخاص كما ذكرنا آنفا. وما يهمنا هو تصريح الأب الذي يعتبر إقرارا منه، خاصة أنه غالبا ما يكون كتابيا. وهذا التصريح قد يكون صادقا أو كاذبا على إعتبار أن ضابط الحالة المدنية عندما يتلقى هذا التصريح – إن كان فعلا هو الذي يتلقاه شخصيا أو من فوض له ذلك- فهو لايراعي قواعد النسب المنصوص عليها في مدونة الأسرة، ولايتحرى أو يتأكد من الأمر.
فبالرجوع إلى مقتضيات المادة الثانية من قانون الحالة المدنية الجديد نجدها تنص على أنه : ” تكتسي رسوم الحالة المدنية نفس القوة الإثباتية التي للوثائق الرسمية ، مع اعتبار الشروط الشرعية في إثبات النسب والأحوال الشخصية”.

فقد أضفت هذه المادة صفة الوثيقة الرسمية على وثائق الحالة المدنية. لكنها قيدتها بالأخذ بعين الاعتبار الشروط الشرعية الواردة في مدونة الأسرة المتعلقة بإثبات النسب،سيما المادة 158 من مدونة الأسرة المذكورة أعلاه .
وإنطلاقا من كل ما سبق يتبين لنا أن وثائق الحالة المدنية وثائق رسمية. إستنادا للفصل 418 من ق.ل.ع والمادة الثانية من قانون الحالة المدنية . وبالتالي فهي لا تقبل الطعن فيها إلا بالزور بنص الفصل 419 من قانون الالتزامات والعقود الذي نص في فقرته الأولى على أن :”الورقة الرسمية حجة قاطعة، حتى على الغير في الوقائع والاتفاقات التي يشهد الموظف العمومي الذي حررها بحصولها في محضره وذلك إلى أن يطعن فيها بالزور”
ومن خلال هذه النصوص يمكن القول بأن المشرع حسم في مسألة اثبات النسب بوثائق الحالة المدنية من خلال المادة الثانية من قانون99 /37 .
ويستنتج من هذه المواد حكمين متلازمين:[5]

1-رسوم الحالة المدنية عبارة عن وثائق رسمية لايمكن الطعن فيها إلا بالزور.
[6]وهي من تم تكون حجة مطلقة تسري في مواجهة أطرافها وفي مواجهة الكافة.
2-يستثنى من الحكم أعلاه ما يخص إثبات المسائل المتصلة بالأحوال الشخصية ، ومن ذلك إثبات البنوة والنسب، حيث لامناص في ذلك من الرجوع لمدونة الأسرة على مستوى الإثبات.
فكيف تم تنزيل هذه المقتضيات في العمل القضائي المغربي؟ وما هو موقفه من حجية وثائق الحالة المدنية في إثبات النسب ؟ ذلك ماسنراه في المبحث الثاني .

المبحث الثاني: موقف الاجتهاد القضائي المغربي بخصوص حجية وثائق الحالة المدنية في إثبات النسب .

المطلب الاول : حجية وثائق الحالة المدنية في إثبات النسب في العمل القضائي المغربي

ينطلق الاجتهاد القضائي بخصوص حجية وثائق الحالة المدنية في إثبات النسب من الاجابة على السؤال التالي هل يمكن اعتبار التسجيل في سجلات الحالة المدنية من باب الاقرار بالبنوة [7] ؟
هذه المسألة لم يتعرض لها الفقه الاسلامي ، لانه بكل بساطة لم يعرف نظام سجلات الحالة المدنية المطبق حاليا بالمغرب ، والذي ورثناه عن الحماية الفرنسية التي أدخلته إلى بلدنا منذ سنة 1913 خدمة للفرنسيين و الاجانب [8].

فمن خلال تتبع مجموعة من قرارات المجلس الأعلى – محكمة النقض حاليا- يمكن توزيع مواقف الاجتهاد القضاء المغربي بخصوص حجية وثائق الحالة المدنية في إثبات النسب إلى ثلاث آراء أساسية ، موزعة على الشكل الآتي:

الرأي الأول : يميل إلى عدم اعتمادها في إثبات النسب[9]

فقد صدر عن المجلس الاعلى مشكلا من غرفتين قرار يحسم في مسألة أن التسجيل في الحالة المدنية لا يعد اقرار بالنسب ، حيث جاء فيه ما يلي :
“… من المقرر فقها وقضاء أن النسب لا يثبت إلا بالوسائل المقررة في الفصل 89 من المدونة (المادة 158 من مدونة الأسرة حاليا)، وليس من ضمنها شهادة الميلاد وأن تسجيل مولود بسجل الحالة المدنية لا يعتبر إقرارا بالبنوة ممن قام به”[10]
فقد استبعد هذا القرار بشكل واضح أن يكون لرسم الولادة أية قوة اثباتية في إلحاق النسب بالأب المقر، وحصر الوسائل التي يثبت بها في الوسائل المنصوص عليها في الفصل89 م.ح.ش الذي حلت محله المادة 158م.أ.

الرأي الثاني : يتجه نحو إعتمادها في إثبات النسب:

جاء في قرار المجلس الأعلى : ” أن وجود حكم سابق بتسجيل الطفل في الحالة المدنية حائز لحجية الامر المقضي به ، يمنع سماع دعوى النسب بالاعتماد على اختلال مدة الحمل.[11]
ومن أهم القرارات الصادرة عن المجلس الاعلى في هذا الصدد “إن إقرار الأب بالبنوة بتسجيله لولده قيد حياته في سجلات الحالة المدنية بحكم من المحكمة يضع حدا لكل ادعاء من الغير بنفي نسب ذلك الولد عنه وأن الشهادة المثبتة للنسب مقدمة على الشهادة النافية له”[12].

كما صدر عن محكمة النقض قرارا ذهبت فيه إلى” أن تصريح الأب بازدياد البنت لدى ضابط الحالة المدنية يعتبر إقرارا منه بثبوت نسبها إليه، ولا يكفي ورثته لنفي نسبها إليه الادعاء المجرد بل لابد من بيان الأب الذي تنتسب إليه ، وأن إنكار الأم نسب البنت لا تأثير له ما دام موضوع الدعوى يتعلق بنسبها لأبيها الذي أقر بها ولا يتعلق بها”[13]
فيلاحظ هنا أن المجلس الأعلى اعتبر تسجيل الأب لولده في الحالة المدنية بمثابة إقرار منه ببنوته ، وأخذ بوثائق الحالة المدنية في إثبات النسب، في نقض الدعاوى الرامية إلى نفيه.
وهذا ما يتوافق مع الفقه الإسلامي الذي يتشوف إلى لحوق النسب ومع المادة 151 التي تنص على أنه “يثبت النسب بالظن ولا ينتفي إلا بحكم قضائي”.

الرأي الثالث: وثائق الحالة المدنية حجة في إثبات النسب ما لم يثبت ما يخالفها بالبينة المقبولة

بحيث قرر المجلس الأعلى:” أن المحكمة لما اعتمدت في قضائها على تسجيل المطلوبة في الحالة المدنية للهالك باعتبار أن ذلك التسجيل يعتبر إقرارا من الهالك بأبوته لها ، مع أن التسجيل في الحالة المدنية يكون حجة على ثبوت النسب ما لم يثبت ما يخالفه بالبينة المقبولة ، وبالتالي فإن المحكمة لما لم تناقش الوثائق التي تثبت ما يخالف ذلك ، والتي لم تكن محل طعن من طرف المطلوبة ، وقضت على النحو المذكور فان قرارها جاء ناقص التعليل”[14]
وهذا القرار سيتعزز بقرار آخر صدر بعد ذلك عن محكمة النقض نقضت فيه قرار لإحدى محاكم الاستئناف والتي اعتبرت الطاعنة بنت الهالك وألحقتها به بناء على قيامه بتسجيله بكناشه للحالة المدنية دون أن تقوم بإجراءات التحقيق المفيدة في إثبات النسب أو نفيه ، خاصة وان الطاعنة تدعي بأنها معلومة الأبوين فإنها تكون قد عللت قرارها تعليلا ناقصا.[15]

المطلب الثاني: تقييم آراء واجتهادات المجلس الاعلى في الموضوع:

1 ـ إن وجود تضارب في الآراء والمواقف الصادرة عن المجلس الأعلى بخصوص حجية وثائق الحالة المدنية في إثبات النسب، يعود بالأساس إلى طبيعة ومصدر كل من مدونة الأسرة وقانون الحالة المدنية . إلا أن التسلل الزمني لهذه القرارات الثلاث يدل على أن محكمة النقض قد توصلت في السنوات الأخيرة إلى موقف يخلق نوعا من الانسجام بين مدونة الأسرة وقانون الحالة المدنية في موضوع إثبات النسب.

2 ـ إن عدم الأخذ بالأحكام التصريحية في إثبات النسب يقابل بمبدإ حجية الأحكام طبقا لأحكام الفصل 451 من ق.م.م لكننا نقول بأن شروط سبقية البت غير متوفرة لكون الحجية لاتثبت إلا للمنطوق وللحيثيات المؤدية إلية ، وبناء عليه فإن الأمر القاضي بتقييد المولود إنما يقضي بتقييد الازدياد، والحال أن موضوع دعوى النسب يتعلق بإثبات نسب المولود أو نفيه، وقد ثبت أن الأمر القضائي القاضى بتسجيل المولود قد بنى على أوراق غير صحيحة ومخالفة للواقع، خصوصا وأن جلها وثائق إدارية يسهل الحصول عليها مما قد ينجم معه صدور أحكام تقضي بتسجيل ابن لغير والده الحقيقي.[16]

إن الأحكام القضائية القاضية بتقييد مولود بسجلات الحالة المدنية من المفروض أن لاتصدر إلا بعد التمحص والنظر وثبوت نسب المولود إلى صاحب الكناش، وبعد التحقق من هذا النسب بتطبيق قواعد ثبوته ، ومن ذلك التأكد من صحة الزوجية، ومن أن الولد إزداد في الفراش، وفي الآجال الشرعية، أو بعد حصول إقرار صحيح بشروطه ، أو قيام البينة على وجود هذا النسب. وهكذا يعتبر الحكم الصادر بتقييد المولود عنوانا على حقيقة صحة النسب ، لاسيما إذا كان مقدم الدعوى هو المنسوب إليه الولد . طالما أن الإقرار من بين وسائل الإثبات القانونية للنسب، شريطة ألا يتنافى هذا الإقرار وهذا الحكم مع باقي قواعد إثبات النسب كما سبق الذكر.[17]

خاتمة :

إن هذا الموضوع الذي تناولناه على امتداد هذه الصفحات جد خطير ، وتتجلى خطورته من أنه يرتبط أساسا ببناء الأسرة عموما ، وبعرض الزوجة ونسب الأولاد المرتبطة بأبوة الأب والأم على وجه الخصوص،وهي أمور كثيرا ما حسمتها النصوص الشرعية قبل النصوص التشريعية مع بعض الاختلافات،ذلك أنه قد لا نجد ما هو أخطر من أن ينسب ولد إلى رجل هو غير أبيه الحقيقي ، أو بالعكس أن ينفى نسب حقيقي عن أب حقيقي.

 

(محاماه نت)

إغلاق